على الرغم من حداثة التجربة التشكيلية في المغرب فأن المتتبع للشأن التشكيلي يلاحظ مدى الحركية التي يشهدها هذا الفن في السنوات الأخيرة من خلال كثرة المعارض الفردية والجماعية وتعدد الجداريات التي تزين الأزقة، الدروب والساحات في مختلف المدن المغربية لدرجة قد يجد الإنسان صعوبة في متابعة وتتبع كل المنجز التشكيلي في المغرب المعاصر، وإذا كانت الفنون التشكيلية (Arts plastiques) باعتبارها فنونا تنتج صورا مسطحة أو مجسمة فنونا متنوعة، فإن الرسم يبقى من أهم هذه الفنون، وأكثرها انتشارا جمالية وأمام تعدد الهامات الفنية سواء من الرادة الأوائل، والتجارب الشابة يطل صاحب ريشة يشق طريقه بصمن من إحدى مدن المغرب العميق، إنه الفنان إسعاب بوسرغين ...
عند تأمل لوحات هذا الفنان يدرك المشاهد أنها تمتح من عدد من الاتجاهات، حتى لتكاد معظم المدارس التشكيلية تتماهي في تلك اللوحات، فهو لا يتقيد بالمقاسات الدقيقة لعلم المنظور، فيتبادر للذهن عند أول نظرة للوحة، أن بمكنوناتها حس بدائي يبهج من حيث حيويته وتركيزه على الطبيعي في عفويته، مع حضور للمقدس فيما يشبه تأثيرا بالفن المسيحي (L’art chrétien) المتضمن لأيقونات دينية، أهمها في لوحاته المصحف الكريم مع الابتعاد عن الأشخاص والتشخيص، واعتماد الرمزية الدينية في اللوحة فتتحول اللوحة عنده وصفا دقيقا لنبل وصفاء الروح متضمنة لأغراض تعليمية تربوية تجعل من اللوحة ينبوعا ثريا للمعاني السامية المتماشية مع الفن الإسلامي البعيد عن المحاكاة والرافض للترف والتشخيص والنافر من الفراغ لذلك كان بوسرغين مصرا على ملء كل فضاء اللوحة بلمسات متدرجة الألوان، المهتمة بكل تفاصيل المنظر الطبيعي كما كان الشأن في عصر النهضة ، حيث اللوحة تبحث عن الكمال ومخاطبة العقل فتبدو في فخامة وعظمة الباروك، حيث في الأشكال واضحة المعالم والألوان واقعية مع التركيب الشديد والدقة في توزيع عناصر اللوحة التي تبدو كأنها تخاطب النخبة وتلتزم بقواعد التشكيل المدرسية تنهل في ذلك من اللوحات الكلاسيكية، بطريقة تمتح من الواقعية فتكاد اللوحات تستحيل تمثيلا للواقع بشكل دقيق تختزله في رسم مناظر طبيعية بعيدة عن تجريد الرمزية ومثالية الرومانسية و أقرب إلى جماعة باربيزون التي سعت إلى اعتبار الفن تعبيرا عن الأشياء الواقعية الجميلة في كل ما نراه، فهي تصوير للأشياء، بصورة واضحة كما هي عليه في العالم الحقيقي الواقعي، تترك في النفس انطباعا بأن اللوحات ليس سوى تعبير عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنية، عن طريق تشويه مقصود للأشكال، واصطناع خطوط مثيرة في تركيب القائم على المساحات اللونية لتسجيل الإحساس البصري الخاطف للضوء وتأثيره على اللون في لحظة معينة جراء استعمال الألوان المتضادة في لمسات متجاورة للألوان مما جعلها أكثر تعبيرا عن الذات و أقرب إلى الذاتية المفرطة على حد تعبير الناقد جيرالد ويلز عن لوحة (انطباع مع شروق الشمس) لكلود موني ...
إن لوحات إسعاب بوسرغين في تركيباته اللونية متشبعة بمبدأ الفطرية والتبسيط مما وسمها بسمات التعبيرية الرافضة لمجتمع تسوده أخلاق زائفة، ورفاهية تبتعد عن الاستغلال في الإنتاج الصناعي. فكان الهروب إلى الطبيعة ومناجاتها بالفرشاة والألوان، والتركيز على الطبيعة الصامتة في مشاهد طبيعية خالية من كل ما يمشي، يزحف أو يطير، طبيعة بعيدة عن التمدن والتصنع والتلوث.. كل ذلك كان صرخة في وجه التقدم التكنولوجي وانتقادا للوضعية في العلوم الجافة التي جعلت الحياة مادية، قاتلة للقيم...
تماهي كل هذه المدارس والاتجاهات يسم لوحات بوسرغين بسمات الإطلاق والتعميم ويحللها من مرجعيات المكان والزمان، مع هيمنة الألوان الباردة خاصة الأزرق المرتبط في لوحاته بالماء والسماء، واللون الأخضر المعبر عن الطبيعة الصامتة (نباتات وأشجار) في أفق رسم سمت خاص يميز تجربة فنان يتلمس خطاه بتبات نحو العالمية ولنقرب القارئ من هذه التجربة نضع بين يديه هذه اللوحات التي تقطر رومانسية تعبيرية كأنها لوحات مسروقة من أيام الفن الجميل.