ينسج القاص العراقي أزهر جرجيس قصته بحبكة محكمة تتناول الحياة في ظل سلطة حكومة إسلامية متشددة من خلال شخصية الصبي الذي يقع بيد السياف فيستعيد العسف الذي وقع عليه في الطفولة قبيل لحظة الذبح في تطابق التجربتين التراجيديتين.

يوم أسود

أزهـر جرجيس

تذكر فؤاد وهو يمدّ عنقه للموت، ذلك اليوم الأسود الذي دخل فيه إلى صالون هارون الحلّاق. كان الأخير حلّاقاً بديناً يشبه كيس حنطة، ضخم الجثة، يرتدي ثوباً عربياً ويدخّن بشراهة. طرق بابه فؤاد بحثاً عن عمل، فوافق بلا تردد ومنحه مكنسة يلم بها خصلات الشعر المتناثرة تحت أقدام الزبائن. كانت وظيفة سهلة للغاية؛ تنظيف الصالون وجلب الشاي من المقهى المجاور مقابل مبلغ لا بأس به، يقبضه نهاية كل أسبوع. لكنّ فؤاد كان قد اكتشف، ومنذ يومه الأول في العمل، بأن أستاذه هذا يمارس العادة السريّة في الحمّام مثل مراهق مكبوت، ويحتفظ بمجلة "ثقافية" في أحد الأدراج! حاول أن يكون حذراً في التعاطي معه إلا إنّ هارون الحلّاق كان من النوع الذي لا ينفع معه الحذر، إذ جنح ذات ظهيرة قائظة على مزلاج الباب وأغلقه بإحكام ثم أسدل الستار. استدرج الصبيَ بعد ذلك إلى الحمّام. أخبره بأنّه يُخبّئ له شيئاً ما هناك. وحين دخل خلفه أغلق عليهما الباب وأمسك بيده. كان فؤاد يرتعد مثل حشرة اليعسوب الصغيرة ويلتفت يميناً وشمالاً في محاولة للإفلات. حاول أن يطمئنه، لكن هيهات، فكل شيء بدا واضحاً تلك الظهيرة.

مد يده في جيبه وأخرج عملة نقدية فئة عشرة دنانير، دسّها في يده وأخبره بأنّه سيحصل على ضعفها مرتين فيما لو أطاع. رمى الصبي النقود في الأرض وبصق في وجهه ثم همّ بالهرب. عالج الباب لكنّ دون جدوى، فقد أمسك الحلاق الدنيء بكتفه وأناخه على الأرض كي ينال منه. في الأثناء، طرق أحدهم باب المحل، فخشي الحلاق أن يسمع صراخ الصبي، فتدارك الموقف؛ دفعه إلى الحائط، وهدّده بالضرب إن فتح فمه، أغلق عليه وخرج، أزاح الستار، فشاهد زبوناً ملحاحاً خلف الباب، فتح له. استغلّ فؤاد الموقف واستطاع أن يفلت من قبضة هارون أخيراً كسمكة أفلتت من شباك الصيد. وبحصى كبيرة رمى الزجاج من بعيدٍ فحوّله إلى شظايا متناثرة، وهرب. "بسيطة، يا ابن الكلب، أنا لك." نادى خلفه الحلّاق متوعّداً.

بعد ثلاثة عشر عاماً عصفت بالمدينة ريح موت عاتية، إذ هجم عليها جماعة يرتدون السواد ويطلقون اللحى، ومن صفاتهم الأخرى بغض الاستحمام. كانوا يكبّرون كثيراً كلما قتلوا شيخاً أو أجهزوا على رضيع أو باعوا فتاةً في سوق النخاسة. أعادوا عقارب الساعة إلى عصر ما قبل الكتابة وأنعشوا حياة الكهوف وأيّام التوحّش. كانوا كل يوم يبترون عشرات الأكف بتهمة السرقة، ويرمون عشرات الشباب من فوق البنايات بتهمة اللواط، ويقطعون عشرات الرؤوس بتهمة الرِدّة. كانوا يداعبون تلك الرؤوس المقطوعة بأرجلهم بدعوى التسلية، فالإرهابيون، رغم نتانة ريحهم، بشر مثلنا، يحبّون التسلية ويمزحون كثيراً فيما بينهم، بَيد أنّ الفرق يكمن في التفاصيل لا غير، فتسليتهم لا تتم إلا بدحرجة رؤوس البشر، ومزاجهم لا ينتعش إلا بذكر الحور العين ووصفهم لفروجهن.

تحوّلت المدينة بين ليلة وضحاها إلى قرية بدائية يتجوّل في شوارعها رجال الحسبة وأعضاء المفارز الشرعية، بينما تمتلئ أزقتها بالوشاة الملثمين. كان أحد هؤلاء الوشاة قد أخبر الأمير مؤخراً بأنّ فؤاد يستخف بصلاته ولا يلتزم كثيراً بأوقاتها، فأمسكوا به وحكموا عليه بالرِدّة. أخرج أحد مساعدي الأمير ورقة من جيبه وبدأ يتلو الحكم الشرعي بلسان عربي مبين وسط هتافات الجماهير المؤمنة: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، وحينما فرغ أشار بيده للسيّاف بالتنفيذ. اقترب السيّاف المربوع حاملاً بيده سيفاً عملاقاً، أمسك بفؤاد من كتفه وأناخه للذبح، ثم هوى عليه بضربة واحدة جعلت رأسه يتدحرج مثل كرة.

قبل أن يُغمض الرأس المتدحرج عينيه نظر بفزع إلى وجه السيّاف البدين الذي انكشف بعد التنفيذ. كان هو ذاته هارون، الحلّاق الدنيء الذي أناخه قبل ثلاثة عشر عاماً وأراد أن ينال منه في حمّام الصالون! أطبق الرأس عينيه عندئذٍ وردّد مع الجمهور بصوت خفيض: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكـ... ثم همد.