تقرير من الأردن
معرض الجسد الموشوم
من رام الله إلى مركز رؤى في عمّان مباشرة كان المسير، كنت أستعجل موعد قدومي يوماً كاملاً لأكون في السادسة مساءً مع حالة مذهلة من الفن لم أرد أن تفوتني؛ افتتاح معرض "الجسد الموشوم" للفنانة العراقية بتول الفكيكي، فمن يعشق الفن ويفوته معرض نادر ومتميز كهذا المعرض، سيشعر كم فاته من إبداع وجمال ومعانٍ، لذا خرجت مبكراً من رام الله العشق والجمال، فليس من ضمانة لما قد يرتكبه الاحتلال من حماقات لا تهدف إلا إلى إثارة أعصاب المواطنين والتنغيص عليهم. على أنغام الموسيقى والأغنيات العراقية جلتُ المعرض رغم الازدحام الكبير من الحضور، وأنا في حالة من الذهول، حالة أفقدتني حالة التعب التي أعانيها من سفر يخلق الاحتلال الصهيوني في كل خطوة منه أكواماً من المتاعب، لأجد نفسي محلقاً بحالة نادرة من التحليق، الروح فيها تكون خارج الجسد، والجسد في حالة من الخدر، والنفس تجول في ثنايا اللوحات والألوان، تستقبل كماً من المعاني، يتدفق كنبع قوي، وتتدفق كشلال قوي منحدر يحمل المرء معه بدون أن يمتلك المقاومة، ليضع المشاهد في حالة غريبة يتمازج فيها الألم مع الواقع، والرمز مع التاريخ، والمرأة مع الأسطورة، والأرض مع الجنون. منذ اللحظة الأولى لا يمتلك المرء إلا أن يكتشف الرمزية الدقيقة في عنوان المعرض الذي حمل اسم "الجسد الموشوم"، فالفنانة لم تسميه مثلاً: "وشم على جسد "، فهنا الجسد خرج عن مفهوم الجسد البشري المجرد، فكان الرمز موشوماً بالكامل، بالألم الذي لم يفقد الجسد جماله وقوته وتشبثه في الحياة، بينما لو كان مجرد وشم على جسد، لكان إشارة أنه ليس أكثر من ألم عابر، يمكن أن يزول بسهولة وبعد معاناة قصيرة. ستة وأربعون لوحة كانت موشومة بجمالية على جدران مركز رؤى في عمّان، دالة على روح فنية رقيقة ومتميزة لمن أشرف على وشم اللوحات على الجدران، ومن اللوحة الأولى في المدخل، تبدأ ضربات القلب بتصعيد وتيرتها، الأنفاس تتلاحق، فاللوحات بما تحمله من قوة المعنى وقوة الألوان والتحكم بدرجات اللون، تبدو في الوهلة الأولى كبحر يبدو هادئاً رقراقاً، لكن سرعان ما تبدأ الأمواج بالثوران، والرياح العاصفة بالشدة، والأعاصير بالاندفاع، فيجول المشاهد وكأنه يركب قارباً تدفعه الأمواج والرياح بقوة، فتحبس منه الأنفاس. أدين لبغداد والفنانين العراقيين بعشقي المتميز للفن التشكيلي، فقد عرفت هذا الإبداع في أوائل السبعينيات من القرن الماضي حين بدأت الدراسة في كلية آداب جامعة بغداد، ولم أكن أترك معرضاً أعلم عنه يفوتني، وكنت أتردد باستمرار على كلية الفنون، فكانت مدارس الفن في العراق لها تأثير كبير على روحي وتركت بصماتها على ذائقتي الفنية، وفي معرض بتول الفكيكي لم أجد نفسي غريباً عن مدرستها المتميزة، فقد شعرت أني أتواصل مع الفن العراقي الضارب جذوره في التاريخ منذ سومر وبابل وأكد، وأنها ورغم غربتها عن الوطن، واستقرارها في إنكلترا، ما زالت وفية لموروث شعبها التاريخي، ومخلصة لمدارس الإبداع الفني في العراق، وممتلكة روح التطوير وليس الانسلاخ، وهذه مشكلة كبيرة نلمسها في روح العديد من الفنانين الذين حرفتهم مدارس الحداثة الغربية، ففقدوا الانتماء لموروثهم، ولم يطوروا في أدائهم، فأصبحوا كالغراب الذي قلد الحمامة، فلم يمش مثلها، وتشوه سيره كغراب عن جنسه. في جولة واحدة لا يمكن للمشاهد أن يخرج من حجم تأثير عنف الجمال في اللوحات التي أبدعتها روح الفنانة بتول، ويحتاج المرء لأكثر من جولة على أيام أخرى، ليتمكن من أن يخرج من حالة الدهشة والذهول، ويستطيع أن يكتب بعض من مشاعره عن المعرض، ولذا احتجت إلى ثلاثة زيارات للمعرض كي تستطيع روحي أن تحط من تحليقها وتعبر عما شاهدته، فالفنانة حتى بأنواع وتقسيمات لوحاتها كانت تشد المشاهد، سواء باللوحات الزيتية المعلقة على الجدران أو الزيتية التي تقف على الأرض وتتشابك كل لوحتين مع بعضهما، أو اللوحات المرسومة على الزجاج أو المركبة بين الفن وأوراق الصحف وصورة لطفل يبكي في زاوية صحيفة، أو من خلال اللوحات المرسومة باللونين الأبيض والأسود أو الحبر والورق. لم يكن الجسد في لوحات بتول إلا الرمز لكل ما هو جميل، إنه رمز الأرض والروح والعطاء، الفعل والعمل، الألم الذي يجتاح الوطن، فيحيله من عمار ونمو إلى خراب تظهر من ثناياه نجمة داود، هو الجسد الذي مثل الأرض والعطاء من خلال تجريد الجسد وإعادته بلوحة فنية متميزة تحمل روح الأرض، ورغم الأمل تحلم بالغد، تحلم بالصباح الأجمل، فنرى الورود تتناثر على الأجساد، الوجوه المتداخلة لأجساد تمثل رجال ونساء، أعطيت روحاً لتمثل الأرض والرمز والحلم والماضي والمستقبل، المرأة التي تحمل في أحشائها أداة التغيير للمستقبل، فكأنها الأرض التي تنبت السنابل، أجيال قادمة لتحمل مشاعل حرية وفرح. تمكنت الفنانة بإبداع هائل من التحكم في اللون، فجاءت لوحاتها مجموعات لونية متميزة، فمن الأزرق الداكن في الحواف حتى الأزرق الفاتح اللون في المركز، ومن البني الداكن إلى الذهبي والأصفر المموه بالبني، ومن الأحمر الداكن الممزوج بالأسود حتى الأحمر الوردي، كانت هذه ألوان لمجموعات من لوحات المعرض، فكان اللون يحمل رسالة، والجسد يحمل رسائل ويحتوي على الروح، فجسد بلا روح يكون ميتاً، والوشم يحمل تعبيرات، تجمعت جميعاً برسالة واحدة واضحة: مهما كان الوشم على الجسد، ومهما بلغ الخراب والتشويه، ومهما بلغ الألم، فالحلم قادم بلون الشمس، أخضر بلون نخيل الرافدين، أزرق كسماء الوطن الصافية، أبيض كالقلوب التي لم تعرف إلا الحب، لكنه عاصف في وجه كل من أساء للأرض والوطن. بتول الفكيكي تجربة متميزة في عالم الفن التشكيلي، مدرسة لها خصوصيتها في مدارس الإبداع العراقي في الفن، تركت بصماتها في العديد من المدن، من خلال عشرات المعارض الفردية والمشتركة، ومن خلال مواقع تركت أعمالها فيها أثر لا يزول، فسعدت أني تمكنت أن أحضر المعرض يوم قدومي من رام الله المحتلة، وأخرج مباشرة لمقهى قريب أخط فيه انطباعات روحي الأولية وأنا في مركبٍ من الذهول، احتجت مرات من زيارة المعرض والتصوف في محرابه، حتى أستعيد توازني الروحي. في نهاية جولتي كنت أعتقد أن الفنانة عبارة عن كتلة من النار، لأجد بتول الفكيكي إنسانة هادئة وناعمة، فتذكرت البحر من جديد وهدوءه، لكنه في لحظة يحمل الأمواج والأعاصير، هكذا وجدت روح الفنانة، فصافحتها وقلت لها: الكلام لا يعبر عما يجول في داخلي، فانتظري ما تجود به روحي، وقلت لياسمينة مركز رؤى ومديرته سعاد عيساوي: تمتلك روحك قدرة هائلة من إبداع اختيار المعارض في رؤى، وتمتلكي قدرة كبيرة على استفزاز روحي لتحلق في فضاء رؤى والفن والجمال وتكتب.
من رام الله إلى مركز رؤى في عمّان مباشرة كان المسير، كنت أستعجل موعد قدومي يوماً كاملاً لأكون في السادسة مساءً مع حالة مذهلة من الفن لم أرد أن تفوتني؛ افتتاح معرض "الجسد الموشوم" للفنانة العراقية بتول الفكيكي، فمن يعشق الفن ويفوته معرض نادر ومتميز كهذا المعرض، سيشعر كم فاته من إبداع وجمال ومعانٍ، لذا خرجت مبكراً من رام الله العشق والجمال، فليس من ضمانة لما قد يرتكبه الاحتلال من حماقات لا تهدف إلا إلى إثارة أعصاب المواطنين والتنغيص عليهم.
على أنغام الموسيقى والأغنيات العراقية جلتُ المعرض رغم الازدحام الكبير من الحضور، وأنا في حالة من الذهول، حالة أفقدتني حالة التعب التي أعانيها من سفر يخلق الاحتلال الصهيوني في كل خطوة منه أكواماً من المتاعب، لأجد نفسي محلقاً بحالة نادرة من التحليق، الروح فيها تكون خارج الجسد، والجسد في حالة من الخدر، والنفس تجول في ثنايا اللوحات والألوان، تستقبل كماً من المعاني، يتدفق كنبع قوي، وتتدفق كشلال قوي منحدر يحمل المرء معه بدون أن يمتلك المقاومة، ليضع المشاهد في حالة غريبة يتمازج فيها الألم مع الواقع، والرمز مع التاريخ، والمرأة مع الأسطورة، والأرض مع الجنون.
منذ اللحظة الأولى لا يمتلك المرء إلا أن يكتشف الرمزية الدقيقة في عنوان المعرض الذي حمل اسم "الجسد الموشوم"، فالفنانة لم تسميه مثلاً: "وشم على جسد "، فهنا الجسد خرج عن مفهوم الجسد البشري المجرد، فكان الرمز موشوماً بالكامل، بالألم الذي لم يفقد الجسد جماله وقوته وتشبثه في الحياة، بينما لو كان مجرد وشم على جسد، لكان إشارة أنه ليس أكثر من ألم عابر، يمكن أن يزول بسهولة وبعد معاناة قصيرة.
ستة وأربعون لوحة كانت موشومة بجمالية على جدران مركز رؤى في عمّان، دالة على روح فنية رقيقة ومتميزة لمن أشرف على وشم اللوحات على الجدران، ومن اللوحة الأولى في المدخل، تبدأ ضربات القلب بتصعيد وتيرتها، الأنفاس تتلاحق، فاللوحات بما تحمله من قوة المعنى وقوة الألوان والتحكم بدرجات اللون، تبدو في الوهلة الأولى كبحر يبدو هادئاً رقراقاً، لكن سرعان ما تبدأ الأمواج بالثوران، والرياح العاصفة بالشدة، والأعاصير بالاندفاع، فيجول المشاهد وكأنه يركب قارباً تدفعه الأمواج والرياح بقوة، فتحبس منه الأنفاس.
أدين لبغداد والفنانين العراقيين بعشقي المتميز للفن التشكيلي، فقد عرفت هذا الإبداع في أوائل السبعينيات من القرن الماضي حين بدأت الدراسة في كلية آداب جامعة بغداد، ولم أكن أترك معرضاً أعلم عنه يفوتني، وكنت أتردد باستمرار على كلية الفنون، فكانت مدارس الفن في العراق لها تأثير كبير على روحي وتركت بصماتها على ذائقتي الفنية، وفي معرض بتول الفكيكي لم أجد نفسي غريباً عن مدرستها المتميزة، فقد شعرت أني أتواصل مع الفن العراقي الضارب جذوره في التاريخ منذ سومر وبابل وأكد، وأنها ورغم غربتها عن الوطن، واستقرارها في إنكلترا، ما زالت وفية لموروث شعبها التاريخي، ومخلصة لمدارس الإبداع الفني في العراق، وممتلكة روح التطوير وليس الانسلاخ، وهذه مشكلة كبيرة نلمسها في روح العديد من الفنانين الذين حرفتهم مدارس الحداثة الغربية، ففقدوا الانتماء لموروثهم، ولم يطوروا في أدائهم، فأصبحوا كالغراب الذي قلد الحمامة، فلم يمش مثلها، وتشوه سيره كغراب عن جنسه.
في جولة واحدة لا يمكن للمشاهد أن يخرج من حجم تأثير عنف الجمال في اللوحات التي أبدعتها روح الفنانة بتول، ويحتاج المرء لأكثر من جولة على أيام أخرى، ليتمكن من أن يخرج من حالة الدهشة والذهول، ويستطيع أن يكتب بعض من مشاعره عن المعرض، ولذا احتجت إلى ثلاثة زيارات للمعرض كي تستطيع روحي أن تحط من تحليقها وتعبر عما شاهدته، فالفنانة حتى بأنواع وتقسيمات لوحاتها كانت تشد المشاهد، سواء باللوحات الزيتية المعلقة على الجدران أو الزيتية التي تقف على الأرض وتتشابك كل لوحتين مع بعضهما، أو اللوحات المرسومة على الزجاج أو المركبة بين الفن وأوراق الصحف وصورة لطفل يبكي في زاوية صحيفة، أو من خلال اللوحات المرسومة باللونين الأبيض والأسود أو الحبر والورق.
لم يكن الجسد في لوحات بتول إلا الرمز لكل ما هو جميل، إنه رمز الأرض والروح والعطاء، الفعل والعمل، الألم الذي يجتاح الوطن، فيحيله من عمار ونمو إلى خراب تظهر من ثناياه نجمة داود، هو الجسد الذي مثل الأرض والعطاء من خلال تجريد الجسد وإعادته بلوحة فنية متميزة تحمل روح الأرض، ورغم الأمل تحلم بالغد، تحلم بالصباح الأجمل، فنرى الورود تتناثر على الأجساد، الوجوه المتداخلة لأجساد تمثل رجال ونساء، أعطيت روحاً لتمثل الأرض والرمز والحلم والماضي والمستقبل، المرأة التي تحمل في أحشائها أداة التغيير للمستقبل، فكأنها الأرض التي تنبت السنابل، أجيال قادمة لتحمل مشاعل حرية وفرح.
تمكنت الفنانة بإبداع هائل من التحكم في اللون، فجاءت لوحاتها مجموعات لونية متميزة، فمن الأزرق الداكن في الحواف حتى الأزرق الفاتح اللون في المركز، ومن البني الداكن إلى الذهبي والأصفر المموه بالبني، ومن الأحمر الداكن الممزوج بالأسود حتى الأحمر الوردي، كانت هذه ألوان لمجموعات من لوحات المعرض، فكان اللون يحمل رسالة، والجسد يحمل رسائل ويحتوي على الروح، فجسد بلا روح يكون ميتاً، والوشم يحمل تعبيرات، تجمعت جميعاً برسالة واحدة واضحة: مهما كان الوشم على الجسد، ومهما بلغ الخراب والتشويه، ومهما بلغ الألم، فالحلم قادم بلون الشمس، أخضر بلون نخيل الرافدين، أزرق كسماء الوطن الصافية، أبيض كالقلوب التي لم تعرف إلا الحب، لكنه عاصف في وجه كل من أساء للأرض والوطن.
بتول الفكيكي تجربة متميزة في عالم الفن التشكيلي، مدرسة لها خصوصيتها في مدارس الإبداع العراقي في الفن، تركت بصماتها في العديد من المدن، من خلال عشرات المعارض الفردية والمشتركة، ومن خلال مواقع تركت أعمالها فيها أثر لا يزول، فسعدت أني تمكنت أن أحضر المعرض يوم قدومي من رام الله المحتلة، وأخرج مباشرة لمقهى قريب أخط فيه انطباعات روحي الأولية وأنا في مركبٍ من الذهول، احتجت مرات من زيارة المعرض والتصوف في محرابه، حتى أستعيد توازني الروحي.
في نهاية جولتي كنت أعتقد أن الفنانة عبارة عن كتلة من النار، لأجد بتول الفكيكي إنسانة هادئة وناعمة، فتذكرت البحر من جديد وهدوءه، لكنه في لحظة يحمل الأمواج والأعاصير، هكذا وجدت روح الفنانة، فصافحتها وقلت لها: الكلام لا يعبر عما يجول في داخلي، فانتظري ما تجود به روحي، وقلت لياسمينة مركز رؤى ومديرته سعاد عيساوي: تمتلك روحك قدرة هائلة من إبداع اختيار المعارض في رؤى، وتمتلكي قدرة كبيرة على استفزاز روحي لتحلق في فضاء رؤى والفن والجمال وتكتب.