يرى الناقد المصري أن هذا الكتاب يعيد النظر في حالة اليقين حول عدمية سيوران التي أغلقت- أو تكاد - أي أفق جديد لتأويل أعماله، وتحشره في قالب لا يسع حضوره المتجدد. إن فعل التفلسف بالنسبة إليه هو فعلٌ علاجي لمداواة الروح، فالفلسفة– كالكتابة– مسيرة تبدأ من المعاناة الشخصية، ضرورة نفسية تحليلية لذات في حال من التمزق الدائم.

رسائل« إميل سيوران... بين قلق ويقين

وائل فاروق

بعد ما يقـــرب من ربع قرن على رحيله، ما زال «راهــــب العدم» يفاجئنا بالجديد، فقد صدرت أخيراً التــــرجمة الإيطالية لثلاث وخمسين رسالة متبادلة بيـــن إميل سيوران ومواطنه الموسيقي واللاهوتي الــروماني جورج بالان الذي نشر الرسائل للمرة الأولى عام 1996 في كتاب بعنوان «محاورة سيوران»، في الذكرى السنوية الأولى لرحيل آخر أبناء نيتشه في الفلسفة وسليل باسكال في الكتابة.

ظل الكتاب أسير اللغة الرومانية محدودة الانتشـــار ولم يترجم إلى أي من لغات أوروبا الغربية حتى نهاية العام الذي انقضى، ولا أجد سبـــباً لتعرض أثر مهم لكاتب بحجم سيوران لهذا الإهمـــال الطويل ثم الاهتمام المفاجئ به بعد ذلك؛ إلا فــــي ما طرأ على أوروبا الغربية من تحولات تعيشها منذ نهاية التسعينات، حيث تتأرجح مجتمعات «ما بعد العلمانية» - كما يسميها هابرماس- بين اليقين العدمي والقلق الروحي في مواجهة تحديات العولمة والحداثة السائلة التي تـــؤدي– وفق باومان- إلى سيولة العلاقات والمعاني وتضـــاؤل المقدسات التي يحتل مكانها الغموض الذي يحرك المخاوف بخاصة تجاه الآخر الذي أنزلته موجات الهجرة المتتالية من سماء المجرد إلى فضاء مجتمع يتراجع فيه الشعور بالعار من العنصرية والفاشية لدى قطاعات تتزايد باضطراد وتحقق نسب تصويت تتجاوز العشرين في المئة في الاستحقاقات الانتخابية في كبرى الدول الأوروبية.

يعيد الكتاب النظر في حالة اليقين حول عدمية سيوران التي أغلقت- أو تكاد - أي أفق جديد لتأويل أعماله، وتحشره في قالب لا يسع حضوره المتجدد.

يكفي النظر إلى صوره الفوتوغرافية والبورتريهات والرسوم الكاريكاتورية التي على رغم اختلاف مبدعيها وسياقها ولغتها الجمالية؛ يمكن اختزالها في وجه الفيلسوف المتأمل العابس ونظرته التائهة المحدقة في الفراغ. يبدو البحث عن ابتسامة سيوران مهمة عسيرة على رغم أن شهادات كل من عرفوه تصفه بأنه شخص جذل، لطيف المعشر!

في آب (أغسطس) عام 1965، كان الباحث في الموسيقى واللاهوت جورج بالان شاباً في حالة بحث عن معنى لوجوده، عن مثال يرضي طموحه ويكون جديراً بأن يمنحه نفسه. كان قد تحرر من الأيديولوجية الماركسية ولكنه سقط أسير حيرة أنهكت روحه. وبينما هو على هذه الحال في بيت صديق له في ريف ترانسلفانيا؛ لم يجد ما يدفع به الملل إلا كتاباً مهترئاً بلا غلاف ملقى بجوار المدفأة. الصفحات الممزقة التي نجت من النار أتت على ما تبقى لديه من سكينة، أشعلت في داخله الفضول. أخذ يقلب الأوراق حتى وجد قصاصة مكتوباً عليها بخط صغير اسم المؤلف وعنوان الكتاب «كتاب الخداع». في ذلك الوقت كان سيوران يعيش في منفاه، فقد اعتبره النظام الشيوعي خائناً وهارباً من الجندية. كانت كتبه ممنوعة، وكان هناك تعتيم كامل عليه. هكذا تحوّل الشاب بالان من البحث في أوراق ممزّقة نجَت من النار؛ إلى البحث عن كتب محرّمة نجَت من محرقة الديكتاتورية، لينهي مغامرته – أو ليبدأها – بكتابة رسالة إلى نبيه المنبوذ. ردّ سيوران على الرسالة بسرعة استثنائية، فقد كان مأخوذاً بفكرة أن شخصاً من رومانيا يحاول التواصل مع ذلك «الطاعون» الذي تلاحقه الاستخبارات الرومانية. هكذا التقيا في باريس في عام 1967، ثم التقيا مرة أخرى في العام التالي، إذ كان بالان حصل على منحة دراسية في فرايبوج. تجولا كثيراً في باريس؛ وكان سيوران كما يصفه صديقه اللاهوتي الشاب؛ «مبهجاً وودوداً، لا تشف عيناه عن أي أثر قاتم للوجود». كانا يلتقيان في خضم حركة الطلاب، لكن سيوران لم يكن يكترث بها، بل إنه علّق عليها قائلاً: «بعيداً مِن الطلاب الذين يفتقرون إلى أي خبرة سياسية، هناك غياب مذهل للحس السليم، وسلوك طفولي وقدرة على إشعال الحماس والتمادي فيه لدرجة الهذيان».

هكذا استمرت العلاقة بينهما حتى وفاة سيوران من دون أن يكون للنوستالجيا دور كبير فيها، فالفيلسوف الذي هجر الكتابة بلغته الأم التي «لا يقرأها أحد»، كتب لصديقه في إحدى رسائله: «صديقي العزيز، لو بقيتَ في رومانيا لعانيتَ من فشل بعد فشل، وهو ما كان سيقودك إلى اكتئاب لا حدود له، نحن لا يمكننا أن نجد أنفسنا إلا في داخل ذلك الخواء الغربي، نحن لا نتحقق إلا عندما نزلزله».

لم يعد سيوران للكتابة باللغة الرومانية أبداً بعد أن نشر فيها كتبه الأربعة الأولى، حتى خطاباته إلى جورج بالان كان يكتبها بالفرنسية. الأمر إذاً يتجاوز تلك الأيديولوجيا العدمية التي جعلوه أيقونة لها، فالغرب الذي يصفه في موضع آخر بأنه «عفونة ذات رائحة ذكية، جثة معطرة»؛ ليس إلا فضاءً مختاراً لممارسة الوحدة. يقول في رسالة أخرى: «مسرحية ماكبث هي أكثر الأعمال الأدبية التي قرأتُها في شبابي، لذلك كثيراً ما قارنتُ بين نوبات الوحدة التي تصيبني وتلك التي تصيب القاتل بعد ارتكابه جريمته». ربما كانت تلك القطيعة مع الوطن، ومع اللغة هي استدعاء لذلك الشعور الجارف بالوحدة الذي يراه النبع الحقيقي للفلسفة والكتابة. لقد عُرف عن سيوران نقده العنيف الفلسفة الأكاديمية، فهو يعتبرها مجرد ثرثرة عن تاريخ الفلسفة، حيث فعلُ التفلسف بالنسبة إليه هو فعلٌ علاجي لمداواة الروح، فالفلسفة– كالكتابة– مسيرة تبدأ من المعاناة الشخصية، ضرورة نفسية تحليلية لذات في حال من التمزق الدائم.

يصف اللاهوتي الروماني سيوران بأنه «أحد أكثر الأرواح تديناً في القرن العشرين»، ويصف هو نفسه بأنه «عدمي بميول دينية»، فقد ظلّ يتأرجح بين البحث عن إله ورفض فكرة وجوده، بين خبرة صوفية عرفانية وعدمية مطلقة ليتنهي إلى نوع من الإيمان اللاديني.

يقــــول في إحدى الرسائل تعليقاً على مقال لبالان: «لقد أثار اهتمامي ما تقوله عن التآلف بين الإيمان والقلق، أتفهمُ اندهاشك من ملاحظاتي وأفكاري التـــي أؤكد فيها بقوة الانفصال التامتقــريباً– بين الإيمان والقلق، لكن تذكر أن حياتي كلها لم تكن إلا بحثاً محموماً أنضجه الخوفُ مِن العثور على ما أبحــــث عنه، أنا متيقن من أنني بحثت دائماً عن رب ولكني أكثر تيقناً من أنني فعلتُ كل شيء حتى لا ألتقيـــه، لدرجة أن أحد أصدقائي الفرنسيين شبّهني بباسكال، فأنا يمكنني القيام بكل شيء حتى لا أؤمـــن». يظل سيوران معلقاً «بين اليقين والقلق»- وهو العنوان الذي اختاره مترجم الكتاب أنطونيو دي جينارو للطبعة الإيطالية الصادرة عن دار «ميمزيس»- بين السعي المحموم إلى العزلة التامة من ناحية والصداقات التي يتركها تجذبه خارج فردوس الوحدة، القلق هو اللعنة التي تبقي الإنسان مهزوماً أمام مصيره الحتمي، لأنه «مهما كان رفضُنا باتاً، فإننا لا نحطم تماماً مواضيع حنيننا».

 

الحياة اللندنية