كان المساء وديعاً محملًا بنسمات باردة، تلاعب خصلات شعري المنثال كشلالات من ألم على أزمنتي الهاربة من ماضيها وإرثها الموغل في التفسخ. وأنا ارتشف قهوتي، وحيدة في إحدى المقاهي المطلة على بحر شديد الزرقة، تطارد موجاته العابثة اضواء المدينة الكثيفه والمعكوسة على وجهه البارد. كل ضوء يئن بحكاية من لون، يضربها الموج اللاهي فيمتزج زمنها بشظايا الماء، بالاحداث، بزرقة البحر المعتمة، فيحملها بعيداً على ايقاعات متكسرة من موجه المتهدج ساحباً إياها إلى الأعماق.
انساب صوته القادم من الاسطورة على مسامعي الوجلة وهو يسالني عن الوقت.
التقت عيوننا المحلقة في الفراغ، تاركة الوقت يضيع في متاهات شعري المتناثر على خطى الريح وبين بقايا أصداف الوقت المتحجر على معصمي العاجي، فهذا القادم من المجهول هو سيد اسطورتي التي لم تولد بعد. هكذا اخبرتني عيناه التي تسمرت على ملامحي وانفاسي.
قال: ياله من بحر رائع يهديني ألهة الحب التي انتظرها هذا المساء. نسي الوقت ونسيت الاجابة على سؤاله المعلق. لفني بعينيه النديتين واستحالت نظراته ومضات تشعل النار في قلبي الذابل في دهاليز الخوف والتحفظ .
تمطى الزمن بنا واستحال الى ومضة خارجة عن نطاق الفيزياء، فصرنا نجمتين مسافرتين عبر افلاك البحر حيث اللاعودة .
خرجت من وجه خوفي المتسمر في زوايا النفس اللاهثة دوما إلى عوالم ترتسم فيها الحرية كقوس قزح محملا بالفرح، تاركة وراء معطفي الثقيل إرث الجدات المعقد والمعفر برائحة غض البصر واغتيال الضحكات البريئة ونسيان المشاعر قبل ولادتها!
تلمست لوهلة خطوط الفجر في أفياء روحي المسجونة في إرثي المجنون. وددت الهرب من بقايا انسانة كسيرة، منثورة كالرماد في عيون الجدات.
حاولت التسلق عبر جدار النار المرسوم في مسامي، لامعن التحليق في عينيه واذوب في ظلاله المنتشرة في عروقي. تنهال علي آلاف الألسن النارية لتحرقني بسياط الوعظ الذي تدوخني به جدتي كل مساء. آه من تلك الألسن المتفسخة والمتغلغلة الجذور في ازمنة تفوح منها رائحه العفن الكئيب!
كانت جدتي ترسم لي كل يوم حدودا أضيق، وتخيط لجسدي ثوبا طويلاً أرسم عليه خيبات انسانيتي المغدورة في تفتحها. تتضاءل صور الخلاص في مخيلتي وتحيك جدتي من صوتها سجونا لفكري الأسير في دوامات الجسد المزهر الأنوثه! تخبرني بأن أحذر من أعوامي الشابه المتبرعمة على مساميّ الناعمة، تحاصر مخيلتي بأرطال من العبارات المستهلكة عن عورة المرأة وعفتها، تخدر خوفي بالاستسلام المذعن لذلك القدر المنساب على جسدي والذي يسمى أنوثة ليست للاستخدام.
أركض، خلف صدى ضحكات أحبسها في زوايا النفس حتى لا تسمعها الجدّة .. أهرول خلف اشتياق نفسي للحرية فانزوي خائفة خلف أسواري المنيعة.
عزائي في الكتب التي اشتريها من مصروفي اليومي. لم تكن جدتي قادرة على فك الحرف، أملها بأنني مغمورة في واجباتي المدرسية. أما أنا فكنت عيونا نهمة تلتهم أسطر كتبي المثقلة بالأمنيات والقصص، أرى من خلال شخوصها عوالما لا تشبهنا، تسبح في عيون الشمس وتشرق للحرية، أتنفس الكلمات الطائرة في سماوات مخيلتي وأرسم على أشرعتها مرافيء خلاص لروحي المثقلة بالممنوعات. أتسال!
من منا يعيش الحقيقة، وأي منا مذبوح بالوهم؟
وأتسال!كيف لجدتي أن تكتشف بانني الآدمية المضمخة بالعشق وهي العاجزة؟.
أتراها تعرف أبطالي كما أعرفهم؟ هل ستنجح بفك عرفها الحديدي الذي تلفني به؟ أم انها ستحكم القبض على عنقي أنا وحدي وتستأصل قلبي من جذور العشق المغمّس بالخوف؟
كان ابطالي جسوراً من ورد، يمدون إلي بكلماتهم المترعة بالاثم الشفيف. عاشقون حد الثمالة، متمردون على أقدار بلون الليل، هاربون من سجن التقاليد البليدة.
هادرون شرايينهم بحارا من عشق ممتد إلى شواطيء تصلبت فيها أحزاني السائحة على كل سطر. تلتمع وجوههم التي أرسمها بألواني المخبئة بعيداً عن عيون النهار، أسمع أصواتهم التي أنسجها من عبير الأمنيات تناديني بالانضمام إلى عوالمهم، والانسلاخ عن حاضري الموشوم بالأسى.
يتركون لي دوما دوراً شاغرا في كل رواية أقرؤها، ويفسحون لي مساحات شاسعة أتمدد على طولها بطلة مضرجة بالعشق مكسوة بالقبل، يتركون لي صدى أسمع فيه قهقهاتي المخبئة في زنزانة العيب والحرام والمكفنة بالتقاليد.
كنت مثلهم حبلى بالحب المعتق بالضجر، وأنا الأنثى أتبرعم على سطور الافتراض، أغزل في متاهات الوجد شيئا حتى اتيبس في صحارى الهجر.
لم يتوقف قلبي عن الخوف مع آخر لحظات انسلاخي من عوالم الكتب المحشوة بالتمني، فأرجع كما أنا زهرة متبرعمة بالانوثة محبوسة في قلاع التقاليد، وجدتي سجان مرعب، يرمي بالمفاتيح إلى قاع يتسرب للمجهول والخواء.
كبرت، وكبرت معي انسانيتي الكسيرة في عنق الخوف الممعن في التحول.
اليوم التقيت بعينيه في مساء يغازل الندى، وراحت روحينا تهيم في المدى المتوازي مع التناقض.
مد الي صوته جسورا من العشق المنثال من علياء روحه المضمخة بعطري. رسم خرائطا لوجودي الساكن في قلبه. أخبرني بانني كله النابض في بعضي، وأنني غابات الاثل المزروع في أمنيات صباه، وانني حلمه المنتظر، وانني حورية البحر التي اقدحت الضياء بعتمة روحه هذا المساء.
مد إلي يده معابرَ أسلكها لأقتل خوفي القادم من بدايات التكوين. أهداني كتبًا وطلقة، أهشم بها وجه الإرث القميء الذي يثقل روحي.
ماتت جدتي منذ زمن وأنا ما زلت حبيسة أرثها الأخرق، وما زلت ضحية جسد ملغوم بوصمة الأنوثة.
لملمت اجزائي المطيبة بالعشق، غادرت المكان والحدث راحلة عبر الازمان إلى كتبي الواقفة على شفى الذاكرة.. هناك حيث واحات الهرب الافتراضية من التقاليد.
أترك في يديه ساعتي اليدويه المذبوحة العقارب، واسقط بحرية إلى الهاوية المسكونة بوجه جدتي!
23.11.14