إذا كانت مقولةُ "زمن الرواية " التي خطَّها قلمُ "جابر عصفور" في تسعينياتِ القرنِ الماضِي قد أثارتْ جدلا واسعًا في الأوساطِ النقديةِ، ما بين مؤيدٍ لها يرى أنَّ الروايةَ أصبحتْ ديوانَ العربِ في العصرِ الحديثِ، ومعارضٍ لا يزالُ مؤمنًا بأنّ الشعرَ هو لسانُ العربيةِ الأصيلُ، القادرُ بكفاءةٍ ودقةٍ على التعبيرِ عن التحولاتِ التي تطرأُ على العربية على المستوى الموضوعي والفني عبر تاريخِها الحضارِي، فإنّ ما نشهدُهُ اليومَ في مجالِ التكنولوجيا الرقميّةِ المتمثلّةِ في عالَمِ الحاسوبِ والإنترنتِ، من تطوّرِ تقني كانَ له أثرٌ فعّالٌ في واقعِ حياتِنَا المعاصرةِ، يجعلُنا نقولُ: إنَّ الرقميّةَ (Digital) هي لغةُ العصرِ الحديثِ، وأنّ هذا الزمنَ الذي نعيشُهُ اليوم هو "زمن الرقمية"، ولا أظنُّ أنَّ هذه المقولةَ سيُصِيبُها ما أصابَ مقولةَ "زمن الرواية"؛ لأنّنا جميعَنا متفقونَ حاليًا –حسب تصوّري- على أنَّنا نعيشُ في عالمٍ متغيّرٍ وسريعٍ، وأنَّنا في عصرٍ يختلفُ في مفاهيمهِ ورؤاه عن تلك التي نشأنَا عليها في مرحلةِ ما قبلَ الرقميّةِ، بل إنّ ما نشهدُهُ اليوم من هجرةِ جماعيةِ إلى العالمِ الافتراضي، الذي أوجدتْهُ مواقعُ التواصل الاجتماعي Social Media مثل: الفيسبوك Facebook، والتويترTwitter، واليوتيوب You Tube، والانستجرام Instagram، والسناب شات snapchat ، لهو خيرُ دليلٍ على التحولات التي أصابتْ البشريةَ في الألفيّةِ الثالثةِ، حيث أصبحتْ هذه الفضاءاتُ منفذًا تعبيريًا وعالمًا بديلا يُحقِقُ المرءُ من خلالها كلَّ ما يُشْبِعُ نهمَهُ النفسي والمعرفي، ولعلّ هذا هو ما جعل "شاكر عبد الحميد" في كتابيه: "الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي"، و"عصر الصورة"، يصفُ الواقعَ الافتراضي Virtual Reality بأنَّهُ عالمُ المُتعِ المتخيّلةِ والإشباعاتِ البديلةِ، والتوحدِ مع كلِّ ما هو وهمي.
والذي يؤكدُ أيضًا أنّنا نعيشُ اليوم زمنَ الرقميّة، أنّنا نرى اليوم أثرَها واضحًا في مجالاتِ الحياةِ المختلفةِ، فهناك على سبيلِ المثالِ التعليمُ عن بُعْد، والتعلّمُ الإلكتروني، والمكتبةُ الرقميّةُ، والجامعةُ الإلكترونيةُ، وهناك الطبُ الافتراضي، وعلمُ النفسِ الافتراضي، وعلمُ الاجتماع الآلي (بتعبير محمد رحومة) الذي يجعلُ محورَ اهتمامِهِ ما يُسمى بـ"الإنسوب" أو الإنسانِ المُهجن بالآلة، والمجتمعاتُ الافتراضيّة virtual communities بتعبير هاورد هينجولد Haward Rhingold والتي توازي في كثيرٍ من جوانبِها المجتمعَ الواقعي، وهذا طبيعي لأنَّ الإنسانَ التفاعلي هو القاسمُ المشركُ بينهما، وهناك الاقتصادُ الرقمي، والتجارةُ الإلكترونية، والحروبُ الإلكترونية، وعلى مستوى الإبداعِ، هناك الأدبُ الرقمي التفاعلي، هذا الوليدُ الذي لا يزالُ باحثًا عن شرعيةِ وجوده في البيئةِ العربيةِ، والذي حاولتُ مقاربتَه في دراسة سابقة بعنوان "الواقعية الافتراضية في الرواية العربية"، فهو أدبٌ؛ لأنَّهٌ لا يتخلى عن الكلمةِ اللسانيّةِ بعوالمِها المختلفةِ التي هي جوهرُ العملية الإبداعية، ورقمي إشارة إلى الوسيطِ (الحاسوب) الناقل، فالحاسوب في برمجته يقومُ أساسًا على نظامِ العد الثنائي المكون من الرقميْنِ: (0/1)، مع الإفادة من معطياتِهِ التقنيةِ بما يتناسبُ مع التجربةِ الأدبيةِ، أما تفاعلي، فإشارة أولا إلى التفاعلِ الداخلي للبنيةِ النصيّةِ التي تشكلّتْ أساسًا من (الكلمةِ والمؤثرات ِالرقمية)، وثانيًا تقاعل المتلقي الذي يحاولُ الاشتباك مع النصِ ومحاولةِ ربطِ جزئياتِهِ من خلال التواصلِ معه بعد نشرِهِ في فضاءِ الإنترنت.
فهذا الأدبُ يُعَدُّ امتدادًا للأدب بتوجهاته المختلفة في مرحلةِ ما قبل الرقمية، لكنه مع الرقميةِ حاول قراءةَ الواقع المعاصر بنفسِ لغته، ولذلك يمزجُ هذا الأدبُ بين الكلمةِ بعوالمها التخيّليّة التي تختلفُ باختلافِ الرؤى التأليفيةِ، وبين مؤثرات المالتي ميدياMultimedia التي يوفرُها الحاسوب الرقمي من لون، وصوت وصورة، وحركة، وتوظيفُها فنيُا بحيث تتلاءمُ مع السياقِ العام للتجربة المقدّمة طبقًا لنوعيةِ الجنسِ الأدبي المصوّر، ولذلك وجدنا على الساحة الإبداعيةِ في الألفية الثالثة مصطلحات جديدة مثل: الرواية الرقمية التفاعلية، والشعر الرقمي التفاعلي، والمسرحية الرقمية، والمقال الرقمي.
والأمرُ لا يقتصرُ فقط على أدبِ الكبارِ، إنّما كان لأدبِ الأطفالِ نصيبٌ من التأثيرات الرقميةِ التي أصبح لها دورٌ واضحٌ في تشكيلِ الوعي النفسي والمعرفي لدى الطفل، الذي أصبح أكثر أنسًا وانسجامًا مع التقنيةِ الرقميةّ خاصة مع الفضاءات التي تُشكِّلُها ألعاب الفيديو جيم video game، مما أدّى إلى ضرورةِ إيجادِ أدبٍ يتناسبُ مع هذا العالمِ الصغير بتشكُّلاتِهِ التربويةِ والتثقيفيّةِ المختلفة، وهذا ما ظهرَ في أدبِ الأطفال الرقمي الذي ظهرت بوادرُهُ في المدونات الإلكترونية التي تُقصر محتواها على أدب الطفل، وكذلك مواقعِ الأطفال المختلفة، مثل موقع: Kids Jo. وإذا كانت لغةُ أدب الطفل في مرحلة ما قبل الرقمية تبتعدُ عن الغموضِ والتعقيدِ في الموضوعِ والخيالِ والأسلوبِ فالأمرُ نفسُهُ في أدبِ الطفلِ الرقمي، الذي لا يختلفُ في مفهومه العام عن أدب الكبار الرقمي من حيث اتصاله بالتقنيات الرقمية، لكنّهُ في الوقت نفسهِ يُراعِي طبيعةَ هذه التقنياتِ وطريقةَ توظيفِها وفق سياقِ النص القصصي أو المسرحي أو الشعري، بأن تتناسبُ مع عقليةِ الطفل، ومرحلته العمرية، وبحيث لا يجدُ صعوبةَ في فهمها ومحاورتها من خلال النقر بفأرة حاسوبه.
هذه نبذة عامة حول أثرِ الرقميةِ في حياتنا المعاصرة، وإذا كان الغربُ الذي وعى أهميةَ الرقميةِ منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خاصة في المجالِ العسكري، يعملُ حاليًا على تطويرِ مجال الرقميات والبحث عما بعد الإنترنت، فكيف تتعاملُ العقليةُ العربيةُ اليوم مع الرقمية خاصة في ظل التوجهات الحضارية التي تواجهها بين الحين والآخر؟ هل تعملُ بالفعلِ بصورةٍ منطقيةٍ على الإفادةِ من الرقميةِ في محاولةِ إيجادِ جيلٍ عصري يكون قادرًا على التعبير عن متطلباته ورؤاه بلغة تتناسبُ مع لغة العصر؟ كيف لها أن تُسهمَ في سدّ الفجوة التي تفصلُ بيننا وبين الغرب في تعاملنا مع الرقمية؟ كيف تُوجدُ التوازنَ بين الواقع والعالم الافتراضي؟ كيف يمكنها جعلَ فضاءِ مواقع التواصل الاجتماعي فضاءً إبداعيًا ونقديًا هادفًا بدلا من اللامبالاة والسلبية التي تُميزُ كثيرًا من الصفحات الافتراضية؟
هذه بعضُ التساؤلات التي ربما شغلتْ أذهانَ المشتغلين والمهتمينَ بالرقميّةِ العربية خاصة منذُ بدايةِ الألفيةِ الثالثة، نذكرُ منهم إبداعيًا: محمد سناجلة، وأحمد خالد توفيق، ومحمد أشويكة، وإسماعيل البويحياوي، وعبد الواحد أستيتو، ولبيبة خمار. أما على مستوى الكتابة الرقمية والنقدية، فهناك نبيل علي، وشاكر عبد الحميد، ومحمد رحومة، وعبد الحميد بسيوني، والسيد نجم، وسعيد يقطين، وفاطمة البريكي، وأحمد فضل شبلول، وإبراهيم ملحم، ومحمد أسليم، وزهور كرام، وعبدالله الغذامي وعبد الرحمن المحسني، وعبده حقي، وريهام حسني، وغيرُهم كثيرون ممن لهم إسهاماتٌ واضحةٌ مسجلّة إبداعيًا ونقديًا في موقع: " اتحاد كتاب الإنترنت العرب"، مما يعني أنَّنا نملكُ وعيًا إبداعيًا وفكريًا ونقديًا في مجالِ الرقمية، وأنَّه بحاجةٍ إلى عنايةٍ ورعايةٍ، وأنْ نتحولَ من ثقافةِ الاستهلاكِ إلى ثقافةِ الابتكارِ والإنتاجِ والانفتاحِ على الآخر.
في الأخير، إنَّ الرقميّةَ تفرضُ علينا اليوم التفكيرَ بعنايةٍ في إيجادِ قراءةٍ تكونُ مغايرةً للمألوفِ، قراءةٍ تتناسبُ مع واقعِ تحولاتِنا العصريّةِ المتلاحقةِ في طوْرِها الرقمي؛ لعلّها تُسهِمُ في إيجادِ فهْمٍ مقنعٍ لمعنى الإنسانيةِ في طوْرها الرقمي الجديد.
(جامعة سوهاج، مصر)