يرى الباحث أن فوكو عاصر البنيوية وتأثر بنزعتها الإنسانية ليشن معركته النقدية مقوضا أسسها وهو يؤكد مضي الإنسان نحو زواله. وعليه تجاوز فوكو البنيوية وفكرة موت الإنسان، إلا أن ملامح التفكيك التي فتحها جاك دريدا فيها إشارة تؤكد أن الإنسان يجيد دوماً الحياة.

موت الإنسان في فلسفة ميشيل فوكو

فادي عاصلة

مقدمة:
يحاول هذا البحث على ضآلته، الوقوف على فكرة "موت الإنسان" لدى ميشال فوكو، كأحد أبرز فلاسفة فرنسا في النصف الأخير من القرن الماضي وكرمز للتحولات الفلسفية التي شهدتها فرنسا، خاصة في البنيوية وما رافقها من نزعة موت الإنسان ثم تجاوزها.

يأتي هذا البحث محاولاً الإجابة عن السؤال التالي: هل تجاوز فوكو فكرة موت الإنسان كما تجاوز البنيوية؟ بتساؤل آخر: هل "تمرحلت" فكرة موت الإنسان لدى ميشيل فوكو كما "تمرحل" هو؟ بمعنى أن فوكو عاصر البنيوية اندمج بها وتجاوزها، فهل أثرت هذا التغير لدى ميشال فوكو على نظرته للإنسان والنزعة الإنسانية؟

لماذا هذا البحث؟ تكمن أهمية هذه القضية في كونها ذروة التمزق الإنساني، لإنسان ما بعد الحداثة، إنها تجلي أثر التقنية في تكوين الإنسان الجديد، وتحمل البنية بعض أعباء "الخالق" ان صح التعبير، من هنا يأتي هذا البحث ليشد النظر نحو إحدى القضايا الشائكة في الفكر الفلسفي المعاصر والتي تحمل في مضامينها ذاك التفاعل المحتدم بين التيارات الفلسفية، الذي لم يعد بالإمكان تجاوزه وأي قائمة محتملة لن تكون دونه!

يبقى الأمر كيف سنتاول هذه الإشكالية؟ وعبر أي منهج؟ سيكون المدخل الأبستمولوجي مدخلاٌ جيداً قادراً على أن يجلي لنا ما نفتش عنه، وإن كنا لا نطمح لصياغة حقيقة بقدر ما نقاربها مصدقين لما قاله فوكو في كتاب نظام الخطاب: "بأن الخطاب لا يقول الحقيقة بل يجاور حقيقة تضيء على مقربة منه".

على ضوء ذلك كانت الحاجة للبحث عن موت الإنسان والنزعة الإنسانية لدى ميشال فوكو والتي وجدناها في كتاب عبد الرزاق الدواي: "موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر" كما وجدنا فصلاً يدور حولها في كتاب عمر مهيبل من النسق إلى الذات، وعلى شكل متفرقات في العديد من المراجع التي دوناها في ورفة المراجع المرفقة بهذا البحث.

في إطار المحاولة للإجابة عن هذا السؤال كانت الحاجة ملحة لدراسة المدرسة البنيوية حيثيات نشوؤها، الينابيع العلمية التي ساهمت في إنتعاشها، رموزها، أساسيتها الفلسفية، وأفول نجمها لاحقاً وعليه فهذا ما حاول الفصل الأول تبيانه من خلال عنوانه: "في البنيوية".

الفصل الثاني بدوره حاول أن يقدم مدخلاً تعريفياً بميشيل فوكو ولاسهاماته الفلسفية من خلال أهم من إنتاج خلال ربع قرن، بالإضافة لموقعة فوكو في الفلسفة الفرنسية.

أما الفصل الثالث والأخير فيحاول تتبع فكرة موت الإنسان لدى فوكو عبر مؤلفاته الأولى متمثلة بتاريخ الجنون، ومؤلفاته الوسطى والتي تأتي في ذروة البنيوية كالكلمات والأشياء، مروراً بإرادة المعرفة وتاريخ الجنس ومحاضرات الكوليج دي فرانس التي تأتي في لحظات هوي البنيوية ومراجعة الذات.

حول البنيوية
اللغة للكل وليست جوهراً - سوسير

تعتبر البنيوية منهج بحثي كأداة من أدوات التحليل والوصف تقوم على فكر المجموع المنتظم أو الشمولية تقوم على دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الأولية، وهي بدورها تمتد إلى جملة من العلوم في مجالات مختلفة كالاقتصاد والرياضيات وعلم الاجتماع وعلم النفس، أما مبدئها فهو يستند على خطوتين: التفكيك والتجميع، بحيث يتم التركيز على شكل الموضوع وعناصره وليس على الموضوع ذاته، على اعتبار أن العناصر من حيث الاختلاف والتآلف بينها هي من تحكم الموضوع ذاته وليس الموضوع المباشر، هذا التفكيك بدوره يسعى لدراسة المحركات (الميكنزمات) المحركة أو البنية التحتية المُشكلة للموضوع، وبالتالي فالبنيوية تقصي التاريخ والإنسان، وترجع كل شيء إلى اللغة كما أنها تقصي المجال النفسي والاجتماعي الذي يتحرك فيه النص وترجع لتفكيك النص ومن ثم تجميعه.

بدأت البنيوية تشق طريقها في خمسينات القرن الماضي، وقد كانت دراسات سوسير في اللغة وكلود ليفي شتراوس في الانثروبيولوجيا مرتكزاً منعشاً لفلاسفة كثيرين سيكملون بعدهم المسير وسيقولبون المفهوم مستلهمين أفكارهم ليستثمروها بطرق أخرى وليثروا بدورهم شاءوا أم أبوا البنيوية لتتحول إلى منهج فلسفي.

عرف دي سوسير اللغة على أنها نظام من الإشارات وهذه الإشارات هي أصوات تصدر من الناس، ولا تكون ذات قيمة إلا إذا كان صدورها لتعبير عن قيمة[1]، وبالتالي فإن دراسة الإشارة لا تتم من حيث خصائصها بل من حيث تمايزها وتفردها عن سواها بموازاة الصوت المرافق لها ككلمة: "موت" تمايزها بأنها نقيض الحياة، وفي ذات الوقت مختلفة سماعياً عن "صوت" و"وقت". من هنا بدأت دراسة اللغة وعلم اللسانيات فقد طبق هذا التوجه على اللغة كلغة آخذين بالحسبان تفاوت المعنى لذات الكلمة وفق كل عصر، مروراً بالدال والمدلول كقطبي الإشارة.

وبالتالي تحريفاً أو تطويراً أو إسقاطاً (كما يشاء القارئ اعتبارها) لأفكارهم انبجست البنيوية على مسلمة أن البنية تكتفي بذاتها ولا تتطلب لإدراكها اللجوء إلى العناصر الغريبة عن طبيعتها (...) وباختصار تتألف البنية من ميزات ثلاث: الجملة، التحويلات، الضبط الذاتي[2].

فالجملة لا تحتاج لنظام خارجي لإقرار مصداقيتها بل هي قادرة على تفعيل ذاتها من خلال القدرات الإيحائية والتخييلة التي تثيرها في ذات المتلقي، كما أن التحويلات مرافقة لها بحيث أنها دائمة التحول ولكنها في كل تحول تخرج من إطارها فكل جملة تتغير فيها الكلمات وتتبدل مواقعها تتحول إلى جملة أخرى مختلفة تماماً عن سابقتها وهذا هو التحول، لكنها وفي نفس الوقت لا تخرج عن قواعد النظم اللغوي للجمل[3].

شتراوس بدوره حاول التقدم بصورة مغايرة في دراسته كمحاولته تحري أنساق الأساطير عبر دراسة الأنظمة اللاواعية للعقل مروراً بمزج التجربة الشخصية بالفكرية إلى العامل النفسي مستثمراً أفكار جاك لا كان، وفي إطار اللغة: حاول المزج بين اللغة والكلام الفردي من ناحية وبين الصورة الصوتية (الدال) والمفهوم (المدلول)، ذلك النموذج الذي يحاول به علم اللغة البنيوي إثبات أن بنية أي لغة تتبع دائماً سبيلاً ثنائياً من التراكيب المتوازية[4].

هذه الوحدات في منهج شتراوس تأخذ "وظيفة" تتجاوز المضمون الخاص، من هنا تبدأ ملامح البنيوية في التشكل، فإذا كانت هذه الإشارات تحمل أصواتاً على شكل ثنائيات وأضاد ترتبط بتمايزات، وإذا كانت الجملة تتشكل وتعرف بذاتها داخلياً وتحمل إمكانية تحولها وقواعد نظمها، فإن ما ينقصها هو الوظيفة، وهو ما انطلق به شتراوس كامتداد لسوسير[5]. وهكذا فلم تعد القيمة للصوت ولم تعد القيمة للإشارة بل القيمة للوظيفة التي تؤديها.

على وقع ما سبق، تتراءى البنيوية كمنهج بحثي يفتش عن القوانين المنتظمة والثابتة التي تشكل الحراك والتحويلات، وستصير مرجعاً للاستنباط من قبل الفلسفة والعلوم الأخرى، وسيصير القياس هواية الكثيرين من مفكري تلك الحقبة في منتصف القرن الماضي.

من هنا فليس المهم إثبات مدى علمية بحوثات شتراوس في بنية اللغة أو حتى في وعود توحيد الأيديولوجيات وتلك القدرة على المزاوجة بين الراديكالية بالرجعية السياسية، أو تنصله من الفلسفة باعتبار مشروعه مشروع علمي بحت ولا يمت للفلسفة مطلقاً[6]، بل المهم ذاك الوميض الذي لمع فجأة في عيون المفكرين لتفتح أمامهم طريقاً كانوا بحاجة إليها، ومنه انطلقت موضوعات جديدة ومتنوعة للبحث.

كانت الظروف التي قد مرت بها فرنسا، أو حركة الفكر الفرنسي خاصة، قد حملت شروط التقلبات الفكرية المتعددة، من وجودية سارتر، إلى تفكيكية داريدا، وبينهما كانت البنيوية جسراً يفصل بين صرعتين أو صراعين، فيما كان الإنسان بينهما معلقاً يوماً يُتوجه سارتر عرش الوجودية، ويوماً تعزله التفكيكية إلى التلاشي النهائي، فيما البنيوية كانت تعلن موت الإنسان، لكنها لم تكن تعرف أن من أعلن بلسانها موت الإنسان، سيعلن بلسانها موتها.

بغض النظر عن العوامل السياسية المؤثرة على الساحة الفرنسية بدءاً من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى الحرب الباردة وأزمة مايو 1968 كانت كل هذه الظروف لاعبة ومؤثرة في صياغة التشكلات الفكرية والفلسفية، ومن هنا كانت البنيوية: "تعبير عن مرحلة معرفية معنية هي المرحلة المعاصرة، حيث وصل الفكر الإنساني إلى أقصى درجات تطوره وتمزقه"[7]، من هنا كانت البنيوية تتغذى على هذا الواقع المأزوم، فهي بقدر ما اتجهت في حدتها إلى نسف الوجودية من جذورها حين اعتبرت أن الإنسان ليس موضوعاً صعباً، بل ليس موضوعاً على الإطلاق[8] من هناك أيضاً نشب الخلاف بين سارتر التقدمي وبين شتراوس الذي كان يعتقد أن ثمة بنية مشتركة تعتبر ثوابت الطبيعة البشرية، كما اعتقد أن هناك دوافع تتعلق بالطبيعة البشرية لا يمكن تغييرها وبالتالي نظر نظرة تشاؤمية للإنسان[9]، باعتباره لا يملك مفاتيح خياراته وهو في النهاية مسير أكثر من كونه مخير.

هذه البنية هي بدورها التي تحولت إلى الفاعل الرئيس، فقدت استبدلت البنيوية مفهوم الإنسان بنسق منتظم من البنى الثابتة الموجود سابقاً بحيث صار مجرد ناطق باسمها[10]، ولم يتوانى البنيويون في الذهاب بحماستهم " البنيوية " أبعد ما كان يسمح لهم بهم التقدم، ليعلنوا موت الإنسان، إعلاناً سيحمل في طياته مأزق الإنسان، وتلك الحالة من القلق المستشري وهي بدورها التي ستدفع لاحقاً داريدا بالتمرد الضدي ليخرج بالتفكيك ليخرج الفلسفة من مأزقها ولينجو بمن تبقى بعد أن تحول البنيويون إلى ما بعد بنيويين أو إلى نهايتهم.

كانت أحداث مايو 68 وما أعقبها من اضطرابات واضرابات في الساحة الفرنسية، جاهزة لتعلن ولادة حقبة جديدة، سياسياً وفلسفياً، من هنا نفى فوكو وألتوسير صلتهم ببنيوية شتراوس، كما أعلن بارت عام 70 تغيير نهجه الذي كان يتبعه عام66[11]، ولكن على الصعيد المعيشي كان الموت قد بدأ يقتنصهم، فقد أصاب الموت البنيويون والبنيوية دفعة واحدة على حد تعبير هاشم صالح[12]، فقد غيب الموت رولان بارت عام 1980، جاك لا كان عام 1981، ميشيل فوكو عام 1984. بوفاتهم يتحول البنيويون والبنيوية إلى شيء من الماضي، لتغزو الفكر الفرنسي مدارس فلسفية جديدة، رغم ذلك تبقى البنيوية مدرسة لا يمكن إغفالها، ويبقى أثرها واضحاً وعنيفاً في العديد من المجالات الإنسانية، فالفلسفة أية فلسفة كانت لا تنتهي أو تموت بل يكمل قسم منها المسير ليأخذ شكلاً آخراً ويبقى قسم صغير قانعاً بجانب من جوانب الفهم الإنساني.

ميشيل فوكو بين البنيوية وما بعدها:
إن فوكو كان كاتباً مهجناً، يستند في كتاباته إلى كل أنواع المصنفات، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والفلسفة، ولكنه يتجاوزها. (ادوار سعيد)

يعتبر ميشيل فوكو (1926–1984) أحد أهم فلاسفة فرنسا، النصف الأخير من القرن الماضي، فقد قدم مداخلات فلسفية وأثرى الفكر الفرنسي والغربي عامة بمفاهيم، ومجالات لم تكن قد طرقت سابقاً كـ"أركيولوجيا المعرفة" الذي يذهب به نحو البحث والتنقيب عن الأصول الأولى المُشكلة للموضوع البحثي.

انطلق مشروع فوكو الفلسفي بثلاثية فلسفية:
(1) تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، والذي صدر عام 1961، ترجمه إلى اللغة العربية المفكر المغربي سعيد بن كَّراد.

(2) مولد العيادة الصادر عام 1963.

(3) الكلمات والأشياء 1966، والذي ترجمه إلى العربية المفكر الفلسطيني – السوري مطاع الصفدي.

وهي ربما تكمل إحداها الأخرى، يقول فوكو: "أن أياً من هذه الكتب الثلاثة ليس كافياً أو مستقلاً بذاته، فكل واحدة منها يعتمد على الاثنين الآخرين، ولا يفهم بدونهما، خصوصاً وأن الدراسة في كل منهما تختص بكشف جزئي لمنطقة محددة"[13].

وسيصدر لفوكو بعدها كتابين مهمين "حفريات المعرفة" (1969) والذي ترجمه للعربية المفكر المغربي سالم يفوت و"نظام الخطاب" (1971) والذي ترجمه المفكر المغربي محمد سبيلا.

يبرز في هذه المؤلفات التي يمكن اعتبارها أهم ما كتب ميشيل فوكو، أثر البنيوية في تكوين ميشيل فوكو، لكن سيرز في موازاة البنيوية "محاور التجاوز للبنيوية" إن صح التعبير.

نعم، ربما قارب البنيوية، فالسجن والعقاب والجنون والتعذيب والجنون هي كلها أساسيات التي تشكل المهمشين في المجتمع، هي كلها تمرد الهامش على المركز، هي كلها آثار اضطرابات مايو 68، هي كلها لصيقة باللغة، اللغة الشيء الذي لن ينجو منه أي مفكر فرنسي بعد بصمات سوسير، لكن ما يمكن ملاحظته هو قدرة ميشيل فوكو على استثمار البنيوية هضمها وتجاوزها قدماً بمعنى خروجه عن المنهج نحو صنعه، وإذا كنا نرى أن القبول بالواقع هو جزء من صناعته، كذلك القبول بالمنهج جزء من صناعته والانصياع له والانطواء تحت لواءه، لكن ميشيل فوكو تحرر من طغيان المنهج نحو إعادة صياغته ليغدو شيئاً آخر لا العكس.

لا شك في أن تقاطعات كثيرة تربط بين شتراوس وفوكو، لكن التجاوز الذي تحدثنا عنه فرضته المقاسات "البنيوية" التي لم تعد تلائم مشروع ميشيل فوكو في البحث عن الحقيقة كما أن طبيعتها لم تفي بالأغراض التي يفتش عنها فوكو، الذي يرى بالحقيقة شيئاً يمكن إدراكه وهو ما يشكل فارقة بينه وبين البنيوية.

هل ترك تحول فوكو من البنيوية إلى غيرها؟ لا يمكن القول أنه هجر البنيوية، وفي ذات الوقت لا يمكن القول أنه بقي بنيوياً، سواء يحلو للبعض تسميتها البنيوية الجديدة، أو الـ ما بعد بنيوية فإن الواضح أنه لم يعد بنيوياً.

لقد بدا جلياً في كتب فوكو السابقة واللاحقة علاقته وتأثره بالمفاهيم البنيوية اللغة العلاقة بين الإشارات والرموز والأصوات، رفض الميتافيزيقيا، رفض السلطة وأنظمتها، التوجه نحو المهمشين: المجذومين، الحمقى، الشواذ. ولكن باتجاه آخر خالف فوكو التوجه الشمولي للغة والنسق والمعايير الكونية، جانحاً بأفكاره مبتعداً عن سوسير وجوهر فلسفته: "اللغة للكل، وليست جوهراً"[14] بل ذهب نحو إثنية اللغة وفرادتها وفق السياق الخاصة بها. كما أن الضبط الذاتي سيكون لدى فوكو من مخلفات الماضي جانحاً نحو ما لا يمكن ضبطه، ما لا يقوى المركز على تثبيته، ذاك الشيء الذي يفلت متحدياً مركزية الأشياء.

موت الإنسان في فلسفة ميشيل فوكو:
الإنسان اختراع، تظهر أركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده، وربما نهايته القريبة (ميشيل فوكو)

لا شك بأن "حروب الردة" التي شهدتها الساحة الفرنسية في الستينات في مواجهة النزعة الإنسانية هي لم تكن لتعبر عن شيء أكثر من تعبيرها عن فشل مشروع الحداثة وارتداده، أو بعبارة أخرى عن الصدام بين الفيلسوف وسؤال الحداثة خاصة في موقفه من المكان والإنسان.

وبغض النظر عن الحداثة تاريخياً وسواء انطلقت مع هيغل كما يعتقد د.محمد سبيلا أو مع كانط كما يؤكد ابن داود عبد النور[15]، فإن المهم يبقى تلك المسيرة التي قطعتها الحداثة مقروناً بالأزمات التي مرت بها من الثورة الفرنسية كأزمة سياسية إلى السامية والفاشية بما يسمى "الأهواء الجماعية" وصولاً إلى أزمة سقوط الأيديولوجيات أواخر الستينات رافقها ظاهرة النقد الجذري للنزعة الإنسانية[16].

لم يكن نقد النزعة الإنسانية إلا ممهداً لإعلان وفاتها، فقد بدا إنسان الحداثة مستلباً مخترقاً من قبل المؤسسات والتقنية والتكنولوجيا، بحيث لم يعد الإنسان قادراً على الوقوف في وجهها، فالتقنية كما أوضح هيدجر ليست مجرد تطبيق للعلم عبر إرادة الإنسان، بل هي ما يحدد للعلم نمط معرفته المطلوب[17].

ولما كانت حالة الحداثة مشبعة بقيم عصر الأنوار: "الإنسان كوعي وإرادة، العقل والعقلانية المتطورة، التاريخ والتقدم، الإمكانيات الواقعية للتحرر"[18]، كما كانت تحمل في ذاتيتها نرجسية متعالية على أنها تمثل المرحلة النهائية للتاريخ، لحظة امتلاء العقل واستيعاب الكلي وامتثال الحرية [19]، كانت الفلسفة تمشي في طريق مغاير تماماً وقد كانت ملامح البنيوية الأولى بما فيها دراسات سوسير وشتراوس تمثل البدايات لزعزعة الإنسان من موقعه وصولاً إلا نعيه.

وعليه فقد صار الفلاسفة المواجهين للنزعة الإنسانية يخوضون معارك شرسة لإنزال الإنسان عن عرشه، كونه ليس محط اهتمام، ولا يساهم في التاريخ، ولا يحمل وعياً مرشداً. "وبدل الإنسان المنتج.. نسق الذات، وبدل الإنسان الواعي والفاعل والمسؤول.. الخطاب الغامض للاشعور، وبدل الإنسان العالم والباحث.. المعرفة كسياق بدون ذات"[20]. ومن خلال هذه التوليفة تصير اللغة، البيولوجيا، الاقتصاد، الخطاب هو ما يشكل البنية الوجودية فيما الإنسان خارجها تماماً.

من هذه الأرضية انطلق ميشيل فوكو كفيلسوف وباحث صارم وغير قادر على الضبط فلا يتسع المنهج لأدواته ولا يحويه فرع، وعليه فقد توزع قراءاته واسهامته في علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ، وغيرها. باحثاً عن منفذ في ظل هذه الخيبة التي تعرضت لها الفلسفة حين استفاقت على وهم قرون.

من خلال المدرسة البنيوية سيبدأ فوكو بتقويض دعائم النزعة الإنسانية فقد كان للأخيرة ثأرٌ مع الحداثة والوجودية وما رافقها من الافتتان بمشروع الإنسان الذي عزمت البنيوية على تحجيمه ونفيه ومن نعيه، وكان فوكو في بداياته ممثلاً شرساً وحاداً في هذا المشروع، لكن من خلال أرضية مختلفة عمن سبقوه إذا كانت من ميدان نشأة العلوم والمعارف وتاريخ الأفكار.

كان فوكو في كل هذه المواقع يعمل جاهداً على إيجاد ذاك الثابت أو تلك البنى المُشكلة لها والتي يظهر فيها أثر الإنسان الذي يحاول تتبعه لأجل فحص مصداقية مركباته وإمكانيات وجوده.

برأينا إن رؤية ميشيل فوكو للنزعة الإنسانية مرت بثلاثة مرحلة:
مرحلة التقويض: وهي بدايات تقويض الإنسان وزلزلة موقعه والتي ظهرت من خلال كتابته الأولى ويمكن إيجادها جلية خاصة في كتاب تاريخ الجنون.

مرحلة النعي: أو الحدة كأوج للتمزق الإنساني وذروة "شقاء الوعي" التي عاشها فوكو والتي تجلت في كتابه الكلمات والأشياء.

مرحلة الارتداد: والسعي نحو العودة للذات، محاولة منحها مرتكزاً بعد هوي الأشياء من حوله، والتي يمكن ملاحظتها في كتاباته الأخيرة ويمكن ملاحظتها في دروسه التي قدمها في الكوليج دي فرانس وعلى رأسها سنوات الـ81–82 إضافة لكتاب تاريخ الجنس.

تتجلى هذه المراحل من خلال مؤلفات فوكو من الستينات إلى الثمانينات عبر هذه المسيرة التي تقارب الربع قرن من العمر الفلسفي الصارم كان فوكو قد عبر من تقويض الإنسان إلى رده. ولئلا نهوي في دائرة التأويل الفظ نمضي نحو فوكو بذاته مجسداً بمؤلفاته.

1. مرحلة التقويض:
يقول سعيد بنَّكراد إن "تاريخ الجنون" لميشيل فوكو يعتبر الانطلاقة الفعلية لمشروع ميشيل فوكو الفلسفي[21]، وبهذا يكون تاريخ الجنون هو أحد أبرز مراحل تبلور المشروع الفلسفي لميشيل فوكو.

تبرز من خلال أطروحة فوكو تلك النزعة المتوجهة لدراسة أهواء النفس وتقلباتها، كما تحاول فتح منافذ سيكولوجية وطب عقلية وطبنفسية، كما يحاول استحضار الحالات الشعورية والانفعالات المتعلقة بالـ"مجانين" إضافة لمحاول سور أغوار عوالمهم مع كل ما تحمله من مفردات وصور، إضافة لكل آليات النبذ والحظر المفروضة عليهم، في موازاة ذلك تشتغل الحقيقة تلك الهاجس التي يغري ميشيل فوكو دوماً في مطاردته في المواقع الأكثر قصياً، وبالتالي يتفاعل السؤال البحثي: ما ينتمي إلى دائرة العقل وما ينتمي إلى دائرة الجنون؟

كما يمكن اعتبار هذا النص أهم مرافعة تاريخية بحق الهامش، أو بعبارة أكثر إنصافاً؟ هذا النص هو أهم مرافعة من الهامش نحو المركز، إنه الهامش حين يهب ويسعى لتقويض أساس المركزية ذاتها رغم أنها تحمي الهامش وتحافظ على هامشيته إلى أن الهامش في مصافي الربح والخسارة يكون أقل عرضة حين تكون المراهنة على مقومات المركزية ذاتها! هنا تتجلى نظرية جون ناش الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والمظور لنظرية "اللعب" كمدخل لدراسة العلاقات السياسية حين يسمي فرعاً من نظريته: "الجنون في مواجهة الهزيمة" أليس فوكو بالإمكان مقاربة جنون فوكو بالجنون في مواجهة الهزيمة؟

الجنون الذي يتحدث عنه ناش هو جنون ردة الفعل حين يكون الخاسر يغامر على آخر ما تبقي وخسارته واضحة فينحو نحو إيقاع الضرر الأكبر بالرابح فطالما قد خسر الضعيف لما لا يجن في مواجهة هزيمته طالما العقل يعرقل عملية رد الفعل؟ في موازاة ذلك فإن الجنون الذي يدرسه ميشيل فوكو هو جنون الهامش المقصي الذي يحاول هز المركز بكل عنف، إيقاظه، خلخلته، وطالما البنيوية قد مدت فلاسفتها بعوامل الضبط الداخلي ومجالات التشابه فإن نص فوكو يكون بدوره هز لكل البنية الأوروبية.

لم تكن الشروط قد تبلورت معاً ليعلن فوكو موت الإنسان، أليس السياق هو من يقرر؟ أليس السياق أصلاً هو الأمر الذي رد فوكو إليه تبلور الفعل الإنساني؟

عبر المسيرة الزمنية التي يدرسها فوكو في تاريخ الجنون، تتبدى النتائج المفزعة للمركز فالمجنون يكشف عن الحقيقة الأولية للإنسان[22] كما يكشف التناقض بين الحقيقة الأخلاقية والحقيقة الاجتماعية للإنسان، ولكن الصفعة الحقيقية التي يوجهها فوكو من خلال النتائج: أن الجنون يكشف عن الحقيقة النهائية للإنسان إنه يبين إلى أي حد قذفت به أهواؤه وحياة المجتمع وكل ما يبعده عن طبيعة بدائية لا تعرف الجنون[23]. وبالتالي فالجنون هو شيخوخة العالم[24].

إن فوكو يهز الذات الإنسانية من داخلها، يكشف للقاريء عن هشاشة إنسانيته عبر الرؤى الأولية المتشكلة لدى الإنسان، بحيث لا يستطيع أن يتخيل كونه مجنوناً لأن الجنون لدينا: "الشرط الأساسي لاستحالة الفكر"[25].

2. مرحلة النعي:
يأتي كتاب الكلمات كأحد أهم الكتب والتي تعتبر زبدة فلسفة فوكو، أو كما يراه د.مطاع الصفدي بأنه: " أخر وثيقة لدلالة الأركولوجيا الغربية "[26]، ففيه يبدأ فوكو "بتشذيب" المفاهيم التي ستكون قادر على الحفر في البنى المعرفية الغربية، كما أن من خلال هذا الكتب سيتم بناء المشروع الفلسفي بوضوح تام ليبنى عليه لاحقاً من خلال الأدوات التي ستشكل سنداً قوياً لا حقاً بل ستتعداه لتتحول ملهمة عشرات المفكرين الذين سيستخدمونها لاحقاً: كالأبستمولوجيا، القطيعة المعرفية، اللامفكر.

يظهر هنا تماسك مشروع فوكو، فبين "تاريخ الجنون" وبين "الكلمات والأشياء"، تتمة لذات المشروع: "إن تاريخ الجنون قد يكون تاريخ الآخر –تاريخ ما هو– بالنسبة لثقافة ما في آن واحد داخلي ودخيل أي ما يتوجب استبعاده (لا لتجنب خطره الداخلي) ولكن بسجنه (للحد من آخريته) أما تاريخ نظام الأشياء فسيكون تاريخ الذات – تاريخ ما هو بالنسبة لثقافة ما في آنٍ واحد مبعثر ومتقارب، أي ما يجب تمييزه بعلامات وتلقيه في هويات"[27].

في الكلمات والأشياء يسعى فوكو للتنقيب في البنى المعرفية، ليخلص في تنقيبه بأن الغرب مر في ثلاث حقب - أبستيميات تتجلى الأولى في عصر النهضة والتي تتميز بأن المعرفة فيها تقوم على التشابه ذو الأربعة وجوه: التوفق، التنافس، التماثل والتعاطف[28]، فيما الحقب الثانية ستكون خلال العصر الكلاسيكي والتي ستكون المعرفة فيها قائمة على الكلمات والأشياء أي الدال والمدلول والعلاقات بينهما وبين الأشياء إضافة لنظام التصنيف الذي لم يكن متداولاً قبلها، فيما العصر الحديث، عصر القرن العشرين تحول الإنسان إلى مركز المعرفة وصار يُدرس مما أثر في تصنيفات جديدة وميادين دراسة جديدة: فتحول التاريخ الطبيعي إلى بيولوجيا، ودراسة الثروات اقتصاداً، واللغة إلى فقه لغة (فيولوجيا) (...) عندئذ يظهر الإنسان[29].

على وقع ذلك يمكن فهم توجه فوكو حين يقول: بأن الإنسان ليس سوى ابتكار قريب ووجهه لا يزيد عمره عن قرنين ثنية بسيطة في معرفتنا، وأن سيختفي ما أن تجد هذه المعرفة صورة جديدة[30].

ففوكو يرى بأن الإنسان ليس سوى عبارة عن شيء داخل نظام الأشياء، وولادته ليست بالمفهوم البيولوجي للكلمة بل هي ولادته في ذهنيته، ولادته ضمن مدارات بحثه ومعارفه.ليكتشف ذاته من خلال نظام الأشياء، بحيث يبحث عن نفسه في قانونها الخاص. وبالتالي فلا يمكن التعرف عليه إلا من خلال إنتاجه أو من خلال كلماته أو الأشياء التي ينتجها.

بالتالي فإن إعلان موت الإنسان من قبل فوكو في كتابه الكلمات والأشياء، ليس موتاً بيولوجياً ولا هو انتهاء بمحض إرادة الطبيعة ولكنه موت في إطاره المعرفي المتشكل عبر الآليات الشغالة\ المبتكرة للبحث الأركيولوجي المبني عليها الأساس النظري لمشروع فوكو الفلسفي. فالمعرفة ستتجاوزه نحو قضايا أخرى ونحو إشكاليات يفرضها عليها "سياق" آخر.

بالتالي فما استخلصه فوكو: "أن العلوم الإنسانية تطابق لحظة معينة من تاريخ معرفتنا، ومن الممكن جداً أن يُمحى الإنسان كموضوع للمعرفة كما يمحو الماء صورة مرسومة على رمل شاطيء البحر"[31].

3. مرحلة الارتداد:
في كتابات فوكو اللاحقة تلاحظ بدايات التحول، ففوكو الذي كان "مهووساً" دوماً بالسلطة وتقنياتها وإفرازها وآليات اشتغالها، ينحو في مؤلفاته الجديدة منحاً آخر، هذا ما يظهر في مشروعه تاريخ الجنس حين يظهر فوكو متصوراً ومتسائلاً لفكرة " سلطة الحقيقة " تكون في مقابل السلطة التي تؤسس الحقيقة؟.

بالتالي فإن توجه فوكو يمضي نحو تبيين: "كيف أن التحكم في الذات يندمج في ممارسة حكم الآخرين، والواقع أنهما مسلكان متقابلان يحيلان لنفس السؤال: كيف تتشكل تجربة ترتبط فيها العلاقة بالذات بالعلاقة مع الآخرين؟"[32].

في إطار ذلك فإن الصيغة الأعم لعلاقة الذات بذاتها هي تأثير الذات في ذاتها وتأثرها بها، أي القوة المنطوية[33].من ذات المنطلق سيسعى فوكو لضبط صيغ التنشئة الذاتية، بناءً على تحليله لأزمة الذات المتجلية في صعوبة نهج تكون الفرد كذات خلقية تحكم في سلوكها، وصعوبة ضبط المعايير التي يجب الخضوع لها كغايات للوجود[34].

إن المميز في دراسة تاريخ الجنس أنه يبدأ من حضارات اليونان وروما، وهو ما يشكل فارقة في عمل فوكو الذي بحيث أنه التقوقع الذي فرضة على نفسه إنطلاقاً من أطروحته قد خنقه بما لم يعد قادراً على الاستمرار فيه، من هنا يأتي انفتاحه على اليونان وتقبله وأريحيته في دراستها واعتبارها مرتكز مهم للدراسة وللتنشئة. هنا تكمن المفارقة ففوكو الذي أعلن موت الإنسان عاد يفتش في الذات الإنسانية عن مكامن خلاصها وعن مداخل التنشئة الذاتية.

لم يكن فوكو غائباً عن هذا التغير: "ها نحن أولاء نظل دوماً وباستمرار عاجزين مرة أخرى عن تجاوز الخط، عن المرور إلى الجانب الآخر... ونختار دوماً جانب السلطة، وجانب ما تقوله به أو ما ترغم على قوله"[35].

كان واضحاً وجلياً أن فوكو يعاني من وزر أفكاره ومن ثقل التوجهات الفكرية التي رأى بها جزءاً مما تحدث هو عنه سابقاً من هنا يأتي كتابه إرادة المعرفة بتجلياته انعطافاً في فكر فوكو. كما تشكل محاضراته في الكوليج دي فرانس أثراً ملموساً في تبيان ذلك.

في العام 1975 – 1976 يلقي فوكو بدروس عنوانها: "يجب الدفاع عن المجتمع" والذي يدعو فيها لإلغاء قانون السيادة، وتحليل الحرب، كما ينتقد بشد ويدعو لترك والتخلي عن أفكار هوبس باعتبارها إسقاطات غير منطقية[36].

وفي المحاضرات 1980–1981 يلقي بمجموعة دروس تحت عنوان: "الذاتية والحقيقة"[37] وفي السنة التي تليها أي 1981–1982 سيقدم دروسه بعنوان "تأويلية الذات"[38]، والملاحظ في هذه الدروس هو عناوينها وابتعادها عن السلطة نحو الجهة المقابلة إلى الذات.

إن مقالاته آنفة الذكر تحمل في طياتها حجم التحول الذي طرأ على التوجه الفلسفي لميشيل فوكو، ولكنا نشير على مقاله تأويلية الذات كمؤشر لذلك حين يقدم إشارات لنقاط التزهد بخصوص الحقيقة يدعو فيها لأهمية الإصغاء، أهمية الكتابة، أهمية عمليات الرجوع إلى الذات لتنشيط الذاكرة وترسيخ ما تم حفظه كل هذه التقنيات تهدف لربط الحقيقة بالذات، وهو رغم ذلك يؤكد أن موقع الحقيقة ليس في النفس وإنما هذه العمليات لتهيئتها بحقيقة لا تعرفها يكون لها سيادة داخلنا.

خاتمة:
على أثر ما ذكرناه سابقاً يتجلى حجم الإشكالية التي يواجهها الفكر الفلاسفي في أشد لحظاته قهراً وفي ظل استشراء العولمة والحداثة وافرازات العصر الحديث في صراع بين التقنية والانسان، هي معركة تخاض في أشد مأزق يواجهه الإنسان الحديث، حينما يعاد تشكيل الإنسان وأفكاره كأي سلعة أخرى.

يقول بودريار: "أصبحت الآن اللعبة، لعبة تمرير أجوبة معدة سلفاً"[39]، عبارة بودريار هي ذروة الازمة المعيشة فلم يعد ما يستحق التمرير سوى أجوبة سابقة هكذا تشتغل وسائل الإعلام، وما هي إلا مستوى التوجه الفكري من المقول الفردي إلى الدائرة الجمعية.

من هنا وعبر ما أدرجناه سابقاً يتجلى فوكو ببنيويته أو ما بعدها كتجسيد حقيقي للمنهج البنيوي، فهو قد عاصر البنيوية وتأثر بنزعتها الإنسانية ليشن تلك المعركة في تقويضه للأسس الإنسانية وفي نقدها لها مستحضراء كل البنى المعرفية للعصر الكلاسيكي وعصر النهضة، كان فوكو في كل تطلعاته يرى الإنسان شيء في ماضٍ نحو زواله، كان لا يراه خارج مرجعيته المعرفية، ستتتبلور هذه النظر وفي ذروة البنيوية ستكون ذروته، ذروة المشروع البنيوي، ذروة مشروع فوكو، ذروة الشقاء الفلسفي الذي اختار فوكو ممثلاً له طالما لم يكن في السابق إلى النسق واللغة فإن فوكو نسقاً وخطاباً كان شيئاً يحتاجه الخطاب الفلسفي ليكمل دورته البنيوية. وكما خبت شعلة البنيوية ستخبو شعلة فوكو وسيستفيق متسائلاً عما نسيه في إطار أبحاث عما شغله عن النظر نحو جوانب أخرى لم يتوجه لها سابقاً، وسيتذكر انه ما زال حياً، سيرى البنيوية تمضي ولكن ملامح التفكيك التي بات يفتحها جاك دريدا بشراسة وصرامة، ستكون إشارة لها تؤكد أن الإنسان يجيد دوماً الحياة.

انطلاقا من هذا التغيرات سيعود فوكو، عودة فارس إلى موقعه بعد غياب قديم، عودة فارس سيعود لكن هذه المرة لا ليقاتل بل ليعلمنا من جديد كيف يكون القتال. من هنا يأتي عودته إلى الذات والإنسان والمجتمع عودة مشتاق يتحسس أشياءه الثمينة قبل أن يغادر أليس مثيراً للدهشة أن يطرح في دروسه الأخيرة فلسفة الموت؟ كيف يعاش الموت؟ أي تجربة تكمن خلف استيعابه؟ إن المدهش في ذلك أمرين الأول أنه بعدها، والثاني أن استحضار للموت، لكنه موت فيزيائي هذه المرة، كان الموت يقهقه من بعيد، لكن فوكو كان سيضحك "ضحكة الفيلسوف" أكثر فقد كان هاضمه مذ ثمانية عشر عاماً مذ عام 1966.

موت الإنسان الذي أعلنه فوكو سيبقى يحمل مجالات تأويله، سيبقى يميت مؤلفه بايحاء من دريدا، ويأول ذاته من خلال غادمير، سيبقى موته معلقاً وقوله: من شاء منكم فليتبع.

المراجع:
(1) ابن داود عبد النور. المدخل الفلسفي للحداثة. بيروت: منشورات الاختلاف-الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009.

(2) إديث كرزويل. عصر البنيوية. ترجمة د.جابر عصفور. الكويت: دار سعاد الصباح، 1993.

(3) السيد ولد أباه. التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو. بيروت: دار المنتخب العربي، 1994.

(4) ت.أ.ساخروفا. من فلسفة الوجود إلى البنيوية. ترجمة د.أحمد برقاوي. بيروت: دار دمشق، 1984.

(5) جان بودريار. المصطنع والاصطناع. ترجمة د.جوزيف عبدالله. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008.

(6) جان بياجيه. البنيوية. ترجمة عارف منيمنة، د.بشير أوبري. بيروت-باريس: منشورات عويدات، 1985.

(7) جيل دولوز. المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو. ترجمة سالم يفوت. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1987.

(8) د.عبد الرزاق الدُواي. موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر. بيروت: دار الطليعة، 1992.

(9) د.عبد الله محمد الغذامي. الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.

(10) عبد الوهاب جعفر. البنيوية بين العلم والفلسفة عند ميشال فوكو. الاسكندرية: دار المعارف، 1989.

(11) عمر مهيبل. من النسق إلى الذات. الجزائر: منشورات الاختلاف، 2001.

(12) لالومون. "فوكو مفكر الحداثة." مجلة فكر ونقد، 1998: 129-134.

(13) محمد نور الدين أفاية. الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة. بيروت: أفريقيا الشرق، 1998.

(14) ميشيل فوكو. الكلمات والأشياء. ترجمة مطاع صفدي وآخرون. بيروت: مركز الإنماء القومي، 1989-1990.

(15) ميشيل فوكو. تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي. ترجمة سعيد بنكَراد. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006.

(16) ميشيل فوكو. دروس ميشيل فوكو. ترجمة محمد ميلاد. الدار البيضاء: دار توبقال، 1988.

* * *

الهوامش:

[1] د.عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، ص 31–32.

[2] جان بياجيه، البنيوية، ص 8.

[3] د.عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، ص 34.

[4] إديث كريزويل، عصر البنيوية، ص 38.

[5] د.عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، ص 36.

[6] د.عبد الرزاق الدُواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، ص 12.

[7] عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، ص 23.

[8] ت.أ ساخروف، من فلسفة الوجود إلى البنيوية، ص 168.

[9] راجع مقالة هاشم صالح: ماذا بقي من البنيوية؟ في صحيفة الشرق الأوسط 4 كانون أول 2008.

[10] عمر مهيبل، من النسق إلى الذات، ص 22.

[11] إديث كريزويل، عصر البنيوية، ص 10.

[12] هاشم صالح، صعود البنيوية وانهيارها، موقع الأوان الالكتروني، نُشر في 27 حزيران 2007.

[13] عبد الوهاب جعفر، البنيوية بين العلم والفلسفة، ص: 27.

[14] جون ستروك، البنيوية وما بعدها، ص 15.

[15] ابن داود عبد النور، المدخل الفلسفي للحداثة، ص 11.

[16] محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، ص 110.

[17] محمد سبيلا، التحولات الفكرية الكبرى للحداثة، مجلة فكر ونقد.

[18] د.عبد الرزاق الدُواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، ص 6.

[19] ابن داود عبد النور، المدخل الفلسفي للحداثة، ص 27.

[20] د.عبد الرزاق الدُواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، ص 17.

[21] ميشيل فوكو: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ص 11.

[22] ميشيل فوكو: تاريخ الجنون، ص 521.

[23]- 522 ميشيل فوكو: تاريخ الجنون، ص 521.

[24] ميشيل فوكو: تاريخ الجنون، ص 522.

[25] ميشيل فوكو: تاريخ الجنون، ص 68.

[26] ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ص 5.

[27] ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ص 26 – 27.

[28] ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ص 45.

[29] ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ص 260.

[30] ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ص 26.

[31] لالومون: فوكو مفكر الحداثة، مجلة فكر ونقد العدد 14 من عام 1998، ص 130.

[32] السيد ولد أباه: التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو، ص 207.

[33] جيل دولوز: المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ص 113.

[34] السيد ولد أباه: التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو، ص 227

[35] جيل دولوز: المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ص 101.

[36] ميشال فوكو: دروس ميشال فوكو، ص 51.

[37] ميشال فوكو: دروس ميشال فوكو، ص 71.

[38] ميشال فوكو: دروس ميشال فوكو، ص 77.

[39] جان بودريار: المصطنع والاصطناع، ص 51.