صدرت هذه السنة عن دار الشروق للنشر والتوزيع الترجمة الكاملة لكتاب (ذكريات من القدس) الذي ألفته سيرين الحسيني شهيد والدة ليلى شهيد. وقد كانت الترجمة من إنجاز محمد برادة بما يتصف به من قدرة على نقل النص انطلاقا من الإحساس بنبضه الحيوي، وجعله أكثر إفصاحا عبر اللغة المنقول إليها. والكتاب يكتسي، إلى جانب خاصية الإمتاع، أهمية مزدوجة. فهو يعد شكلا من أشكال الشهادة على ما يخترق التواريخ، وهي تتأسس عبر تقاطع الحياتي مع السياسي، من تحولات مفجعة تربك التاريخ ذاته، ويعد في الوقت نفسه كتابة تتسم بطابع حميمي خاص يتلون بوجهة نظر امرأة وضعها التاريخ والحياة في قلب أسرة كان مصيرها مرتبطا بتاريخ شعبها السياسي، لم يكن أمامها، وهي تعيش حالة انفصالها الجسدي الدائم عن فضاء هذا التاريخ إلا أن تعيده عبر أوتار الروح والحساسية لتجعل منه بوابة للذاكرة على ما لا يقوى التاريخ على نسيانه، أو محوه. لا يتبع الكتاب في تنظيم مادته قواعد مرسومة من قبل ومكرسة أدبيا، وإنما يتبع إيقاع خاصا يمكن نعته بإيقاع نبض الذاكرة في حريتها غير المرتهنة إلى خطاطة جاهزة. وقد كان إدوار سعيد محقا تماما حين اعتبر الكتاب بمثابة (ذخيرة تاريخية مؤلفة على شاكلة فسيفساء من شذرات). كتاب يشدك، مهما كانت وطأة الزمن ملحة، إلى أن تواصل قراءته، وكأن صوتا ما خفيا مجهولا يخاطبك، إنه صوت ما لم يرو، صوت البدايات التي ظلت دوما بدايات، ولم تعرف كيف تنجب النهاية، بدايات ألم الأرض وهي تستبدل أشجارها الأصيلة بأخرى غريبة لا تسمح للندى بأن يكون ندى.. بدايات ألم يمتزج بألم الحياة وهي تفرض صيرورتها غير المنطقية على من يعيشها، ولذلك نجد الكتابة في هذا الكتاب تتراوح، في تمرير موضوعها عبر متحكمات أسلوبية مختلفة، بين العاطفي، والتقريري، والوصفي، والتأملي، والإنساني وذلك انسجاما مع طبيعة معايشة الموضوع، حيث تصير الحقيقة مستقاة لا من خلال التعليل والتفسير المستندين إلى التحليل، بل من خلال تعقب أثرها في الناس وهم يجسدون ملامحها عبر النفي والتشريد واستبدال الأمكنة. إن كتاب (ذكريات من القدس) يجسد ملمحا مميزا في أسلوب الشهادة على العصر، كما يعد ممرا ضروريا نحو ملامسة تحولات تاريخ القضية الفلسطينية.
ذكريات من القدس
محمد العناز