يسعى الناقد الأردني في هذا البحث إلى إبراز صلة القصة القصيرة العربية المعاصرة بالتراث السردي العربي، ويتأسس على مكانة السرد العربي وتنوع أشكاله وأنواعه ووظائفه وتقنياته، كما ينطلق من أن الأنواع السردية العربية المعاصرة لم تنشأ من خلال عامل التأثر بالأدب الغربي والأجنبي وحده، وإنما استندت إلى ميراث سردي غني له مكانته ضمن تطور السرد العالمي.

التفاعل مع التراث في القصة القصيرة العربية

محمد عبيد الله

 

يسعى هذا البحث إلى إبراز صلة القصة القصيرة العربية المعاصرة بالتراث السردي العربي، ويتأسس على مكانة السرد العربي وتنوع أشكاله وأنواعه ووظائفه وتقنياته، كما ينطلق من أن الأنواع السردية العربية المعاصرة لم تنشأ من خلال عامل التأثر بالأدب الغربي والأجنبي وحده، وإنما استندت إلى ميراث سردي غني له مكانته ضمن تطور السرد العالمي. وليس هذا القول فرضا نظريا من دون دليل أو شواهد نصية، وإنما هو خلاصة أو نتيجة يمكن تبينها عبر تأمل مسيرة السرد العربي، والنظر في موقع القصة القصيرة ضمن هذه المسيرة، وكذلك يمكن تعميقه من خلال إبراز صلة قصتنا الحديثة والمعاصرة بنصوص ومكونات تراثية تبرز في كثير من نماذجها بصور شتى من التفاعل والتناص. وقد شمل هذا المنحى مسيرة القصة القصيرة الحديثة منذ بداياتها في مطلع القرن العشرين وحتى اليوم.

(1)

عندما نتحدث عن "القصة القصيرة" فإننا نعني النوع الأدبي السردي الذي عرفه الجمهور العربي في العصر الحديث منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مستفيدا في انتشاره وخصائصه من النهضة الطباعية والصحفية والتعليمية..ومن جملة الظروف التي صاحبتها، وقد تنوعت صور تلك النهضة: من المطابع إلى الصحف والمجلات ودور النشر ومؤسسات التعليم والثقافة. وفي ظلال الصحافة انتشرت القصة القصيرة في شكل نصوص قصصية قصيرة تتناسب مع متطلبات النشر ومقتضيات القراءة، إلى جانب ما تنهض به القصة من دور في نقل صور الواقع على شكل صور مكثفة ممتعة.

وقد ربط النقد العربي في نقاشه مسألة جذور القصة القصيرة ونشأتها الحديثة بين القصة القصيرة والطبقة البرجوازية، فكان ملخص الرأي عند أكثر نقادنا الأوائل أن القصة القصيرة نوع أدبي حديث استعاره العرب من الغرب، أو بتعبير أدق استعارته الطبقة البرجوازية العربية للتعبير عن هموم تلك الطبقة. وأن الصحافة –التي نشطت القصة وانتشرت بتشجيع منها وعلى صفحاتها- قد أنشأتها الطبقة ذاتها، فهي –القصة-وفق هذا المذهب "فن برجوازي" في نشأتها وفي القضايا المبكرة التي عالجتها والميول الفنية التي تبنّتها. وإذا تذكرنا أن النقد العربي الحديث –في بداياته-نقد تابع قلّد أصوله الغربية التي تأثر بها، وحاول أن يؤسس للقصة العربية تاريخا ونشأة مماثلين للقصة الغربية-إذا تذكرنا ذلك- فهمنا لم كاد النقاد الأوائل يجمعون على غلبة التأثير الغربي، وأن القصة القصيرة –وكذلك الرواية والمسرحية- من الأنواع المستعارة من ناحية الشكل بفعل الترجمة والتأثر المباشر بالأدب الأجنبي، وفي أفضل الأحوال جرى تكييفها لتتناسب مع قضايا الطبقة البرجوازية التي كتبت هذه الأنواع في مراحلها الأولى. ولقد أدى ذلك النقد التقليدي/البرجوازي وظيفته، وقال قوله وانتشر هذا القول حتى لا يكاد يخلو منه كتاب مدرسي أو جامعي في مجال التأريخ للقصة القصيرة والأنواع السردية الحديثة[1].

ولكننا مع ذلك لا نتابع ذلك النقد فيما قاله، بل نختلف معه أشد اختلاف في النظرة إلى الأنواع السردية الحديثة والمعاصرة، وفي طبيعة علاقتها بالغرب وبالتراث العربي، ونتوقف عند قبول مسألة الاستعارة من الغرب وقفة طويلة، فإن كان ذلك قد تم عند عدد من الكتاب أو عند جيل منهم، فليس يلزم هذا أن تكون القصة القصيرة أو غيرها من أجناس السرد نوعا غربيا خالصا استعرناه وكيّفناه مع حاجاتنا، بل إن القراءات الأحدث للتاريخ السردي توصلنا إلى نتائج مغايرة عما ذهب إليه نقادنا الأوائل من أمثال: محمد مندور ولويس عوض ورشاد رشدي ومحمد يوسف نجم وهاشم ياغي ومن تبعهم من التلاميذ الذين صاروا أساتذة لأجيال أخرى.

وننطلق نحن من منظور يختلف مع هذا التأكيد أو التعميم، ذلك أن لكل الطبقات مروياتها وسردها، كما أن السرد عند العرب أخذ بعدا شعبيا جعله في كثير من الأحيان ملاذا للطبقات الشعبية المتنوعة، فلكل الطبقات سردها: للبدو مجالس سمرهم وأحاديث عشياتهم، وللحضر والفلاحين رواتهم، وللمدن قصاصوها. ولكن لا يصح ربط القصة أو غيرها من ألوان السرد وأجناسه بطبقة واحدة ربما كان وجودها ودورها في المجتمع العربي أمرا مشكوكا في تقديره ومبالغا في مكانته، فليس مبدأ الطبقات على هذا النحو من السهولة واليسر.

(2)

وفي ضوء ما سبق فإن القصة القصيرة نوع سردي عالمي، ليس غربيا ولا شرقيا خالصا، ولكنه مع عالميته قابل للتلون والتكيف مع المجتمع الذي يكتب فيه، فعالميته لا تمنع من أن تكون له هوية أو هويات متعددة تبعا لتنوع الثقافة التي تنتجه، فالقول بغربيته هو امتداد للمركزية الغربية التي رعاها الاستعمار الأوروبي عندما جاء مدعيا حرصه وسعيه لتعليم العباد وإعمار البلاد، وأنه جاء بالأنوار أنوار العلم والتحديث للشعوب المظلمة، وكل ذلك جرت مراجعته والعدول عنه بعدما تعرض لنقد شديد ثقافيا وفكريا، ولكن الآراء النقدية والأدبية تأخر تصويبها تبعا لانتصار نظرية التعدد والتنوع بديلا عن النظرية المركزية.

وهذا يعني أن القصة القصيرة العربية قد استأنفت مراحل سردية جديدة، بعدما استوعبت شيئا من متغيرات الواقع والوعي والثقافة، وتكيفت مع متطلبات العصر الحديث وتحولاته المختلفة، وليس يلزم لنثبت صلتها بالتراث أن تكون مماثلة أو مطابقة للقصة "التراثية" من جميع وجوهها، فذلك أمر لم نطالب به أي نوع آخر، ولو تلفّتنا إلى النوع الشعري -على سبيل المثال- لما خالفنا أحد أنه نوع عربي قديم، وأن بدر شاكر السياب –مثلا-حلقة من حلقاته وليس بداية له، مع ما بين الشعر الحديث والشعر الحديث من اختلافات. وكذلك الأمر -في نظرنا- في حالة القصة القصيرة، فليس ما جاء به روادها المحدثون إلا استئنافا لما أبدعه الجاحظ والتوحيدي والتنوخي وغيرهم، ولكن هذا الاستئناف محكوم بعصره وبعوامل إضافية متعددة، أضفت على القصة طوابع جديدة، ولكنها في كل حال ليست نوعا خالص الجدة، وليست تقليدا لشكل غربي خالص كما شاع في كثير من أدبيات النقد العربي، فاستعارة الأشكال الأدبية مسألة معقدة، وليست بتلك السهولة التي تظهر في أقوال رواد النقد العربي ممن أوقعونا في هذه المقولة-الإشاعة التي أخرت الانتباه إلى اتصال القصة القصيرة بأصولها ومنابعها التراثية. وبعد تقرير هذه الصلة وإعادة وصل ما انقطع من حبل السرد العربي فليس هناك ما يمنع من الاهتمام بتفاعل بعض الكتاب العرب مع القصة الأجنبية (أوروبية وغير أوروبية) فذلك أمر مختلف تماما عن مسألة الاستعارة والتقليد والمحاكاة، فضلا عن أنه يقع في باب "المثاقفة السردية" ذلك الباب الواسع الذي لم يغلق في أي مرحلة من مراحل تطور القصة وتطور أنواع السرد العربي بعامة.

ولقد أدت مراجعات تاريخ القصة إلى تبين الأصول والجذور العربية التي أفادت منها القصة الغربية نفسها، وغدت جزءا من نسيج التاريخ السردي في العالم قبل ظهور قصصنا الحديث نفسه، ولكن الاعتراف بهذه الجذور وبقيمتها استلزم زمانا طويلا، ولكنه على أية حال غدا اليوم من الأفكار المطروقة غير المستنكرة، فكما يعترف بالمؤثرات المبكرة في نشأة القصة الغربية الحديثة يجري الإقرار بأصول أقدم يعود قسم صالح منها إلى التراث العربي والتراث الشرقي بعامة[2].. فالتراث العربي غني بالموروث القصص والأنواع السردية منذ العصر الجاهلي/ ما قبل الإسلام وقد تطورت القصة العربية في العصور التالية مستفيدة من جذورها الشفوية ومن تطور الثقافة الكتابية عند العرب، ومن خلال التوتر بين الشفوي والكتابي كان للقصة القصيرة العربية نماذجها الرفيعة[3]، ويكفي التذكير بنماذج معروفة مشهورة عند أعلام السرد في العصر العربي الوسيط: ابن المقفع/ الجاحظ/بديع الزمان الهمذاني/التوحيدي/ القاضي التنوخي/ وغيرهم. ولقد تعددت صور القصة من منظور الأنواع ويكفي أيضا التذكير بأسماء بعض أنواعها: كالخبر، والحكاية، والمقامة والمثل، والمنامة وتكاذيب الأعراب وغيرها. نتذكر مثلا في "الفرج بعد الشدة"[4] كيف جمع القاضي التنوخي (ت384هـ) بنية فريدة في مجلدات من القصص التي تتكون كل منها من شدة يتبعها فرج..أو أزمة تفضي إلى لحظة تنوير .. وكذلك بنية كتاب أقل شهرة هو كتاب "المكافأة وحسن العقبى" لابن الداية[5] (ت340هـ) الذي بنى معظم قصصه على بنية واضحة قصدية، تتأسس على معروف أو خير تقدمه الشخصية دون أن تنتظر جزاءه أو ثمنه.

ولسنا نهدف في هذا السياق إلى التأريخ للقصة العربية، وإنما نرمي إلى التذكير بجذور قصتنا الحديثة وأن تفاعلها مع التراث هو صورة من صور خصوصيتها وهويتها، وهو تفاعل متصل غير منقطع، وهي ابنة التراث السردي ومرحلة من مراحل السرد العربي وليست نبتا طارئا انتقل إلينا بتأثير ثقافات أخرى في العصر الحديث.

وسنقرأ في هذا البحث مراحل متتابعة من تطور القصة العربية الحديثة قراءة مغايرة نتبين فيها حضور العنصر التراثي وحضوره الفني في تلك المراحل، مما يدل على أنه عنصر أصيل حاضر في نسيج القصة العربية، وهو أمر نحسبه مهمّا وقيما، فهو يصل لونا من إبداعنا المعاصر بهويته التراثية، فيضمن الاستمرار والخصوصية للتراث وللنص المعاصر معا، كما يؤكد هذا الحضور الإبداعي للعناصر الموروثة على مبالغة نقادنا في تقدير دور القصة الأجنبية وفي التقليل من دور التراث، مما يدفعنا إلى تقرير حقيقة نصية تتمثل في أن قصّتنا المعاصرة هي استمرار لسردنا القديم، مع إضافة عناصر جديدة تقتضيها لغة العصر وأساليبه ولكنها ليست نقلا أو نسخا من ثقافات أخرى في ضوء هذه القراءة.

أما النماذج المختارة فقد وقع اختيارنا عليها في ضوء تمثيلها للصلة التي نريد إبرازها بين القصة العربية المعاصرة وأصولها ومنابعها التراثية، وتحرينا أن تتصف بسوية فنية جيدة، وأن تنتمي إلى مراحل وأجيال متنوعة من المرحلة المبكرة في بدايات القصة ومن ازدهارها عند جيل الستينات، وصولا إلى الجيل الأحدث في نهاية القرن العشرين، وأن تتوفر في كل نموذج منها صورة مختلفة تنفرد بها بحيث تمثل النماذج مجتمعة الظاهرة المدروسة. ولا يعني الاقتصار عليها أن ظاهرة التفاعل مع التراث تنحصر في هذه التجارب أو النماذج، وإنما قصدنا أن نشير إلى أنها ظاهرة واسعة تحضر بحيوية في مدونة القصة القصيرة العربية، وحسب هذا البحث أن يضيء جوانب من صور هذا التفاعل عند مجموعة ممثلة من أبرز كتاب القصة العربية المعاصرة.

(3) مرحلة البدايات: محمود طاهر لاشين: يحكى أن

يلاحظ المتابع لمسيرة القصة العربية أن التفاعل مع التراث السردي ومع التراث بعامة، قد رافق القصة القصيرة المعاصرة منذ بدايات مرحلتها الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتبدو آثار ذلك التفاعل وأماراته في ثقافة القصاصين الرواد وفي تكوينهم الثقافي[6]، وتمتد آثار التفاعل إلى النصوص القصصية نفسها، وأية مراجعة لتلك البدايات ستقف عند الأسلوب التراثي لعبد الله النديم (1854-1896) الذي اجتهد في "تجديد شكل المقامة وتوسيع نطاقها"[7] ويسلك في الاتجاه نفسه: محمد المويلحي ومحمد لطفي جمعة وآخرون ممن مزجوا ثقافتهم التراثية بمتطلبات القص الحديث، وكان لشكل المقامة العربية على وجه الخصوص حضور قوي في كتاباتهم، وهو ما يؤكد تأثير الأنواع السردية العربية وتأثير الموروث بعامة في توجيه التطور الحديث للقصة القصيرة ولغيرها من الأنواع السردية الحديثة، وأنها لم تنشأ بسبب من التأثير الأجنبي وحده[8].

ولعل مجموعة الكاتب المصري محمود طاهر لاشين (1895-1954م) التي تحمل عنوان (يحكى أن) 1929 في مقدمة الكتابات القصصية التي تكشف عن عمق التفاعل مع التراث السردي والوعي الفني بأهمية تطويره ودمجه بأساليب السرد الحديث لإنتاج نوع قصصي جديد لا يقلد النوع التراثي تقليدا ساذجا، ولا ينسخ النوع الغربي نسخا أعمى. بل الأهم من ذلك مقدرة النوع السردي على التعبير عن رؤية الكاتب وهموم الواقع، ولذلك تم السعي لتكييف الأساليب السردية المختلفة مع حاجات المبدع العربي والقارئ العربي، وهذا ما أسهم في انتشار القصة القصيرة وغيرها من أنواع السرد لمقدرتها التعبيرية عن عصرها وارتباطها بثقافة كاتبها وقارئها وبهموم هذين الطرفين: المنتج والمستقبل، فليست المسألة مسألة تقليد أو استنساخ حرفي سواء باتجاه التراث القديم أو المرجع الغربي الحديث.

سمى محمود طاهر لاشين مجموعته القصصية (يحكى أن) مستخدما هذه العبارة السردية المشهورة التي تتأسس على فعل "الحكي" بصيغة البناء للمجهول، وهي صيغة متكررة أو نمطية تمثل مفتتحا معروفا في المرويات السردية التراثية، وترد في نص قصصي معروف هو (كليلة ودمنة) مقرونة بتلك القصص الرمزية التمثيلية التي تجعل من عالم الطير والحيوان عالما موازيا يمكن تمثيل العالم الإنساني من خلاله. وتنطوي استعارة هذه اللازمة السردية عنوانا للمجموعة (وليس في ثناياها وبين سطورها فحسب) على علامة الاهتمام بالسرد التراثي وعلى عمق الصلة به وتقديره. لقد وظف لاشين هذا المفتتح في العنونة –كما أشرنا- وفي ذلك أيضا نمط من التعاقد مع القارئ الذي يشترك مع الكاتب في الاتصال بالتراث، في كليلة ودمنة أو غيرها مما ينتمي إلى صيغة (يحكى أن) وبهذا المعنى تغدو هذه العبارة علامة قرائية توجه التلقي وتقارب بين الكاتب والقارئ عبر التذكير بالمرجعية المشتركة غير الغريبة عن ثقافة القارئ.

وأما داخل المتن القصصي فقد ظهرت لازمة (يحكى أن) إطارا للقصة التي تحمل العنوان نفسه، وهي تبدأ على النحو الآتي:

"يحكى أن غزالا عطش مرة فورد عين ماء في بئر عميقة ليشرب منها، فلما شرب حاول الطلوع فلم يقدر، فنظر إليه ثعلب من فوهة البئر وقال له: لماذا لم تتبصر في الطلوع قبل ورود الماء!...وماذا بعد؟ أما بعد فإن الآنسة نعمات رأفت لا تصحو من نومها قبل الساعة التاسعة صباحا،..." [9].

وهو مفتتح مأخوذ عن إحدى حكايات الحيوان عند العرب ونصها: "غزال عطش مرة فجاء إلى عين ماء يشرب وكان الماء في جب عميق، ثم أنه لما حاول الطلوع لم يقدر فنظره الثعلب فقال له: يا أخي أسأت في فعلك، إذ لم تميز طلوعك قبل نزولك"[10].

ويستخدم لاشين العبارة العربية الشهيرة "أما بعد" في الانتقال أو التخلص من المقدمة الإطارية إلى القصة التي تتعلق بالآنسة نعمات فؤاد، فتاة غنية في الثانية والعشرين من عمرها، ترفض الخاطبين لأنها متعلقة بشاب عابث تحبه، وهو لا يستطيع خطبتها لمشاكل قديمة بين أسرتيهما، حبهما أقرب للحب العابث المادي، ويفضي بهما إلى أن تتزوج نعمات من شاب أو رجل آخر هو مبروك أفندي درويش، وتصور القصة نعمات في مخادعتها لزوجها واستمرار علاقتها مع عشيقها في بيت الزوج المغفل، وتنعطف في النهاية بعد تقديم صور متنوعة تكشف أساليب خداعها، وعبثها بالزوج والزواج نحو حكاية البداية لينغلق الإطار مجددا: "وماذا بعد؟ فنظر إليه ثعلب من فوهة البئر وقال له: لماذا لم تتبصر في الطلوع قبل ورود الماء؟"[11].

السمة التراثية في هذا المثال تؤدي أكثر من وظيفة، فهي تضفي على القصة فنيا ودلاليا طابع القصة الإطارية الذي يعد طابعا عربيا مميزا انتقل إلى القصة العالمية بتأثير من المقامات العربية وألف ليلة وليلة وغيرها من الأعمال المشهورة التي رسخته. وأيضا تمنح هذه الالتفاتة التراثية تنويعا على القصة حيث تعددت مستوياتها اللغوية والحكائية بين اللغة الفصيحة البسيطة، واللهجة المصرية، والمستوى التراثي. ولا تخلو القصة من البعد الساخر الذي اغتنى بالتداخل بين الحكاية التراثية وحكاية "نعمات فؤاد" بطلة القصة، مما أغنى تعدد اللغات والأصوات، وأضفى على التعبير الإجمالي طابع الحيوية والتنوع.

المثال الثاني من قصص طاهر لاشين هو قصته الأخيرة في المجموعة نفسها، وهي قصة جعل عنوانها: (مذكرات سيدنا نوح) وتبنى القصة فنيا على اليوميات المعنونة باسم اليوم: السبت، الإثنين، الثلاثاء...وعلى فرضية فنية تصور نوحا يكتب مذكراته، كأن النص المكتوب تحت أسماء الأيام هو نص يومياته، سجلها هو وجاء الراوي/الناقل وحققها أو قرأها. وتعتمد اليوميات على أطراف من أخبار مختارة من قصة الطوفان الشهيرة التي جاءت مروية في القرآن الكريم وأبدع القصاصون والمفسرون العرب في إشباعها والتنويع عليها متأثرين بالمرويات السردية الأخرى لها في التوراة والإنجيل والقصص المتأثرة بهما. ويلفتنا عند لاشين في تجديد هذه القصة على شكل يوميات سعيه لأن تكون القصة معاصرة في دلالاتها رغم محتواها التراثي القديم، وهي إجمالا تشير إلى عمق صلة القصاص العربي بالتراث القديم واتخاذه مصدرا من مصادره السردية مادة وأسلوبا ومحتوى.

كما يستخدم لاشين مصطلح "الناقل" كتسمية لما يشيع اليوم باسم الراوي أو السارد، وهو يعطي الناقل وظيفة سردية تغني أساليب السرد وتعمق تركيب القصة، وكذلك يستخدم فكرة المخطوط، إذ يورد فقرة مفككة، ثم يتظاهر الناقل بتحقيقها ومحاولة قراءتها، ويكتب بعد الفقرة المفككة: "هذا الجزء غير واضح في الأصل إذ قد أكله البلى وأغلب الظن أنه يقول: وكنت دائم التفكير في أمر هذه السفينة لإخراجها على الوجه الأكمل، لذلك أجريت بضع تجارب لأرى ماذا يكون تأثر ثقلها، حيث....(الناقل)"[12]. ومن البين أن الكاتب قد عدل عن مصطلح (الراوي) وهو مصطلح عربي قديم يدل على الشخص الذي يحمل أو ينقل مادة مروية سردية كانت أو غير سردية إلى مصطلح عربي آخر استعمل بدرجة أقل من شيوع لفظة (الراوي). والناقل عند العرب هو من ينقل الخبر أو الرواية أو الحديث أيضا[13].

وربما تكون قصة لاشين هذه في استعادة نوح ويومياته على هذا النحو الفني الواعي أول قصة قصيرة تستخدم هذا النموذج وربما كان لها ولما يماثلها تأثير في الأجيال التالية ممن لجأوا للقصة نفسها أو لقصص أخرى من القصص الديني أو التراثي بعامة.

وتتراءى صور تراثية ضمنية وصريحة في قصص: حديث القرية، قصة عفريت، ماذا يقول الودع، وغيرها، في لغة القصص وفي بعض الأساليب التي تصرف فيها الكاتب وكيفها مع قصصه. ومما يحسن الإشارة إليها ما عمد إليه طاهر لاشين في (قصة عفريت) من كسر استقلال القصة وموضوعيتها مما كان القصاصون يحرصون عليه آنذاك، تبعا لاشتراطات بعض مدارس القصة الأوروبية، كسر الكاتب استقلال القصة عن كاتبها وبدا سباقا إلى مخاطبة القارئ صراحة بأسلوب لا يخلو من نبرة ساخرة، ويذكر هذا الأسلوب بتلك الصلة المباشرة التي أسسها السرد العربي الشفوي بين الراوي/القاص والمتلقي، ثم انتقلت إلى نماذج من الرسائل القصصية التي تحرص على تخيل قارئ تتوجه إليه على نحو صريح. وقد بدأت القصة على النحو الآتي:

"-هل رأيت عفريتا..أيها القارئ؟

-لا

-هل حدثت لك حادثة مع عفريت دون أن تراه..أيها القارئ؟

- لا..لا..

-هل تعتقد في وجود العفاريت مطلقا..أيها القارئ؟

-لا..لا..لا..

(بردون) أيها القارئ! أنت بلا شك كامل العقل، قوي النفس. وأنا كنت مثلك إلى عهد غير بعيد"[14]. ففي القصة هذا الأسلوب الخفيف البعيد عن الثقل عبر بناء صلة مع القارئ، وفيها ملامح من الموروث الشعبي بأسلوب ساخر مما يصعب فهمه بعيدا عن تفاعل الكاتب مع التراث بصوره المختلفة.

(4) زكريا تامر: الشخصيات التراثية أقنعة لنقد الواقع

ولو انتقلنا إلى جيل الستينيات لوجدنا ما نطلبه من تأثيرات تراثية ماثل في تجارب كثيرة تقف في مقدمتها تجربة الكاتب السوري زكريا تامر (ولد عام 1931م) الذي أسهم في تطوير توظيف السرد القديم شخصيات وأنواعا ولغة، مع إيجاد نموذج فني لافت في تحديث التراث، ومنحه دلالات معاصرة، فالتراث في هذه الحالة مادة سردية تستخدم لصالح الواقع الحاضر ونقده ومحاورته وليست الغاية الاستغراق في الماضي أو الارتحال عن الحاضر.

ولو أردنا أن نجد دلالة كلية في عمل تامر لقلنا بأنه يستعين بمجموعة الشخصيات والحكايات التراثية لنقد الواقع العربي المعاصر في جوانبه السياسية والاجتماعية وفي معالجة قضية التحرر بأبعادها المختلفة، ولذلك فالنماذج التراثية التي بنى عليها طائفة كبيرة من قصصه هي رموز وأقنعة، لا يجهد الكاتب نفسه في تخبئتها أو تعقيدها، بل ربما كان لجوؤه لها بسبب الرقابة العربية وعدم تمكن الكاتب العربي آنذاك من قول ما يريد على نحو واضح صريح، فكان الرمز مسوغا بالمنع وبمحظورات السياسة والمجتمع، ولكنه في الآن نفسه فتح للكاتب بوابة الرمز ودفعه للبحث عن التعبير الموارب الذي يبدو من الناحية الفنية والجمالية أعمق من المباشرة والصراحة.

أما الأسلوب السردي فمزيج من الأساليب العربية القديمة والأساليب الحديثة، أي بما يتناسب مع الحاجة إلى تحديث نموذج أو مثال قديم، وكثيرا ما تكون المفارقة والمحاكاة الساخرة وآليات الكتابة الساخرة إجمالا من العناصر البارزة التي تحضر في تلك القصص.

يختار تامر تلك الشخصيات من التراث والتاريخ لكنه يضعها في حياة معاصرة أو سياق معاصر، فليس هدف السرد تاريخيا وإنما هو ينقل تلك النماذج من الماضي إلى الحاضر لتؤدي معنى يريده، وهو معنى لا يبعد عن جملة المشاغل التي عبر عنها كتاب الستينيات إجمالا لكن تامر اختار سبيلا أقرب للتعبيرية والرمز مقابل الاتجاه الواقعي الذي توسع بتنويعات كثيرة في تلك الفترة.

وقد بدا هذا المنحى في مجموعات تامر المختلفة، ولكنه قد يكون أظهر وأوضح في: "ربيع في الرماد" و "الرعد" و"نداء نوح" و"دمشق الحرائق" ففي هذه المجموعات نقرأ قصصا كثيرة تستخدم تلك المادة التراثية، بأنماطها المختلفة. ومن الشخصيات التي تفاعلت معها قصصه –على سبيل المثال- شخصيات: جنكيز خان، طارق بن زياد، ابن المقفع، عنترة وعبلة، السندباد، هولاكو، جنكيز خان، كافور الإخشيدي، المتنبي، عباس بن فرناس، جحا، شهريار وشهرزاد، الشنفرى، هارون الرشيد والأمين والمأمون.....

وإضافة إليها يمكن أن نلتفت إلى تفاعل قصص أخرى مع ما يسمى بالقصص الحيواني كقصص كليلة ودمنة مثلا، ونسج قصة معاصرة اعتمادا على شخصيات حيوانية دون أن يخفى البعد الرمزي من إنطاقها بكلام البشر. وكذلك هناك قصص أخرى تنطق فيها مكونات الطبيعة كالماء والجبل والشجرة وغير ذلك، ومبدأ إنطاق الطبيعة وتحويل مفرداتها إلى شخصيات قصصية من التقنيات السردية الواضحة في السرد العربي والإسلامي القديم.

واستجابة لطبيعة الرؤية الفنية التحررية عند تامر وطبيعة الوظيفة التي يسندها في ضوء ذلك للمادة التراثية المستعادة، فإن الكاتب كثيرا ما يتحرر من الحكايات الأصلية لتلك الشخصيات ويؤلف لها مواقف وتواريخ جديدة، يدخل المتخيل في نسجها إضافة وتحويرا وتأليفا، وأحيانا لا يتبقى من الشخصية إلا اسمها وبعض معالمها الأساسية، وما عدا ذلك من إضافات الكاتب مستهديا بحكاياتها القديمة لينسج على مثالها أو من جنسها بما يتواءم مع الدلالة المطلوبة. وفي مثل هذا الحال لا نكون مع "استعادة تراثية" وإنما أقرب إلى تحليل التراث وتفكيكه وإعادة النظر في مضمونه ومعناه، دون خوف أو تقديس أو مجانبة.

ولإيضاح ما ذكرناه مجملا يمكن النظر في قصة (الذي أحرق السفن)[15] حيث يستعيد فيها شخصية (طارق بن زياد) مثال البطل الذي قاد الجيوش وفتح الأندلس، ولكن "البطل" يهان ويحقق معه ويمحى دوره في عصرنا الذي لا يعترف بالأبطال بل تقصد "السلطة" إيذاءهم وتحجيمهم. طارق بن زياد في مثل هذه القصة "رمز"وليس شخصية تاريخية يستعيدها الكاتب، وهي موظفة في سياق نقد الواقع السلطوي المستبد المتخلف.

في قصة (عبد الله بن المقفع الثالث)[16] نجد أصداء لقصة ابن المقفع مع الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، ولكن الكاتب يكتفي منها بثنائية (المثقف والسلطة) ويغدو ابن المقفع مثالا للمثقف ورمزا له في موقفه من السلطة وموقفها منه، إنه ليس ابن المقفع الذي ادعت الكتب أنه تزندق وقتل بسبب الزندقة، بل هو مثقف معارض له خطابه المستقل الذي فاوضته السلطة على تغييره بما يناسبها وما يتماهى مع خطابها.

تتبنى القصة منظورا نقديا للتراث السلطوي، وكأنها تنقد الماضي والحاضر معا فليس المقصود من ذكر المنصور التحديد التاريخي وإنما هو رمز للسلطة ومثال من أمثلتها وكذلك ابن المقفع فليس هو المثقف والكاتب التاريخي وحده، وإنما هو المثقف المضطهد الملاحق في أي زمان ومكان. تنطوي هذه الرؤية والمعالجة على ما يمكن تسميته بـ "التجريد السردي" أي تخفيف التفاصيل والأخبار التاريخية وشبه التاريخية واختصارها إلى الجوهر أو الملامح الجوهرية التي تحولنا وتنقلنا من التاريخي واليومي الزائل إلى المعنى الأبدي الباقي. وهي وظيفة كبرى من وظائف الأدب والإبداع وسبب أساسي من أسباب خلوده وبقائه.

ومثال آخر من تامر في قصة (يحكى عن عباس بن فرناس)[17]، وقسمها الكاتب إلى حكايتين، تبدأ كل منهما بجملة "يحكى أن عباس بن فرناس...." وتسيطر بنية الحكاية قصديا على السرد، مستحضرة أساليب السرد الحكائي وآليات صياغته، مع تحوير قصة عباس بن فرناس الأديب والعالم الأندلسي المشهور، والإفادة من فكرة الطيران المرتبطة بشخصيته، إذ تبدو (موتيفا) ومحركا رئيسيا في القصة التاريخية، مما يغري الكاتب (تامر) بإعادة تمثيلها وتسريدها من جديد ليضخ فيها دلالات مطلوبة في اللحظة الراهنة أو الحديثة. في قصة تامر يمثل ابن فرناس أمام "الملك" فيحقق معه عما بلغه من محاولته تقليد الطيور وصناعة ثوب يساعده على ذلك وتأخذ القصة دلالة سياسية عبر ما يكشف عنه الحوار بين ابن فرناس/المثقف والملك/السلطة. أي أن الكاتب يعمد إلى تقديم قصة أخرى ورواية أخرى لما يروى عن عباس بن فرناس بغية أداء المعنى السياسي الذي يريده.

"-الملك: أنت تريد أن تطير هربا مما تدعي أنه ظلمي وجوري وبطشي واستبدادي.

-عباس بن فرناس: يخيل إلي أن خصوما لي يحسدونني قد لفقوا هذه الادعاءات ونسبوها لي ليغضب مولاي علي.

-الملك: إذا كنت تصر على الإنكار والمكابرة فلتعلم أن لدي تسجيلات بصوتك، وتتضمن كل كلمة قلتها، فهل تبغي سماعها كي تكف عن التظاهر بالبراءة"[18]. ونلاحظ في هذا الحوار الاستخدام الحر للشخصية والتوجيه الفني لها من خلال حرية التفاعل معها وعدم تقديس حكايتها الأصلية، بل يتعامل معها الكاتب كأنها شخصية من صنعه هو يستطيع أن يحذف منها ويضيف إليها كما يشاء دون أن يحدد نفسه بمحتواها التراثي أو التاريخي.

وتنتهي القصة الجديدة بقتل عباس بن فرناس أو إعدامه من خلال إلقائه من أعلى قمة في البلاد ليطير كما يحلو له، في صورة عقاب يدين السلطة السياسية ويكشف عن عنفها وقسوتها تجاه المثقف والمفكر، أي أن القصة الجديدة تقدم نهاية مغايرة لما جاء في المصادر التاريخية التي نقلت حكاية ابن فرناس وأنه سقط من تلقاء نفسه.

(5) يحيى الطاهر عبد الله: تقنيات السرد الشفوي

قصص يحيى الطاهر عبد الله (1938-1981م) في (حكايات للأمير حتى ينام)[19] تبدع طريقتها الخاصة عبر الاتكاء العميق على تقنيات السرد الشفوي وأساليب الحكاية الشعبية الشفوية، وهي تعيدنا إلى نمط بارز من أنماط السرد العربي يتمثل في أنه نشأ شفويا واكتسب معظم خصائصه المبكرة من أنه فن قول وكلام وحكي وليس فن كتابة وتأمل ومراجعة. وأول المظاهر الشفوية أن الراوي عند يحيى الطاهر عبد الله راو يسرد القصص شفويا للمتلقي الافتراضي (الأمير)، ولا يخفي سرده الشفوي بل يؤكد مظاهره في النص المكتوب.

ولو تأملنا قصته أو حكايته الأولى في (حكايات للأمير) وهي المعنونة بـ (من الزرقة الداكنة حكاية) لوجدناها مثالا لطريقته الفنية ولما أراده من إكساب القصة هويتها التراثية الشعبية. تبدأ هذه الحكاية بمقدمة أو صيغة افتتاحية على نحو ما يبدأ الحكواتي أو القصاص الشعبي الشفوي، إذ يفتتح قصته بالتحميد الذي يستند إلى التراث الشفوي العربي سردا ومشافهة: "الحمد لله الذي لم يسلبني كل نعمة فمنحني نعمة الخيال..والصلاة والسلام على النبي الذي أجار غزالة البر لمّا استجارت به من صاحبها اللئيم..والثناء الثناء عليك أميري..أقول:"[20]. الراوي هنا كأنه قصاص سمر، على نحو ما كان عبيد بن شرية يروي أحاديثه وأخباره ليلا لمعاوية بن أبي سفيان. يفتتح حديث سمره بالتحميد والصلاة على النبي، ثم يرسل التماعة سردية سريعة عبر الإشارة الخاطفة إلى غزالة البر، وهي إشارة سردية تدلنا أن الراوي لا يبعد عن ثقافته السردية في نظرته للنبي صلى الله عليه وسلم وكلامه عنه.

وبعد هذا المفتتح ، يتطور السرد من خلال الانتقال إلى صيغة الفعل السردي (أقول) وتظهر بشكل بارز وفي سطر مستقل كعنوان، وتتكرر بالاستخدام نفسه خمس مرات، لتذكرنا دوما بحضور الصوت وليس القلم أو الحرف المطبوع، إنها صيغة شفوية أساسية ولازمة نمطية تنظّم المسرود شفويا وتثبّت المنبع الشفوي لقصص يحيى الطاهر عبد الله، وتنتصب فقرة بعد فقرة لتمنع تشكل تأثيرات المكتوب أو المطبوع، لنظل مع صوت الراوي/القصاص الشعبي، أو السارد الشفوي الذي لا يفصله حاجز عن المستمع أو المستمعين.

وتنتهي القصة بخاتمة تغلق المقدمة التي بدأت بها القصة، "بعد الثناء عليك أميري والصلاة على النبي-لله الحمد على هذه الخاتمة الحسنة". وكأن المقدمة والخاتمة إطار يحيط بالحكاية ويشكل مع صيغة (أقول) الشفوية علامات الحكي والسرد الشفوي، وخصائص الحكاية الإطارية التي امتاز بها السرد العربي. وفي هذه العبارات والتقدمات والخواتيم حضور للراوي وللمروي له (الأمير)، وكذلك إتمام مستلزمات السرد الشفوي ومطالبه.

وتظهر السمات الشفوية بتنويعات أخرى في "حكاية عبد الحليم أفندي وما جرى له مع المرأة الخرقاء" فالعنونة عنونة تراثية، تشبه ما نقرأه في ألف ليلة وفي الحكايات الشعبية، وتبدأ بحضور صوت الراوي الشفوي "أنا لم أشهد تلك الأيام لكني حضرت ليلة أحياها الثلاثة، ثلاثة من أفضل الرواة-يا أميري. خطفهم الموت الظالم –في عام واحد عليهم رحمة الله، لقد كانت خسارتنا فيهم كبيرة". فالراوي هنا يكشف أولا عن مصدر حكايته التي انتقلت إليه سماعا (الرواية السماعية الشفوية) ومصدرها ثلاثة من الرواة يعرّف بهم باختصار، ويلفتنا أنهم جميعا يعانون من عاهات: "أكتع يدق على عود، فيبكي وتر ويضحك وتر..وأخرس يرسم الدنيا بالصرخة والإشارة دنيا ببحر وشجر وناس. أما الأهتم فكان ضارب دف لا نظير له..بعدما أكلوا الأكلة الدسمة وشربوا وشموا صرخ الأخرس فدق الأكتع على عوده، وضرب الأهتم على دفه ذلك الضرب المسمى بالقادوس وقالوا.."[21].

صورة القصاصين أو الرواة هنا تذكرنا بما أثبته الجاحظ من خصائص أو صفات مشابهة لبعض قصاصي عصره ممن امتهنوا القص في حلقات أقبل الناس عليها أكثر من إقبالهم على حلقات العلماء والفقهاء الجادين. يقول: "من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى ويكون شيخا بعيد مدى الصوت"[22].

وتظهر في النص المكتوب عبارات تنظم السرد وتذكر بأصله الشفوي ومنها:

  • خلاصة القول يا إخوان....
  • صلوا على طه النبي..
  • وهكذا يا إخوان...
  • وهكذا يا سادة..
  • لا غرابة، ولا حسد يا إخوان ولكنها الحقيقة نحكيها كما جرت بغير زيادة ولا نقصان:
  • مع هؤلاء يا مستمع، عاش عبد الحليم أفندي....

وتختتم الحكاية بصوت الراوي الوسيط أو الأخير الذي أخذ أحاديثه عن الرواة الثلاثة ثم رواها من جديد لأميره ليؤكد حضوره هو الآخر بعدما تظاهر بالأمانة في نقل الحكاية عن مصادرها.

"تلك هي حكاية عبد الحليم أفندي مع المرأة الخرقاء رويتها لك يا أميري كما سمعتها من الرواة الثلاثة، أنا الذي لم أشهد زمانه، والله على صدق ما رويت لك، يا أمير، شهيد".

كما يمكن أن نلاحظ العبارات المنظمة للسرد التي تذكر بوجود الراوي والمروي له، كركنين أساسيين في السرد الشفوي من قصة (حكاية بزخارف)[23]: أول ذلك تكرار صيغة الخطاب (يا أميري) التي تتكرر في مختلف حكايات الكتاب وقصصه لتذكرنا بالموقف الشفوي وبوجود الراوي (المتكلم) والمروي له (السامع). ففي البداية "كان أبوه يملح اللفت ويلوّنه بزهر العصفر ويبيعه، تلك أميري أول ضربة على قفا عباس من دنيا ظالمة بنت كلب والتي واصلت الضرب بغير رحمة".

-وفي موقع آخر: ذلك ما حدث يا أميري ولك أن تصدقني ولك أن تتعجب، لكنها دنيا بنت هوى تدير ظهرها لسنين ثم تقبل بوجه ضاحك وجيد مثقل بالأجراس".

-وفي انتقال آخر: "هنا أميري دعني أحكي لك حكاية فيلم شافه عباس تسع مرات وأعجب به الإعجاب كله". ولنا أن نلاحظ أن اللغة تختار التعبيرات والمفردات والأساليب الشفوية وكأنها تقيد الكلام المنطوق وتسجله على نحو دقيق.

وعندما ينتهي إلى مصير الشخصية يعلق في الختام تعليقا ختاميا يظهر موقف الراوي مما يرويه على طريقة السرد الشفوي: "نعم –لا أنت ولا حتى أنا كنت أتوقع تلك النهاية الظالمة لعباس يا أميري"[24].

وفي (حكاية الصعيدي الذي هده التعب فنام تحت حائط الجامع القديم)[25] نلاحظ العنوان الطويل المتأثر بعناوين الحكايات العربية الشعبية، وإضافة إلى حضور معظم الخصائص التي أشرنا إليها باختصار فيما مضى يضيف هنا وجود الجنية التي تكثر في مثل هذه الحكايات منذ القديم، "صحا على صرخة. فوجدها فوق رأسه تبكي تلبس الأسود وتحمل بين يديها طفلا ميتا. قالت: يا فلان يا ابن فلان هل ضاقت بك الدنيا الواسعة فلم تجد غير هذا المكان تزاحمنا فيه أنا وأولادي..لقد قتلت ابني يا قليل النظر..وحتى يخف حزني على ولدي عليك أن تبارح بيوتنا قبل أن يدركك صبح. لت الصعيدي في الكلام وعجن وقال: أتيت إلى المكان ولم يكن غيري، فصرخت فيه: لو لم أكن جنية مؤمنة بنت جني مؤمن لركبت كتفيك عامين قمريين كما تركب الدواب يا دابة". ولا تخفى النبرة الشعبية وما تحيل إليه من نبرة الكلام المحكي (لت الصعيدي في الكلام وعجن) وكذلك السخرية المتفجرة من لغة الشتيمة ومن الصورة المضحكة في نهاية الفقرة، بما يشهد على أسلوب شعبي لا يمكن فهمه بأدوات القصة الغربية أو اشتراطاتها المغايرة.

كما نتبنى ما أشار إليه سيد بحراوي من سمة إيقاعية في هذه المجموعة تؤكد الخاصية الشفوية في (حكايات للأمير) وهي التي يوضحها بحراوي بقوله:"تلتقي هذه المجموعة مع الحكايات الشعبية في طبيعة اللغة التي تستعملها والتي تتميز بأنها لغة منطوقة مسموعة، وليست مكتوبة، ويتحقق ذلك من خلال استخدام الإيقاعات الحادة الناتجة عن كثرة الأصوات المجهورة التي تبرز في السمع أكثر من الأصوات المهموسة"[26]. ويقترن بالناحية الإيقاعية ما تكرر ذكره في أخبار يحيى الطاهر عبد الله من أنه كان يحفظ قصصه غيبا عن ظهر قلب، ويقرأها لمن يطلب منه قصة أو مثالا من كتابته، وقد تواردت أخبار متعددة عمن عرفوه في عمره القصير مضمونها طريقة إلقائه وحفظه لقصصه[27]، وهي مسألة لا تعبر عن تعلقه بالقصة القصيرة والإخلاص لها فحسب، وإنما في تضمين صورته ووظيفته صورة القاص/الراوي الشعبي الذي كان يؤدي القصص ولا يكتبها، وكل ذلك يدلنا على الهوية الخاصة لقصص يحيى الطاهر عبد الله وما انطوت عليه من فرادة مردها هذا الاندماج بالقصة العربية والشعبية بكل ما فيها من أصول شفاهية تفرقها عن القصة الأوروبية المكتوبة في عصرنا.

(6) جمال أبو حمدان: التراث والتعبير الفكري

وإذا كان زكريا تامر قد لجأ للأقنعة التراثية ليعبر عن جملة المشكلات التحررية والسياسية والاجتماعية وعن أسئلة النصف الثاني من القرن العشرين أسئلة الهزيمة والنهوض والحرية والقمع والحرية السياسية والاجتماعية، فإن كاتبا آخر هو جمال أبو حمدان (ولد عام 1944م) قد كتب قصصا تشترك مع قصص تامر في شعريتها وفي تصرفها بالمرجع التراثي، ولكنه افترق عنه في المعنى أو وظيفة التعبير. وغالبا عبر أبو حمدان عن هواجس فكرية وإنسانية أكثر منها "واقعية" أي أن الشخصية التراثية عند جمال أبو حمدان لا ترتبط بهويتها أو دلالتها العربية الواقعية، كما عند تامر، بل ترتبط بمعناها الوجودي والإنساني العام، والمسافة بينهما هي ما يمكن أن يلاحظ من فرق في المعنى بين الحرية السياسية في بلد أو وطن محدد وبين المعنى الفلسفي للحرية كواحدة من أسئلة الإنسان بشكل عام.

ومن أمثلة القصص التي تغذت على المادة التراثية في إنتاج جمال أبو حمدان الأمثلة التالية:

  • من هنا طريق قيس[28]: وتستعيد قصة قيس وليلى قصة الحب الشهيرة في التراث العربي.
  • أبو ذر الغفاري[29]: تستعيد شخصية الصحابي المعروف بهذا الاسم الذي صار رمزا لنصرة الفقراء ولمعارضة السلطة حتى لقي الأذى والنفي.
  • زرقاء اليمامة[30]: بطلة قصة قديمة تختلط فيها الأسطورة بالتاريخ، وهي مثال القدرة على الإبصار، ويتردد ذكرها في الأمثال العربية وقصصها وترتبط بالمثل الشائع: أبصر من الزرقاء أو زرقاء اليمامة.
  • أحلام عروة بن الورد[31]: وتستعيد شخصية الشاعر الجاهلي الصعلوك عروة بن الورد برمزيته الرافضة المتمردة.
  • علاء الدين والمصباح السحري: تسترجع واحدة من القصص الشائعة وهي من قصص ألف ليلة وليلة في الأصل.
  • يوم دفن الملك المنذر بن ماء السماء[32]: وتستعيد قصة أحد ملوك العرب قبل الإسلام من ملوك إمارة الغساسنة في بلاد الشام.
  • كشف التباريح في ذكر المفاتيح[33]: وهي لا تستعيد قصة أو شخصية، وإنما تحقق المناخ التراثي من ناحية أنها قصة مخطوط عربي يشتريه الراوي مصادفة ثم يتعلق بغوامضه ويحاول فك مغاليقه وغرائبه.

في قصة (من هنا طريق قيس) يلجأ أبو حمدان إلى مبدأ التناسخ والولادات المتكررة كتفسير لظهور قيس الجديد ، وهو يضعه بين زمنين ومكانين، الماضي/ الصحراء حيث ولدت قصته الأولى، والحاضر/المدينة حيث ولد أو ظهر في ولادة جديدة. قصة الكاتب هنا أقرب إلى استئناف سردي للقصة الأولى وليست تكرارا سرديا لها، كما أنها محورة بشدة والتغيير بيّن فيها، كما أن السرد يأخذ شكل القصة الحديثة شخصيات وحوارات ولغة، ولكن الارتباط يظل قائما من خلال الاستناد إلى قصة الحب العربية وكأننا أمام صورة من صور المواجهة بين حقبتين أو مرحلتين من مراحل الحضارة العربية متمثلة في المواجهة بين الصحراء والمدينة، بين الماضي والحاضر وأما الإنسان فممزق بينهما يعيش في المدينة ويقف على أبوابها ولكنه ما زال مسكونا بالصحراء المقيمة في بطانته الوجدانية.

أما في قصة (أبو ذر الغفاري) فإنه يصوغ ما جاء في سيرة أبي ذر في شكل قصة قصيرة محتفظا بالمعنى الذي تحمله الشخصية، وهي تبدأ بجملة استئنافية "..فحين أحس أبو ذر الغفاري بدنو الأجل خرج إلى الناس. وكان أهل المدينة هائمين في أزقتها محنيي الهامات منطفئي النظرات، ساغبي الشفاه. وسار أبو ذر حتى أتى مرتفعا أجرد فصعده وصرخ في الناس: يا قوم"[34]. والجملة المركزية التي ترد في خطاب أبي ذر للجمع هي قولته المتداولة الشهيرة:"إني لأعجب لرجل لا يجد القوت في بيته ولا يخرج في الناس شاهرا سيفه". وتتكرر هذه الجملة مرتين في القصة، لتعيد دلالاتها الأولى: الثورة والمواجهة وعدم السكوت، وتنتهي القصة بغياب أبي ذر وانتظار الناس له، كأنه منقذ الجوعى ورئيس الفقراء. ومع الدلالة "الثورية" للقصة والشخصية فإن الكاتب يخفف من البعد المباشر إلى الحد الأدنى، ويبقي من الشخصية ما يكفي للتعبير عن جوهر فكرة الثورة لا صوتها الصاخب.

في مثل هذه النماذج يعبر الكاتب عن أفكار محددة من خلال السرد، إنه سرد "فكرة" تجد في المخزون التراثي سبيلا أيسر لإيضاحها.

(7) إبراهيم درغوثي: تنويعات تجريبية على التراث

تجربة الكاتب التونسي إبراهيم الدرغوثي (مواليد عام 1956م) من التجارب اللافتة في التفاعل مع التراث بصور متعددة، وهي تشكل مثالا على استمرار إفادة القصاصين العرب من الموروث في كتابة القصة القصيرة المعاصرة. وتبدو السمة أو السمات التراثية واضحة في معظم كتابات الدرغوثي أو ما اطلعنا عليه من مجموعاته، ومنها: الخبز المر، ورجل محترم جدا، والنخل يموت واقفا وغيرها.

ويلفتنا اتساع الثقافة التراثية للكاتب بمختلف تنويعاتها ومستوياتها، وقصدية الكاتب في توظيف أجزاء منها في قصصه ورواياته، وبشكل إجمالي يمكن وصف طريقته التراثية بأنها طريقة تجريبية جمالية، فالتراث هنا مادة للنقد والتجريب واللعب الفني، إنها ليست مادة "مقدسة" ولا ترد غالبا في سياق تقديسي أو صياني، وإنما تحضر في إطار نقدي تجريبي جمالي، وهو ينوع في أشكال توظيفه للتراث وفي محتوى ما يستدعيه.

ففي قصة (حكايات القلب الجريح)[35] مثلا يمكننا الالتفات إلى استخدام بنية الحكاية العربية في صياغة قصة قصيرة معاصرة، وهو يسلسل تلك القصص في حكايات متتابعة: الحكاية الأولى (القبر)، الحكاية الثانية (السوس) الحكاية الثالثة (الشومة) الحكاية الرابعة (الدراجة). وفي الحكاية الثانية نلتفت إلى اعتمادها على صيغة (زعموا أن) الصيغة الأثيرة في السرد القديم، تلك التي اعتمد عليها ابن المقفع في (كليلة ودمنة) كما ظهرت في نماذج سردية عربية كثيرة. وأما قصة (الكلاب) فيفتتحها بمفتتح سردي تراثي واضح "كان أحد ملوك حمير عنيفا على أهل مملكته، يغصبهم أموالهم ويسلبهم ما في أيديهم وكان الكهنة يخبرونه أنهم سيقتلونه فلا يحفل بذلك"[36]. وهو يحيل في توثيق هذه المادة إلى حكاية المثل العربي "جوع كلبك يتبعك" في الهامش كما جاء في كتاب قصص العرب. كما أنه يقتطف من حكاية المثل جزءا آخر في منتصف القصة، مما يجعل المادة التراثية متداخلة مع الدلالة المعاصرة، وتنهض بدور بارز في بناء القصة الجديدة، والرابط بين القصتين، القديمة والجديدة، رمزية الكلاب والجوع.

"وسمعت امرأة الأمير أصوات السؤال فقالت لزوجها: إني لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجهد ونحن في العيش الرغد، وإني لأخاف عليك أن يصيروا سباعا وقد كانوا لنا أتباعا، فردّ عليها وقال: جوّع كلبك يتبعك"[37]. يعتمد الكاتب على حكاية مثلية قديمة مستفيدا من دلالتها ومن بنيتها ويقتطف مقاطع منها، كما أنه في صياغته لقصته الجديدة التي يصوغ فيها حكاية الجار وكلابه، يستخدم أسلوب الحكاية المستمد من أساليب السرد العربي القديم، ويعول على الراوي الشفوي ويتظاهر بتقييد كلامه أو منطوقه كما هو حال كثير مروياتنا العربية القديمة التي تبدو في صورة تسجيل لحكايات وأخبار وروايات تداولتها الشفاه ثم وصلت إلى من جمعها وقيدها دون أن تخفي صيغتها الكتابية أصولها الشفاهية.

وبعد المفتتح التراثي ينتقل الدرغوثي في القصة السابقة –الكلاب-على طريقة السرد العربي القديم في التخلص من موقف إلى ثان، "وكان لنا جار مغرم بالكلاب حد الهوس وكان يلاعبها ويلاطفها ويرمي لها الطعام أشكالا وألوانا، ..." ويسيطر على السرد الراوي المتكلم الذي يبدو أقرب للسارد الشعبي أو الحكواتي الماهر في السرد الشفوي، وهو لا يخفي نفسه بل يبدو متلذذا بالسرد متفننا في اللعب بحكايته أو حكاياته، كما تظهر علنا أمارات حضوره، فالسرد هنا كما لو كان تسجيلا لمنطوق ذلك الراوي بما فيه إيضاحاته وعلامات سيطرته على المسرود: "أعذروني إن أطلت الحديث عن جارنا ونسيت الكلاب، فالحديث ذو شجون كما يقول أجدادنا أراح الله عظامهم الطاهرة في أجداثها إلى يوم ينفخ في الصور..وعلى كل فها أنا أعود من جديد إليها"[38]. فهذا النوع من التعبير السردي يكشف كما هو واضح عن الراوي الشفوي، وليس النسيان والاستطراد إلا بعض أمارات الكلام الشفوي الذي ينطوي على أساليب وآليات مختلفة عن المكتوب وآليات إنتاجه.

ونتفق مع تحليل عمر حفيظ لبعض النماذج التراثية في قصص الدرغوثي، وقد انتهى إلى أن "اختيار هذا النمط من الكتابة حيث يستدعى التراث في بعض خصائصه الفنية وحتى المضمونية أصلا وتقام له علاقة مع الواقع/الراهن يكشف عن أمرين اثنين: (الأول): إن درغوثي يمارس التجريب بوعي فأشكال الكتابة القديمة صالحة عنده لتركب مع أشكال حديثة، وإذا تم التآلف بين هذه وتلك يمكننا أن نتحدث عن شكل مولد يؤصل الحديث ويحدث القديم. (والثاني): إن الوصل بين الأقصوصة والنص التراثي قد كشف عن تواصل أنماط مختلفة من السلوك والقيم والوعي..."[39]. وهذا الأمر الثاني يتيح نقد الذات في ماضيها وحاضرها، عبر نقد تلك القيم أو السلوكات النمطية أو المكررة، ولذلك فإن التفاعل مع التراث ليس مجرد حنين أو رجوع استسلامي وإنما يفتح الأفق أمام صور غنية من النقد والمراجعة.

خاتمة

وقد واصل قصاصو الأجيال الجديدة تجربة التفاعل مع التراث، ليؤكدوا أن هذا الاتجاه ليس طارئا أو مؤقتا وإنما هو من أبرز دلائل استمرار التجربة السردية العربية، ودلائل حياتها وخصوصيتها، ويمكن إجمال صور التفاعل باختصار في عدد من الأنماط والصور البارزة، منها: التفاعل مع المادة التراثية تاريخا وشخصيات وأحداثا، ومنها التفاعل مع الأشكال السردية التراثية وتقليدها بوعي فني قصدي، وكذلك الإفادة الجزئية من تقنيات السرد التراثي وتطوير تلك التقنيات عبر تحديثها وعصرنتها من خلال الإضافة إليها وتحريرها من لحظتها التراثية لتكون معاصرة عبر محتواها الجديد وعبر مآلها الدلالي، وأيضا من خلال تفاعلها مع تقنيات السرد العالمي الحديث.

ولا شك أن المتابع المنصف للمدونة القصصية العربية الحديثة سيلاحظ التفاعل مع الأشكال السردية القديمة، كالخبر والحديث والخرافة والنادرة والحكاية والسيرة والترجمة والأسطورة والرسالة والمقامة والمنامة والرحلة وقصص الأمثال وقصص الكرامة الصوفية وتكاذيب الأعراب وقصص الهواتف والكائنات غير المرئية وغيرها. كما سيلاحظ أن عددا من الأصوات القصصية في التسعينيات والألفية الجديدة واصلت تجربة التفاعل مع التراث بصور غنية مركبة، كما في نماذج من إنتاج: منتصر القفاش، ومفلح العدوان، ومحمد اليحيائي، ويحيى القيسي، وهيثم الورداني وغيرهم.

قائمة المصادر والمراجع:

  1. إبراهيم درغوثي، النخل يموت واقفا، صامد للنشر والتوزيع، صفاقس-تونس، ط1، 1989.
  2. الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998.
  3. جمال أبو حمدان، أحزان كثيرة وثلاثة غزلان، مكتبة برهومة، عمان، ط2، 1995.
  4. جمال أبو حمدان، مكان أمام البحر، دار أزمنة، عمان، ط1، 1993.
  5. جمال أبو حمدان، مملكة النمل، منشورات وزارة الثقافة، عمان، ط1، 1998.
  6. داود سلوم، قصص الحيوان في الأدب العربي القديم، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1998.
  7. ابن الداية، أحمد بن يوسف الكاتب، المكافأة وحسن العقبى، تحقيق محمود محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.
  8. زكريا تامر، الرعد، رياض الريس للكتب والنشر، ط3، 1994.
  9. زكريا تامر، نداء نوح، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1994.
  10. سيد بحراوي، يحيى الطاهر عبد الله كاتب القصة القصيرة، في كتاب: دراسات في القصة العربية، ندوة مكناس، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت.
  11. صبري حافظ، القصة القصيرة، فصل في كتاب: تاريخ كيمبردج للأدب العربي/الأدب العربي الحديث، ترجمة: عبد العزيز السبيل ، النادي الأدبي الثقافي، جدة-السعودية، 2002.
  12. عبد الحكيم حسان، تأثير القصص العربي في القصة الأوروبية الحديثة، في: محاضرات الموسم الثقافي لكلية اللغة العربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1984.
  13. عبد الله إبراهيم، السردية العربية-بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1992.
  14. عبد المجيد زراقط، الإبداع الأدبي العربي قضايا وإشكالات، توزيع الغدير للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2003،
  15. عمر حفيّظ، التجريب في كتابات إبراهيم درغوثي القصصية والروائية، صامد للنشر والتوزيع، صفاقس، ط1، 1999.
  16. القاضي التنوخي، الفرج بعد الشدة، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، 1978.
  17. القاضي التنوخي، الفرج بعد الشدة، انتقاء وترتيب ودراسة محمد حسن عبد الله، مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، 1990.
  18. محمد رشدي حسن، أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة، الهيئة المصرية للكتاب، 1974.
  19. محمد مندور، تأسيس فنون السرد وتطبيقاتها، جمع مادته: طارق مندور، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2008.
  20. محمد يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، بيروت، د.ت.
  21. محمود تيمور، اتجاهات الأدب في السنين المائة الأخيرة، مكتبة الآداب ومطبعتها، القاهرة، د.ت.
  22. محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم متبوع بـ: يحكى أن..، موفم للنشر، الجزائر، 1993.
  23. يحيى الطاهر عبد الله، الكتابات الكاملة، دار المستقبل العربي، ط2، القاهرة، 1994.
 

[1] . هذه خلاصة شاملة لموقف كثير من النقاد العرب فضّلنا تلخيصها بشكل مركّز كي لا تطول الاقتباسات دون دواع منهجية، والمسألة -في ظننا-واضحة للمتخصصين وقراء النقد الحديث. وحسبنا الإشارة –تمثيلا- إلى الآراء التالية:

  • محمد يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، بيروت، د.ت. ويلحظ تغليب العنصر الأجنبي من خلال الاستكثار من الأمثلة الأجنبية وقلة النماذج العربية.
  • محمد مندور، تأسيس فنون السرد وتطبيقاتها، جمع مادته: طارق مندور، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2008. ومادة الكتاب سبق نشرها في الدوريات أو أعلنت في محاضرات المرحوم مندور. ويصرح بوضوح نافيا جذور السرد العربي وصلة قصتنا المعاصرة بها: "لا نستطيع أن نقول إن الفن العربي القديم قد عرف فن القصة، لوجود أنواع من القصص في السير الشعبية أو المقامات..." ويقول أيضا: "وإن كنا نرجح أكبر الترجيح أن فن القصة بمفهومه الفني قد أخذناه عن الآداب الغربية بعد أن توثقت صلتنا بهم في ظل النهضة الأوروبية". ص47.
  • ويمثل الآراء المعتدلة (متأخرة زمنيا) الناقد صبري حافظ الذي نظر بصورة أعمق إلى مبدأ ميلاد الأجناس والأنواع، وذهب إلى أن "العلاقة بين السرد العربي الحديث وأشكال السرد الغربي والقصة العربية القديمة ليست علاقة نسب فقط، بل علاقة تناص فعال". صبري حافظ، القصة القصيرة، في: تاريخ كيمبردج للأدب العربي-الأدب العربي الحديث، ترجمة عبد العزيز السبيل ورفاقه، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط1، 2002، ص388.
  • ووقف عند مناقشة أصالة القصة العربية أم تبعيتها عبد المجيد زراقط في بحثه: القصة العربية الحديثة: جديد طارئ أم قديم يتطور ويتجدد؟ في كتابه: الإبداع الأدبي العربي قضايا وإشكالات، توزيع الغدير للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2003، ص315 وما بعدها. ومع أن بحث زراقط يتصل بالرواية وليس القصة القصيرة فإنه مفيد جدا في تبين هذه النظرات المتضاربة في تأصيل القصة العربية وتقدير العنصر التراثي في نشأتها وتطورها.

[2] . للتفصيل حول تأثير القصة العربية في منابع القصة الأوروبية انظر: عبد الحكيم حسان، تأثير القصص العربي في القصة الأوروبية الحديثة، في: محاضرات الموسم الثقافي لكلية اللغة العربية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1984، ص97 وما بعدها.

[3] . للتفصيل حول شفاهية السرد العربي انظر: عبد الله إبراهيم، السردية العربية-بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1992، ص15، ص33.

[4] . أكمل نسخه المطبوعة بتحقيق عبود الشالجي، وصدرت عن دار صادر، بيروت، 1978 في خمسة مجلدات. واختار محمد حسن عبد الله قصصا منتقاة من الكتاب ظهرت في طبعة شعبية أصدرتها مؤسسة أخبار اليوم المصرية بهدف تقريب هذا اللون القصصي التراثي للجمهور. وتنبه معد الكتاب في مقدمته إلى الشكل الفني القصصي الذي احتكم إليه القاضي التنوخي في جمع قصصه وصياغتها "فهو لم يحشد القصص والنوادر أيا كان شكلها أو مرماها، ولم يحتكم إلى المضمون وحده...ولكنه احتكم إلى الشكل، فكل قصة تبدأ بشدة تتطور وتستحكم ثم تنتهي إلى فرج. وهذا يعني -بالمعنى الأرسطي-أنه يحدث تحول في الفعل أو الموقف، ويعني بمصطلحات فن القصة القصيرة أن الشدة بعدها الفرج تساوي: الأزمة ثم يأتي الحل". انظر: محمد حسن عبد الله، مقدمة: الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي (مختارات)، مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، 1990، ص12.

[5] . ابن الداية، أحمد بن يوسف الكاتب، المكافأة وحسن العقبى، تحقيق محمود محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت.

[6] . على سبيل المثال: حديث محمود تيمور عن ثقافته التراثية بتأثير والده العلامة أحمد تيمور صاحب (الخزانة التيمورية) بكنوزها التراثية المعروفة. وقد عرض تيمور في مقالته: كيف أصبحت قصصيا؟ لتفاصيل هذه الثقافة التراثية التي سبقت ثقافته الأجنبية، ووما كشف عنه قراءته المعجبة لألف ليلة وليلة ثم حمله إعجابه إلى كتب مماثلة "وأذكر فيما قرأت يومئذ من كتب الأسمار ونوادر الأخباريين كتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس وكتاب نفحة اليمن مما يزيل الهم والشجن وغيرهما من الأشباه والنظائر". انظر: محمود تيمور، اتجاهات الأدب في السنين المائة الأخيرة، مكتبة الآداب ومطبعتها، القاهرة، د.ت، ص193.

[7] . صبري حافظ، القصة القصيرة، فصل في كتاب: تاريخ كيمبردج للأدب العربي/الأدب العربي الحديث، ترجمة: عبد العزيز السبيل ، النادي الأدبي الثقافي، جدة-السعودية، 2002، ص392.

[8] . ينظر كتاب الدكتور محمد رشدي حسن، أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة، الهيئة المصرية للكتاب، 1974.

[9]. محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم متبوع بـ: يحكى أن..، موفم للنشر، الجزائر، 1993، ص 125.

[10] . داود سلوم، كتاب قصص الحيوان في الأدب العربي القديم، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1998، ص75. ووثقها سلوم من "مجاني الأدب" 1/35. (والمقصود كتاب مجاني الأدب في حدائق العرب جمع الأب لويس شيخو).

[11] . لاشين، حواء بلا آدم متبوع بـ يحكى أن، ص141.

[12] . لاشين، المصدر السابق، ص310.

[13] . على سبيل المثال: أورد ابن عبد ربه (العقد الفريد، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، 1 /303) في خبر قيلة بنت مخرمة التميمية ما نصه: "...ثم سنح الثعلب، فسمّته اسما غير الثعلب، نسيه ناقل الحديث، ثم قالت فيه مثل ما قالت في الأرنب..". وهو موجود بهذا الاستعمال في سياقات كثيرة لا تخفى مقترنا بنقل الأخبار والأحاديث وصولا لمعنى (النميمة) التي تشترك في معنى الإيصال والحمل. فاستخدام طاهر لاشين لفظة (الناقل) استعمال عربي اختاره الكاتب إحياء لهذا اللفظ بوظيفة سردية قصدية.

[14] . طاهر لاشين، مصدر سابق، ص291.

[15] . زكريا تامر، الرعد، رياض الريس للكتب والنشر، ط3، 1994، ص23. وقد صدرت المجموعة أول مرة عام 1970.

[16] . زكريا تامر، نداء نوح، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1994، ص17.

[17] . المصدر نفسه، ص215.

[18] . المصدر نفسه، ص217-218.

[19] . يحيى الطاهر عبد الله، حكايات للأمير حتى ينام، صدرت في طبعة مستقلة في بيروت عام 1978. وقد رجعنا إلى المجموعة ضمن الكتابات الكاملة ليحيى الطاهر عبد الله، دار المستقبل العربي، ط2، القاهرة، 1994، ص257 وما بعدها.

[20] . حكايات للأمير: ضمن الكتابات الكاملة، ص257

[21] . المصدر نفسه، ص262.

[22] . الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط7، 1998، 1/93.

[23] . يحيى الطاهر عبد الله، المصدر نفسه، ص285.

[24] . المصدر نفسه، ص290.

[25] . المصدر نفسه، ص277.

[26] . سيد بحراوي، يحيى الطاهر عبد الله كاتب القصة القصيرة، في: دراسات في القصة العربية، ندوة مكناس، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ص225.

[27] . جمع سيد بحراوي عدة أخبار عمن قرأ لهم يحيى الطاهر عبد الله قصصه مشافهة وغيبا ومنهم: يحيى حقي ويوسف إدريس وخيري شلبي. انظر: سيد بحراوي، مرجع سابق، ص193-194.

[28] . جمال أبو حمدان، أحزان كثيرة وثلاثة غزلان، مكتبة برهومة، عمان، ط2، 1995، ص29. وقد صدرت الطبعة الأولى من هذه المجموعة في بيروت عام 1970.

[29] . المصدر نفسه، ص69.

[30] . المصدر نفسه، ص73.

[31] . جمال أبو حمدان، مكان أمام البحر، دار أزمنة، عمان، ط1، 1993، ص69.

[32] . جمال أبو حمدان، مملكة النمل، منشورات وزارة الثقافة، عمان، ط1، 1998، ص125.

[33] . المصدر نفسه، ص35.

[34] . جمال أبو حمدان، أحزان كثيرة وثلاثة غزلان، ص69.

[35] . إبراهيم درغوثي، النخل يموت واقفا، دار صامد، صفاقس-تونس، 1989، ص29.

[36] . المصدر نفسه، ص38.

[37] . المصدر نفسه، ص40.

[38] . المصدر نفسه، ص41.

[39] . عمر حفيّظ، التجريب في كتابات إبراهيم درغوثي القصصية والروائية، صامد للنشر والتوزيع، صفاقس، ط1، 1999، ص110-111.