تقرير ليبي من القاهرة
أضواء على معرض القاهرة للكتاب في دورته الحادية والأربعين
حرصت على حضور الدورة الحادية والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، فقد تزامن وبالأحرى تداخل توقيت هذا المعرض مع منشط آخر كنت ضمن المدعوين إليه، تمثل في اجتماع اللجنة التنفيذية لمشروع ذاكرة العالم العربي، الذي يعمل للتحضير له منذ مدة مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي التابع لمكتبة الإسكندرية، بدعم من وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية. وتقرر عن طريق وزراء الاتصالات العرب أن يتسع للمساهمة العربية. وقد انفض اجتماع هذه اللجنة يوم 23 يناير، فأمكن بالتالي حضور هذه الدورة ومحاولة الوقوف على بعض الفعاليات الثقافية بالذات، على اعتبار أنها تمثل الجانب الأهم في هذا المنشط السنوي. وحقق هذا المدى الزمني في التراكم التاريخي الذي طالما اتسمت به وحرصت على إثرائه الأطراف الفردية المختلفة، ولا سيما من خلال الفضاءات الحرة، واللقاءات الجانبية التي طالما شكلت الهامش الذي لا يقل عن مستوى المتن. وربما في بعض المرات واتخذ منه بعض المسؤولين الليبيين في المجال الثقافي مناسبة من مناسبات الظهور، والترضيات، والكسب الشخصي، وربما حاول بعضهم الآخر أن يصرف أنظار الجهات المأذون إلى مشكلات مفتعلة، فشكلت مع الزمن رصيداً لا بأس به في التجربة العملية، والخزينة المعلوماتية، لكل عمل سردي يتطلع إلى التوثيق التاريخي وقد أقول المسكلك الوصولي عبر تجليات لها مجال آخر.
لم أستطع التخلص من أثر مشاعر الوداع التي تحاصر الكثير من المشاركين في اللقاءات العربية في أي منشط من المناشط التي تقام بمشاركة عربية. ما بالك أن يكون المشاركون وبالأحرى الكثير منهم قد حققوا هذا القدر من الحميمية طيلة لقاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، سواء لأنها تكررت مع البعض لمرات عديدة، أو لأنها خلت من التقاطعات الناجمة عن البيانات المتصلة بالشأن العربي السياسي حيث يتحول المندوبون في مرات عديدة إلى ما يشبه وزراء الخارجية، حيث تصطدم المصالح المعلنة والمستعصية عن التنسيق الضروري، "كقضايا الأمن مثلاً". فالذين جاءوا من الإمارات العربية، وقطر، ولبنان، وسوريا، والسعودية، والمغرب، وموريتانيا، وتونس، ومصر، كالسبيلي، والخوري، وحلبلب، والغساني، والحمدي، وغيرهم من الذين لاتسعفني الذاكرة بأسمائهم صنعوا تراثاً جميلاً من المودة، ومشتركاً يصعب أن تنال منه أية إشكالات إدارية، إن وجدت. فكان لذلك أثره على مشاعري الشخصية، وأن أعمد ميدان طلعت حرب حيث الإقامة التي ألفتها منذ سنين وصارت معروفة لدى جميع الذين يهمني أن التقيهم ويهمهم أن أكون موجوداً، ليزداد القلق أكثر فأكثر، وأنا أعلم بغياب الكثير من الأعزاء، الذين طالما وجدتهم داخل ردهات المقهى الثقافي، أثناء العرض أو في أمسيات قروي والقرويون يضاعفون من الإحساس بالدفء، لأن ظروفهم جميعاً لم تسمح بالحضور فغداً مؤكداً أنني لن أجد هؤلا ء الفاعلين كالشاعر إدريس بن الطيب أو المثقفة أم العز الفارسي أو عاشق المشترك أحمد الفيتوري. خاصة وأنا استعيد احتفالهم بأم العز وهي تنال الدكتوراة، ويوسف الشريف وهو يستشعر لحظات الفرح الجميلة، والبوسيفي بوالي جهوده لحشد الجميع "لأويا الصاعدة وسط جو حواري انبعث عن ندوات مجلس الثقافة العام المكرسة لقراءة نماذج من الإبداع الليبي وقد صار هذه المرة بعيد المنال في الوقت الذي كان من المفروض أن يكون الاستعداد أفضل والحوار أعمق والإبداع أكثر لولا أننا قوم لا نحافظ على ما أنجزنا ولا نواصل في الغالب على كل ما به بدأنا.
"الأهالي" صحيفة التجمع الأسبوعية و"القاهرة" صحيفة وزارة الثقافة بإدارة صلاح عيسى صاحب الخصوصية المعروفة في مقدمة ما أحرص على الإطلاع عليه حال وجودي داخل مصر، وفي الأماكن التي توجد بها الصحف، وقد كان ذلك ممكناً حال وصولي ناحية طلعت حرب، وكان إن وجدت البرنامج الثقافي العام منشوراً أعلى صفحات جريدة القاهرة، وقد احتل النصف الأول منه، أو الأسبوع على الأصح صفحة كاملة تبدأ من 22/ 1 وتنتهي في اليوم 28/ 1 فيصدر الصفحة من الأعلى أكبر حدث ثقافي بالشرق الأوسط والمنطقة العربية على أرض المعارض بمدينة نصر. وقفت الأنشطة الحوارية بالفترة ما بين الساعة الثانية عشر من كل يوم وحتى العاشرة منه، على أن يتبع بعض الأيام عروض مسرحية أو موسيقية بحيث يكون أمام المتابع يوم كامل إن أراد متابعة جميع ما يلقي ويعرض. كما رتب ذلك بين إمكانية الاستماع وحتى التعليق إلى جانب المشاهدة بالطبع ولأن الواقع غني بالقدرات البشرية المؤهلة فلا يملك المتابع إلا أن يتوقف كثيراً أمام هذا الحشد الضخم من الأسماء المؤهلة تأهيلاً عالياً حول كل عنوان من العناوين المتزاحمة حول المناشط من القرارات الشعرية إلى عرض الكتب إلى مشكلات النشر إلى الأشرطة المتنوعة إلى قضايا الترجمة إلى سلسلة الجوائز إلى أطفال العشوائيات إلى الفضائيات ووعي الطفل وغير ذلك وكثير.
وقد اعتمدت بريطانيا ضيف الشرف لهذه الدورة، فترتب على هذه الاستضافة حضور عدد من الناشرين والروائين وبالجملة عدد من المبدعين، عقدت حول أعمالهم أو أشخاصهم أو سيرهم بعض الموائد المستديرة وفقاً لدعوات خاصة وجهت لمن رؤي جدارتهم بالحضور، وهو إجراء تنظيمي تفرضه عادة ضرورات كثيرة إلا أنه إستدعى أن تشهد مفردات بقية الفضاءات مايصب في ذات الاتجاه، من حيث العلاقة مع الغرب كما أن بعض المفردات الأخرى جاءت ذات شمول لافت ودلالة غير عادية مثل الاحتفال بمرور خمسين سنة على إنشاء وزارة الثقافة إذ مسوغ هذا الترتيب أهمية التراكم المفيد في مجال التاريخ والتراث والتدوين. ولا سيما بالنسبة للأعلام المعاصرين الذين قدر لهم العمل في هذه المؤسسة التي اضطلعت منذ تأسيسها بدور حاسم في العمل الثقافي وسبرت استعياب الكثير من الكوادر المقتدرة في فترة الستينيات تحديداً بعد أن رجحت كفة التطبيقات الإشتراكية ـ على الطريق "الناصري" ـ في مصر وانصهرت داخل التجربة الكثير من الفصائل التي ظلت حتى سنة 64 تصر على التمسك بخصوصيتها وترجح العمل السري، ولكنها بعد هذا التاريخ قبلت الانصهار في المشروع الناصري، وعملت على توظيف قدراتها ومناهجها لمناصرته ضمن جبهة القوى المعادية للامبريالية، والحريصة على تثبيت الخيارات الوطنية وتشجيع النزعات الاستقلالية في جميع الصور وعبر كل قارات الأرض. الأمر الذي وسع من قائمة الأعلام المصريين الذين لمعت أسماؤهم وتأكد حضورهم في تلك الحقبة، وصار الكثير منهم في زمننا جزءاً من التاريخ، فاحتلت صورهم جدار الفضاءات الثقافية المتقاربة وطرح بعضهم عناوين لحلقات النقاش، وتبادل الرأي على خلفية استدعاء الذاكرة، واستنهاض الهمة، ومقاومة بعض الضغوط التي تواجهها مصر، وتحاول من خلالها أن تفيد من ذلك التراكم النظري، والذي يدعمه في الوقت ذاته الحضور التاريخي في أفريقيا.
كذلك الصلة بالسودان، وكلها احتلت النصيب الاوفر من حلقات النقاش التي نشطت بشكل يومي في قاعات النقاش المتعددة وبمشاركة من الكثير من الرموز الفاعلة كالدكتور مراد وهبة والأستاذ محمد فائق والدكتور جابر عصفور والدكتور وحيد عبدالمجيد وكثير غير هؤلاء من الذين اسهموا في الندوات المكرسة للتغير الاجتماعي واشكالات العولمة وشخصية طه حسين ودور مصطفى كامل ومصر وأفريقيا وبصدد هذه المسألة يمكن القول إن البرنامج الثقافي موضوع بعناية شديدة كما أن التوسع في قوائم المشاركين جاء هو الآخر معبراً عن فهم بطبيعة الحياة وقد أقول مراعيا لحجم الاحتقان الناتج عن العدوان على غزة، وتناحر الفرقاء الفلسطينيين، وقدرة أكثر الأطراف تأثيراً على تمرير أجندتها، واحراج السلطة في أكثر من موقف، وعلي أكثر من صعيد. إلا أن التصدي لذلك غير خاف أو مجهول. فهذا الكم الكبير من المفردات الثقافية والسياسية التي اتخذت عناوين للمناشط أو محاور للحديث توفر الكثير من شروط الاستيعاب، لأكثر المشاركين مهما كانت لديهم من الأجندة المختلفة، كما أن دور بعض الخالدين في مجال السياسة، والفكر كمصطفى كامل ومحمد فريد وطه حسين من مصر ومحمود درويش من فلسطين وفي حدود ساعتين من الزمن ليس غير لن يترك مجالا للتقاطع المزعج.
فسيف الوقت يتكفل دائماً بتوفير النهايات المناسبة لكل نقاش يخشى من تجاوزه لما هو متاح بدا التحسب من سوء استغلال هذه المناسبة في ما يكدر صفو حياة الناس ويضر بامنهم ظاهرا في الكثير من المعاملات داخل أرض المعارض، ابتداء من تنظيم حركة المرور، وخطوط السير، ووصولا إلى حصر اللقاءات العامة في قاعات المناشط البرمجة. حتي أن محال الأكل قد اقفلت بالكامل، فقللت هذه الوضعية من البقاء الطويل داخل تلك الأمكنة. اللهم إلا لأصحاب المصالح الذين عليهم تدبير احتياجاتهم بشكل شخصي، ومن خارج المكان. وبات مستحيلا على أي زائر أن يمكث أكثر من الأوقات المحدودة التي يمكن أن يقضيها في اقتناء ما هو في حاجة إليه من الكتب أو حضور، ما يعن له من المناشط الضرورية. فلا مجال والحالة هذه لمنهج الأسلوب السابق حيث كان من الممكن البقاء هناك من الصباح إلى المساء، حيث من الممكن الاكتفاء بالوجبات الخفيفة ومتابعة المناشط بالكامل مما جعل من البرنامج المكثف أقل عن الممارسة بكثير.
أما قفل المقهى الثقافي حيث كان من المتيسر الجمع بين المرطبات والحوارات المفتوحة والنقاش حول الكثير من الشؤون والشجون، فقد شكل خسارة يصعب تعويضها لكل من اعتاد أن يستثمر فضاءات المعرض لأسئلة الواقع، عبر تجليات القطرية والقومية والإنسانية. واحسب أن هذه الخطوة من شأنها أن تجعل الزائر الأجنبي، وقد أقول الضيف البريطاني، سيخرج بانطباع غير إيجابي حول حركة الحياة، ومستوى التعامل مع الأحداث. وبروز الهامش الأمني بشكل واضح. وهكذا غابت جلسات الكثير من الرموز التي كانت توفر المجال الانسب للخوض في مختلف الشؤون العربية والإنسانية، ان يكن البعض قد غاب عنها بحكم الخروج من قائمة الاحياء، فلا شك أن الأمر الأشد قسوة حين يكون ذلك بتأثير مثل هذه التدابير. لقد خلا برنامج الأسبوع الأول من أي إسم من الاسماء الليبية، في أي منشط من المناشط، رغم أن الكثير من العاملين في القطاع قد شوهدوا داخل أرض المعارض، كما يقول الرواة. ولم يبد منسق الخيمة التابعة للمقهى الثقافي الأستاذ حسن سرور، أي إستغراب، كما فعل في السنة الماضية، حين إحتج على عدم الأخذ بالنهج الذي أتبع في السنة التي قبلها، حيث أمكن تنظيم الأمور على نحو أفضل. ربما لأن الأمر بالنسبة له لم يعد جديداً.
وقد وفرت الحلقة المكرسة لشخصيتي الزعيم السياسي مصطفى كامل، والفكري الدكتور طه حسين، المجال المناسب للمشاركة فاستطعت على الصعيد الشخصي أن اشير إلى الموقف الديمقراطي المشرف الذي التزمه الدكتور طه حسن أثتاء مناقشته في مفهوم الأدب من طرف محمود أمين العالم وعبدالعظيم انيس، وقدر رحلا أخيراً. حيث كان في مستوى الأبوة الرحيمة، وليس القاسية، التي ترفض ان يرفع أحد من الأبناء أصواتهم. فكان لذلك وقعه. بقي أن أوكد هنا أن وجود عبدالحفيظ العدل، وأسامة بلقاسم، ومخلص موفدين من الصحافة لتغطية هذا النشاط قد أثلج صدري كثيرا، وأحسب أنه قد شمل غيري أيضاً، فكل دفع بالدماء الجديدة والقادرة على العطاء، يفرض على كل منصف أن يشيد به، ويشد على أيدي القائمين عليه، ويبقى دائما لدى المرء ما يمكن أن يضيف متى توفر الوقت المناسب والقدرة الضروية.