عندما كتب أرسطو كتابه «فن الشعر» وقام بتقسيم الجنس الشعري إلى أنواع أساسها الشعر الملحمي والتراجيدي والكوميدي والديثرامبي، وأرجعها رغم اختلافها إلى نظرية المحاكاة، فإنه حينما تناول نشأة التراجيديا والكوميديا رأى أنها ترجع إلى فنون الارتجال، منها مرتجلات قادة جوقات الأناشيد الديثرامبية القديمة ومرتجلات قادة الأغنيات والرقصات التي كانت تؤدى في احتفالات عيد الإله ديونيزيوس، ولا شك أن المحاولات التراجيدية الأولى كانت بسيطة وبدائية غير أن تجارب الشعراء وتحسيناتهم المتتالية كانت عوامل فعالة أفضت إلى تطوير التراجيديا والكوميديا وإيصالها إلى صيغتها الصحيحة الحالية. من هنا نستطيع أن نقول إن الدكتور علي الراعي رأى فيما قاله أرسطو عن أصول فنون الارتجال التي أفضت إلى الفنون الدرامية التراجيدية والكوميدية مدخله إلى دراسة الدراما المسرحية في عالمنا العربي وكأنه بالفعل يقوم بنفس الدور الذي قام به أرسطو في العصر الإغريقي أو بمعنى أصح إن علي الراعي كان بمثابة أرسطو المسرح العربي في وقتنا الحاضر، فكيف كان ذلك؟
* * *
النواة الأولى
لقد كانت الأغنيات والاستعراضات الجماعية والمهرجانات الشتوية للإله ديونيزيوس هي النواة الأولى للشعر الدرامي حيث كانت تمتزج الأغاني والرقصات ببعض الأقوال والنكات والتعليقات التي يرتجلها قائد الموكب لتسلية المشاهدين سواء في هيئة مونولوج بمفرده أو ديالوج مع بعض المغنين من صحبته، ومن هذا الخليط والارتجال نشأ فن الكوميديا، كذلك الحال في التراجيديا التي نشأت في مهرجانات ديونيزيوس الربيعية والتي كانت تعبر عن أسطورة هذا الإله في أسلوب غنائي وبوسائل التنكر أو المحاكاة بالكلمة والحركة في هيئة ساتيرية بملابس الماعز أو الأقنعة إلى أن جاء «آريون» الذي يعد أشهر عازف للمزمار في زمانه وأدخل أجزاء حوارية ارتجالية وأحاديث متبادلة بين الحين والآخر أثناء الغناء والاستعراض، ثم كان يصعد فوق منصة كانت البداية الأولى لخشبة المسرح وبتبادل الحوار مع بقية أفراد الجوقة وبذلك كانت هذه الأحاديث المتبادلة بذرة التراجيديا كما يقول أرسطو إلى أن جاء «ثيسبيس» وأدخل الممثل لأول مرة في مقابل المغني أو الراقص أو قائد الجوقة ثم جاء من بعده كتاب الإغريق المعروفين وأضافوا الممثل الثاني ثم الثالث وهكذا نشأ الحوار المسرحي.
* * *
الناقد الأول
من هنا نستطيع أن نقول إن أرسطو هو أول ناقد أدبي وفني يرصد تطور التجربة المسرحية الإغريقية منذ نشأتها في إطار الارتجال حتى اكتمالها في إطار التراجيديا والكوميديا. هذا هو ما فعله أرسطو بعبقريته الفذة في عصره حين كتب كتابه عن «فن الشعر» الذي حفظ به التجربة الدرامية الإغريقية وأصل لها ووضع القواعد النقدية التي مازلنا نعيش عليها حتى الآن.
ترى ما الذي فعله علي الراعي مع التجربة الدرامية المصرية والعربية وجعلنا نصفه بأنه أرسطو المسرح العربي المعاصر؟
* * *
المسرح الارتجالي
لعله من سوء حظنا نحن المثقفين العرب أننا مررنا على الظاهرة المسرحية في تاريخنا العربي مرور الكرام دون أن تستوقفنا بذورها الجنينية التي كانت تظهر بين آن وآخر ودون أن نلتفت إليها، مثلما اهتم بها المثقفون الإغريق، كانت هناك أيضًا ظواهر مسرحية ارتجالية في عصورنا العربية المختلفة، ولكن الفارق بين الظاهرتين، أن الظاهرة المسرحية الإغريقية توفر لها الكثير من الاهتمام والرعاية على المستوى الرسمي والمستوى الشعبي، حيث كانت السلطات الحاكمة في بلاد الإغريق تهتم بمثل هذه الظواهر الاحتفالية وتشجعها وترعاها وتغدق عليها الكثير، كما أن النخبة المثقفة من المجتمع الإغريقي كان لديه الاهتمام بها والتحمس للمشاركة فيها وتدعيمها بالخلق والإبداع وكان الشعراء والفلاسفة والمفكرون يشاركون فيها ويحتفون بها ويتحمسون لها بينما نحن للأسف الشديد، كانت السلطات الحاكمة لدينا تخشى من هذه الظواهر الاحتفالية التي تحتشد فيها الجماهير مما يسبب لها الذعر والتوجس من أن تتحول هذه الجماهير إلى ثورة أو فتنة خصوصًا أنها سلطات تتسم بالديكتاتورية والحكم الأوتوقراطي والثيوقراطي، ولهذا فإنها كانت تحتفي فقط بفنون القول لا فنون العرض، لأن فنون القول فنون فردية تتم في الحجرات المغلقة التي يمكن السيطرة عليها سواء في ديوان الحكم أو مجلس الشراب حيث الجواري والقيان والاكتفاء بقصائد المديح والهجاء والفخر والرثاء والحصول على منح من صرر الدراهم والدنانير. لقد كانت هناك فرصة ذهبية لحكامنا في الأندلس لكي يطلعوا على فنون العرض المسرحية في أوروبا، فإن حكمهم الذي قارب الثمانمائة عام أليس غريبًا أن يتجاهل الحكام العرب في الأندلس الظاهرة المسرحية الأوروبية ولا يذكرونها هذه المدة الطويلة دون أن يفكر أحد منهم في شأنها، بل والغريب أن النخبة المثقفة من الشعراء والمفكرين والفلاسفة والمؤرخين العرب لم يفكروا مجرد التفكير أو مجرد الحديث عن هذه الظاهرة المسرحية وكأنها رجس من عمل الشيطان. كما أننا لنعجب أن تظهر ظاهرة فن خيال الظل في بغداد ثم في القاهرة على يد ابن دانيال ولا تهتم بها السلطات الحاكمة إلا في أضيق الحدود، بل إن الحكام المماليك توجسوا منها خيفة وأمروا بإغلاقها وتحريمها. أيضًا فإن النخبة المثقفة ومن بينهم الشعراء لم يلتفتوا إلى أهمية هذه الظاهرة.
* * *
تطورات الظاهرة
وقد كان من الممكن لو أنهم اهتموا بها لتطورت الظاهرة على أيديهم تطورًا طبيعيا يؤدي في النهاية إلى ظهور فن الشعر المسرحي العربي خصوصًا أن فن خيال الظل كان يعتبر من ضمن فنون الشعر، فقد كان ابن دانيال شاعرًا وله دواوين شعرية لو أن زملاءه من الشعراء تنبهوا له لكان لفن خيال الظل شأن كبير.
أنه لما يؤسف له حقًا أن فيلسوفًا ومفكرًا كبيرًا مثل أرسطو يهتم بفنون المسرح الشعبية منظرًا ومؤصلاً وناقدًا بينما لا نجد لدينا شاعرًا أو ناقدًا أو حتى متذوقًا يهتم بفن خيال الظل، بل وينظر إليه نظرة احتقار وازدراء، وكأنه فن لا يليق بشاعر أو أديب، أو باعتباره من فنون العامة والدهماء.
* * *
أخطاء النخبة
من هنا أخذ الدكتور علي الراعي على عاتقه مهمة التكفير عن أخطاء اقترفتها النخبة العربية المثقفة على مدى التاريخ العربي كله ضد فنون العرض الشعبية التي تعالت عليها وتجنبت الخوض فيها والحديث عنها. وكما فعل أرسطو في كتابه فن الشعر حين بحث في الظاهرة المسرحية من بدايتها في صورتها الارتجالية حتى اكتملت في صورتها المعروفة لدينا، فإن علي الراعي أخذ هو الآخر يبدأ من نفس البداية وكتب ثلاثيته المهمة عن المسرح «مسرح الشعب» والغريب أن نخبة من المثقفين وقفوا نفس الموقف المتعالي الذي وقفه نخبة المثقفين العرب قديمًا، وكان منهم لويس عوض وتوفيق الحكيم ونعمان عاشور، ولم يتفهموا الهدف الذي كان يسعى إليه وهو التأصيل للظاهرة المسرحية الشعبية.
* * *
انعزال الكتاب
يقول علي الراعي في مقدمته «لا شيء يبرر انعزال الكتاب عن كوميديا الشعب -ومن ثم عن الشعب نفسه- سوى عدم معرفتهم بالتراث الكبير الذي تجمع للشعب في هذا المجال الفتان، ومن ثم أخذت على عاتقي هذه المهمة الثقيلة، مهمة أن أصل ما بين الكتاب المثقفين وبين تراث الناس في المسرح بأمل أن يتبينوا، كما أتبين أنا، أنه لا مستقبل حقيقي لكوميدياتهم ما لم تتصل أسبابها بفن الكوميديا الشعبية -نأخذ منه- ونصحح فيه ونعلم ونتعلم.
* * *
الكوميديا المرتجلة
بدأ علي الراعي ثلاثيته بكتاب «الكوميديا المرتجلة» مؤكدًا أنه مثلما كان الارتجال عنصرًا مؤسسًا للمسرح الإغريقي فإنه يعتبر أهم عنصر من عناصر المسرح الشعبي في مصر ويدلل على ذلك بما أورده «إدواردلين» عن مسرح المحبظين، وفيما أورد «يعقوب صنوع» عما كان يجري في مسرحه من أحداث مضحكة وكذلك ما يروي عن فنان الارتجال «ميخائيل جرجس» في الموالد الشعبية، و«محمد فريد المجنون» والفنان «محمد ناجي» صاحب الفصول المضحكة، وما كان يفعله «جورج دخول» و«أحمد المسيري» و«علي الكسار» من تناول شخصيات يعتمد فيها الضحك على اللهجة الغريبة كالبربري والخواجة والتركي. هناك أيضًا الفنان «محمد المغربي» و«سلامة القط» و«محمد كمال المصري» المعروف «بشرفنطح» وغيرهم، ثم يشير علي الراعي للمحاولات التي قام بها كل من «يوسف إدريس» في الفرافير و«توفيق الحكيم » في قالبنا المسرحي و«شوقي عبدالحكيم» عن الحكايات الشعبية، ثم يتساءل عن سر هذا الاهتمام بالمسرح المرتجل ويجيب بأن هذه الصيغة ليست بدعة وإنما هو اتجاه بدأ ينتشر في العالم كله وضرب مثلاً على ذلك بتجربة «جوون ليتلوود» في مهرجان أدنبرة سنة 1963 وتجربة فرقة المسرح الحي في أمريكا ومسرح «أرتو» الذي نظره في كتابه «المسرح وقرينه»، ومعمل الفنون، ومصنع المسرح في لندن.
إن علي الراعي يرى مسرح الارتجال مغنمًا كبيرًا للمسرح المصري ويدعو إلى أن يقوم مسرح الجيب أو الطليعة فيما بعد بهذا الدور حيث يرى أن على المسرح أن يوجه نشاطه التجريبي إلى البحث عن صيغة مصرية للمسرح، وقال إن هذه الصيغة يمكن تحقيقها بنجاح في الأقاليم وليس في العاصمة حيث البكارة والأصالة
* * *
المسرح الشعبي
تري هل تحققت هذه الدعوة التي أطلقها في الستينات؟ أعتقد أنها تحققت إلى حد كبير على يد الجيل الثالث للمسرح بعد جيل الرواد وجيل الستينات، ويمكن الإشارة في ذلك إلى ما قدمه مسرح الطليعة إبان إدارة المخرج الكبير سمير العصفوري حيث أعتمد فيما قدمه من عروض على مفردات المسرح الشعبي والتراث الشعبي والسير الشعبية فضلاً عما تحقق من إنجازات في نفس المجال على يد المخرج الكبير عبدالرحمن الشافعي في مسرح السامر، وما قدمه الكثيرون من كتاب ومخرجي مسرح الثقافة الجماهيرية في الأقاليم الذين كانوا يقومون بالتجريب المسرحي في إطار البحث عن الصيغة الشعبية في المسرح المصري والتي أصبحت سمة أساسية من سمات المسرح الإقليمي، ولعلنا نذكر تجربة من أهم التجارب التي قدمها المخرج سعد إدريس لكاتب هذه السطور وهي مسرحية «مآذن المحروسة» التي اعتمدت على مفردات شتى من مفردات المسرح الشعبي لدرجة أن ناقدًا كبيرًا هو فؤاد دوارة كتب يقول إنه لم يهتد إلى ظاهرة الارتجال والتشخيص الشعبي إلا حينما اكتشفهما فيما يشبه الحدس أثناء متابعته لعرض «مآذن المحروسة» في ساحة وكالة الغوري في رمضان سنة 1983. كما أشير في هذا المقام إلى ما قدمه كتاب من الجيل الثالث ما بعد الستينات من اجتهادات مهمة في إطار البحث عن صيغة للمسرح المصري والعربي معتمدين فيها على التراث الشعبي الذي ذكره علي الراعي في كتابه الثاني عن «فنون المسرح والكوميديا الشعبية»، ابتداء من فن المقامة العربية وخيال الظل ومسرح الأراجوز ومسرح السامر في الأسواق والشوارع والأفراح والسرادقات، ويضرب أمثلة على ذلك من تطبيقات وتجارب مسرحية من يعقوب صنوع وعثمان جلال ومحمد تيمور وعلي الكسار ونجيب الريحاني حتى عبدالمنعم مدبولي.
* * *
رصد الظاهرة
وإذا كان علي الراعي قد فتح الطريق أمام الجيل الثالث من كتاب المسرح ومخرجيه للولوج إلى عالم المسرح الشعبي، فإن هذا الجيل بما قدمه من اجتهادات قد تعدت بمراحل ما ارتآه علي الراعي وأخشي ما أخشاه أن تيار هذا الجيل الذي تبلور في تيار التراث الشعبي قد يواجه بنفس التجاهل الذي وقفه المثقفون القدامي وأن تظل الحركة النقدية الحديثة والمعاهد الفنية غير معنية به ولا تواكبه أو تدعمه أو تعمل على تطويره وترشيده.
وختاما إننا بالفعل في حاجة ماسة إلى ناقد كبير ومفكر مسرحي يستكمل ما بدأه علي الراعي حين رصد الظاهرة المسرحية الشعبية ودرسها ونظر لها في المرحلتين السابقتين (مرحلة الرواد-مرحلة الستينات) وأن يقوم برصد ودراسة تيار الجيل الثالث واجتهاداته في مجال التراث قبل أن يخبو هذا التيار وتبتلعه دوامات الحركة المسرحية العشوائية التي يتسم بها المشهد المسرحي الآن.