تتناول الباحثة الجزائرية هنا طبيعة النقلة المعرفية والمنهجية التي حققها طه حسين في تعامله مع التاريخ العربي، وتعريضه لمحك العقل الشكي الديكارتي، مما مكنه من النبش في حقيقة التراث وترسباته، وفي عقليته النصية التي حالت دون الوصول الى الحقائق الموضوعية المغيبة خلف دعاوى القداسة والمستحيل التفكير فيه.

طـــه حسين والنقلة المعرفية المنهجية

من التاريخ المقدس الى الشك في التاريخ

نصيـرة مصابحية

يعتبـــــــر طه حسين رائد المشروع التنويري العربي، حيث عمد من منطلق تكوينه الغربي إلى إعادة قراءة التراث العربي قراءة حداثية أساسها العقلانية والشك، ومسائلة الأحداث التاريخية بطريقة موضوعية، حيث هدم القداسة التراثية وعمد الى تغيير الرؤى المتحجرة من خلال خلخلتها، اعتمادا على المناهج الغربية العلمية، ولعل مسيرة طه حسين لا تتلخص في كتابه "في الشعر الجاهلي" والبلبلة التي أثارها، بل هي تمتد لتشمل رؤية حضارية قفزت فوق المفاهيم القبلية الراسخة وقدمت الجديد العلمي وجعلت العقل بكل ترسباته ومعارفه على محك السؤال الموضوعي وعلى مشجب البحث الدؤوب عن الحقيقة الموضوعية.

ولقــــــد أعلن طه حسين عن منهجه المستعمل في الدراسة حيث قال «أريد ان أقول أنى سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون مع العلم والفلسفة، أريد أن اصطنع هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر والناس جميعا يعلمون القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعمله قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الدهن مما قيل فيه خلوا تاما، والناس يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرا، وأنه جدد العلم والفلسفة تجديدا، وانه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث»1.

فمنهـــج ديكارت بالنسبة لطه حسين ليس مذهبا للشك من باب الشك، وإنما هو مذهب يتخذ من الشك وسيلة لليقين والبحث الدؤوب عن الحقيقة، فالحقائق ليست الأفكار المسلم بها والمتوارثة وإنما الحقائق هي تفرض نفسها بعد المماحكة والجدل والبحث كأفكار يقينية نستطيع التسليم بها، وبالتالي فان إيجابية هذا المنهج تتمثل في كونه أنه يمنح للفكر صيغة العلمية والموضوعية التي أجْهضت مع طغيان المسلمات والمقدسات الفكرية لأن منهج ديكارت «ليس خصبا في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضا .. والأخذ بهذا المنهج ليس حتما على الذين يدرسون العلم ويكتبون فيه وحدهم، بل هو حتم على الذين يقرءون أيضا»2.

فهــذا المنهج حسبه كفيل بتحرير الفكر والوعي العربي من سياجات التراث وإلزاماته المعرفية التي تحولت إلى قوانين صارمة تمنع التطور والتجديد، كما أنها دعوة صريحة من هذا المفكر حتى يعتمد الجيل الناشئ على ذاته في إنتاج وعيه بعيدا عن كل أشكال الوصايا. وكمــــــا حاول هذا الناقد أن يتمثل مشروع الحداثة الغربي عن طريق تطويع المنهج وحسن استخدامه لتحديث الذهنيات وتكريس العقلانية كآلية كشفية بعيدا عن التعصب والعاطفية التي أغرقت معالم الثقافة العربية في إطار الاجترار المعرفي والاحتكار الفكري للماضي.

كمـا انطلق في نقده للتاريخ الإسلامي ومقاربته للأدب العربي من خلفية معرفية ومناهجية رصينة «حيث تأثر بالمفكر الفرنسي الأديب فولتير في محاربة هذا الأخير للكنيسة ورجالها فهاجم طه حسين الأزهر الشريف هجوما عنيفا ربما نال من الإسلام نفسه في بعض الجوانب، كما تأثر بالمفكر الفرنسي إيرنست رينان .. الذي كان يرفض الانضواء تحت سلك رجال الدين وفصل الحياة العامة، كما كان طه حسين معجبا بأفكار الفيلسوف أو جست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية»3.

كما أن طه حسين حاول إعادة بعث اللحظة التاريخية الحضارية التي ساهمت في تطور الفكر الغربي نتيجة عودته للثقافة الأم اليونانية واللاتينية ورأى بأن الثقافة العربية حتى تخرج من بوتقة التخلف يجب عليها أن تعيد إحياء واستيعاب الإرث اليوناني واللاتيني حتى يحقق الفكر العربي وعييه بطريقة موضوعية فالقفزة التاريخية حسبه، تتمثل في الإنعتاق التام من مخلفات الموروث العربي والبحث عن مقومات التطوير عند الغرب، فالعالم في رأيه ليس له قيادة فكرية خارج النمط المتعارف عليه، سقراط أرسطو أفلاطون وفي هذا يقول "ولما كانت النهضة الحديثة في أوروبا هي في معظم أمرها أثر من أثار اليونان، فإن النهضة الحديثة في مصر والمشرق يجب أن تخضع للفكر الغربي الحديث تبعا لخضوعها للفكر اليوناني القديم»4.

فاهتمام طه حسين بالتأريخ للحضارة اليونانية كان بدافع "التأريخ لتاريخ العقل الإنساني وما اعترضه من ضروب التطور وألوان الاستحالة والرقي حتى انتهى إلى حيث هو الآن"5.

وانبنى المشروع النقدي لهذا الناقد على فكرة هدم جميع المسلمات العقلية والفكرية المتوارثة وذلك بإخضاعه لمعايير النقد التاريخي الحديث ومتطلبات العقلانية بعيدا عن المقدسات والعواطف والتعصب وقد اعتمدت دراسة طه حسين للتراث العربي على محورين أساسين

"1- المحور الإبسيتمولوجي الذي يغوص في خصائص اللحظة المعرفية التي هي موضوع البحث، كاشفا عن مميزاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأثرها في الأدب وما إليه من نحل ونسب زائف اعتمادا على المنهج الفيلولوجي.

2- محور تاريخي: حيث يلتمس السيرورة الأدبية في أشكال تموضعها وتشخصيها، وان كانت التاريخية في وعي طه حسين تقتصر على التقاط جوهر قانون التطور، على انه حركة مستمرة باتجاه تشكلية اقتصادية واجتماعية أرقى، إلا أن هذه التاريخية لا تغييب قانون التطور والتحول»6.

كـان طه يرفض المناهج السائدة في عصره والتي تقف في حدود التفسير والشرح اللغوي، كما كان يحاول تخليص الأدب والثقافة العربية من النظرية المدرسية التي يتبعها شيوخ الأزهر، فالتراث عنده أصبح يمثل ركنا هاما في مسيرة التاريخ وحركته حيث "يرتقي إلى مستوى المسألة الإشكالية، فهو لم يكتف بالتصدي لموضوعات ومشكلات هذا التراث دراسة وتأريخا وقراءة وتحليلا، بل كان يزرع كل حقل معرفي بأسئلة شائكة ومقلقة فيشيع الاضطراب في الذات القارئة والمقروء، في الأنا الباحثة والموضوع في العقل والتاريخ معا»7.

كما انتقد طه حسين معاصريه الذين لا يأخذون بالمنهج الوضعي في التاريخ ولا يستخدمون آلياته، كما تعرض إلى ذكر المعوقات "التي تحول بين هؤلاء وبين التناول الموضوعي لتاريخ الأدب ومنها كما يقول "النظرة المدرسية" التي تجعل من السياسة المقياس الوحيد لتطور الآداب وانحطاطه، وبيّن أن الأدب لا يتبع السياسة دائما في رقيه وانحطاطه ومثل لذلك في حديث الأربعاء بالعصر العباسي، ولم يكشف بهذا التمرد على النظرة المدرسية ولكنه أعاد الكرّة الثانية في "الأدب الجاهلي"، وهو يبدأ فيهزأ هزءا مرا بمذهب الشيوخ الأدب في مصر، وبهذا الأدب الرسمي المألوف في المدارس العالية والثانوية، وبهذه الطرق في النظر إلى الآداب من حيث العصور التي ظهرت فيها»8.

ونستطيـع القول أن الوعي التاريخي عند طه حسين حقق قفزة نوعية من خلال محاولته التمكن من إستراتيجيات التحليل والبناء للحدث الماضي وإعادة صياغته من جانب موضوعي حيث أنه إستلهم أدواته وحاول ترتبيها من أجل الوصول إلى الحقائق التاريخية بعيدا عن التعصب والتحيز الذاتي، حيث ركز طه حسين على التطور ورأى "أن هذه الكلمة الصغيرة تدل على معان كثيرة لا تكاد تحصى"9.

 

  • قارب طه حسين التاريخ مقاربة فلسفية معتمدا على حدسه النقدي الذي جعل منه معيارا موضوعيا لتقصي الأحداث وإعادة صياغتها من الموجود المادي، وتعتبر رسالته لنيل شهادة الدكتوراه، الموسومة بـــــ"تجديد ذكرى أبي العلاء سنة 1914 "إنعاطف الوعي التاريخي ليأخذ مسارا مغايرا على يد هذا الناقد، حيث استند في كتابة التاريخ على مبدأ العلل والأسباب وإسناد الأحداث التاريخية لأسبابها والبحث عن حقيقة تشكلها ويرى بأن الحياة الاجتماعية بمختلف تشعباتها ماهي إلا نتائج حتمية لمجموعة من الأسباب والعلل التي ساهمت في تبلورها وفي هذا يقول " إنما الحياة الاجتماعية إنما تأخذ أشكالها المختلفة، وتنزل منازلها المتباينة بتأثر العلل والأسباب التي لا يملكها الإنسان ولا يستطيع لها دفعا ولا اكتسابا، وأن كل أثر مادي أو معنوي ظاهرة اجتماعية أو كونية ينبغي أن ترد إلى أصولها وتعاد إلى مصادرها. الحادثة التاريخية والقصيدة الشعرية، والخطبة يجيدها الخطيب والرسالة ينمقها الكاتب الأديب كل ذلك نسيج من العلل الاجتماعية والكونية التي يخضع للبحث والتحليل، خضوع المادة لعمل الكيمياء»10.

ونلاحـــظ أن طه حسين في هذه المقولة يطبق آليات المدرسة الطبيعية في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، على اعتبار أنها كائن حي ينمو ويتأثر بالسياقات الثقافية العامة التي ظهر فيها، وتعتبر هذه الفكرة ليست امتداد لأفكار هبيوليت تين فقط، وإنما هي أيضا امتداد لفكر أستاذه كارلو نالينيو. ولعل الجوهري "في هذه الأطروحة التي تشكل المحتوى الرئيسي للبناء المفهومي، وترابط علاقاته المنطقية في الممارسة المنهجية لفكر طه حسين، تتمثل في مواجهة المشكلة الأساسية في نظرية المعرفة، منذ بدأ الإنسان «يعي ذاته ككيان منفصل عن الوجود الطبيعي، وهي مشكله علاقة الفكر بالوجود والانطلاق من الإقرار بالوجود الموضوعي للكون الذي تتحكم فيه علل وأسباب لا يملكها الإنسان ولا يستطيع لها دفعا ولا اكتسابا، وأن الوعي الاجتماعي إنما يحدده الوجود الاجتماعي، فكل أثر من البشر مادي أو معنوي، أي كل فعالية للوعي الإنساني إنما تحكمها علاقة تشارط بسببية حيث يجب البحث عن عليتها في شروط أشكال وجودها»11.

وبهــذا يتحقق الوعي الإنسان بعيدا عن الميتافيزك الديني الذي ظل يحكمه لقرون طويلة، فيتبلور الموقف الإنساني فاعلا في إطار الضرورة التي تحكمه، وأصبح السبب والعلّة الموضوعية من تتحكم به وفي «هذه النقلة من الوجود إلى الوعي، يتحقق الانتقال من الطبيعة إلى التاريخ، فكما أن هناك عللا تتحكم بالنظام الداخلي للطبيعة، فهناك علل تتحكم بالنظام الداخلي لحركة التاريخ وسيرورته، هكذا يسير العقل باتجاه تقويض الميتافيزيك، عبر تفويض الجواهر الثابتة، والدخول في حركة الصيرورة يشكل الأس الرئيسي لعقلانية الفكر العالمي الحديث»12.

وبهذا استطاع طه حسين النبش بعيدا في حقيقة التراث وترسباته كما انه حاول النبش في عقلية التراث النصية التي حالت دون الوصول الى الحقائق الموضوعية وحقيقة التاريخ المغيبة خلف إستراتيجية القداسة والمستحيل التفكير فيه، وعلى الرغم مما تعرض له هذا المفكر من قبل السلطة الارثوذكسية الوصية على العقل العربي الإسلامي، الا انه استطاع ان يؤسس لمفهوم مختلف للتاريخ وان يخوض غمار المسكوت عنه بخلخلة الواقع معرفيا دون أي تحيز ذاتي، وهذا ما يحسب لطه حسين أكثر مما يحسب عليه .

 

جامعة باجي مختار عنابة \الجزائر

 

الهوامش والإحالات:

  1. طه حسين: في الأدب الجاهلي، دار المعرف، مصر، ط12، 1977، ص66-67.

2-المصدر السابق، ص69.

3-محمد أحمد فرج عضية : طه حسين والفكر الإستشرافي، مطبوعات وزارة الأوقات والشؤون الإسلامية، قطر، ط1، 2014، ص105.

4- المرجع السابق ، ص121.

5- عبد الرازق عيد: طه حسين، "العقل والدين"، مركز الإنماء الحضاري حلب، ط1، 1995، ص35.

6-عبد الرزاق عيد: طه حسين العقل والدين، ص46.

7-المرجع السابق، ص124.

8- محمد شوقي: تطور النقد المنهجي عند طه حسين، رسالة مقدمة لنيل درجة دكتوراه دولة في الآداب العربي جامعة الجزائر، سنة 2005، 2006، ص138.

9-عبد الرزاق عيد: طه حسين العقل والدين، ص46.

10 –المرجع السابق ، ص124.

11-محمد شوقي: تطور النقد المنهجي عند طه حسين، رسالة مقدمة لنيل درجة دكتوراه دولة في الآداب العربي جامعة الجزائر، سنة 2005، 2006، ص138.

12-طه حسين: قادة الفكر، المجلد الثامن، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، دط، ص185.