يبدو التكثيف من خلال الإيجاز هو أولى الخطوات لبناء النمط المميز من التعبير، وهذا البناء غايته تعقب الأثر الفني وإدراكه بكليته ضمن ما تكشف من ضرورات بغية الإيقاع بالمجهول، وإعادة ترتيبه بما يحقق الغاية القصوى من الصور والدالات الصوتية ضمن حركية النص ولونية الأجزاء النصية المترابطة.
وحتما إن المسعى لذلك هو السعي بالمتلقي للوصول إلى الشعور بالمعاصرة أي نقله من الظلامية إلى الانفتاح إن كان الأدراك تلقائيا أو كان الأدراك نابعا عن وعي عاطفي وتأثير نفسي فيما يمكن الوصول إليه من المُنتج الشعري الذي يتطور تطورا يكاد يكون آليا في كيفية قبول المتلقي له والتعامل معه ضمن الفعل وردود الفعل التي تخلفها الصور الشعرية سلبا أو إيجابا من دون أن يصل المتلقي إلى حد ما من الانفعال اللا مجدي أو افتعال ما لا يعبر عن حقيقة النص وبعده المؤثر تحت قناعات الحداثة أو التجديد.
أراد المحدثون أن يُترك المتلقي بحريته بحيث يستطع تدريجيا استيعاب هذا التحول من خلال تحوله من عاطفة اعتيادية إلى عاطفة أصيلة، لأن تقليب المعنى من المعنى العام إلى المعنى الخاص يعني أن الشاعر قد تلاشى من مخيلته الشائع والمألوف وقد نفذ بقوة خارقة إلى ما هو سحري وغامض و"معقد"، وهذا التحول هو تحول ضمن الجهد الابتكاري للمخيلة وأوجه هذا النشاط يتم عبر الأشياء اللاشعورية التي تزيح المنظور والمترسب في المخيلة ومن هنا نجد أن الثورة الشعرية الجديدة لم تكن اصطناعا فنيا لأنها بدأت بالاشتغال خارج الوعي الذي وجدته وعيا قاصراً عن الفعل والإبداع.
واجه الحداثيون معطيات الواقع وكان الواقع أشد تأثيرا على البنى الارتكازية للفرد سواء النفسية أو الفكرية أو الثقافية والاجتماعية اضافة إلى ذلك فإن الموروث قد استقر في حفريات الذاكرة وتحسس أماكنها المؤثرة وفعل فعله على مدى قرون في نمطية الاستقبال لدى المتلقي وما بُذل من محاولات لم تتمكن من قشع الغيوم الداكنة ولم تستطع هذه المحاولات تحريك تلك الرياح الفاسدة الثقيلة فقد نظم الحداثيون فعلهم التجديدي على أعادة النظر في مفهوم الوعي للثقافة لتشكيل الرؤى الجديدة التي من خلالها يحدث التغيير المطلوب وكان ذلك بمثابة تحدٍ جذري على كافة المستويات بما في ذلك طبيعة المستوى الإدراكي ولاشك تاريخيا أن الفترة ما بين "1850-1890" هي الفترة الخصبة التي حولت الشعر من مسارات إلى أخرى وطبعت الأدب الفرنسي بطابعة الخاص عموما والشعر خاصة ومن قِبل رواد الربط الثلاثي "بودلير- رامبو- مالارميه"، لتتشكل بعد ذلك أوربا الشعرية الجديدة عن طريق "ريلكة – مالارميه -أليوت". أليوت وحسب ما يشير اليه احسان عباس كان يبحث عن معادله الموضوعي ويستعلم من عوالم الأرواح والأشباح ما يمكن أن يربط به التجارب السابقة والمتنوعة في الأساطير واستبياناته التي أراد بها أن يصل إلى مرتكز ديني ما في محاولته الشعرية للبحث عن الكفاح الروحي:
بعد الشعلة الحمراء على الوجوه الناضحة بالعرق
بعد الصمت الصقيعي في الحدائق
بعد العذاب في الأماكن المصمتة والصراخ والبكاء
والسجن والقصر وتردد صدى البرق فوق الجبال النائية
من كان حيا قد غدا ميتا
ونحن الذين كنا أحياء
هل نحن نحتضر
بصبر قليل،
ان استقراءات أليوت في هذا النص ونصوصا أخرى تكشف عن طريقته بالتمعن في لحظات التضحية والخلاص ولاشك بأن أليوت قد وجد بأن لابد أن يكون لكل شعر ما يميزه وخصوصا في القصائد الطويلة وبالشكل العام فقد عمل أليوت في شعره ضن مسارات عدة من بينها مساقات وحجم التنبيه الإدراكي، والتركيز والتكثيف الصارم ودعم المحتوى البنائي أثناء التكيف السردي، والإيقاع والموسيقى والذي يرى فيهما بأنهما يكفلان للشعر وحدته وكذلك إيمانه بأن النص يجب أن يبنى بعناية غايتها أحداث الأثر الكلي وتنظيم العبث والفوضى وإعطاؤهما شكلا ومعنى.
يعود أحسان عباس ويرى أن كل ما ذُكر من الصفات الشعرية لأليوت تجتمع في موعظة النار:
تعلقت أخر أنامل الورقات
متمسكة بالضفة البليلة
مذ غاصت
وعبرت الريح الأرض الداكنة دون زفيف
المهم في كل هذا هناك اشتباك ما بين الصور البصرية وبين الصور التخيلية وتفصيلات بجزئيات يحصل عليها الشاعر بعناية ووصف صائب محكم ومحدود وقطعا ومن خلال دراسة أليوت للفلسفة التي أثرت بشعره فأن تأملاته الفلسفية المعقدة كانت تطوع أشد الصور حسية في محاولاته للتعامل مع الروحي وجلبه إلى عالم الواقع المنظور وكأن أليوت قد بدأ برسم الخارطة الجديدة للشعر الأوربي.
كانت الفترة التي سبقت بدايات القرن التاسع عشر قد أضاءت اتجاهين متعارضين الاتجاه الذي يدعو إلى تبني الواقع أي أعادة الرؤيا بشكل آخر للعالم على أساس التركيب الجديد للكلمات ضمن مفهوم الإرادة والهدم الشامل وتحويل الشعر إلى وسيلة وليس هدفا وهو يعني في بُعده الآخر توجيه الفوضى إلى مواجهة قوى التنظيم البنائي القديم والاتجاه الآخر يدعو إلى العبث في نطاق الأنا "الذات" وإنعاش عالم الحلم والانزياح في المجهول والالغاز والغموض وذلك باعتقاد أصحاب هذا الرأي يضمن الوثوب إلى صميمية الإنسان وتمكينه من مواجهة غموضه في سريات ودهاليز الكون واشكالياتها في الحياة والموت والخير والشر والسعادة والتعاسة وغيرها من الهموم الأبدية في محاولة لاستكشاف اللاوعي وكان الرأيان كلاهما ينطلقان من رؤيا أن كل شيء في هذا الكون لابد أن يغادر ثابته إلى متحول جديد وبذلك فقد وضع الحداثيون العقل أمام أزمة جديدة في التخلص من قوانينه وقناعاته وطرائق الوصول الى الأفكار وطرائقه الاستنتاجية وتوقعاته الى الغاء نظامه برمته والقناعة بأن مجالات استكشافاته وخلقه لا تحددها العناصر المادية فقط بل باستطاعتها أن تجعل العقل يعمل بقوة جديدة يستطع من خلالها تحطيم الحواجز العقلية ومغادرة الواقع الى عالم الأضداد والمتناقضات لخلق واقع جديد يستوعب النتائج التي ستولد من طبيعة الصراع واشكالياته على صعيد الفكر والأدب والفن،
وقد انفتحت الحداثة الجديدة ضمن تمسكها باللاوعي انفتحت على معطيات شعرية من معطيات اللاوعي ومنها تداعيات الأفكار، وأحلام اليقظة، والهلوسات والهذار المنظم وغيره من تلك المسميات الجديدة والتي أوجدت لها مناخا ملائما فتكيفت مع النص الشعري وتكيف النص الشعري معها وأصبحت ضمن الإرادات التنظيمية للشعراء المحدثين وهو يعني أن توافقا هائلا قد أحدثته هذه النقلة ما بين الكلمات والصور بحيث لم يكن الاستخراج الصوري مبنيا على الدلالة اللفظية أو مبنيا على هيكلية ونمطية الكلمة المستخدمة والمتداولة في تداولها بل على ما تمليه قوة الانفعال والتغريب ورد الفعل المعاكس في البناء الشعري.
ولعل الحداثيون حين تعاكسوا مع التجارب التي سبقتهم كونهم قد وجدوا أن الكثير من الموجودات في الشعر القديم آيلة إلى الزوال وإن قبلت ضمن معيارها المنطقي وضمن لحظاتها التي تستوجب وجودها بل آيلة إلى الزوال بقدر وبأخر حتى ضمن الإحساس الروحي لها إذ أن ثورة الشعر لم تكن تعني التمرد على حلقة من حلقات الحياة أو التمرد على طرائق الإيصال، بل ثورة على نظام بنيوي وتخيلي وثورة على استخدام الشعر كونه لا يأخذ بنظر الاعتبار وجودية الإنسان وبعده الأثيري الكوني للبحث عما أسماه السرياليون بالمفاجأة المدهشة ، ولاشك أن عمق التفكير في التغيير قد خلق شكلا جديدا من أشكال الجدل بين المدارس الأدبية والحركات الفكرية ولمفهوم الحضارة وضمنها مفاهيم القيم والجمال واللغة، وقد تبين من خلال ذلك أن عملية الهدم لدى المحدثين لم تكن عملية انتقائية بل كانت مشروعا متكاملا لوضع بنية جديدة للتحول الشعري الجديد والذي سيرافق النظرة الجديدة للمجتمع لمفاهيم الأخلاق والوطن والدين والأسرة والمجتمع والفرد ، فهناك قناعات عديدة أن هذه المعاني بمفهومها ووظائفها السائدة لم تعد تستهوي أو تُقابل بالترحاب الروحي لأنها بقيت ضمن وظائفها التبادلية كما هو الحال في اللغة التي أدت تلك الوظائف التبادلية الى استهلاكها والى تقويض قدراتها الانفلاتية وبقائها ضمن دائرة نزوعها العقلاني، وكان لابد من تحفيز مظهرها التاريخي تحفيزها نحو مظهرها الجمالي كي تفلت من قياساتها ومعياريتها ويتم أدراكها بمستوياتها الإلهامية ضمن اشتغالاها المتنوعة فقد اشتغلت الحداثة الجديدة على ازدواجيه الفكر ومادته مع تناقضات اللاشيئية في العالم الخارجي وقد قفزت الفنطازيا فوق مفهوم الخيال الخلاق وكان التقدير يبنى على كيفية الاحتفاظ بقدر كبير من الإيحاء والغموض أمام أي شيء يكون قابلا للإدراك ويبدو أن ذلك الهدف يعني ما هو الانطباع الذي سيحمله هذا المتغير إلى المتلقي وماهي مساحته الخلفية التقبلية التي ستتعامل مع الأشياء العميقة للروح الإنسانية ضمن اللاامتثال وغير المتوافق مع الأطر الاجتماعية، ولاشك أن الحداثة الجديدة أتت بتغيرات مكثفة ومهمة وعند البحث عنها واستكشافها والتعامل معها فأنها تخلق معان ثرةٍ الأمر الذي يجعلنا عند دراستها أن لا نفهمها ضمن الخصائص العامة للشعر أو توافقات عصر بعينه من دون القبول بالصدمات والتناقضات وما أتت به لتدمير الإيقاعين الموسيقي والنحوي بالشكل الذي يتوافق مع المتغيرات الغريبة التي أنتهجها المحدثون في بناء جملهم الشعرية وتركيزهم على الحفاظ على ما أسموه "التوازن الغامض" في كشف الرؤى النفسية وبتعبير كوكتو:
ان الوصول إلى شعر الشعر وارتياد عنفوانه يعني مغادرة الأسلوب الآلي واللجوء إلى المخدرات العقلية التي تمثل أكثر براعة في الولوج الى العوالم التي لا يمكن تقريبها ولا استحضارها إلا من خلال الانزياح في مجهولية العالم أي أن كوكتو باعتقادنا أراد التدليل على الطريق الذي يمكن الوصول إلى العملية الإلهامية بواسطتها أي التحول الجنوني الذي يمنح الكلمات اضطرابها وإخلاءها من واقعها وتحويلها لواقع مريع.
لقد أجرى الحداثيون تطهيرا متكاملا للبيئة الشعرية السائدة فاللغة على سبيل المثال وجب أن تكون لغة حية جدية ومتنوعة وتستطيع أن تحفز الآلام في النفس البشرية وقادرة على نقل الأحاسيس بدفق وبقدرة عالية من التجاوب مع الإحساسات الباطنية ومصاحبة في تطورها لأي تطور تدريجي في الانفعال والعمل بهذا الاتجاه يعني تحقيق المشاركة الوجدانية أي معارضة الوسائل المعروفة التي يتم بها ربط الإنسان بعالمه حيث ساعدت على ذلك انبعاث الأفكار الجديدة في الأدب والفن كما أضاف الدادائيون والسرياليون سنداً أخر لمعاضدة رواد الحداثة الأولين حين أعادوا التوجه الميتافيزيقي للشعر وعرضوا توجهاتهم النقدية لأشكال الشعر ووظائفه ونظرياته الأساسية ومفهوم الأسلوبية وفقه اللغة وعلم الجمال والشعور والحدس والأنساق الوزنية والإيقاعات الموسيقية ومفهوم الحقيقة التعبيرية الجمالية حيث توصلوا إلى الحقائق التي رسخت ضرورة التغير الجديد كرد فعل للانطوائية والاختناق والعودة الى الداخل لإرهاف السمع للمتطلبات الخفية والكشف وبكل جرأة عن تلك الأدوات التي كانت تحول دون رؤية العالم رؤية متفائلة يبنى اعتقادها على أن هناك الكثير من السعي إلى الوصول الى تلك الإشراقات التي تطمئن الإنسان نحو مصيره ووجوده وخاتمته في هذه الحياة التي لا يقبل غموضها المطلق إلا بالتحرر من ثوابت الماضي ومسك الأداة الجديدة للبحث عن المجهول أو المطلق والإبقاء على حالة السّمو أمام موجودات الكون.