تتفرد تجربة سيف الرحبي الشعرية بمشاكلتها تجارب شعراء الحداثة الشعرية العربية مشرقا ومغربا، وتزيد على هذا البعد الأفقي فتخالط بعضا من مناحي الشعرية العربية؛ وبناء على هذا التوزع والانتشار الكيفي فإننا سننطلق في مداخلة خصائص شعرية سيف الرحبي انطلاقا من الغواية الإمتاعية التي قدرناها جامعة بين تأصيل النزوع الإبداعي الحرّ، وحرية الانفعال بالقيم التعبيرية الجريئة النّبرة، وبين رسوخ ضارب في جمالية الكلام العربيّ المؤسس على إيقاع البلاغيّ الهازّ.
يسعى سيف الرحبي باعتمادة تفعيل الزخم الإيقاعي الزاخرة به اللغة العربية إلى الحضور في روح عصره المترامي في غرابة البيئة الشعرية العربية القديمة، فالرمال المتشاكلة حسيا مع اوراك العذارى، ما تزال بيئة عمانية نابضة بشبقية البلاغة العربية. لا حيلة للقبض على التفلت اللغوي بين أصابع الشاعر سوى زخم الإيقاع الثري بالإحالات الروحية المتسلسلة تنطلق من ملموس الذات إلى غياهب الجهات، وخلال هذه التحولات تغتدي القصيدة أو الخطاب سلة من المظان، تستدرج الحس للمكاشفة. ولكي يقبض سيف الرحبي على مشروع الحياة بين فراغات المكان القاتلة يستنجد بالمقامات الكلامية التي تتلبس في كل نبرة عباءة الذات المثقبة بالأسئلة الوجودية.
يدوزن سيف الرحبي تحولاته الشعرية نزّاعا بكل ما أوتي من بلاغة التوقيع الجمالي للعبارة اللغوية إلى خرق الثابت في قواعد الشعر العربيّ تتراءى خلالها القصيدة العمودية تمثالا لعروس من صخر بترت يداها، فهي لا تلوح لشيء. يستعيض الشاعر عن المفتقدات المتمثلة في تغييب البنية العروضية التقليدية بتوظيف أوزان بنائية أخرى تتدرج متصاعدة من الوزن المقطعي، وبثّ مقامات الانسجام اللساني السماعي، وتفعيل الأوزان الصرفية ذات الدلالات البنائية المؤثرة في لسان القارئ وسمع المتلقي. ينزع سيف ارحبي بتوظيفه البدائل الإيقاعية إلى إغناء الموقف التعبيري بوساويس أصوات الحروف واجراسها، يرمي باللفظة في بور الذات فترتد مؤثرة فاعلة؛ وذلك ثراء إيقاعي مالئ لغياب المفتقد المقصود، لو حضرت اشراط الشعر المحفوظة لما تجرأ حس الشاعر على استدعاء الطارئ الحاجة ام الاختراع، والتوق أس الافتراع، هو ثراء إيقاعي غير محدود الطاقات التوقيعية لشعرية تصّاعد من عراء بيئي لا تستوعبه سوى الذاكرة إنها اللغة النائبة عن المكان.
يستوجب منا هذا النظر الالتفات إلى الدعائم النظرية التراثية الرافدة لشعرية سيف الرحبي وهي جمة غزيرة الإحالات؛ لا تسدها الإشارة إلى الأشياء بالأصبع الواحد. تنتشر ضمن الأبعاد الإبداعية الإنسانية الخام؛ نستهدي في موضوعها بما أورده عبد القاهر الجرجاني في الأسرار حين لخصها في قراءة شعرية بتقنيات الإشارة والتلويح والرمز والإيماء والتفنن في إيقاع التشبيهات بالتبعيد تارة والتقريب تارة أخرى (واعتماد دليل حال غير مفصح أو نيابة مذكور ليس لتلك النيابة بمستصلح)[1] وهي المناطات النقدية التي يندرج تحتها كثير من الوظائف الفنية الجمالية الغاوية في شعرية الحداثة، والتي نحسب أن سيف الرحبي ينتمي إلى مدرستها بامتياز.
يعمد سيف الرحبي إلى التصرف العفوي الطبيعي الذي تسفر عنه التفاعلات الإيقاعية في لسانه الهادر بشقشقة أهل عمان، تنفلت العناصر الإيقاعية أصواتا ومقاطع وهيئات كلمات وأساليب تعبير، تشدّ أواصر الجملة الشعرية مبدأ ومحشى وفواصل، حتى إذا غادرت اللغة هذا المستوى إلى ما هو أظهر وأبين، تنوعت الأوزان الصرفية التي هي هيئات للكلمة فتغدو الأوزان الصرفية المختلفة البنى متناجزة متكاملة. كانت الأوزان العروضية تسبق اللغة إلى الوجود فانقلبت الآية وصارت اللغة بكل تفاعلاتها البنائية النشطة معرضا لتكاثر الصيغ والأبنية والأوزان. تنقاد العبارة متجاذبة إلى ما يلائمها، فإذا تحول الشاعر عن هذه المرجعيات المعدّدة أصاب جمالية العبارة اللغوية في أبهى شروط بنائها. وهي التي لها محلها من التأليف والأسلبة وتعبير الرؤيا الشعرية. لعل هذا المقام هو الذي عناه ابن جني[2] حين قال: (الكلمة الواحدة لا تشجو ولا تحزن ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام وأمتع سامعيه بعذوبة مستمعه ورقة حواشيه) فالتوقيع الذي هو أساس التوزين يحتاج إلى إعمال اللسان بما يسمح للمدندن أن يذوق مكونات العبارة تأليفا وتنسيقا وموافاة وملاءمة ومجانسة وتكامل (لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة)[3]، آية ذلك الانسجام الطبيعي المحدوس عفويا تحصيل جمال اللسان المحتفى بخطابته والشاعر يكتشف شاعريته ويقيمها قبل النقاد، والشاعر أولى بسماع شقشاته منذ أن تكون كلاما نفسيا داخليا فالبيان (يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وإن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة، وإن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتثنى به الأعناق، وتزين به المعاني)[4]، فالتراضي في المتجاورات اللفظية أو الصوتية منتج للأريحية وذلك هو المعيار الطبيعي الذي تستشف به مختلف الانسجامات الإيقاعية. والعبارة الشعرية في سجلات سيف الرحبي الكلامية لا يمكنها إلاّ أن تصنع لها تلك البدائل الإيقاعية التي نلفيها متوافرة في الخطاب الشعري العربي القديم دون أن يخصص لها حيز من التأطير النقدي الأدبي، تحضر فاعليتها الإيقاعية ضمن السياقات التركيبية المعددة دون أن يشملها سجل الاصطلاح البلاغي المكرس.
مداخل ومجاذبات:
يستعين سيف الرحبي في إنجاز شعرية الاستطراف بتكامل المعارف الأدبية واللغوية التي تتشعب شاملة عدة مجالات أو فضاءات معرفية. وهو لا ينزع إلى المخالفة إلاّ انطلاقا من معرفة بالشعرية العربية قديمها وحديثها، شأن شأن شعراء الحداثة العربية. لم يغادروا خيمة الشعر العربي القديمة، إلاّ بعد أن تصوروا الممارسة البديلة حدسوها واستشعروها حتى ولم لم تلتئم أماراتها في نحنوحة اليقين. فالتداخل والتجاذب بين المكونات الشعرية يسمح بتوسيع الرؤية الفنية الجمالية؛ ويوجد مسوغات التقبل القرائي. لذلك فالشاعر لا يكسر قواعد الشعر التقليدية إلا بناء على قناعات إيقاعية بديلة؛ يراها كفيلة بأن تمنح الشعرية العربية نفس التواصل والاستجداد. استثاق بالأصيل فتوطد له البديل؛ حيث أن الشاعر مؤثثة رؤياه الإبداعية بالتعاطي المتنوع القناعات: قناعة ابتداع الخطاب، وقناعة الفطن النقدية الأدبية التي ما ينفك سيف الرحبي يمارسها على هامش الخطاب. فالوزن الذي هو الجانب الأكثر قداسة في الوظيفة الشعرية العربية التقليدية؛ ينزاح لديه إلى البدائل الإيقاعية الثرية المتنوعة التجلي، والتي هي راسخة في أصل النزوع اللغوي العربي. حيث لا خلاف على أنها هي التي استنهضت الحس التوزيعي، في حس الأعراب المفترعين للظاهرة الشعرية، هي المسوغات التوزينية التي تستطيع العبارة توليدها لسانيا وسماعيا، بناء على التركيز الإيقاعي الذي تنخرط فيه الذائقة لدى إمساسها كل بؤرة لغوية، تبدأ بالصوت اللغوي، ولا تنتهي بالأسلوب؛ وإنما يغدو الموقف الشعري هو المولد لمكوناته الإيقاعية غير المتوقعة أو المحدودة .
في هذه الصحراء العاتية |
الصحراء التي تسيلُ مع الشمسٍ كثباناً وشياطينَ |
تناسلَ الأسلاف جَدّاً بعد جَدّ |
ونبتْنا مصْل أشجارٍ صخريّة |
راكضين بين الشاطئ والجبال |
بأرجل حافيةٍ وقلبٍ مكلوم. |
كبرُنا مع الجمال والحمير |
توهمنا الصورة الخطية للخطاب الشعريّ بنثرية باردة، إذا قرأناها في حدود الشروط اللغوية النثرية. غير أن الانتقال بالمقول إلى نسقية تشعيرية يفرض علينا وبالضبط على القراء المتوافرين على معرفة شعرية أن يكيفوا الملفوظ بما للغة الخطاب هويتها الإبداعية التي لن تكون سوى التوجيه الشعريّ للعبارة، يمكننا تحديد مكونات التوجيه الشعري للملفوظ في تقنية الوقوف على السكون في نهاية سطور شعرية بعينها، تقف تقديراتها الإيقاعية مانعا للمخالفات القرائية الأخرى، فالفارق الإيقاعي بين الوقوف على السكون أو الوقوف على الإعراب يستطيع أن يوفر لنا قيمة معرفية لطالما أعملها البلاغيون العرب في تحديد اللغة الشعرية لذلك فإن إحدة مميزات الشعرية في المقام الشعري السابق يتمثل في الوقوف على السكون في المناطات التالية:
العاتيهْ/ صخريهْ/ الجباْلْ/ مكلوْمْ/ الحميْرْ/.
وأما إيقاع التمثيل الدلالي هذا المفيد الإشارة والمعاينة فإيقاعه ثابت في التراث اللغوي العربي العزيز
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... في زين العابدين، فالتمثيل الدلالي وإعمال الهيئة والشمائل إيقاعها في تحريك الإيقاع، وعلى نمط ذلك الإيقاع اللغوي الراسخ يقول سيف الرحبي:
في هذه الصحراء العاتية |
الصحراء التي تسيلُ مع الشمسٍ كثباناً وشياطينَ |
إشارة تحتمل دالة على ما يعددها وينوعها فلا تستقر لدى إطارها النحوي وإنما تتعدد قراءاتها بتعدد مظانها التي تنفتح على التنوع والثراء، فالتراكم البلاغي العامل في جهة التأثيرات النفسية يرتدّ بتأثيراته الحسية القوية بديلا إيقاعيا يشغل المتلقي فلا يرى إلى غير حاضر الخطاب، إنها لحظة تحقق المقروئية وتنسينا التقييم النقدي للمكونات الخطابية، هو سياق يوقّع التنكير بالتعريف فالصحراء ما عُرّفت في السطر الشعري إلا بسبيل الإغراء، لغة شعرية ترينا الشيء ولا تسمح لنا بملامسته.
إننا ونحن نطالع شعر سيف الرحبي متفاعلين مع المؤثرات التشعيرية مدركون جيدا أن الصحراء العربية أصابها من التحول البيئي ما جعلها تختلف عن تلك التي عاناها الشاعر الأعرابي الأول فندرك عندها أن حضور مفردة الصحراء في شعرية سيف الرحبي متوجه بها إلى إثارة الإيقاع البلاغي وهو الفعل الإبداعي الذي يصب في وظيفة ترقية الدلالة اللغوية الطبيعة والسير به إلى وظيفة التشعير الفني لسذاجة الواقع وبساطته.
ومثلما هو جلي للمتوسّم، فإن الوقوف على السكون يغيب حدود الدلالة النحوية، تصير معه العبرة حرة طليقة ملقاة على عواهنها مثل قطع النرد توحي بكل شيء قبل استقرارها في ضوابط السياق، ذكر ابن جني[5] شبيها بهذه الوظيفة حين قال: (هذه اللفظة وإن لم تكن قافية فيكون البيت بها مقفى أو مصرّعا، فإن العرب قد تقف على العروض ضربا من وقوفها على الضرب، أعني مخالفة ذلك لوقف الكلام المنثور غير الموزون).
يعتمد سيف الرحبي سياقا إيقاعيا متولدا متجددا قوامه الاتساق والانسجام يرتد خلاله الحس اللغوي إلى استثمار العناصر اللغوية الدقيقة فالتناسب الذي يوفر للسان وللأذن حيزا تفاعليا مستويا منسجما هو البديل التوزيني والذي هو أصل في كل نزوع بنائي استلذاذي حيث تؤدي المجاذبات النفسية والانفعالية فعلا نظميا بالغ الحساسية يأتي في مقدمتها ميزان الاستخفاف والاستثقال اللساني السماعي حيث ينبني ضبطه على (الهيئات التي تكون نقل الحركات والسكنات فيها بحسب ما يقتضيه الوزن الذي يريده الذي يريد بناء كلامه عليه فيولج به الخاطر إلى اللسان موزونا )[6] .
ينبغي لنا أن ننظر إلى الملكة الشعرية على أنها سلوك لغوي متكامل ما ينبغي لنا تجزئة مكوناتها الفنية لذلك فالشعرية يتناهض في النفس وفاق معطيات الفطن والاستعدادات الإيقاعية التي يُتَوَخَّى بها يتفادى الشاعر العبارات غير المتزنة. وأما إيقاع التسطير الذي يهتدي إليه الحسّ متمخضا عن الاعتمالات النفسية والانفعالية التي يلتمس سيف الرحبي لها حيزا لغويا يسعى به إلى القبض على العينات اللفظية المتأرجحة بين الالتئام والانفراط، فذلك متروك للتموجات اللغوية التي تستقي من كل النوازع تتحرك حرة متناجزة تغدو خلالها العبارة ماسكة بتلابيب العبارة، ولعل أبرز ما يستجدي به سيف الرحبي في هذا المقام التشعيري عو اعتماد حس ميزان الخفة والثقل الذي هو معيار حسي إنساني وأوليّ طبيعي يقوى على ذوق اللغة وتنظيمها بما يرفر لها الشروط اللسانية السماعية اللائقة بجمالياتها، وهذا الذي ذكرنا هو مرجع فطري تكون كل الشعريات الإنسانية ناشئة عنه.
وإذا كانت مبادئ التوزين والتشكيل من أبرز الحساسيات المعرفية التي عطّلت بشروطها المدرسية كثيرا من الطاقات الإبداعية العربية فإن سيف الرّحبي يعوّل على بدائل إيقاعية ليس أقلها التوزينات اللسانية السماعية، والتوزينات النحوية وربّما اتّصل الوازعان المذكوران بقيم الاستخفاف والاستثقال الذي هو معيار ذوقي حسي بامتياز.
إننا نرى إلى دراسة شعر سيف الرحبي محفوفا بالمزالق التأويلية نظرا لزخم النشاط البلاغي الذي تنطوي عليه العبارة الشعرية لديه، وسيف الرحبي إذ يتبنى هذا المنزع الذي يقدره قمينا باستيعاب فلسفة الإبداع الشعريّ الجديد فإنه يتّخذ من الكمون السيري الثريّ في السجلات الكلامية التي ينطبع بها المبادرة المتوسلة بها لافتراع اللحظة الشعرية الآنية نعني بها اللحظة الانطباعية التي تنتج مسوغاتها الجمالية انطلاقا من خصوصية المسرود يعززها الشاعر بحس حكائي أو توصيفي حافر في لحظة الانفعال بالعبارة الشعرية ذات الخصوصية الإنشائية، وسيف الرحبي إذ يتبنى التغريد خارج إطار الثابت الشعريّ المكرّس إنما يسعى إلى تحقيق مشروع العودة بفنّ الشعر من عجاج التخليط الذي شابه إلى صفاء أولياته الإنسانية الحرّة خلال ما قبل التقصيد وهو المبدأ النقدي المكين الذي أشار إليه ابن سلام الجمحي[7] حين فضل شعر النابغة الذبياني قائلا: (كأن شعره كلام، ليس فيه تكلّف، والمنطق على المتكلّم أوسع منه على الشاعر، والشاعر يحتاج إلى البناء، والعروض والقوافي، والمتكلّم المطلق يتخيّر الكلام)، لذلك فإن تعريف الشعر بما يتفق مع طبيعة مزاولة سيف الرحبي يجد له في الأصول البلاغية العربية الكثير من الدلالات والتوجيهات التي تسنده وتعزز رؤاه، لأنه بمبدأ الافتراع يجعل لغة الشعر واقعة خارج نطاق النقد المعياريّ، وحسب سيف الرحبي في سجلاته الكلامية البليغة أنه صنو الذي وصّفه ابن سلام الجمحي في الشهادة النقدية الأدبية المستعرضة، فالسياق التشعيري للغة يستمدّ خصوصياته الإيقاعية من المقام الانطباعي حيث تتشاكل أثناءه جميع الوظائف الفنية الجمالية، ينصهر خلالها الشكل مع المضمون، وتتدالّ جهات العبارة ضمن سياق دلالي يتأدى محمولا على بلاغة التراسل القلبي بين المقام والمقال لسان القول ولسان الحال، وانطلاقا من الرغبة الصادقة في الكشف عن مختلف المؤثرات البلاغية فقد سعينا إلى تنهيج قراءتي التأصيل والحداثة عن استقراء المكونات الشعرية التي المتّخذة من مرتكز السيرة سياقا تشعيريا، فالشعر وفق هذه القناعة الإبداعية متصل بالإنشاء والترسل والخاطرة والهجسة تغدو اللغة المشحونة بهذه القيم الحسية عبارة عن تبريحة تغنَى بالتصويتات والنداءات والإحالات على السرديات الحكائية.
يتخير سيف الرحبي حيّز الصحراء باعتباره الحيز العربي الحاضن الطبيعي والجمالي للهاجس الشعريّ، فهو بانفتاح فضائه يمنح اللغة الشعرية فسحة للارتماء في قنوات الزمن، تتجلى دلالة الصحراء المشحونة بمعاني الموت والامّحاء قيما إيقاعية تفرز الحيوية في قلب القارئ أو المتلقّي.
في هذه الصحراء العاتية |
الصحراء التي تسيلُ مع الشمسٍ كثباناً وشياطينَ |
تناسلَ الأسلاف جَدّاً بعد جَدّ |
ونبتْنا مصْل أشجارٍ صخريّة |
وللمّ مختلف التنويعات البلاغية الواسمة لخصوصيات المقام الشعريّ متجاوبا مع مقام الحال لدى سيف الرحبي فقد ارتددنا إلى تراث الشعر العربيّ خطابا وشروطا بلاغية مستأنسين بهذا الارتداد في قراءة شعرية الشاعر مستثمرين الإشارات النقدية الأدبية التراثية الأصيلة التي أوردها البلاغيون العرب خاصة منها تلك التي تنفتح لاستيعاب الرؤى الاستجدادية التي ارتأيناها واقعة في صميم حرية الإبداع ولا يفرق حصولها بين القدامة أو الحداثة، والتي تناهضت متجذرة الوازع الشعريّ في النفسية العربية منذ الخطرة الأولى، تلك المسعفات البلاغية التي لمسنا في جماليات بلاغة إِمْحال معانيها ودلالاتها السحرية التعجيبية المشحونة بإيقاع الإغراب حيث يستدعي التشعير كل مسرود تعجيبيّ خارق مؤلفا بين التنويعات المعرفية التي تشكل صميم فيلولوجيا اللغة العربية.
تتوافى توقيعات سيف الرحبي البلاغية في سجلاته الكلامية مع كثير من الخصائص التشعيرية الحرّة، يأتي في مقدمتها الخرق أو كسر سياق المعرفة، يقبض سيف الرحبي على بلاغة الخرق من خلال استثمار حرية اللغة الشعرية في التأليف بين المتنافرات أو المتعاديات حيث تتّخذ لها هذه البنية التفعيلية سياقا تركيبيا كأن تشكل آصرة رابطة بين المتلازمات اللفظية ضمن الوظيفة النحوية، نستعرض منها ما يلي:
توتير تعالق الفعل مع الفاعل:
يعتقد قراء الشعرية على اختلاف قناعاتهم أو مشاربهم الثقافية أن الرابط النحوي بين المتعلقات اللفظية هو مناسبة بنائية حاسمة نستطيع من خلالها قياس مدى تحرر الشاعر في توظيف الأساليب التعبيرية أو تقيده بشروط الدلالة النحوية، فالتواصل الدلالي الخيطي أو السياقي بين الفاعل وفاعله إما أن يتوتر أو يسكن وفي خضمّ تلك المراوحة بين مجالي السكون أو التوتر تتحدد الجمالية الإمتاعية بحيث يترقب القارئ المبدع الوقوف على إيقاع صدمة المنافرة أو المباينة بين تلازم الفعل مع فاعله إيقاعا توتيريا في الجملة الشعرية في شعر سيف الرحبي حيث وقفنا على جدوى هذا المنحى التشعيري، يتطوع سيف الرحبي في بثّ بلاغة التبعيد بين متجاورات معجميته الشعرية، يتمكن هذا السياق التشعيري حتى يبلغ به إيقاع خرق السياق الذي يرتد هو بدوره مستعاضا به عن الشروط الشعرية التقليدية، الكلام الموزون المقفى التي انتقدها ابن خلدون في مقدمته[8] فالتكثيف الموضوعي في تقديرنا هو الذي المولد للنظمية المباينة للشعرية، حيث تغدو تلك المسلمات متجاوزة، فالوزن يغدو هاديا إلى أشكال توزينية أخرى هي أغنى من المكرس، وزن صوتي، ووزن مقطعي ووزن تصريفي لهيئة الكلمة ثم الأسلبة فالتوقيع المعنوي أي الدلالي وما جارى هذه القيم الفنية الجمالية مستجدا طافرا وفق ما تمليه حالية الخطاب الشعريّ، وإن من مميّزات الشعرية لدى سيف الرحبي هو توظيفه للتنكير والإمحال والتعجيب والتغبير(الحكاية عن الزمن الغابر) والإحالة على ضمير الغيبة التي تصطنع لها سياقا تشعيريا غلابا.
وللقبض على مختلف التنويعات البلاغية التي تجعل من شعر سيف الرحبي إضافة إبداعية في سجلي اللغة والأدب العمانيين، لذلك ألفينا سيف الرحبي متميّزا من بين أترابه من الشعراء العرب بما يتمتع به شعره المؤلف من هواجس الخاطرة والسرد الحكائي وبلاغة إتقان التوصيفات وغواية المشعّر على الذات الشاعرة، تختلط كل تلك المحفزات البلاغية مع إيقاع شعريّ خاصّ التقط الشاعر مادته البلاغية انطلاقا من البيئة العمانية، وحسب هذا السياق الإبداعي الذي امتاز به سيف الرحبي أنه تشبع بمستمليات البيئة والسيرة والتاريخ حتى أطلعت خصوصيته الشعرية التي لا يمكن تحصيلها إلاّ (بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والفراغ والعشق، والمنافسة والبلوغ)[9] بما أفضى إلى ما قوامه التفاعل الوظيفيّ بين الذات الشاعرة وبين مستمليات العناصر الإيقاعية المتحرية هزّ للمتلقي العربي، وتحريكه إلى التفاعل الإبداعي مع إبداعية الخطاب، فالخصوصية اللغوية المشبعة بالدلالات السيرية كفيلة بأن تمنح الأساليب التعبيرية قيمة شعرية بعيدا عن الشروط البنائية أو التشكيلية أو العروضية.
لقد تحقق حسب تقديرنا لسيف الرحبي كل ذلك التعويل على التجاوز المبدئي، والامتياز الإيقاعي الموصل إلى افتراع الخصوصية المعجمية البانية للكون الشعري المناور بين مختلف التجارب الشعرية المداهنة. نعني بها أساليب الإنشاء الشعرية الخاضعة للشروط النقدية المرحلية، نحسب أن سيف الرحبي مثلما هو مركوز في جانبياته النقدية يسعى من خلال مختلف التنويعات البلاغية والإيقاعية المتناهضة على جنبات سجلاته الكلامية إلى التأسيس لغنائية حرّة لها متعكزاتها المحمولة عليها تتمثل في لطافة التصوير، وصوفية المقام التعبيريّ المحيل على العوالم الدلالية التعجيبية والتي فلسفتها قائمة على التوقيع للشعريّ بالخارق، وبما أن سيف الرحبي متعاط للسياقين سياق التجريب وسياق الوعي، فإن الممارسة الإنشائية في شعريته تضطلع باحتمال مشروع التجريب إلى جانب المساهمات النظرية التي تنفعل بها هوامش القول في سيرة سيف الرحبي الإبداعية، وليس ثمة من مرجعية تشد وثاق القول سوى الانتظامات النحوية التي سيظل سيف الرحبي يحترمها في أرواق القول الشعريّ.
تجسّدت خصوصية سيف الرحبي الشعرية في توظيف المحكيات والمعيشات والمحسوسات للرؤية الشعرية البانية لعوالم فنية جمالية تسعى إلى المساهمة في تغيير مفهوم الشعر والشعرية، لذلك فإن شعرية الرحبي تبدو هوامش لدفاتر البوح الحرّ، نحسب أن سيف الرحبي قد برع في توظيفها إلى درجة من التشبع الفني والجمالي صارت بمثابة الانبصام اللغويّ المائز للتجربة الشعرية، وقد كان للشاعر في هذه المادة البلاغية مندوحة عن الأدوات الوزنية التقليدية، والذي يتدبر بلاغة الشاعر متفكرا في أسرارها العميقة يستطيع أن يقف على ما أسدته جرأة الخطاب البديع من حماسة التجريب الفني الجمالي من أجل الوصول إلى النموذج الشعريّ الذي يشكل بصمة شعرية لا يمكنها أن تصدر عن غير سيف الرحبي فالجزئيات البلاغية والإيقاعية التي يطبع بها الشاعر سياقاته التعبيرية تتناهض متخللة كل المواقف التعبيرية في عفوية وبساطة استطاع الشاعر بفضلهما أن يحرك الحسّ العربي الإنساني إلى معاودة المبادئ الشعرية الفطرية الأولية التي كانت قبل القصيدة العربية والتي شهد بها ابن سلام على شعرية النابغة قائلا : كأن شعره كلام، رابطا تشعير اللغة بحرية الانطباع اللغويّ قبل أن يتشظّى اللسان العربي الجميل إلى مفترق النثرية والشعرية[10]، استطاع الشاعر بإتقان توظيفها الاستغناء عن المكونات الشعرية القديمة، وإننا سنحاول استقراء الدعائم النقدية المصدقة لهوية سيف الرحبي الشعرية والتي نلخصها في حرية الانفعال العفوي والفطري بالقيم البلاغية والإيقاعية.
نعتقد أن الذي لمّ شتات التجربة الشعرية لدى سيف الرحبي، وناغم بين العناصر الإيقاعية على اختلاف مشاربها الحسية هو تساند الشاعر إلى استثمار الغنائية أو لغة البوح حتّى أَجَاءَهُ ذلك السياق التشعيريّ إلى إضفاء المصداقية البالغة على كل محال مستبعد ونازح مستغرب، وتوثيق مقروئية كل نادر مُعْجب، وإننا حين نتأمل سياق تجربة سيف الرحبي الشعرية نلفيها معززة مصدقة، تستوثق بسجلاتها السردية المتنوعة النابغة من إيقاع الغنائية، ولعلّ تلك الآصرة الفنية المتساندة إلى فورة المعايشة، والصدور عن القوى الحاكية الساردة هي التي جعلت سياق الإِمْحَال الساحر المعجب معزّزا بالمصداقية الإبداعية البالغة التي تمنح شعرية سيف الرحبي السحرية المنطوية عليها مقروئيتها مثلما نلمسها في كل شعر شاعر حسب تعبير شيخ البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني.
يفترع الهاجس الشعريّ أوليات الأساليب التعبيرية بناء على تخليص كون الشعر من مغالطة راسخة يجترها كلّ أناس متمثلة في مقولة: الشعر يتطور ويتحول وينمو والحقيقة أنه تبعا لمرجعيته الروحية الإنسانية خلاف ذلك إنه يتجذر التجربة، ويصدق صفاء الحس الذي طفر عنه أوّل خطْرةٍ، يمنح اللغة الفنية عذريتها الطبيعية، وبذلك فالشعر بخصوصياته الانفعالية قمين باستدعاء الخارق الذي لا يصدقه العقل، قال بهذا البلاغيون العرب ووافتهم فيه النظريات البلاغية الغربية الجمالية حتى عاد مكرسا في الحداثة النقدية الأدبية معتمدا إطارا لتحرير الفكر وتثوير التصوير، نحسب أن هذه الامتيازات الإبداعية قد توافرت للشعر العماني من خلال كتابات سيف الرحبيّ الفنية ذات الأثر التنويعي على الحداثة الشعرية، وقد قوي مفعولها في واقع الخطاب الشعري العماني حتى ارتأينا أن نعتمدها سبيلا لمداخلة بحث التنويع البلاغي الاستجدادي الطارئ على النزوع الشعريّ، وبالتحديد في موضوع التأصيل والحداثة الذي يستدعي تناوله التطرق إلى عديد من المؤثرات البلاغية نستخلصها في الإمحال والتعجيب والتنويع على الغنائية من أجل فتح آفاق التثوير اللغوي الخادم للخصوصية الشعرية التي يسديها الشاعر سيف الرحبي لإغناء حركة الشعر العربي العماني الحديث ففي قصيدة: صحراء، تتحول المسميات البيئية الغنائية إلى قيمة إيقاعية ترفد السياقات السردية بحنينية جارفة هي التي تنوب عن الأدوات البنائية المعهودة في القصيدة العربية العمودية:
كبرُنا مع الجمال والحمير |
قُدنا القطيع إلى مساقط الوادي |
وشاهدنا القطا تغيبُ مع السراب |
نصبْنا شباكاً للثعالب |
وأخرى لوعول الغيب لا شكّ في أن القارئ في مثل هذه المواقف الغنائية الموقعة بالإحالات البيئية ذات المخزون البلاغي الطبيعي أو الفطريّ يقف بين وعيين، وعي الحاضر ووعي الماضي يتقارآن في نسقية تناوبية بحيث تغدو كل إحالة متساندة إلى اصطناع اغتراب الواحدة منهما في الأخرى. |
وأما من جهة المسوغ المنهجي الداعي إلى تناول شعرية سيف الرحبي تأصيلا وحداثة فهو بروز سهمه الإبداعيّ اللاّفت المكمل لتجربة الأدب العماني الحديث، وعلى الرغم من ورود إشارات إلى تجارب إبداعية عربية أخرى تخللت انطباعات الشاعر إلاّ أنه ظل يؤسس لهوية إبداعية تتكامل قيميا مع التجارب الإبداعية العربية الأخرى.
تتحقق شعرية كتابات سيف الرحبي انطلاقا من تشبعه بحرية الكتابة والانطباع وهو بهذا المرتكز الفلسفي يداخل ثنائية الشعر والنثر وتفاوت الخصائص الإبداعية بينهما، والقارئ إذ يقدم على تفهّم هذا النمط من الشعرية المنفتحة على حرية الإبداع يسترجع نظرية الجاحظ في الموضوع حين شاكل بين الشعرية والنثرية بل إنه أعطى الأفضلية للنثر المبدوء على النثرية على الشعر المضطرب المبدأ وأما مغزى جهة الاستحسان فعائد إلى الخصوصية الإيقاعية المتجاوبة مع فطرة الانفعال بالقيم التشعيرية:[11]
سهم البيئة العمانية في إثراء معجمية شعر سيف الرحبي:
في هذه الصحراء العاتية
الصحراء التي تسيلُ مع الشمسٍ كثباناً وشياطينَ
تناسلَ الأسلاف جَدّاً بعد جَدّ
ونبتْنا مصْل أشجارٍ صخريّة
راكضين بين الشاطئ والجبال
بأرجل حافيةٍ وقلبٍ مكلوم.
كبرُنا مع الجمال والحمير
قُدنا القطيع إلى مساقط الوادي
وشاهدنا القطا تغيبُ مع السراب
نصبْنا شباكاً للثعالب
وأخرى لوعول الغيب،
يصدر سيف الرحبي في كل ورقة من أوراق القول الشعريّ عن قناعة لغوية عربية أصيلة هي الورقة المتصلة بمبدأ الانطباع البلاغي العفوي الحرّ، فالإيقاع الإغوائي وإن بدا لنا مرقوما غير مشفوه إلاّ أنه مفعم بطاقة نفسية ارتجالية تحيل على زخم تأويليّ وارف الدلالات وإننا لا نجد لذلك سندا بلاغيا غير الذي أسماه الشوكاني في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول حين قال: (الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس الصيغ)[12]، حيث يمكن اعتبار هذا النسق اللغوي جامعا بين الشفوية والكتابة معا، وإن من مميزاته أن تأتي العبارة رخوة مرنة طيعة مطاوعة تنقرئ في كل اتجاه فليس لها ضابط تخريجي واحد، وهي بذلك مؤهلة للتجاوب مع كل النفوس والانفعالات.
تعمل بنية التمييز النحوية على تحقيق المستقصى البلاغيّ متفاعلة مع البنية الضدية الضمنية التي قوامها التنافر الدلالي بين : سيلان الصحراء مجازا، واحتباس نبض الحياة في عناصرها، وذلك حس ثابت راسخ في دلالة المكان الصحراوي، ربما كان في مرحلة من مراحل تطور الحياة العربية باعثا على استنهاض الوازع الشعريّ نظرا لما يبعثه تأزّم المكان من رغبة في تمثيل حيويته المفقودة عن طريق المهارة اللسانية،وذلك هو الوازع الذي نحسبه حرك الحسّ إلى تعاطي جمال اللغة وفنها.
يتشخص فعل السيلان دلاليا من خلال تناسبه البيئي مع المؤثرات الحسية التي تفرزها قحولة المكان وامتداده واستعصاؤه على الالتئام، يذكرنا هذا الموقف بقول شاعر تراثي آخر:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
إنها الرؤية المذعنة التي تتفاعل في أثنائها الهوامش مع المتون، لذلك فإن سجلات كلام سيف الرحبي السيرية لا تقبل بالقراءة التجزيئية وإنما ينظر إليها محمولة في سياقها العامّ ينقرئ فيها المقام متّصلا بالمواقف الانطباعية الكلية، وحسب ذلك الامتزاج البلاغي أن يهيئ لكل مقام مرجعية حالية هي التي تغلف شعرية السيرة الرحبية.
يمنح المشهد البيئي المعزز بكثافة العناصر المسرودة الموقف الشعريّ هويته البلاغية، دالا على هوية حضارية متجذرة الأسباب الإنسانية، بحيث يطغى ملفوظ دلالات الإمحال والتغبير صانعا دلالة الانقباض الحسي أو النفسي شأن شعر سيف الرحبي شأن جمالية الإمحال التي اكتنفت شعر العلقات العربية، فالجمال والبعران والأشجار الصخرية فالقطا والسراب والثعالب والوعول كلها حوافز تشعيرية تزهو به الدلالات الشعرية، وتثرى بإيقاعاتها العجيبة المغربة بلاغة السرد الشعريّ، وهذا السياق البلاغي هو الذي يدفعنا إلى أن نتشجع في تسمية هذه الخصوصية بالسياحة اللغوية في سجلات سيف الرحبي الكلامية.
وهنا لابدّ من أن نرى إلى هذه الهوية البلاغية الجامعة بين الواقعية البيئية والسحرية الحكائية على أنها واقعة في صميم الثقافة الشعرية الراسخة المستجيبة لمعدن بلاغة الشعر مهما تنوعت مناسباتها الزمنية والمكانية، وحسب هذا التوثيق المرجعي للبيئة والإمحال السردي الحكائي في شعرية سيف الرحبي أنها هي ذاتها التي طبعت أوليات الشعرية العربية مثلما علّمت آثارها كتب تاريخ النقد الأدبي العربي القديم حتى توطد لها ذلك المسلك الإبداعي وصار معلما ثابتا في سجلّ الشعرية العربية، ثمّ إن تهدّي شعرية سيف الرحبي إلى توظيف لائحة المسرودات إياها يصدق إمكان استعاضة فنّ الشعر عن القواعد البنائية التي طغت حقبة ما، وإن الشعر كفيل بالتجذر في أصوله الفطرية، وقمين بمعادوة النشأة كلما انسدّت أمامه آفاقه.
تمثل الصحراء مكانا معيشا، وموضوعة سردية مناسبة للتغبير نظرا لشدة ما يولده المكان الصحراوي في الحسّ العربي، فمثلما ظل هذا الموضوع حيزا للتفاعل الإبداعي لدى الشعراء العرب الجاهليين، ما يزال يسري بذات القيم والإيقاعات في الذات العربية اليوم مهما تنوعت المواطن وتفاوتت الحضارات، فالقيمة المرجعية لدلالة الصحراء منحت شعر سيف الرحبي دفقا تواصليا تنسجم فيه الأزمنة العربية بلا تفكّك أو انقطاع .
ونظرا لكون الإيقاع الشعريّ يعتمد المتناوبات الخلافيات أو المضادات فإنّ تتوجه البنية التأزيمية في شعر سيف الرحبي تتغذى على هذه المرجعية الحسية والانفعالية، ونجدها نجسدة في حيّزين لغويين، أما الحيّز الأول فقوامه حشد المصاعب والمعوّقات التي يركمها الشاعر فإذا استوى جانبها وقويت دلالاته في السياق صيرها قيمة إيقاعية، وجلاّها في شكل معادل ضديّ لكلّ ما يخلص إليه جراءها من البنى المسرودة، فتتجلى في التقسيم التاليّ الذي نستوثق به من نص الخطاب :
الصحراء العاتية / الصحراء التي تسيل مع الشمس / الأشجار الصخرية،هي مقولات بلاغية موهمة بإقرار نفسي عميق بالضياع الوجودي، وهذا السياق الدرامي لا يستطيع أن يفرط في ما يعززه من دلالات الوعي والحضور فينحرق القول الشعريّ إلى توثيق الوعي عن طريق المبالغة في مسرودات دلالية تفيد الحضور والإحساس والمعرفة الحقيقية للواقع الذي يقلبه الشاعر بين الروحانية والمادية، فالأولي من المنقلبين عناصر لغوية بلاغية ضاربة في الحؤول والتغبير إلى درجة الإمحال، وهي كذلك من حيث دلالتها على الإحساس السالب المفضي إلى توليد الإحساس بالخيبة المضاعفة في نفسية القارئ، مع الإبقاء على إمكان القراءة العكسية للمسرودات اللغوية، والتي تأتي في شكل لازمة إيقاعية دلالية تعْدل كفة الدلالات السالبة إياها:
وحين سافرنا إلى بلدان العالي |
لم نجد أثراً للأضحية في ثيابنا |
ولم نجد ضالّة الحنين |
وبما أن البنية الضدية لا يمكنها أن تقف عند حدّ الفعل التوتيريّ الأول من حيث هي محتاجة بالضرورة إلى استكمال فاعلية الإيقاع الأول بسرد الشق الإيجابي الثاني المكمل للثنائية الضدية فقد ألفينا الشاعر نازحا بالطبيعة إلى استكمال الحركية يسرد الإيجابيات المنجية من ضيق المسرودات الأولى الباعثة على التأزم والانقباض لتجيء مسرودات هي دلالات تمتن لبنية النقض اللاّحقة بها والتي تمنح الذات الشاعرة معادلا موضوعيا يستطيع بفضلها جرأة الخطاب، قلنا بهذا لأننا نستوثق بالتراث البلاغي العربي حين أشار ابن جني في الموضوع إلى أن الشعر تحتمل له جرأة الخطاب[13] بما يعني انفتاح إيقاع بلاغة الشعر على حرية الانطباع والتوقيع الذي يتمعن البيئة العمانية يستطيع أن يقف على ذات المعطيات المناخية والنباتية التي ألهمت الشعراء العرب الجاهليين، رمال وحرارة وإقفار وحنين إلى الماء والتشكي من رمضاء المسير، هي ذاتها المرتكزات الموضوعية واللغوية التي يتساند إليها سيف الرّحبي في تأطير النزوع الشعريّ، وقد أسعفته معطيات الواقع البيئي المصدق للمعاناة الفنية لكي يستوي على آماد الحكي والتصوير والنعت والتشكيل.
من فضائل الغموض الهادف الفعال أنه يترك للمتلقي حيزا للتفاعل العفوي الحرّ مع السياقات التشعيرية التي تحفل بها سيرة سيف الرحبي الشعرية، حيث ترتد خلالها القصائد المتتالية تناهضات بوحية قائمة على بلاغة التعجيب الأسلوبي، كأن الشاعر يستدرك الحاضر بفراغات السابق وعندها تنتفي استقلالية القصيدة لتغدو مفصلا واصلا واقعا في صميم الأيقونة الشعرية الكلية، كل طارئ موصول بهاجس سابق استطلع الراهن وأثاره واستنهضه متناجزا مع سجلات شعرية متفلتة، ليس في سيرة سيف الرحبي الشعرية علامات تأريخية تعزل القول عما يناجزه هنا أو هناك، وإنما ينقرئ الحاضر في ضوء السيرة الكلية حتى لا مناص من فضل ذلك التكامل الإبداعي الذي ندرجة في شعرية السيرة .
جامعة الشلف الجزائر
[1] : عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان دار المعرفة بيروت لبنان، ص:14
[2] : الخصائص، ج:1، تحقيق محمد علي النجار ط:3، عالم الكتب 1983، ص:27
[3] : الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1،ص:97
[4] : نفسه ج:1، ص: 14
[5] : الخصائص، ج:1،ص:69/70.
[6] : حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، ط: 2 دار الغرب الإسلامي 1981، ص:2008
[7] : طبقات الشعراء، إعداد اللجنة الجامعية لنشر التراث العربيّ دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت لبنان، ص:17
[8] : ينظر، المقدمة، تاريخ ابن خلدون دار الكتاب اللبناني بيروت 1997،ص:1104
[9] : أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج:1، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان، ص:66
[10] : ينظر، إبن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص:17
[11] : ينظر، الجاحظ الحيوان،ج: 1، تحقيق: يحيى الشامي،ط:3 دار ومكتبة الهلال 1990، ص: 51
[12] : الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار المعرفة بيروت لبنان، ص:99
[13] : ينظر، إبن جني، الخصائص، ج:2، تحقيق: محمد علي النجار، ط:3، عالم الكتب بيروت، 1983، ص:188