أثناء دراستي بالعاصمة الاسبانية مدريد للحصول على درجة الدكتوراه في النظريات والمناهج النقدية، شغلتني فكرة نشأة النظريات النقدية ورحيلها من مجتمع النشأة والتبلور لمجتمعات أخرى يكتفي البعض منها باستهلاكها فرحا بامتلاكه لها وتفرده باستخدامها، ويسعى البعض الآخر لتوظيفها وتطويرها والبناء عليها باعتبارها نتاجا للعقل الإنساني العام، فالنظريات النقدية ككل نظريات العلوم الإنسانية لا تنسخ ما قبلها، بل تتجاور وتتداخل وتتفاعل فيما بينها دون تعال أو إقصاء، وذلك على العكس من نظريات العلوم الطبيعية التي تلغي ما سبقها ولا ترتد مجتمعات استخدامها في الزمن معاودة البدء من جديد في اختراع ما تم اختراعه.
بينما يتعلق الحال مع النظريات النقدية بأفكار المجتمع وإيديولوجية الناقد وطبيعة الأعمال الفنية المنقودة، فتتجاور الأرسطية مع الملحمية، وتتقابل الشكلية بالمضمونية، وتتفاعل البنيوية مع السوسيولوجية، غير أن أهم ما شغلني كما قلت توا هو موضوع نشأة النظرية النقدية، باعتبارها نظرية فلسفية تعبر عن رؤية إنسانية في لحظة زمنية محددة، منطلقة من مجتمع بشري محدد له فكره وتقاليده وسياقه وزمنه وفلسفته الحاكمة له، فيؤسس أرسطو نظرية المحاكاة الكلاسيكية على المنجز المسرحي الإغريقي الذي عايشه وشاهده في القرن الرابع قبل الميلاد، وفي سياق الفلسفة الإغريقية المثالية، وعبر العلاقة الجدلية بين الفن والمجتمع الأثيني الطامح للديمقراطية وفقا للتصور الأفلاطوني، والأمر كذلك مع كل النظريات التالية، مثلما هو الحال مثلا مع نظريات التعبير التي بشرت بها الرومانسية وفق متغيرات عصرها، ونظرية الخلق التي دافعت عنها مدارس الفن للفن، ونظرية الانعكاس التي رسخت لها المدرسة الواقعية بفلسفتها المادية ومنجزاتها العظيمة في زمانها، وعندما صاغ على سبيل المثال أيضا "لوسيان جولدمان" رؤيته النقدية المعاصرة وبلورته لمفهوم البني الذهنية والإيديولوجيات، فقد شيدها على دراسته لخواطر "باسكال" ومسرحيات "راسين" ومجتمعهما الفرنسي في القرن السابع عشر والفلسفة الجنسينية التي كانت سائدة في زمنهما.
فالنظرية النقدية هي ابنة التفاعل الجدلي الفاعل بين رؤية الناقد الكلية للفن والحياة والأعمال النقدية التي يُنظر لها والمجتمع الذي يعيشه ولحظته الزمنية التي تتخلق فيها نظريته ومنهجيته، صحيح أنه كمنظر يمنح نظريته أساسا عاما يصلح لكل زمان ومكان، لكنه يظل لصيقا بالمجتمع الذي خرج منه، وهنا تأتي مرحلة رحيل النظرية وانتقالها من بلد المنشأ لبلاد مغايرة ، فعندما انتقل التنظير الأرسطي للمسرح في القرن العاشر لعالمنا العربي فهمناه في ضوء منجزنا الشعري، وترجمنا التراجيديا والكوميديا على أنهما يعنيان المديح والهجاء فلم يكن العرب يعرفون المسرح وقتها، وعندما انتقلت النظريات الماركسية الغربية وما تبعها من مناهج منتصف القرن الماضي إلى أسبانيا على يد ناقد متميز هو "خوسيه مونليون"، وإلى مصر على يد ناقد شديد التميز أيضا هو "محمود أمين العالم"، وجد كلا منهما نظرية ومنهجية وأدوات يحكم بها على المنتج المسرحي في بلده، غير أن الإسباني "مونليون" وجد بين يديه وأمامه بفضاءات المسرح تراثا مسرحيا ضخما قادما إليه من العصر الذهبي الإسباني الواقع فيما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر عند "لوبي دي بيجا" و"كالدرون دي لا باركا" وغيرهما، فضلا عن ازدهار المسرح في زمنه بأعمال "جارثيا لوركا" و"باي انكلان" و"أنطونيو بويرو باييخو" و"اليخاندرو كاسونا" و"الفونسو ساستري" وغيرهم كثر، وبصورة خاصة تألق المسرح الواقعي الملتقي مع الرؤية الماركسية للعالم، بينما لم يجد "محمود أمين العالم" في مجتمعه مسرحا ذا قيمة غير أعمال "توفيق الحكيم" الغالب على بنائها التجريد الذهني، وبضعة نصوص شعرية ونثرية نخبوية لـ"أحمد شوقي" و"عزيز أباظة" و"علي أحمد باكثير"، وهزليات لـ"نجيب الريحاني" و"علي الكسار"، ولم يكن "نعمان عاشور" وجيله قد صعدا المسرح بعد، فعمل على تطبيق النظريات المستوردة على عالم الرواية، ومنجز "نجيب محفوظ" المتميز وقتها، وراح في عملية جدل جديدة بين النظريات الأوربية والإبداع المصري، جعلته يضيف على النظرية ومنهجيتها في حدود رؤيته للعالم، ويختبرها في منتصف الستينيات، عندما أصبح لدينا مسرحا يسمح باختبارها.
* * *
هذه العملية الجدلية التي دخلها "العالم" في الخمسينيات، دخلها قبله "محمد مندور" في الأربعينيات بمنهجه الانطباعي المستلهم من أستاذه الفرنسي "جوستاف لانسون"، والذي طوره فيما بعد، ووفقا لحركة الواقع وإبداع مجتمعه حتى وصل لما اسماه بالمنهج الأيديولوجي، وتلاهما في حقل النقد التطبيقي المتعرض بالتحليل والتفسير للعروض المسرحية رموز جلية من جيلي الخمسينيات والستينيات، جاء معظمها من باب الدراسات الأدبية التي كانت سائدة وقتذاك، مثل د. "لويس عوض" ود. "رشاد رشدي" ود. "عبد القادر القط" ود. "علي الراعي" وجيل "فريدة النقاش" و"نبيل بدران" و"فاروق عبد القادر" "وجلال العشري" و"محمد عناني" وغيرهم كثيرون جدا، والذين أنصب اهتمامهم في نقدهم للنصوص والعروض المسرحية أكثر على المضمون أو المحتوى الفكري أو الرسالة المتضمنة في هذه النصوص والعروض والموجهة لجمهور هذه الفترة الزمنية، ومدى فاعليتها في مجتمع يصبو للتغيير، مع إشارات عابرة لمفردات العرض المسرحي المرئية والسمعية، وأن لم تغب عن أعينهم لحظة العلاقة بين البنية الداخلية للعرض المسرحي ومحتواه الفكري، فاندلعت المعركة الشهيرة بين د. "محمد مندور" ود."رشاد رشدي" حول ما سمي بالنقد من الداخل (أي دراسة شكل العمل وحركته الداخلية وهي الدعوة التي نادى بها "رشاد رشدي" وتلامذته استلهاما من مدرسة النقد الجديد) والنقد من الخارج (أي دراسة العمل فيما يطرحه على مجتمعه من رؤى ويشارك به في حركة الواقع من إسهامات وهو ما كان يتبناه د."مندور").
وبعدهم ظهرت أربعة أجيال على الأقل غيرت في مفهوم النقد المسرحي، وارتكزت على الكثير من النظريات الحداثية التي منحت الناقد قيمة في ذاته، لاسيما وأن جيلي السبعينيات والثمانينيات قد درس أغلبه المسرح دراسة أكاديمية، لم تتوفر لسابقيه، يمكننا أن نذكر منهما كأمثلة فقط تستدعيها الذاكرة المرهقة ولحظة الكتابة : د. "نهاد صليحة" و"عبد الرزاق حسين" و"أمير سلامة" ود."أحمد سخسوخ" ود."محسن مصيلحي" ود. "محمد شيحة" و"عبد الغني داوود" و"حسن سعد" و"عاطف النمر" وكاتب هذه السطور، وقد نجحوا إلى حد كبير في تحقيق التوازن بين دراسة الشكل ودراسة المضمون بنفس الأهمية، واعيين بأن البناء الجمالي ككل وسياقات الداخلية وعلاماته المتعددة هو الكاشف عن المحتوى الدلالي له، كما أنصب اهتمامهم على دراسة النص الدرامي، ليس باعتباره (نصا أدبيا) بل باعتباره القاعدة الأساسية التي يبنى عليها العرض المسرحي دون إطاحة برؤية كاتبه، مستفيدين في ذلك من نظريات النقد الحداثية من بنيوية تكوينية وشكلية وتفكيكية وسيميولوجية وسيوسيولوجية وغيرها من الدراسات التي أمدتهم بأدوات لفهم طبيعة بنية النص الدرامي وإدراك خصائص العرض المسرحي.
* * *
ثم جاءت أجيال ربع القرن الأخير من الزمان، قادم البعض منها من حقل الدراسات الأكاديمية المسرحية بمناهجها الجديدة، وقادم بعض خر من فضاءات المسرح ذاتها، وندوات مناقشة عروضه الجماهيرية، خاصة عبر نشاط إدارة المسرح بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وانحازت هذه الأجيال الشابة للمسرحة علي حساب الدراما، وللفرجة على حساب النص المكتوب، ولفاعلية التحقق في الشارع على حساب قداسة الكلمة المكتوبة، مشكلة تيارا مثمرا ومتجدد الفكر وكثير العطاء، رغم صغر مساحة تحققه، ولولا جريدة (مسرحنا) ما وجد أغلبه فضاء لكلماته، ومساحة للحوار مع العروض المسرحية، التي آثر أن تكون ملعبه الأساسي. تتصدر هذا التيار الجديد أسماء نابهة مثل د. "محمد زعيمة" و"أحمد هاشم" و"جرجس شكري" ود. "حسام عطا" و"خالد رسلان" و"محمد مسعد" و"خالد حسونة" و"أحمد خميس" و"رامي بكري" و"باسم صادق"، وصولا لـ"أميرة الوكيل" و"أمل ممدوح" و"ليليت فهمي" و"باسم عادل" و"داليا همام" و"شيماء توفيق" وعشرات غيرهم مما لا تستوعب أسمائهم مساحة هذا المقال، والذي لا يستهدف التوثيق لحركة النقد والنقاد المصريين والعرب، فهذا مجال آخر، بدأه د."شمس الدين الحجاجي" والمثابر الدءوب د. "سيد علي إسماعيل"، ويستكمله اليوم في أطروحة للحصول على درجة الدكتوراه الباحث والناقد والمترجم "سباعي السيد"، وهو ما يثير الاستغراب فعل فرغم وجود قسم للدراما والنقد في المعهد العالي للفنون المسرحية، وأقسام وشعب للدراما والنقد المسرحية في كليات الآداب بالإسكندرية وحلوان وعين شمس والمنيا، وكذا بكليات التربية النوعية، إلا أن أغلب دراسات هذه الأقسام تنصب على الدراما فقط، دون دراسة لحركة النقد في مصر والعالم العربي، مما قد يوهم غير المتابع الدقيق أننا لم نعد نملك نقادا بعد "علي الراعي" و"فاروق عبد القادر" أو على الأقل بقامتيهما.