يخضع جانب كبير من النقاش حول طبيعة الحكم في مصر وحول الحكومة والتحديث لدراسة ثلاثة أمور مؤسّسة للحكم: الدولة البوليسية، قانون الطوارئ/ حالة الاستثناء، والخطاب الأمني وعمليات الأمننة. هذه العناصر لا تخضع لتراتبية هرمية وتفرض دراستها بتفحص نقاط الإشتباك والتشابك بينها وتضفيرها مع علاقات الانتاج في مصر وأنماطه، أي شكل الاقتصاد وإدماج السكان في عمليات الانتاج وإعادة توزيع فائض القيمة. فالدولة البوليسية هي التجلّي المادي للحكم وهي بنيته التحتية للقمع والسيطرة، ولها خطاب وممارسات عريقة في البلاد. وحالة الطوارئ أو الاستثناء هي التأطير القانوني والدولتي للحكم، وشكل معين لإنتقاء شرعية إجرائية للحكم وخلق بنية قانونية بالكامل، موازية للبنية القانونية الطبيعية، وهي أيضاً إيديولوجيا في حد ذاتها: أي رؤية للواقع. والخطاب الأمني والأمننة هي عمليات تأطير دائم لتحويل كل نقاش إجتماعي أو سياسي لنقاش أمني، وهو ما يخلق التصنيفات والذوات والأجساد والمواضيع التي ينبغي وصفها بالخطرة. ويتولى الخطاب الأمني وما يقوم به من عمليات أمننة للخطاب، بربط هذه الدولة البوليسية وجودياً (انطولوجياً) بالمجتمع، حيث يخلق علاقة راسخة على أساس يومي ومعيشي بين بقاء هكذا دولة وبين استمرار التعايش السلمي للاجتماع المصري، أو ربط الدولة البوليسية وخطابها الأمني بالتنمية، مثلما تجلّى بشكل واضح في دولة ما بعد الاستعمار بقيادة عبد الناصر أو في التمدد النيوليبرالي في العقد الأخير من عصر مبارك.
تتشابك وتتداخل هذه الماكينات الثلاث لخلق ثنائيات دائمة لحكم المجتمع وأخضاعه: المتحضرون في مواجهة الرعاع أو الهمج، الأمن والاستقرار في مقابل الفوضى، أعداء الوطن والمواطن الصالح أو مؤخراً المواطنين الشرفاء، الوغاش وعلية القوم، البلطجية في مواجهة المواطنين المتحضرين، وهكذا.. يعيد تشكيل هذه الثنائيات الجامدة طبقاً لكل عصر ومقتضياته الاجتماعية والسياسية، مثل ثنائيات الهَمج/ والمتحضرين التي رسّخها الاستعمار، أو الفوضى / والأمن والاستقرار في عهد مبارك.
أمثلة عن أماكن التهميش والضبط
ولعل الأطراف الجغرافية هي أكبر نموذج على هذا. فالتمدد الاقتصادي أو العمران دوماً ما كان يأتي على حساب إزاحة السكان الأصليين لهذه المناطق أو تهميشهم تحت إداعاءات تُصورِّهم بأنهم خطر على التنمية وتهديد للدولة وعناصر خطرة على الأمن العام أو الوطني، أو بتحويلهم لشبكات زبونية ومرتزقة لصالح الدولة أو حلفائها الرأسماليين. يمكن أن نرى هذا بوضوح مع شمال سيناء وجنوبها، مع اختلاف مستويات القمع والتهميش والادماج في الشبكات الزبونية والمنافذ الاقتصادية بين الشمال والجنوب، حيث أن مستوى العنف والقمع من قبل جهاز الدولة هو أقل حدة بكثير في الجنوب. وهناك أمثلة النوبة ورسم خط الحدود عند السد العالي ومنع النوبيين من حقهم في العودة أو حتى من مشاركتهم وادماجهم في المشاريع التنموية ما وراء السد، أو نموذج الساحل الشمالي والغربي، الذي امتدت فيه بعض شركات البترول مثل "سوميد"، أو العمران الترفيهي الذي حوّل أكثر 600 كيلومتر من الشمال الغربي في مصر لقرى سياحية تعمل على خدمة البرجوازية في موسم الصيف، وتحويل أبناء هذه المنطقة للعمل الخدمي والسمسرة لصالح خدمة هذه القطاعات الترفيهية.
وبالطبع يدخل في الأمر معضلة تجارة الحشيش، الذي يعتبر جزءاً أساسياً من الاقتصاد السياسي لخدمة هذه المنطقة وأحد أهم مصادر الثروة بها، بالأخص في موسم الصيف، ومع ذلك فهو مجرّم قانونياً، وتستغله الداخلية في إدارة هذه المساحة الضخمة بالمناورة والتضيق أو بالسماح به حسب ما تقضيه الأمور، بالإضافة إلى استغلال هذا البند لفرض سطوتها الانضباطية والاخلاقية أو للابتزاز، سواء ضد التجار والموزعين أو ضد الشباب المستهلك، واستغلال الكمائن الحدودية لفرض سطوة الداخلية على الاجساد المتحركة في هذا الاقليم، وممارسة قدر كبير من القمع والتنكيل والاشتباه ضد الأفراد الأقل سطوة في المنطقة أو العمال من أبناء الاقليم أو القادمين للعمل الموسمي في الصيف.
نظريتان
هناك وجهتا نظر داخل الداخلية والأجهزة الأمنية المختلفة، وقطاعات كبيرة من البرجوازية المصرية (أي التشكيلة الحاكمة)، يمكن اختصارهما في الآتي. الأولى تقول بتذمر: "كل شيء على كتافنا واحنا يللي شايلين البلد وكل مصيبة بتيجي في وشنا وعلى بقية مؤسسات ووزارات الدولة انها تشوف شغلها ومش كل حاجة إحنا (أي البوليس) يللي نتحمل مسؤوليتها"، وهو ما صرح به الكثيرون سواء على شاشات التلفاز، او الكتابات الشخصية على صفحات التواصل الاجتماعي، أو اللقاءات البحثية الميدانية، وفي بعض الكتب والمقترحات التي خرجت من النقاشات التي دارت حول إعادة هيكلة الداخلية في مصر بعد ثورة يناير 2011. تقول وجهة النظر الغالبة في "الداخلية" أن البلد يجب أن يُحكم بشكل أمني وبوليسي عميق، لأنه لو رُفعت أيدي الأمن عن الدولة والمجتمع فسوف تنهار الأوضاع..
إلا أن أصول هذا الخطاب تعود إلى ما قبل يناير بكثير، وهو خطاب إما دفاعي في كثير من الأوقات أو أنه رؤية حقيقية عند بعض العاملين بالمؤسسات الأمنية يعتبر أنه ثمة خلل كبير في بقية الأجهزة المنوط بها إدارة المجتمع والتوجهات السياسية للسلطة الحاكمة تجعل من الداخلية خصما دائما للمجتمع وعدوا أو تجعل المجتمع ساحة حرب للداخلية، وتخلق حالة من التوجس والقلق الدائمين بين الطرفين.
وجهة النظر الثانية تقول إن البلد يجب أن يُحكم بشكل أمني وبوليسي عميق، لأنه لو رُفِعت أيدي الأمن عن الدولة والمجتمع فسوف تنهار الأوضاع بشكل كلي. وغالبا ما تتسم هذه الرؤية بطابع مأساوي أقرب لتصورات نهاية العالم، بمعنى أنه بمجرد إزاحة الداخلية سيسيطر البلطجية والمجرمون والإسلاميون على المجتمع كله، وسوف يحدث اقتتال أهلي أقرب إلى حرب أهلية واسعة، وأن العائلات الكبيرة ستقاتل بعضها البعض على الارض والنفوذ والوجاهة.
وتعود أصول هذا الخطاب لما قبل الاستعمار الإنجليزي لمصر، حيث كانت رؤية محمد علي لحكم المصريين أنهم لا يصلح معهم غير "الضرب بالنبوت" مثلما تشير بعض الوثائق، تحديداً تعليماته لمشايخ القرى والضباط والمسؤولين عن الحكم اليومي للسكان. كما أن محاولاته لبناء دولة بوليسية من أجل إنشاء الجيش وتكوينه، والسيطرة على السكان وأجسادهم وعلى الموارد وتعظيمها ولّدت أشكالاً من المقاومة شديدة العنف في بعض الأوقات أو أشكالا أخرى من المقاومة السلبية تجلّت في هجر القرى الزراعية، والهرب الدائم من محل الإقامة، أو في تدمير الجسد ذاته حتى لا يكون صالحاَ لمشروعه الامبراطوري، مثل فقئ الأعين أو بتر الأعضاء كما شرح وأوضح الباحث المؤرخ خالد فهمي في مؤلفه" الجسد والحداثة - الطب والقانون في مصر الحديثة".
ولكن هذا الخطاب لم يتبلور بشكل إيديولوجي معمق وكرؤية لتصوّر مصر كبلد بشكل عام، ولم يترسخ إلاّ مع اللورد كرومر وتطور الآلة البوليسية والتشريعية في مصر. ويمكن القول إنه مؤسس خطاب الإستثناء في مصر، ليس فقط كرؤية إستشراقية للشرق "المختلف والعجيب" في كافة جوانب حياته، ولكن كرؤية للحكم والسيطرة على السكان والآليات المطلوبة لإخضاعهم وجعلهم أكثر امتثالاً للسلطة والدولة المتقدمة عليهم ككيان حداثي. وهو خطاب قائم على ثنائيات جامدة تعيد انتاج نفسها بصيغ مختلفة حسب كل عصر. فمثلاً الثنائية التي ارتكز عليها هذا الخطاب في حقبة الاستعمار كانت قائمة على الهمج والرعاع في مقابل المتحضرين والحضارة، وفي محطات أخرى أضيفت بعض العناصر إلى هذه الثنائيات مثل أن الهمج هم سكان المنطاق الشعبية والعشوائية في مصر، وهو خطاب بدأ يتجلى بوضوح أكثر بعد نهاية تسعينات القرن الفائت، حيث يرى البعض أن هذه المناطق العشوائية، وما تحمله من انهيار أخلاقي وقابلية للجريمة، تُحاصر المدينة المتحضرة التي يقطنها أبناء الطبقة الوسطى والوسطى العليا والبرجوازية في بعض المناطق. وتزامن مع ذلك وتخلله هاجس الإسلاميين والارهاب في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ثم ارتد بقوة الآن مع انفجار العنف المسلح مرة أخرى في مصر.
واستخدم خطاب الإرهاب لأول مرة بوضوح في أحد خطب عبد الناصر، بعد حادثة المنشية (إطلاق النار على رئيس مجلس الوزراء انذاك جمال عبد الناصر، في26 تشرين الاول/ أكتوبر 1954 أثناء إلقاءه خطاباً في ميدان المنشية بالإسكندرية)، حيث نعت الإخوان بالإرهاب. ومصر سبقت الخطاب العالمي حول الإرهاب الذي أنتجته الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ولحقتها الجزائر في العشرية السوداء من تسعينات القرن الفائت. وكان هذا هو خطاب مبارك المركزي طيلة عقوده الثلاثة.
ووجهة النظر هذه ــ على الرغم مما تحمله من هلوسة وهواجس ــ مبنية على واقع معايشة ميدانية ويومية للمجتمع. بمعنى ان كل عناصرها موجودة فعلاً: فالبلطجة تملأ البلد، والمناطق الشعبية من الممكن أن تدخل شوارعها في حروب مع بعضها البعض لأتفه الأسباب، والعائلات والوجهاء في بر مصر من الصعيد إلى الدلتا تتصارع بعنف على "الارض" والنفوذ. على الرغم من إخضاع البنية القانونية والقضائية للماكينة البوليسية، سواء على مستوى الممارسات أو اللغة المستخدمة أو النظرة الى المجتمع، فالداخلية دائمة التذمر من القيود التي يفرضها عليها القانون، وذلك لأنها تريد يداً مطلقة في حكم المجتمع، تعتبرها ضرورة لاستمرار ضبطه وإخضاعه وعدم انفجاره..
بالنسبة لهذه النخب، فـ"الحكم البوليسي لا حدود له" على حد تعبير ميشيل فوكو، ولا ينبغي أن يتم تحجيمه بأية حواجز قانونية أو أخلاقية إلا على ذوات محددة. وبسبب التعقيد والتطور اللذان شهدتهما البنية التشريعية والقانونية في مصر، فالحل السحري كان يكمن دائماً في فرض حالة الإستثناء أو تضمين هذه الحالة في القوانين العادية. كما أن على البنية التشريعية أن تتيح المزيد من المساحات لتوسيع رقعة الدولة البوليسية كلما استلزم الأمر، بسبب التحولات المادية الضخمة التي يشهدها المجتمع من حين إلى آخر، مثل التحول إلى العولمة، أو بعض التحديثات الصناعية وارتباطها بالعمال، أو التحولات النيوليبرالية وارتباطها بتهميش السكان من فرص العمل. وعلى الرغم من إخضاع وابتلاع البنية القانونية والقضائية في الماكينة البوليسية، سواء على مستوى الممارسات أو اللغة المستخدمة أو رؤية المجتمع، فالداخلية دائمة التذمر من القيود التي يفرضها عليها القانون، وذلك لأنها تريد يداً مطلقة في حكم المجتمع لأنها ترى ذلك ضرورة لاستمرار ضبطه وإخضاعه وعدم انفجاره.
والداخلية في مصر منذ التأسيس للحداثة، ثم في مراحل التطور المختلفة في الدولة المصرية، ظلت تتسم بطابع العسكرة. فهي تؤدي ثلاث وظائف أساسية منذ أن قام محمد علي بإعادة تشكيلها: 1- تنظيم عسكري غالب على معظم قواتها وتشكيلاتها المختلفة، 2- تنظيم إداري انتقل إلى بيروقراطية معقدة مع مر العصور، 3- تنظيم أمني منوط به فهم مستويات الجريمة الجنائية والسياسية ومراقبة المجتمع واختراقه ومهمات التفاوض والمساومة.
ويختلف هذا التقدير مع وجهة نظر الباحث خالد فهمي الذي يشير إلى أن عسكرة الداخلية بدأت بعد انقلاب 1952 وسيطرة الجيش على الحكم. ولكن تاريخياً، وإلى ويومنا هذا، لم ينتهِ الطابع العسكري عن الداخلية. فأول من انتهج فكرة إعارة قوات نظامية من الجيش إلى الداخلية لم يكن قانون السادات لسنة 1980 أو إنشاء جهاز الأمن المركزي في 1968، بل كان محمد علي نفسه. وقوات الجندرمة التي أنشأها الإنكليز هي أقرب لتشكيلات "قوات القواصة" في عهد محمد علي. فالطابع العسكري أخذ فقط أشكالاً طفيفة من التحولات وصلت نسختها الأخيرة إلى وجود جيش كامل للداخلية يسمى "الأمن المركزي". وكان يمكن للرتب العسكرية الانتقال إلى وظائف داخل البوليس مع الاحتفاظ برتبهم العسكرية نفسها.
وتحليل الطابع العسكري للداخلية لا يجب أن يرتكن أو يحيل لهيمنة الجيش أو استحواذه على مقدرات الأمور أو مركزيته، سواء مع محمد علي أو بعد انقلاب 1952، بل يجب أن يتركز على فكرة الحوكمة وفن إدارة السكان وكيف تراهم السلطة، وربط ذلك بقراءة متأنية لطبيعة البنية التحتية وعلاقات الإنتاج وأنماطه.
لماذا لا تتحقق رؤية "الانهيار الكبير"؟
تعرضت الداخلية لهزائم كبرى في التاريخ الحديث، حيث قامت الجماهير العريضة بتدمير بنيتها التحتية بعد مواجهة عنيفة وحرق الأقسام والتفوق على قوات الأمن المركزي، مثلما حدث في 1919 و1977 و2011 (للمزيد: رواية ما جرى بمصر في الأيام الحاسمة.). ومع ذلك لم ينهر المجتمع بعد هذه المعارك ،ولم تنشب حروب أهلية. ولعل أبرز مثال على ذلك هي السنوات التي تلت ثورة يناير 2011. لماذا إذاً لم يتحقق خيال النخب الأمنية؟ هناك عوامل كثيرة على المستوى الأنثربولوجي تحول دون تحقق هذا السيناريو، منها مثلاً أنه يمكن لقطاعات واسعة أن تتصارع وبشدة على أمور جلل أو تافهة، ولكن التصعيد لمستويات معينة له حسابات أخرى، ومثلما يفكر الناس في الشر يفكرون بالخير وتداعيات كلاهما على الحياة. فتصعيد الصراع لهذا الحد يعني دخول قطاعات أخرى مجهولة بالنسبة للبلطجية أنفسهم أو من الوجهاء.
ويرجع الفضل للدولة البوليسية نفسها، التي خلقت الحواجز والحدود بين الأطراف المجتمعية المختلفة وأغلقت منافذ المعرفة لفهم المجتمع في غياب معرفة حدود تلك القطاعات، وكيف يمكن أن تحشد قواها وتعبئها. فأبناء الطبقة الوسطى لا يعرفون عن "العربان" وعوالهم المختلفة والمتباينة (من الصحراء إلى الصحراء)، إلا بأنهم الغَفَرة والمستولين على الأراضي والمستخدمين للسلاح، أي أنها معرفة تستبطن بلا أدنى مبالغة التصورات والخطاب الأمني المتسللان من الإعلام والسينما.. وأبناء القبائل المختلفة في صحاري مصر، وحتى في المناطق القريبة من المدن الكبرى مثل الساحل الشمالي الذي يقع في نطاق محافظة الإسكندرية، يشكون دائماً من تنميط صورتهم وبنائها الاجتماعي على نحو مشين.
هذا لا يُنكر وقع الغَفْرة والاستيلاء على الاراضي من قبل قطاعات منهم، ولكن يجب الأخذ في الاعتبار مثلاً أن الغفرة تفرض على أصحاب القرى والممتلكات الكبيرة، وصارت عرفٌ في هذا الاقليم يقرّه الجميع بما فيهم "الداخلية" ورجال الاستثمار العقاري نتيجة لاستحواذهم على التنمية والتحكم في مصير أبناء هذا الاقليم، وبالتالي فالتعويض عن غيابهم عن عمليات التنمية جاء عبر هذا الفعل.
إعادة توزيع جزئية للثروة:
المثير في الأمر أنه بالذهاب قليلاً شرقاً، أي غرب حيز مدينة الإسكندرية نفسها مثل "الماكس" و"الدخيلة"، سنجد أنماطاً أخرى من الغفرة والبلطجة. فهذه المنطقة تحديداً هي أكثر أماكن المحافظة التي شهدت تنمية مهولة من حيث التطور الاقتصادي، فميناء الدخيلة يقع بها، وشركات الملح والبترول ومصانع الحديد والتنمية السياحية الداخلية، كما سوق العقارات الضخم. ومع ذلك فهي منطقة تعاني من بنية تحتية رثة، ومعدلات مرتفعة من الجريمة، وشبكات ضخمة من الفساد والبلطجة. ولا يمكن فهم ماذا حدث لهذه المنطقة الكبيرة دون الرجوع الى "النمو المركّب ولكن غير المتكافئ". فأغلب القطاعات السكانية تم استبعادها من أي شكل لائق من الادماج في هذا النمو. وبالتالي كان هناك ضرورة لفرض نمط آخر من إعادة توزيع الثروة على السكان، جاء عبر علاقة مزدوجة بين رأس المال والعائلات ذات القوة والشوكة في هذا المناطق، ووزع عبر خلق شبكات مختلفة تستحوذ كل واحدة منهم على خدمة محددة في هذه المنطقة. فمثلاً النقل والتفريغ يوكل لبعض العائلات، والتأمين، سواء للموظفين أو المباني لعائلات أخرى وهكذا. وبالطبع، وبسبب دخول السياحة الموسمية وسوق العقارات والصراعات اليومية شمالاً مع العرب، تشكلت شبكات أخرى لتجارة الحشيش والدعارة والبلطجة على الأراضي وللحفاظ عليها. وفي القلب من هذه الشبكات يأتي الميري.
والبوليس هنا يلعب دوراً مزدوجاً: دور المنسق والمرتِّب لهذه العلاقات ولحفظ التوازن بينها من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يقوم بقمع كل الشبكات المستقلة أو التي تخرج عن حدود دورها. ولهذا لم يكن مستغرباً أن من قام بالدفاع عن "قسم" الامن في الدخيلة، الشهير بالغلظة والقسوة ضد أهالي المنطقة (والأهالي هنا بهم قطاعات من المشاغبين والأشقياء أيضاً) هي شبكات أخرى قوية من البلطجية.
لا يعني هذا بالطبع استقرار هذه العلاقات أو أن المواقع لا تتبدل. فقد تتبدل الأمور والمواقع بسبب أمر جلل، كتغيّر مستويات معينة من التنمية داخل الحيز نفسه، أو انتقال الاستثمارات العقارية من نقطة إلى أخرى.. أو بسبب أمور أبسط مثل مشاحنات ذكورية بين أبناء عائلة وضابط المباحث، أو محاباة ضابط المباحث وتحيزه لعائلة على حساب أخرى، أو لمحاولات ابتزاز متبادلة. ولهذا فليس من العجيب الحضور المكثف للبوليس والحضور المكثف للمشاحنات والصراعات والبلطجة.
ما يمكن استخراجه مما سبق هو أن تشكل هذه الانماط والعلاقات من السلطة والجريمة والاقتصاد الخدمي ليس حكراً على منطقة بعينها. وقد يبدو أيضاً أن الهيكل العام لبنية هذه العلاقات واحد، ولكنه يأخذ أشكالاً وأنساقاً مختلفة بين حيز جغرافي وآخر، وقد تزيد أو تنقص بعض عناصره ومستويات العنف والقمع والاستقرار فيه حسب السياقات المحلية لطبيعة القوى والصراع الاجتماعي الدائر فيها.
تجهيل متبادل
وبالعودة مرة أخرى إلى سؤال الحذر والخوف الذي نجحت الداخلية في بنائه عبر قرنين من الزمن بين قطاعات المجتمع، فعرب الساحل الشمالي أنفسهم لا يعرفون كثيراً عن عالم آخر متاخم لهم وهو منطقة العامرية. فبعد الانهيار الأمني الذي صاحب الموجة الأولى من الثورة وسقوط "قسم" شرطة العامرية والإستيلاء على الذخيرة والأسلحة من القسم، قامت بعض القبائل بمواجهة سريعة وخاطفة في ليلة 28 و29 كانون الثاني/ يناير ضد بعض من أسموهم بـ"بلطجية العامرية" ونجحوا في سحب الكثير من الأسلحة منهم. وقاموا بتسليم هذه الأسلحة مرة أخرى للداخلية. وهنا يجب أن نتساءل لماذا قاموا بهذا الفعل، بالأخص إذا ما أخذنا بالاعتبار التاريخ الطويل من العداء بين أبناء هذه المنطقة والداخلية، والتنكيل والاشتباه شبه اليومي بالقطاعات الأفقر من بينهم، وحتى التحرش ببعض الوجهاء الأقل مكانة من غيرهم.
الإجابة بناء على بحث ميداني توزعت على ثلاثة أمور: 1- نحن نعرف حدود "الداخلية" وابعادها وتعايشنا معها لأزمان طويلة. 2- لا نريد أن نتورط في نزاع مسلح ضد أطراف أخرى لا نعلم حدودهم وإمكانياتهم. 3- لا نريد أن نصبح موضوع اشتباه وتنكيل عنيف عند عودة الداخلية.
وبالتوازي مع هذا الأمر، والتزاماً بمبدأ الغفرة، شكلت القبائل مجموعات مختلفة من الشباب لحماية القرى السياحية والممتلكات في هذه المنطقة. وهي نقطة فخر لأبناء الساحل الشمالي والغربي يتباهى بها الجميع هنا، وقد ظنوا أنها قادرة على تحسين صورتهم النمطية. ولكن هذا لم يحدث كما تمنوا.
إذا هناك أكثر من مستوى لفهم علاقة الدولة البوليسية بالسكان وعلاقة السكان ببعضهم البعض. فأولاً هناك حالة من التجاور الحذر أكثر منها من التعايش السلمي. ثانياً، تقوم الدولة البوليسية بدور التحجيز الاجتماعي وضمانة عدم اختلاط العوالم بالكلية. غياب معرفة السكان ببعضهم البعض كان سلاحاً ذو حدين، من ناحية هو مانع لبناء اجتماع سياسي قادر على التعايش السلمي على أسس يومية، يضبط علاقاته الصراع السياسي والاقصادي السلمي والقانون، ومن ناحية أخرى كان عاملاً دفاعياً لبناء حذر وتوجس، ولكنه منع من إمكانية التصادم المباشر وتصعيد الصراع.
مثال العامرية:
ولكن هل يعني هذا الأمر أن الاجتماع المصري لا يعرف بعضه البعض إلى هذا الحد؟ بالقطع لا. فهناك جهتان تعرفان الاجتماع المصري جيداً: الوجهاء والدولة البوليسية. ولكن هذا لا يعني بالضرورة قدرتهما المطلقة على فهمه وتحليله وإخضاعه. ولكن الإثنان يلعبان أدوار الوساطة والتفاوض وحل النزاعات بالتشارك فيما بينهما. فمثلاً أحد أعلام هذه المنطقة (العامرية تحديداً) هو الشيخ ياسر الهواري السلفي، ونفوذه وصيته يمتدد من الإسكندرية إلى حدود ليبيا. وهو شخص مركزي في أي صراع كبير أو في الجلسات العرفية في هذه الأقاليم، وله كلمة نافذة لدى المجتمعات المختلفة هنا وعند الداخلية، وهناك أشخاص آخرون بالطبع لهم مكانة قوية. وهكذا يختلط الوجهاء ومشايخ القبائل وعِمَدهم والدولة البوليسية في عمليات الضبط والسيطرة، وأضيف عليهم في العقود الأخيرة السطوة الدينية لبعض الرموز مثل الشيخ الهواري.
ولكن هذه التركيبات لم تنجح في خلق استقرار دائم أو نزع فتيل تجدد الصراعات وإنفاذ القانون. فالعامرية مثلاً هي منطقة يتجدد فيها الصراع بين الأهالي من الأقباط والمسلمين. ويشتهر عنها ممارسة الترحيل وإجلاء عائلات مسيحية بالكامل منها. كما أن تضافر هذه الشبكات لا ينجح في حماية الدولة البوليسية كل مرة، ففي مقابل الحفاظ وتأمين قسم الدخيلة، تم حرق وتدمير قسم العامرية. كما أن هذه العلاقات تحول دون تحقيق تنمية قادرة على إدماج السكان، وهي تعيد إنتاج الاقتصاد الريعي، وتفرز بالضرورة أنماطاً مشبوهة وغير قانونية لإعادة توزيع الثروة، وهو ما يتبعه إقصاء عنيف للأطراف الأضعف في معادلات الهيمنة والنفوذ.
الصعيد والنوبة
لا يختلف الأمر كثيراً إذا ما ذهبنا جنوباً إلى الصعيد والنوبة. فالتجاور لا التعايش هو الأساس، والعلاقات الزبائنية وشبكات العائلات والروابط، لا القانون والمواطنين، هم أساس المعادلة. ولكن يمكننا أن نستبدل الوجهاء بالعائلات الكبرى، والبلطجية بالروابط والأشقياء و"المطاريد" سابقاً (وربما حتى الآن في مثل حالة الاسلامبولي الأقرب إلى روبن هود صعيدي الذي ظهر بعد ثورة يناير)، والسطوة الدينية السلفية بالسطوة الصوفية. بالطبع هذا اختزال كبير في التحليل، ولكن الغرض هنا ليس تقديم تحليل مستفيض عن الصعيد –وهو إقليم متباين ومتنوع - ولكن الإشارة فحسب إلى تقارب هياكل السلطة بشكل عام وأنماطها. كما أن الصورة النمطية تتكرر ولكن باختلاف الذوات. فحتى الآن لا تعبّر السينما والمسلسلات التلفزيونية إلا عن الصعيد الغارق في براثن الثأر والسلاح.
على كل، فقطاعات واسعة من السكان، بالأخص أصحاب النفوذ والقوة تتعامل بمنطق الحكم القديم نفسه الذي أسسه الانجليز كمبداء حاكم للسلطة وهو: "دع الكلاب النائمة في سلام"، أي لا توقظ شيئاً لا تعرف أبعاده. كما أن هناك حسابات الطاقة والقوة والعَتاد. وأخيراً فالمجتمع على الرغم من انهياره في جوانب عدة فما زال به عقلاء ولهم حسابات مادية واخلاقية تحول دون وقوع هذا التصور المأساوي لحرب الكل ضد الكل... ولكن أيضاً لأن "الداخلية" هي العصب المهيمن على إيقاع الحياة اليومية، فبمعدل كل ثلاثة أو أربع عقود، ينفجر الصراع الاجتماعي والسياسي في وجهها.
تحليل الطابع العسكري للداخلية لا يجب أن يرتكز أو يحيل لهيمنة الجيش أو استحواذه على مقدرات الأمور أو مركزيته، سواء مع محمد علي أو بعد انقلاب 1952، بل على فكرة الحوكمة وفن إدارة السكان وكيف تراهم السلطة، وربط ذلك بقراءة متأنية لطبيعة البنية التحتية وعلاقات الإنتاج وأنماطه.
ومع طول الأمد، على ما يقرب من قرنين من الزمن، تشكلت في مصر دولة بوليسية كبيرة وعميقة ولديها وعي بنفسها. ولذلك فالداخلية هي فعلاً سيد البلد وليس الجيش. والداخلية تستحوذ بداخلها على عدة اشكال من الحكم والسلطة:
1. السيطرة على الجسد والمساحة وادارتهما، وهو صلب العمل الشرطي والبوليسي. ولأنها سلطة هدفها المركزي السيطرة على المساحة واخضاع كل ما بهذه المساحة لسيادتها، فالاصل في العمل الشرطي بمصر عسكري، يقوم باحتلال واستعمار الاقاليم المختلفة، ومن هنا فلا عجب إطلاقا من أن الدستور يؤكد على ان الداخلية هيئة مدنية بينما يؤكد الواقع عسكرة الداخلية. وجزء من ممارسات الداخلية اليومية هو أخذ أسرى من المجتمع والتفاوض بهم وعليهم.
2. البيروقراطية: فأغلب الجهاز البيروقراطي في مصر تابع للداخلية منذ نشأته. فمنذ تأسيس محمد علي للداخلية الحديثة في مصر، كان منوطاً بها الضبط والربط. والمقصود بالضبط هو الأعمال الإدارية والبيرواقراطية والتحقيق. والربط هو العمل العسكري والأمني الموسع.
3. والأمن أخيراً، والمعلومات والمعرفة.. ومن هذه المساحات تنفذ الداخلية إلى ما تبقى من مساحات اخرى في المجتمع مثل الإعلام والسوق والتجارة، وحتى مساحات الأيديولوجيا.
وتتفق وجهتا النظر داخل الداخلية على مبدأ انهم "أسياد البلد". ولكن وجهة النظر الثانية القائلة بضرورة الحكم البوليسي لمصر أكثر وعياً وفهماً لمتطلبات السيادة على البلد. ولذلك فأي مطالبة بتفكيك هيمنة "الداخلية" وسيطرتها على البيروقراطية تعني إنهاء سطوتها وهيمنتها على المجتمع والدولة. فالداخلية لا تعرف لا القانون ولا الحدود الفاصلة بين الخاص والعام، وهي الثنائية المؤسِّسة لوجود مجال عام يعيد رسم الحدود والعلاقة مع الدولة. فنصها المؤسس هو الاستثناء والحكم غير المحدود. وبشكل عام، فالحكم غير المحدود هو السمة الرئيسية لما يسمى بـ"الدولة البوليسية"، ذلك أنه لا يجب أن تقف بوجهه أية حواجز قانونية أو سياسية أو اجتماعية.
يعطينا اللواء محسن الفحام منحة ذهبية بنص مكتوب يقول بوضوح الكلام الذي استنتجه من سنين طويلة من العمل الميداني ودراسة الأمن في مصر. يقول التحليلات السابقة (التي استغرقت سنوات من البحث الميداني والتاريخي). يقول اللواء في مقالته كلاماً كثيراً بلا معنى وبرطانة عن نوعية "الخفافيش والمجرمين" و"إحنا ضحينا"، و"المتأمرين من قوى يناير" إلى آخره.. يقول: "عدت بالذاكرة إلى يناير 2011 وما بعدها لأرى المتآمرين والإخوان يهدمون السجون ويحرقون الاقسام ويقتحمون مقرات أمن الدولة. وبعد استيلاء الاخوان وأعوانهم على الحكم جاء من ينادي بما يسمى بإعادة هيكلة وزارة الداخلية ليقتصر دورها فقط على تنظيم المرور والتواجد بأقسام الشرطة لتحرير محاضر بالوقائع الجنائية لإحالتها للنيابة. وما دون ذلك فيتم توزيعه على الوزارات الأخرى. فشرطة السياحة على سبيل المثال تتبع وزارة السياحة، والاحوال المدنية تتبع وزارة الصحة والسكان، وتصاريح العمل تتبع وزارة القوى العاملة. وهكذا يتم تقليم أظافر الشرطة تمهيداً لخلق كيان جديد من الموالين لهؤلاء الخونة يدين بالولاء لهم، لإحكام السيطرة على مقدرات البلاد والعباد.. ولكن صمد الضباط وقادتهم أمام تلك المؤامرة، إلا القليل منهم الذي قام بإطلاق لحيته وأعلن الولاء للجماعة واتباعها."
وهنا يجب أن نعود نحن بالذاكرة ونسأل النخب المدنية والقيادات السياسية والاسلاميين وعلى رأسهم "الإخوان"، عما حدث فيما عرف بالفترة الانتقالية، ما بين 2011 و2013؟ فقد كان جزء كبيرا من إدارة البلد يتوزع بين المجلس العسكري وبين هؤلاء، كلٌ بحسب وزنه السياسي والاجتماعي. من المسؤول عن نجاح الداخلية في إعادة انتاج نفسها وعودتها بمنتهى التوحش والانتقام من المجتمع؟ وأين ذهبت مطالب الثوار باعادة هيكلة الداخلية وتفكيك هيمنتها على المجتمع؟ ما هي حقيقة الصفقة والتفاوض الذي تمّ بين المؤسسة والإخوان خلال سنة حكمهم؟ ولماذا تحالفت النخب القانونية وتواطأت على إعادة إنتاج الدولة البوليسية (راجع/ي تصريحات أحمد مكي وزير العدل المحسوب بدرجة ما على القوى الإسلامية، أو أحمد الزند المحسوب على القوى القديمة وقيادات ومستشارين أخرين)؟ ولماذا دخلت البلاد في متاهة المزيد من سنّ القوانين والتشريعات والصراع على الدستور وحوله؟
إن أهم خط من خطوط المعركة الثورية كان خط الاشتباك مع الأمن والدولة البوليسية، وكان هذا هو تقريباً عمق المعركة كلها. وهو يقود إلى سؤال المجال العام وسؤال المدينة وحيز الحركة، وتوزيع الاجساد وإدارتها، ومن له حق الاستمتاع بالمدينة، وعلاقة هذا بالتطور النيوليبرالي الذي حدث في آخر عشر سنين من حكم مبارك، والذي من خلاله نجحت الدولة البوليسية، وبقوة، في إعادة إنتاج نفسها بل وفي ترسيخ هيمنتها الى أقصى حد، بمباركة البرجوازية المصرية التي وصلت الى أدنى محطات الانحطاط والعفن.
قول أخير: إعادة هيكلة الداخلية في مصر لا يعني إعادة هيكلة هذه المؤسسة، وإنما إعادة هيكلة الحكم وانهاء الدولة البوليسية وانهاء حالة الاحتلال والاستعمار اليومي.
* باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر