يتناول الناقد هنا رواية أرويل الشهيرة (1984) بالتحليل، فيسلط الضوء على بنيتها السردية وكيفية توظيف الزمن والشخوص وتقنيات الحبكة لانجاز قول فني دال على الحكم التوتاليتاري وسيرة الأنظمة الشمولية سردياً.

جورج أوريل بين التشائم والتفائل

قـراءة لـرواية (1984)

بوتان لطيف عبدالقادر

 

إن عالم الروایة عالم متشعب، كخیوط العنکبوت، إذ إنها تقوم بتغطية الواقع وما فيها من أحداث، وتسجل المواقف، إذا كانت مدينة مزدحمة بالشخوص. فالروایة بوصفها حکایة تصف شخصيات وأحداث على شكل قصة متسلسلة. معتمدة علی السرد، والوصف، والحوار، والصراع بین الشخصیات في أثناء الأحداث. وتعد الرواية من أكبر الأجناس القصصية فی النواحی شتى، سواء من حيث الحجم وعدد الاشخاص وتلوین الأحداث. ولها أهمية كبيرة بين الأجناس الأدبية الأخرى.

إن رواية "1984" لجورج أوريل؛ على الرغم من أنها رواية كلاسيكية من حيث بنائها الفني، وتدور أحداثها حول مقاطعة أوشينيا (البريطانيا العظمى)، ولكنها رواية رصد الصراع بين الخير والشر، التفائل والتشائم، العبودية والحرية، السلطة الطاغية والحركات المدنية، وكذلك الصراع بين المجتمع والسلطة والفرد والمجتمع أيضا، حيث يقوم الكاتب برصد المشكلات التي تؤدي إلى هذا الصراع، كما يرصد الصراع الطبقي بأنواعها المختلفة، وهذا الرصد من فكرة الرواية أعطى بعد التشويق والخلود للرواية عالميا، هذا الصراع يكون عن قضايا كثيرة منها سياسية واقتصادية وتاريخية وفكرية وما إلى ذلك، وأساس هذا الصراع هو فكرة خلاص الإنسان من المشكلات والأزمات ومما يعاني به من غلبة طغيان الإرادة الواحدة عليه، أي: من أجل علاء الإنسان وإيجاد معنى لوجوده والوجود بأسره.

حاول أوريل أن يسجل ما بداخل الإنسان وما حوله من الصراع حول خلوده وبقائه سالما سعيدا، بناءا على نجاته من المشكلات، ومن هو المخلص؟! كما حاول أن يسجل مقومات الأنظمة الحاكمة عند الحزب الواحد أثناء سلطته في أوشينيا، وهو حكم شمولي وتوتاليتاري وقمعي. وهي رواية عظيمة حيث إنها تعبر عن ديمومة ما، قضية شكل الحكم وتعامل السلطة مع المجتمع، وهي تبقى حية معاصرة، مادامت الأنظمة المتسلطة باقية بحكمها الشمولية القمعية في العالم عامة وفي الشرق خاصة.

البناء الفني:
1- سرد الرواية:

أما من حيث السرد الروائي؛ هو سرد الخيال التاريخي المستقبلي، والضمير المسيطر والمهيمن فيها هو الضمير الغائب المتمثل في شخصية بطل الرواية الرئيسة (ونستون سميث)، والمغطى بغطاء الراوي الذي هو جورج أوريل. لربما الراوي هو البطل نفسه، كونه عليما بتفاصيل الأمور حول المجريات والأحداث داخل الرواية وحول الشخوص فيها، حيث إنه يسرد ويحكي الأحداث ويتنبأ ويتوقع ويفترض الأحداث والوقائع التي سوف تجري مستقبلا.

2- الزمن:
إن زمن الرواية؛ من حيث المضمون هو التاريخ المستقبلي، والزمان هذا يعطى بعد السلطة العليا عن العالم لـ(لندن)، ربما يريد الروائي أن يوازن بين الحاضر بالنسبة لزمن كتابة الرواية والمستقبل نسبة لزمان أحداث الرواية ووقائعها، أي: زمن مضمون الرواية، وذلك من خلال مدركاته المتوقعة وخياله التاريخي المشحون برؤيته المستقبلي.

3- لغة كتابة الرواية:
وفيم يتعلق بلغة كتابة الرواية؛ فإنها لغة ثانية، كونها مترجمة من اللغة الإنجليزية وهي لغة الأمّ بالنسبة لها، ولذلك لا نستطيع أن نعلق على لغتها غير تعليقنا حول كيفية ترجمتها ومقدرة المترجم ودرايته، وبشكل عام إن اللغة المترجمة لغة جيدة.

4- شخوص الرواية:
إن الحديث عن الشخصيات لا يفهم، من دون فهم الشخصيات، وهذا الأمر عنصر من عناصر التشويق، إذ إن أوريل في روايته، يقدم لوحة جميلة، يوضح فيها فترة زمنية وشكل من أشكال المنظومة الحاكمة فيها، وذلك من خلال تقديمه للأشخاص وتمييز بعضها عن بعض بأدوارهم، وبتركيزه على قمع المجتمع. إذا نظرنا إلى الشخصيات في الرواية؛ نجد أن شخصية (ونستون)، هو الشخصية الرئيسة، شخصية متغيرة ونامية، حيث إنه يشعر بالتقييد، وتتولد هذه الرغبة من اللحظة التي شعرت بها من بداية الرواية حيث يقول كتابة وهمسا" يسقط الأخ الكبير.. يسقط الأخ الكبير.. يسقط الأخ الكبير.. يسقط الأخ الكبير..، سوف يقتلونني رميا بالرصاص، ويطلقون النار في ظهري وعنقي لكن لا يهم (يسقط الأخ الكبير..) ويطلقون النار عليك في الجانب الخلفي من عنقك دائما، لكنني لن أهتم) يسقط الأخ الكبير..".

ويمكن أن نلخص تقديمه للشخصيات في هذه اللوحة:

1- ونستون سميث، وهو يمثل الإنسان العادي البسيط داخل المجتمع، الشخصية الرئيسة التي تمثل بطل الرواية. وهي شخصية مسحوقة بين الرفض المقنع المغطى والرغبة المفروضة المزخرفة بالحب المكروه.

2- جوليا، هي عشيقة ونستون.

3- الأخ الكبير، وهو حاكم أوشينيا، الذي يرمز إلى السلطة المستبدة الطاغية.

4- أوبراين، هو عضو في الحزب الداخلي، وعضو مخادع داخل الحركة الأخوية الثورية المقاومة ضد الحكومة(المقاومة الثورية)، ويقوم بخداع ونستون وحبيبته لكي يوقعهما في فخ، إنه يمثل الفرد المنافق والجاسوس داخل المجتمع.

5- إيمانويل غولدشتاين، وهو قائد في الحزب سابقا، أصبح رئيسا للحركة الأخوية المتمردة المناهضة ضد الحكومة، وصاحب كتاب (الجماعة النخبوية بين النظرية والتطبيق)، وهو يمثل عدو الدولة والخصيم الأيديولوجي للدولة، ويقوم بدفع الناس ضد الحكومة وسلطتها التوتاليتارية في أوشينيا.

ومن ما يؤخذ على بناء الشخصية الرئيسة داخل الرواية، يمكن أن نقول هو خروجها من فكر أوريل، إذ إنها تتجول وتدور فوق سطح الأوراق، بحيث تشبه الكاتب نفسه، بل ربما كانت هي الكاتب نفسه، ومن حق الروائي أن يصوغ أفكاره على لسان شخصياته، ولكن من حق هذه الشخصيات على الكاتب أيضا؛ الاستقلال الفني وعقلها الذاتي والحرية في حركاتها.

5- تنظيم الأحداث (الحبكة):
إن الحبكة هي تنظيم الأحداث، وهو مصطلح سردي، إنها دينامية دمجية داخل الرواية، ويحدد مدى مقدرة الكاتب في صوغ أفكاره وتوظيف الأماكن والأزمنة وتقديم الشخصيات وما إلى ذلك إلى خلق الشخصيات والتنسيق بينها وتنظيمها في شكل رواية ما. نستطيع أن نقول إنها العمود الفقري للرواية، وهي من أبرز عناصر التشويق مادامت تقوم بتنظيم الأحداث وفق ما يريد الكاتب تفاعل الشخصيات مع الأحداث الجارية في دولة روايته.

إن الروائي جورج أوريل استطاع أن يقدم لنا الشخوص منسجما مع ما لها من دور يلائم مع الأحداث، لذلك أعطى هذا التقديم بعد التشويق للرواية، ويجلب انتباه القاريء أن يستمر في القراءة إلى نهاية الرواية ويذهب مع الشخصيات إلى المحطة الأخيرة لها. ويؤكد فوستر أيضا عن التشويق Suspense ويعده العمود الفقري للحكاية. لأن التشويق هو انعكاس جميل لانسجام الشخصيات وتفاعلها مع الأحداث، إذا هو لاصق الارتباط العضوي بين الحدث والشخوص، ولذا نستطيع القول بأن لا وجود للشخصيات بدون حدث وعكس ذلك صحيح أيضا؛ لأن صانع الأحداث هو الشخوص. وعلى الرغم من افتقار رواية 1984 إلى العنصر الروائي الأساسي وهو وجود قلة الشخصيات؛ ولكنها رواية متشوقة وحية، وأساس هذا التشوق هو فكرة الرواية أولا وكيفية الحبكة (ميتوس) ثانية.

- لغة نيوسبيك:
هذه اللغة واردة في الرواية، وهي لغة أوشينيا الرسمية، التي تعني لغة (السيطرة)، أي سيطرة لغة الدولة وهيمنتها على شتى المجالات. (نيوسبيك) أي: اللغة الجديدة، هي لغة خيالية داخلة كيان رواية 1984، لغة مخترعة بقواعدها من قبل سلطنة أوشينيا الشمولية. إذ إن هذه اللغة كانت أداة للقمع والوسيلة التواصلية الوحيدة بين الناس للمحادثة والكتابة. حيث إن الإِشتراكية الإنخليزية اخترعتها تلبية لحاجاتها الفكرية (أيديولوجية أنجسوك). وبهذه؛ قام النظام بالحد من حرية الرأي وحرية التعبير والفكر، حيث تمكن النظام الهيمنة والسيطرة على كل المفاهيم التي تهدد الحكومة، كحرية الذات وحرية الإرادة والحرية الفكرية سياسيا وثقافيا، وما إلى ذلك.. واستلهم الروائي فكرة هذه اللغة من الإنجليزية البسيطة. وهي رمزا للسان حال الأنظمة الشمولية، التي تفرض على المجتمع ضرورة الحزب الواحد وإرادة الأخ الكبير.

ورسم الكاتب شكل الكابية الوزارية لحكومة أوشينيا في روايته؛ كالتالي:

1- وزارة الحقيقة، وهي تقوم بتزييف الحقائق التاريخية والوثائق، وهي وزارة الدعاية، ومن الممكن أن نقول هي مقابل وزارة الاعلام.

2- وزارة الحب، وظيفتها هي تعذيب المتمردين والخارجين عن الحكومة، وتقوم بغسل الأدمغة لاسترجاع الناس إلى دائرة الالتزام بقوانين الحكومة وتعليماتها، وتكون ذلك من خلال تقنية (حزام العفة ودقيقتين من عذاب)، ربما هي وزارة الداخلية.

3- وزارة السلام، وظيفتها هي أن تقوم بخلق الفوضى والويلات والمآزق والحروب، حيث تجعل من الناس أن لا يشعر بالأمان والارتياح، وهي رمز للقبضات الديكتاتورية الحيوانية الشرسة ضد الأبرياء والمدنيين. وهي تشبه مؤسسة المخابرات.

4- وزارة الوفرة، هي تقوم بسرقة أموال الدولة والثروة الوطنية لأجل عصبة متسلطة توتاليتارية، وترشيد الاستهلاك لهم، وذلك لنقصها في الدولة. أي: سيستها تجويع الناس لإجبارهم على الخضوع لهذه العصبة الحاكمة الشرسة.

إذن، إن وظيفة الوزارات وسياساتها معاكسة تماما لتسمياتهم، وهي كابنة وزارية مزيفة للحقائق، ومعاكسة ومشاكسة ضد المجتمع سوية. ونرى بعض الكتاب والمحللين يطلقون على هذا النوع من الأنظمة الحاكمة أو السلطة التوتاليتارية اسم (الدولة الأوريلية).

* أوريل بين التشائم والتفاؤل:
"إن الإنسان معجزة المتناقضات" كما يقول د.مصطفى محمود، نجد غالبا أن الإنسان حينما يكون في مشكلة ما أو يتأزم بأزمة ما؛ يشعر بالتشائم، ومن رحم التشائم ربما يتولد التفائل. إذن إن الأنسان يعاني من كثرة المشاكل والأزمات، ويجتهد كثيرا نحو إيجاد ملاذ وملجأ أو وسيلة لخلاصه ونجاته النهائي من هذه المشكلات، أحيانا التعبير عمّ بداخله يعطي للإنسان بعدا من أبعاد الراحة والتخلص، يجعله أن يتفائل وينجو من التشائم والكتمان، ربما كان الأديب ذو حظ كبير، كونه كاتبا ومعبرا عما بدخله وما حوله بإرادته الذاتية. من هنا نستطيع أن نقول إن رواية 1984 لجورج أوريل ليست رواية من الأدب الديوستوبي، أو رواية تشائمية فحسب؛ بل هي الأرض الخصب المناهضة للتفائل لدى الكاتب نفسه خاصة والقراء عامة، حيث إنها رواية مشحونة بمدركات الراوي أو الروائي (أوريل) وسيرته الذاتية، ويسمى هذا النوع من الجنس الأدبي بـ(ذوبان النوعية)، أي: التداخل بين الأجناس الأدبية، مثلا نجد التداخل بين فن الرواية والسيرة الذاتية في رواية 1984، ربما هذه التقنية هي وسيلة من وسائل الأديب لمواجهة القمع الأيديولوجي أو الثقافي، وعدم استسلامه لهيمنة الإرادة التوتاليتارية وسلطة الفكرة الواحدة. إن الروائي جورج أوريل قام بالمراوغة بين التشائم والتفائل، وكان نصه الروائي مشحون بسيرته الذاتية المحتجبة بقناع الراوي من جهة وأقنعة الشخوص من جهة أخرى، وهو الخصيم الأيديولوجي في عصره للحكومة بنظرته الإشتراكية، ويرى بأن الحرص الوطني يحتاج إلى ثورة شعبية، وأكد هذا في محاضراته لمؤيديه. وقد ابتكر مصطلحات كثير في الثقافة الشعبية مثل الأخ الكبير والتفكير المزدوج، وشرطة فكر والحرب الباردة، وما إلى ذلك.. ولذلك يطلق على السلطة الممارسة للحكم الإستبدادي الشمولى؛ مصطلح الأوريلي أو السلطة الأوريلية نسبة لتوتاليتارية سلطة أوشينيا وشموليتها وقمعها، التي كانت هي فكرة الرواية.

ونجد داخل رواية 1984 لجورج أوريل؛ النصية وهيمنتها من خلال التقنية الحديثة الموسومة بـ(ذوبان النوعية)، وكانت هذه النصية هي الرواية في هيكلها البنائي، وتنتمي إلى السيرة الذاتية أيضا، نجد ذلك من خلال بعض الصيغ الواردة داخل سياق الرواية، وكذلك نجد ذلك من خلال رؤية السارد(الراوي) الذي يروي الأحداث وهو الراوي العليم، والضمير المهيمن على الرواية هو الضمير الغائب، ويطلق الناقد الفرنسي (جون بويون) تسمية (الروية من الوراء أو الخلف) على هذا النوع من التقنية الروائية، حيث إن الراوي يعلم تفاصيل الأمور حول الشخصيات عامة والبطل –الشخصية الرئيسة- خاصة. وبهذا القدر نستطيع أن نقول: إن الشخصية الرئيسة المشهورة ببطل الرواية (ونستون سميث) رمز لجانب من جوانب حياة الأديب (جورج أوريل)، بل لربما هو نفسه، مؤكدا ما أشرنا إليه سابقا بأن الأديب في بيئته بقدوره أن يصنع شيئا أو وسيلة لمواجهة الحصار الثقافي والأيديولوجي والسياسي والإقتصادي المفروض عليه وعلى المجتمع عامة من قبل سلطة طاغية ظالمة شمولية توتاليتارية المتمثلة في حزب واحد أو أسرة واحدة حاكمة.

وأخيرا؛ إن رواية 1984 لجورج أوريل؛ على الرغم من كونها رواية كلاسيكية، ولكنها رواية عظيمة وخالدة. وبرؤية تشائمية ممكن أن نحسبها بأنها "مسودة سرد الحكم التوتاليتاري، أو كانت دستورا للأنظمة الشمولية" من جهة، ومن جهة ثانية؛ من الممكن أن نقول: إنها "أطلس إحياء وعي الشعوب". ونجد الآن في بلداننا أيضا حكم السلطات الطاغية المستبدة الشمولية التوتاليتارية، التي هيمنت على شتى المجالات، وتمارس سياسة تجويع الناس، وسرقة الأموال العامة، وقتل إرادة الذات الحرة، وقمع حرية التعبير والرأي، وفرض سياسة الحزب الواحد والأخ الكبير. لذلك نقول إن هذه الرواية هي تعبير عما كنا فيه وما حولنا، وإن شعرنا بالتشائم؛ نراها كدستور لهذه الأنظمة الشمولية، وإن شعرنا بالتفائل؛ نجعلها أطلسا لمناهضة وعينا ورأينا. وختام الكلمة عبارتين مأخوذتين من الرواية: (قبل أن يصبحوا واعين لن يثوروا أبدا، وحتى بعد أن يثوروا لايستطيعون أن يصبحوا واعين). أو (يسقط الأخ الكبير.. يسقط الأخ الكبير.. يسقط الأخ الكبير).

 

(مدرس مساعد بجامعة صلاح الدين، أربيل)