بعد عقود طويلة، بدا المجتمع السعودي في الانفتاح علي العالم، بتغيرات ملموسة علي أرض الواقع، تمثلت بالدرجة الأولي، في النظرة للمرأة، بالسماح لها بالخروج من الشرنق الضيق التي عاشت فيها وبها عدة قرون. وقبلها كانت المرأة قد اقتحمت مجال الكتابة الروائية، التي عمدت، بالدرجة الأولي أيضا، اقتحام المسكوت عنه، خاصة عالم المرأة عامة، وعالم الجنس خاصة، لسببين – في تصورنا – الأول يتمثل في كونه نوع من الإنفجار الذي يعمد إلي التحدي، أو لفت الانتباه لمشكلة مُلحة وضاغطة، يتغافل المجتمع عن وجودها، باعتبارها نقطة حيوية في حياة الكائن الحي، إلي جانب أن ممارسة الرجل لتلك الحاجة، داخل الإطار الشرعي وخارجه، باتت أيضا مُلحة ومُستفزة للمرأة ، وهو ما عبرت عنه الروائية السعودية زينب حفتي في روايتها الأخيرة "الشيطان يحب أحيانا"[1]، والتي سنعود إليها لاحقا.
أما السبب الثاني، فهو أن الإنسان، المبدع، يكتب نفسه ومحيطه وعالمه. والمرأة لم يكن في عالمها إلا إنتظار الرجل، والتهيئ له. فما كان لها أن تخرج عن هذا النطاق.
وقد يضاف إلي تلك الحياة التي كانت تعيشها، تأمل ظروف النشر، خاصة بعد الانفجار الروائي النسائي خاصة، أن نعلم أنه في العام 2007. صدرت 50 رواية، تم طباعة سبعة عشر رواية منها فقط داخل السعودية، بينما، تم طباعة ثلاثة وثلاثون رواية خارجها، إلي جانب أن معظم هذه الروايات تم طبعها في لبنان، وبما عُرف عن سَبْقِ لبنان في حرية النشر، عن غيرها من الدول العربية عموما. علي أن الأمر تطور في عمليات التناول - الموضوعاتي – مع مرور الوقت علي ما يمكن تلمسه من تطور النموذج الذي رأينا أن نبدأ به، وهي الكاتبة زينب حفني، حيث اصبح لديها التراكم الروائي مع يساعد علي ما حدث بالرواية السعودية من تطور موضوعاتي، من جانب، ومن جانب آخر أنها ليست ببعيدة زمنيا عن بداية المرحلة الأهم في رواية المرأة السعودية، المعبرة عن المجتمع السعودي، والتي تبدأ بليلي الجهني في روايتها "الفردوس اليباب" ( 1998). وعلي الرغم من أن المرأة السعودية كانت قد كتبت الرواية من الستينيات "سميرة خاشقجي" إلا أن إنتاج المرأة طوال تلك السنوات لم يكن بالتراكم الفاعل، كما أنه يعتبر نتيجة ثقافة وافدة – لم تكن سميرة خاشقجي تعيش داخل السعودية - فلم يكن معبرا عن طبيعة المجتمع السعودي المعيش. خاصة أنه بعد ليلي الجهني، إندفت كتابة المرأة السعودية، فلمعت أسماء، اقتحمت العالم الداخلي للمرأة والمجتمع السعودي، مثل رجاء الصانع وروايتها التي نالت شهرة واسعة "بنات الرياض" في العام 2005، علي الرغم أن زينب حفني كانت قد سبقتها في العام 2004 بروايتها "لم أعد أبكي" وألحقت بها "ملامح" في العام 2006، ثم توالت أعمالها الروائية إلي أن نصل إلي "الشيطان يحب أحيانا". ونظرا لأن معظم هذه الكتابات، إعتمدت علي توصيل القضية، فجاءت الصنعة الروائية بعيدة نسبيا، ولهذا تعمدت أن أذكر الموضوعاتي، لغلبة الجانب الموضوعاتي علي الجوانب الفنية، وهو ما يوضح في ذات الوقت، الانغلاق عن التطورات الحادثة خارج نطاق المجتمع. إلي جانب ضغط القضية التي تتمثل في الثورة علي القائم، والرغبة في التغيير، أو الخروج من (الحبس). وهو ما يؤكد دور الرواية في حركة المجتمع، وما حاولنا تأكيده من خلال كتابنا "دور الرواية العربية في الربيع العربي"[2].
الشيطان يحب أحيانا
سمات تطور الكتابة عند الكاتبة – وما يؤشر إلي تطور رواية المرأة السعودية
- - كانت السمة الغالبة في روايتها "ملامح" (2006) تعرية المرأة، للتعبير عما تعانيه المرأة من كبت أبوي ومجتمعي .
- - ثم كانت "لم أعد أبكي" الدخول في مشاكل المرأة مع المجتمع (دخولها في العمل – والصحافة).
- - التعبير عن الخلاف القائم بين السني والشيعي وما يؤدي إليه من تقسيم في المجتمع، وتناولته زينب حفني في روايتي : "وسادة لحبك" و "هل اتاك حديثي".
- - كذلك من ناحية بناء الشخصية. فبينما كانت شخصيات "ملامح" شخصيات نمطية، كحامل لأفكار الكاتبة. فإنها بدأت في إدخال العامل النفسي، الذي ساعد في تكوين شخصية إنسانية في "هل أتاك حديثي" و "لم أعد أبكي".
- - وأيضا من ناحية التقنية، فبينما أعتمدت "لم أعد أبكي" و "وسادة لحبك" علي التجاور. بمعني أن الأحداث أو المواقف تتجاور، وربما في بعض الأحيان، لم يحدث تفاعل بينها. بينما في "وسادة لحبك" و هل أتاك حديثي" أصبح الخط تصاعديا. وإن لم يكن بالقدر الذي يساعد في تسريع الإيقاع. وهو ما نجده بشكل واضح في " الشيطان يحب أحيانا".
وبصفة عامة، يمكن ملاحظة أن الجنس كان عاملا مشتركا، لا في روايات زينب حفني فقط، وإنما في رواية المرأة بالسعودية عامة، وكما أسلفنا، فإن ذلك يرجع إلي ماعانته المرأة السعودية بصفة خاصة فترة طويلة من العزلة. الأمر الذي جعلها تعيش لفترة طويلة لا تملك إلا جسدها المُنتهك، والذي خُلقت من أجل إشباع الرجل به – في نظر المجتمع – الأمر الذي شحن داخلها الغضب والاحتجاج، فلما أتيح لها التنفيس من خلال الرواية، التي تملك المساحة الأكبر للبوح، كان تعبيرها عن هذا الجسد، وانه ليس ملكية خاصة للرجل. فضلا عن أن إختراق الحصار لابد أن يكون بالقوة، التي دفعتها لاختراق التابوهات في ثلاثية التابوهات العربية، (الجنس – السياسة – الدين). لذا كانت المقاومة لهذه الكتابة في المجتمع كبيرة، الأمر الذي أدي إلي أن أغلب هذه الروايات تم طباعتها خارج حدود السعودية.
قراءة الشيطان
نشأ سراج وحيد أبويه، لأب سعودي وأم مصرية - وإن أنكرت الكاتبة أن الأم مصرية. إلا أن كل الإشارات بالرواية تدل علي أنها مصرية، ولم يرد بها أي إشارة لكونها غير ذلك - تعلقت أمه به ، بعد أن تعددت خيانات زوجها لها، وتعلق هو بها. في الوقت الذي كان عطوفا علي والده حين مرض، ولم يتخل عنه. تزوج مرتين، ولم يكن فشل الزيجتين بسببه، بقدر ما كانا نتيجة تربيته، وارتباطه بأمه. وحين أراد "أحمد" جاره استمالته للتنظيمات الجهادية، وبدا في البداية يستجيب له. تنبه سريعا وعاد قبل أن ينجرف. حين فكر في الزواج من جديد، فكر في ابنة خاله، الأرملة، ولها ابنان، وهو المحروم من الخلفة. وحين أراد أن يخرج من سلبيته، وآثامه، جاء إلي القاهرة وطلب الزواج من "ندي" ابنة خاله، التي طلبت منه هذا التغيير في شخصيته. فكر، وشرع في إعادة حق عمه وعمته التي نهبها والده.
كل هذا لم يكن يستحق معه أن يُلقب ب"الشيطان". حيث أنه كان بالفعل قد بدأ يحب "ندي" حيث سيطر عليه التفكير فيها، والاستجابة لشروطها. لذا أري ان العنوان،لم يكن متفقا مع السياق.
ويأتي الاشتباك مع المجتمع في استعراض الرواية لسوءات المال الكثير في يد الخليجيين، حيث أصبح – المال - في يدهم مسخرا لإشباع الرغبات الجنسية، بالدرجة الأولي، والمادية بصفة عامة، وهو ما دفع "عواطف" والدة "سراج" زوجة "مالك" المصرية، حين قضاء شهر العسل مع زوجها بالمغرب تقول:{ تعجبت أيامها من كم الخليجيين فيها (المغرب). كل رجل كان يأتي للسهر وبصحبته اثنتان أو ثلاث من الفتيات الصغيرات..}ص 139.
وفي تلك السفريات المتعددة ل"مالك" عبر الدول العربية، كانت صورة المرأة (تمتهن البغاء)خاصة المغربية واللبنانية. بينما ظلت صورة المرأة المصرية، ممثلة في "عواطف" هي صورة المرأة النقية، التي حافظت علي بيتهان وعلي ابنها.
وهو ما أدي في النهاية للرؤية العامة، أن صلاح الأمر العربي، يكمن في التزاوج بين المال العربي (السعودي) بالإنسان المصري. خاصة أننا طالعنا أحوال البعض من الدول العربية وما يجري فيها مثل الحرب الأهلية اللبنانية، والدمار في العراق، وغيرها. لم تبق إلا مصر التي رأت فيها الخلاص في النهاية.
وكذلك ( وتكرر ذلك في روايات قبلها). كيفية استغلال الجماعات الدينية لفراغ الشباب للدخول إليهم وتجنيدهم.
كذلك تأثير التدليل للأبناء وكيف يفسدهم (سراج في مواجهة عماد ابن عمه).
في قصة "نساء عند خط الاستواء" التي حملت اسم مجموعتها الأولي، طالبت زينب حفني بالديمقراطية، وبالحق في الانتخابات. بطريقة مباشرة. ولذلك تعرضت للمصادرة في السعودية. وهو ما استمر مع الكاتبة خلال مسيرتها الروائية، حيث اتسمت بوضوح الرؤية، التي تصل حد المباشرة. وهو ما يؤكد ما سبق قوله من طغيان المضمون علي الجانب التقني فبها.
كان للأسماء الكثير من صفاتها – وفقا للرؤية - السابقة – حيث الأب "مالك"، هو مالك رأس المال، و الأم "عواطف" هي العطف والدفء والحنان، والإبن "سراج" هو الأمل والمستقبل في الغد، و"ندي" هي الصباح وهي الغد أيضا، وارتباطهما هو المستقبل.
يؤخذ علي الرواية الاستغراق في التفاصيل التي لا تخدم السياق، ولا تضيف شيئا، سوي التطويل، وحذفها لم يكن ليضر بالعمل مطلقا، مثل أسماء الشوارع والمستشفيات والبيوت، التي علي ذكرها نري:
{ أراد أن يحمي ولده من غدر الزمن بعد رحيله عن الدنيا، فاشتري بنايتين جديدتين تُدران دخلا سنويا ثابتا. إحدهما في حي النهضة2 مكونة من ثمانية أدوار، والأخري في حي المحمدية مكونة من ستة أدوار. كل طابق يحتوي علي شقتين واسعتين. اشترط علي مكتب العقار تأجيرها لسكان طيبي السمعة. كان إيجار كل شقة لا يقل عن أربعين ألف ريال في السنة}. وبعدها مباشرة { قلب من جديد صور الماضي. كان يملك شقة في القاهرة. تطل علي ميدان المساحة، قرب فندق السفير بمنطقة الدقي. شقة واسعة، مكونة من أربع غرف وبهو كبير. اشتراها منذ عشر سنوات من عامر} ثم يستمر السرد للحديث عن عامر وكيف حصل علي هذه الشقة وكيف أنه مضطر لبيعها. ص 89،90.
وكذلك حديث القطة ص 121. كما ذكر الكثير من المواقف مثل ذكر نكسة 67، وموت عبد الناصر، وغيرها مما لم يكن له دور في تطوير الحدث أو الشخصية.
- سار السرد أفقيا من البداية وحتي ص166 (من 193 الرواية كلها) بمعني أن يستعرض حياة كل من "مالك" و "عواطف" وسراج"، ولم يبدأ في التصاعد إلا بعد ذلك، حينما بدأت شخصية "سراج" تتغير، وبدأت الرؤية تتضح، والهدف يتضح. مما قد يصيب القارئ بالفتور، وربما ترك العمل، دون أن يعرف هدفا للرواية. فجاء السرد عاديا بلغة غاية في البساطة، اقرب للحكي منه إلي السرد الفني.
فإذا ما انتقلنا إلي بلدة مجاورة للسعودية وهي الكويت، التي شهدت نوعا من الاستقرار النسبي، ولم يكن بها من تغيير أو هزة إلا في سطو صدام حسين وغزوه لها في 2 أغسطس 1990. وهو ما يعتبر الحدث الأكبر فيها. سنجد أن ذلك إنعكس علي الرواية في الكويت، حيث سنجد أن أول رواية كويتية كانت في العام 1048 (رواية "آلام صديق" ل"فرحان الراشد"). ثم يمر عقد الخمسينيات كاملا دون ظهور أي عمل روائي، وليظهر في عقد الستينيات يظهر ثلاث روايات فقط (قسوة الأقدار" صبيحة المشاري في 1960 و "مدرسة من المرقاب" عبد الله خلف 1962 و"الحرمان" لنورية السداني" 1968)[3]. وفي عقد السبعينيات يبدأ ظهور الروائي الكويتي اسماعيل فهد إسماعيل، الذي يخرج وحده في هذا العقد ست روايات. وتظهر الكاتبة فاطمة يوسف العلي بأولي رواياتها "وجوه في الزحام" لتعود للصمت الروائي – حيث قدمت بعض المجموعات القصصية ودراسات الماجستير والدكتوراه – ولتعود إلي الرواية في العام 2014 بروايتها "ثرثرة بلا ضفاف"[4] ثم أحدث أعمالها "غرف متهاوية"[5]. علي أن من الأمور الملفتة والدالة، ان نعلم أن الكثيرات ممن اقتحمنا عالم الرواية من الكويتيات، قدمن رواية واحدة أو اثنتين، ثم غبن عن المشهد. لذا كانت عودة فاطمة يوسف العلي للمشهد الروائي هو الدافع لاتخاذها نموذجنا في رواية المرأة في الكويت.
غرف متهاوية
بعد فترة إنقطاع طويلة ، استمرت منذ أن قدمت روايتها الأولي " وجوه في الزحام" في العام 1971، لتكون بها أول رواية تكتبها المرأة الكويتية، تعود د. فاطمة يوسف العلي في العام 2013 لتخرج روايتها الثانية " ثرثرة بلا ضفاف" والتي طغي فيها المضمون علي التقنية الروائية. إلا انها – الكاتبة – سرعان ما أخرجت روايتها الثالثة "غرف متهاوية" في العام 2017، لتنتقل بها إلي عالم الرواية المعبرة عن الخبرة الإبداعية، متلافية الكثير مما شاب التجربتين الأولتين من مآخذ البدايات، فضلا عن ما أضافته "ثرثرة بلا ضفاف" للوصول إلي مرمي "الغرف المتهاوية"، حيث إعتبرت الثانية، جزء ثان من الأولي. خاصة أن الأولي إنتهت ببدء الحشود العراقية علي الحدود الكويتية. بينما دارت الثانية حول الوضع العراقي الكويتي، فيما بعد الغزو العراقي للكويت، لتترك فراغا، كان يمكن أن يمثل ثلاثية في هذا المضمار، وهو عملية الغزو نفسها، وما سببته من جرح كويتي بصفة خاصة، وجرح عربي بصفة عامة.
كما تمثل الروايتان معا، التصرف الإنساني الطبيعي. حيث جاءت الأولي، كمن جاءته ضربة قوية من حيث لا يدري، ولا يتوقع، فكان رد الفعل هو الثورة والغضب علي كل شئ، وكل الناس. فكانت الغضبة علي كل العرب. بينما جاءت الثانية بعد قليل من التأمل وإدراك المصير، فكان رد الفعل هو العتاب، الذي يستتبعه روح التسامح. وهو ما يعطي الانطباع بتكامل الروايتين.
ومن بين أوجه التكامل، أن نقرأ في " غرف متهاوية" الاقتراب من العلاقة الحميمة، كإشارات، دون الدخول في التصريح، لكمال العلاقة الإنسانية، والخروج بالشخصية من الإطار الرمزي للإطار الإنساني. وهو ما حاولته في إشارة تكاد تكون وحيدة في "ثرثرة بلاضفاف" حيث كانت الإشارة موغلة في الرومانسية، بعيدة كل البعد عن الإثارة المتعمدة التي نجدها في الكثير من الرواية النسائية الخليجية، حين كان الزوج يفكر في الإتيان بالعلاقة الحميمة { إن الضيوف علي وشك الوصول، وأي استجابة للعب علي المكشوف –في هذا الزمن الضيق – غير مأمونة. ولكنها تستعيد – في سرعة خيالية – ذكري مرات فعلا فيها ذلك، حين يرن جرس الباب يعلن عن قادم، ويكون الوضع يعلن عن بلوغ انبثاق النبع الحالم من طرفيه في حالة نادرة من التوافق}. وقد يكون استعمال تلك اللغة أيضا مؤشر للتعرف علي طبيعة الكتابة في الكويت، واختلافها عن الكتابة في غيرها.
نتعرف في "ثرثرة بلاضفاف" علي مجموعة من العرب، اجتمعوا في باريس، ونتعرف علي مآسي وطبائع العرب بصفة عامة، والتي لا تعبر إلا عن التخلف، بدءا من الإسلوب البوليسي الكاتم للحرية، فنقرأ {ندمه تحول إلي ذعر حين أدرك أن ما تعنيه بأنها يهودية غير ما يعنيه هو من الصفة ذاتها. لم يكن خوفه يرجع إلي كونها يهودية ، وإنما ما تفسر به الأجهزة العربية التي لا تكف عن مراقبة العرب من الشباب خاصة إذا عرفوا بهذه الليلة الفريدة}.
ثم ندخل في التخصيص، حين نقرأ المواصفات الجسدية (المضحكة) لشخص نعلم فيما بعد أنه دكتور عراقي متخصص في الجينات، في إشارة غير خافية للجسد العراقي والمعتمد علي ضخامة البنيان، من العقاقير والأدوية التي ألقموه إياها في سجن صدام. طلبت منه السلطات العراقية، صنع عقار يجعل المواليد تطيع وتسلم للقيادة بسلاسة، لكنه رفض، علي أساس أن تطبيع الإنسان يأتي من السنوات الثلاث الأولي .. منذ وضع بذرته، أي وهو في بطن أمه. يهرب من السجن، إلي سوريا. ويأمل "مزهر السماحي" – أحد أفراد المجموعة - أن يصور هذه القصة (كخيال علمي) لخروجها عن الواقع، رغم كونها واقع في أحد البلاد العربية، والذي قادها غرورها – المادي – لغزو جارتها الشقيقة، الكويت. ولهذا كانت نبرة العتاب في "غرف متهاوية" والتي جسدت فيه الكاتبة في صورة "نجمة" لتصبح هي الكويت، هي النجمة التي تضئ، وتحتوي الجميع من حولها، رغم ما لاقته من غدر، ومن خيانة.
ف"نجمة" كاتبة مشهورة، تتمتع إلي جانب حسن النية، وحب الجميع وعشق القمر، والحياة الرومانسية، بالمال الوفير، الذي سمح لها أن تقيم في بيتها جامعة دول مصغرة {دبت الحركة فى منزل "نجمة" بعد خروج "سالم" ، الكل يعمل فى حماس ونشاط وجدية ، "ميسون" مديرة المنزل العراقية ، و"آنى" الخادمة الفليبينية ، والطباخ "أيوب" المصرى ، ورشيد الموسوى وعدنان السوريان وموريس خورى وجوادى اللبنانيان ، البستانيين الأربعة ، وعبد الله إسلام مربى الحيوانات النيجيرى الذى أعلن إسلامه ، حبا فى النظافة والطهارة والثياب البيضاء ، بعد أن أرشدته نجمة إلى حلاوة الدين الإسلامى ، بعد عام من عمله بالمنزل ، كان خلالها منطويا على نفسه ، ومأنوس حارس الأمن الأردنى وسميح الفلسطينى مسئول المشتريات}وكررت الكاتبة ذلك في أكثر من موضع، وكأنها تؤكد علي أن البيت الكويتي وسع جميع الدول العربية: { صافح حمد مأنوس حارس الأمن الأردنى وموريس وجوادى اللبنانيين ورشيد وعدنان السوريين وأيوب الطباخ المصرى وآنى الخادمة الفلبينية ، وضع كفه فى كف ميسون مديرة المنزل العراقية ، شعر كلاهما من أول نظرة بأنفاس لاهثة متقطعة}. ورغم أن "نجمة لا تبخل علي أي من كل هؤلاء، إلا ان الغدر كان ما أصابها، ومن أقرب المقربين إليها {كانت "نجمة" كريمة سخية ، معطاءة محمودة الشمائل ، نادرة كالحجر النفيس ، وكان هناك من يحفر لها بئرا من الخديعة والزيف ، ويضع جسدها وروحها على فوهة بندقية ، منصوبة على مائة ألف كتف ، وراء زنادها مائة ألف إصبع}. فتتلقي الطعنات من "أرشيدان" أختها لأبيها ولأم تركية، التي شغفها حب المال، حد رغبتها في استمالة أختها "نجمة" في صفها لإقامة قضية حجر علي والدهما، كي تحصل علي ميراثها من أبيها الذي لازال علي قيد الحياة، وعندما ترفض "نجمة" ذلك بشدة، تكيد لها "أرشيدان" بالاشتراك مع صديقة "نجمة" المقربة "نوال" التي نتبين أنها كانت تحب "سالم" زوج نجمة، وظلت تحمل لها الضغينة، رغم الصداقة الظاهرية. في نفس الوقت التي منحت "نجمة" ثقتها الكاملة ل"لوزة" العراقية، وزوجها "سميح" الفلسطيني، منحتهم الثقة كاملة في إدارة متجرها، فخاناها، وكاد المتجر أن يُفلس، قبل هروبهما، كل إلي بلده. وهكذا جاءت الطعنات ل"نجمة" من كل الجبهات، من العراق ومن فلسطين، ومن تركيا. غير أن الطبيعة المتسامحة، والطبيعة الإنسانية يلعبان دورا في النهاية، فما أن يعود الإبن "حمد" من فترة تعليمه بالخارج، ويعود إلي المنزل، حتي يقع الغرام بينه وبين مديرة المنزل "ميسون"، فيطلب "حمد" الزواج من "ميسون". ترفض الأم "نجمة" بحجة الفارق الاجتماعي، فَيُصر الإبن علي الزواج. يوافق الأب "سالم" الدبلوماسي، علي أن يتم الزواج في نفس يوم زواج إثنين من العاملين بالمنزل، ليظهر الازواج العربي في رد الإبن علي أبيه { هل توافق على أن تكون ليلتك مع عبد الله إسلام ؟ .
قفز "حمد" من مكانه وكأن حية لدغته ، أمسك بتلابيب تمثال فى الصالة الواسعة داخل الطابق الأول للمنـزل ، وجه إليه لكمة شديدة دفعته إلى الخلف ، لم يحمه شئ من السقوط ، قفز ثانية نحو باب الخروج بعنف :
ـ هل تريد مساواتى بمربى الحيوانات ؟}.
وتأتي النهاية بوفاة كل من الأخت "أرشيدان" والصديقة "نوال" بحادث سير أثناء هروبهما إلي إيران، فور خسارة قضية الحجر، وإكتشاف مؤامراتهما. والإبلاغ عن سرقات "لوزة" وزوجها "سميح"، وإعلان الزواج "سالم" ندمه علي زلته التي استدرجته إليها كل من " نوال" و"أرشيدان" - في محاولتهما أكراه نجمة علي الاشتراك في قضية الحجر - وعودته إلي زوجته. وتتأمل "نجمة" "ميسون" لتكتشف ما بها من جمال وخُلق، فضلا عن كونها عراقية، بلد أمها {تحدثت "نجمة" ، أخرجت مخزونها حول ميسون مرة واحدة ، وصفتها بالأنثى الماهرة فى المطبخ وإدارة المنزل وحسن إنفاق الميزانية ، نظيفة ، رقيقة ، تتمتع بلباقة ودبلوماسية ، وفوق كل هذا فهى عراقية ، وأضافت :
ـ لو لم تكن كل هذه الحسنات فى طبعك ، لكنت اخترتك أيضا لأنك عراقية ، وهذا يكفينى ، إنى أحبّ العراق منها أمي وخالتي ، إنى أحبّ العراق كما أحبّ الكويت ، كلاهما بيت للحمام المسبح بحمد الله فى البكور والعشاء ، لن يفرق جمعهما أحد ، أنا لحبيبى وحبيبى إلي} .
فتعلن أنه لو لم يكن "حمد قد طلبها للزواج، لكانت هي من سعي لتزويجهما، إذ يكفي أنها.... من العراق.
التقنية الروائية
علي عكس ما كانت "ثرثرة بلاضفاف" حيث خلت من وجود القصة التي تشملها حبكة تُحكم مسيرتها، جاءت "غرف متهاوية، مشحونة بالأحداث، متصاعدة نحو رؤية محددة، إستطاعت الكاتبة أن تنسج خيوطها بتؤدة، ومضفورة بسرد يثير شغف القارئ ويشده نحو المزيد، فامتلأت الرواية بالحيوية، مضفرة بين ثناياها بالكثير من المعلومات، التي حولت الرواية من وسيلة للتسلية، إلي وجبة مشبعة بالكثير من المعارف الزراعية ، وبما يتمشي مع النهج الجديد للرواية { ـ الخولجان كان يستعمل فى أوربا وآسيا كمقوى جنسى ويستعمل فى الفلبين مسحوقا كعجينة للدمامل ، وفى الصين يستعمل فى علاج آلام البطن وقرح اللثة ودوار البحر ، وفى الهند وجنوب غربى آسيا يستعمل ضد الالتهابات وكمنفس للبلغم ومهدأ للأعصاب وفى علاج الروماتيود ، ويستعمل مسحوقه كمعطر للجسم ، هذا ما حفظته عن هذا النبات من الموسوعة التى أحضرتها لى عن الأعشاب الطبية}.
إلا أن تدخل الكاتبة عن طريق السارده لشرح بعض الأمور أو تفسيرها أو تبريرها، جعل وجود الكاتبة ملموسا، الأمر الذي فرض وصاية الكاتبة علي ذكاء القارئ، بحيث لم تترك له فراغا ليملأه. مثلما اختلاق تذكر "أرشيدان" لندوة حضرتها لتكشف عن أخطاء العلاقة بين الزوج والزوجة المثقفين وكأنها تحاول تبرير العلاقة بينها وبين "سالم" {تلك الندوة كانت تناقش بأسلوب فضائحى ، لماذا دائما علاقة المثقفات بأزواجهن متوترة ، وإن كن هن وأزواجهن يستطعن الحفاظ على شكلها ، فتبدو العلاقة من الخارج طيبة تتمتع بكل الحب والود والحنان والدفء الأسرى ، بينما هى من الداخل باردة.
سمعت إحدى الحاضرات :
ـ المثقفات يتعاملن مع أزواجهن بالورقة والقلم والمسطرة .
علقت أخرى وهى تضحك :
ـ المثقفة تتصور أن الجماع يجب أن يتم وفقا لبروتوكول ، يتم التوقيع على بنوده بندا بندا .
وثالثة :
ـ ما أحلى أن تترك المرأة نفسها لزوجها ، المثقفات يحرمن أزواجهن من المتعة ثم يشكين جفاء العلاقة ، لماذا لم تفكر كل مثقفة أن السرير ، لا علاقة له بالثقافة؟} .
وكذلك محاولة تفسير سلوك "نوال" بعد ضبطها مع زوجا "سالم". دون أن تترك للقارئ أن يصل لذلك بنفسه { أبدت اقتناعها بأن الضغينة التى تحملها نوال ولم تكن تنتبه لها ليست موجهة إليها ، إنما هى واحدة من ضحايا "نوال" الكثيرات الذين وجهت إليهم ضغينتها ، إن ضغينتها موجهة للجميع ، تخرج من نفس مريضة بالتشظى ، وأمومة مريضة بالتيبس ، منزوعة الرحمة والعاطفة ، ترجُم النهار بقطع من الليل ، وترجم الليل بلهب من شمس النهار} .
وبقراءة النمودجين، وطبيعة العلاقة بين الشخوص في كل منهما، والصفة العامة التي يمكن الخروج بها، والتي تضعنا فيما يشبه الساخن والبارد، نستطيع أن نحدد شكل المجتمع في كل. وليؤكد ذلك ما نكرره كثيرا بأن القراءة الحقيقية لأي مجتمع، يمكن أن نتعرف عليها من خلال الرواية.
em:shyehia48@gmail.com
[1] - زينب حفني – الشيطان يحب أحيانا – نوفل هاشيت أنطوان – 2017.
[2] - شوقي عبد الحميد يحيي – دور الرواية العربية في الربيع العربي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2014.
[3] - محمد ناصر – 7عقود من عمر الرواية الكويتية منذ نشأتها بالأربعينيات حتى 2008 جريدة الأنباء الكويتية – 10 /6 /2010
[4] - فاطمة يوف العلي – ثرثرة بلا ضفاف – رواية – مكتبة آفاق للنشر والتوزيع – 2014.
[5] - فاطكة يوسف العلي – غرف متهاوية – رواية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2018.