يرسم القاص والروائي العراقي عالم جنرال عسكري عراقي متقاعد، ترمل وبات يعيش وحيدا بين الواقع وتهويمات ذاكرته التي أصابتها الفوضى فأختلط الماضي بالحاضر، الأحلام والخيالات بالأحداث، فيتوهم أنه بصددد العودة إلى السلطة بانقلاب جديد، فيبكر فجراً في ساعة الصفر محاولا أمساك وهمه.

إحساس روماني

وحـيـد غانـم

 

كان على النقيب المتقاعد محمد الكاظمي تَهْيئة قيافته العسكرية. سار بثبات ملامساً أعقاب المارة بطرف عصاه. كانوا يتلفتون مستغربين. ردّد بارتياح "خراف!" شعّت عروقه بالدم وهو يسوق قطيع أفكاره الغائمة. تطلّب منه بلوغ خيّاطه القديم نهاراً، سار طويلا حتى آذاه ضوء الشمس فتقهقر إلى شقته وغفا في كرسيه. كان عليه عبور شوارع تزحمها السيارات ثم الجسر وممرات باعة الأحذية في سوق حنّا الشيخ.

قال الخيّاط "عفوا.. بذلتك تتطلب عناية خاصة. لن أنتهي منها اليوم.."

ثم تساءل "هل يتم استدعاء الضبّاط القدامى للخدمة؟ خطوة صحيحة فالجيش الحالي بلا روح"

انتهى من تحديد قياساته وقال "والله أيام..! أظن أن قماشها انكليزي؟" ردّ النقيب " روماني !" جلس منتصب الظهر على أريكة نزعت مساندها وغطيت بشرشف أبيض، تجرّع الماء وهو يرفع العبوة إلى فمه ويقلب رأسه للوراء دون أن يغفل أصابع الخيّاط السريعة " روماني!" ردّد. تمطّت عينا الخيّاط وراء نظارته الغليظة. فرَشَ القيافة على سطح نضد محشو بالقطن يستخدم في كي الملابس وثبّت طياتها بالدبابيس. قال " أما انكليزي أو ألماني..! " غمغم النقيب " روماني!" ابتسم الخيّاط ثم مال جانباً وتفّ. قال النقيب وهو يستعد للمغادرة " متى بدأت تشكّ في قيافتي، شخصيتي المعنويّة؟"

كانت "شخصيته المعنويّة" محفوظة منذ سنوات بمعرفة امرأته وحماية الكرات السامة. لا نسمة حرّكت غبارها ولا أحد اهتمّ بأشواقه الغامضة حتى تنادت الأشياء أخيراً. هو نفسه لم يتوقع بعد وفاة زوجه أن اهتمامه بمبولتها في المستشفى سيثير انتباه احد، لكن المضمد جلب الإناء القديم المصفر إلى شقته. هديّة مغتصبة تقبّلها النقيب ممن ادعى أنه خدم في لوائه دون أن يتوصّل إلى تذكّر ملامحه.

استحوذت مبولة المستشفى على مشاعره. أثناء مرافقته لزوجه كانت روحه تنسّل في الليل وتلجّ الإناء أسفل سريرها، حرقة أنينها رافقت قطرات تعلق بقضيبه الرخو وتؤلمه. كان ينظر إلى ثنايا الستارة البيضاء ويتنهد، وهو يعلم أن امرأته تصغي لخريره الليلي لذا يختم الأمر بسؤالها إذا كانت تريد شيئاً.

استعاد عجرفته عندما أقلّه المضمد بسيارته إلى مكان سكنه. ثرثرا خلالها عن حروبهما القديمة. كانت مرآة السيارة الجانبية المصدّعة تعكس شواظاً لامعة. أصدر الكاظمي أوامره لذاكرة المضمد. لم يتفقا على الجبهات التي حاربا فيها لكنهما سخرا من عدم ثقة أحد باللواء "السياحي" الذي صدرت الأوامر دائماً بتحركه في غير اتجاه، بينما أثبت اللواء عن طريق المصادفة، أنه زاخر بالعناصر الفتّاكة، ففي الجبهات الطارئة أعطى زخماً نارياً إلى جانب أعداد الجنود القتلى من مزارعي محافظات الفرات. هبّ الموتى وأسرعوا إلى حلق ذقونهم الكثـّة وارتداء قيافاتهم. هدرت المدافع راسمة وميضا عكسته زجاجة السيارة الأمامية. كان فم المضمد بشفتيه الدقيقتين يطلق قذائف خلّب في سماء مغبرة، بينما انتقد النقيب عدم دقة إحداثياته.

استقلّ الكاظمي في شقة تجنّب أن يدخلها ضوء النهار. ألجم شبابيكها بقطع الكارتون والستائر ففسد جوّها. آمن أن الشرّ والفناء يكمنان في الحرّ والغبار ورؤية الشرفات والسطوح الخاوية. بعد ترمله طرد الجميع من حياته: أبناءه ومعارفه وسجائره. كان تخلى عن بيته لأبنائه ونسائهم بينما تحاشى سلوك الطرق التي تجتاحها التظاهرات. كان تدفقاً متواصلا للناس. سحن متعبة، قاسية، مجنونة، مواجهات وإطلاق نار. رصاص يخدش حواف الأرصفة، جذوع الأشجار، الحيطان، وقد أراد أن ينير عقول المتجمهرين قبالة مبنى المحافظة ذات يوم ، فأعلمهم بأن هذه البلدان لا تستقيم فيها الأمور بالتظاهرات. كان يهزّ عصاه وسط الجمع ساخراً من سذاجتهم، حينها حمله شابان وسط قهقهات وصفير المتظاهرين ودفعاه جانباً!

لكنه استبقى على ساعة الزمن التي يمضيها في محل الكاظمي لبيع مكائن وخردة القوارب قبالة ضفة النهر الموحلة. كان أنيسه سليم الكاظمي قاضياً عجوزاً متقاعداً شحيح الكلام انزوى في محل قديم. المكان الذي تحني طرفه البعيد قبة كنيسة قديمة وبقايا خينان سكنتها العائلات النازحة وحطام بشر.

يلهو الكاظميّان بمراقبة الناس وضجيج باعة الخضار والسمك. لم يكن ذلك يكلفه شيئاً بعدما استنزفه مرض امرأته، فلم يفصّل بذلة جديدة منذ سنة وقد كفّ عن العناية بهندامه. كانت زوجه تصغره سناً، في حين بدت جميلة في رحيلها، وجنتاها طريّتان وخصلاتها صهباء، وفي ليلة موتها انحنى عليها وسألها إذا كانت متأكدة من وجود قيافته في مكانها، لكنها رمقته كالطفلة وهي تمدّ لسانها له!

أقسم لصاحبه الكاظمي أنها مدّت لسانها!

لم يشذّ النقيب عن القاعدة. في الحروب يقترن الضبّاط بالصغيرات الجميلات ثم يمضون حياتهم العابثة بعيدا عنهن.

أيقظته طرقات خفيفة متتالية على بابه الحديد، ربما بعد الرابعة فجراً، الساعة التي تتضافر خلالها صيحات مؤذني الجوامع. نهض وقد لفّ جسمه بالروب المخضّر الحائل وفتح الباب. رفع حاجبيه دهشاً. كان المضمّد يبتسم وهو يضم يديه، ثم اعتذر قائلا " اعلم أن الوقت غير مناسب سيدي، لكنهم سعدوا عندما أخبرتهم أنك مازلت حيّاً، لذا كلفوني بإعلامك. سيتصلون بك لاحقاً. إليك التعليمات..!"

لم يستوعب الأمر. ماذا يعني؟ من هؤلاء؟ كان حائراً بينما صمّ دوي المآذن أذنيه، خطر له أن يصرخ في أعقاب الرجل الذي توارى في عطفة السلّم، لكنه انتبه على الظرْف الذي في يده.

فكّر بشكل المضمد وحاول تذكّر ملامحه، إنما مخزن الصور في داخله كان خاوياً. حلّ الجيش القديم واندثرت الوجوه. شكّ بظل فتى من محافظة الديوانية، كانت ذكراه مفاجئة وساطعة حتى أنه بدا بلا ملامح . تذكّر الفتى المجنون بالحرب الذي كان يتقدّم الجنود حاملا العلم، وكما هو معتاد مزقته قنبرة هاون. ميّتٌ حيّ. بينما أرسل إلى ألمانيا لترميمه. كان محظوظاً بالتفاتة وزارة الصحة من باب الدعاية آنذاك. لكنه عاد كالحصان، بعرج خفيف ورغبة جامحة بالحرب.

طار نعاسه عندما قرأ السطر الوحيد الذي خربش بطريقة ما على الظرْف المصفرّ من الداخل" تحيّة وتقدير. استعد للمشاركة في الثورة. رفاق السلاح " ارتعدت أطرافه فشرب جرعة ماء بينما نسي العبوة البلاستك بيده وهو يدور في غرفته مغمغماً. خلطت المفاجأة مشاعره، السرور والقلق وشيء كالغضب بدأ يشعّ في عينيه. كان يؤمن بأن دوره في الأحداث لم ينته بعد، لكنه شعر بالإحباط لأنه لم يعد يتذكّر خطط الانقلابات التي رسمها سراً فيما مضى وأرعبته كوابيسها، لم يعد يميز بين أفكاره وقراءاته الكتب الحربية وما سمعه. تساءل عن رتبهم وعدّتهم؟ ألا يتوجّب عليهم توضيح ما يناط به؟ أطال في تقليب الاحتمالات حتى استسلم ذهنه للتعب ونام.

قال العجوز وعيناه تسبحان في الضوء " لم يعد أحد يزور الكنيسة!"

رد النقيب " هربوا! ليس لهم عهد بما يحدث ولا أظن أن الأمر يعنيهم"

كان يسند مرفقه إلى منضدة الحديد الصدئة في محل الكاظمي وهو ينظر إلى سحنة القاضي الناعمة، إذا عاش ثلاث سنوات في العتمة فسيحوز الشحوب نفسه ويسير كالأموات. طرد الخاطر بحركة لا إرادية من يده. طيلة أسبوع حاول أن يتجاهل ما حدث منشغلا بفرز بذلاته القديمة وتنظيفها بالفرشاة، العمل الذي كانت امرأته تتقنه حتى في مرضها. لكنه لم يستطع تجاهل التفكير بقيافته العسكرية المحفوظة في حقيبة الجلد أعلى الدولاب. كان عليه تجهيزها، إلا أن سحنة الخيّاط، تفّاته الخيوط، هدير انفاسه، قفزت إلى ذهنه فجأة!

ابتسم العجوز وقال" إنهم يؤمنون برب الجنود. صحيح.. نحن لسنا ضباطاً في نظر القدير!"

زمْجَرَ النقيب ونهض نافضاً الصدأ عن مرفقيه " كيف حدث هذا؟"

منذ الليلة البارحة وهو يحاول العثور على الظرْف، بحث هنا وهناك، حملق في زوايا غرفته، انحنى تحت السرير متوقعاً رؤية المبولة، لكنه تنشّق رائحة التراب. أمضى الوقت في تأمل قيافته الرومانية من عدة زوايا. رفعها بيده ثم بسطها على السرير ومسّدها، افتخر بجودة قماشها وتشمّمها، وعندما ارتداها تريّث طويلا قبالة المرآة. اكتشف هزاله داخلها. كانت طيّات القماش تتراكم عند خاصرتيه. لفّ البذلة ودسّها في كيس بلاستك. متى زار الخيّاط آخر مرة؟ كان ينوي الخروج حينما رأى الظرْف على البلاط جنب الأريكة. التقطه وتلمّس حافته. كان ملصقاً. عاود الجلوس وفضّه بتأن " تحيّة وتقدير. نودّ إعلامك بضرورة أن تكون على أهبة الاستعداد. رفاق السلاح"

قرر عدم مغادرة شقته كي لا يفوّت اللحظة الحاسمة. نذر نفسه لقيافته، كان يرتديها عند الفجر ويخلعها في المساء، مستعيداً الشعور بسلطته على الظلال القديمة، حتى أنه غفل عن مواعيد وجبات الطعام. كان يترقّب طرقة على الباب، إيعازاً ما، ورود إشارة بالتحرك " ساعة الصفر! " كان يردد متصلّباً على كرسيه قبالة الباب. يوماً بعد آخر يستحّم ويحلق ذقنه ويثبّت البيريه على رأسه في وضع مائل قليلا. كان ينتفض عندما يسمع صوتاً، وقع أقدام على السلم، ثم يعاود السير بخطوات موزونة جاذباً أطراف قيافته.

بعد أيام من الانتظار آذاه الصداع وآلمته عظامه. ساوره الشكّ بلمسات الخيّاط على بذلته، تثبيت الكتافيات والنياشين وشدّ الكمر، ارتخاء عقد الأزرار، كان هناك خطأ ما. أزاح الستارة ونزع قطعة كارتون متطلعاً عبر النافذة إلى الجهة الشمالية حيث لقحه تيار هواء بارد. كانت أضواء خافتة متناثرة وظلال تتجه نحو ضفة النهر. جذبته أشباح تتوارى بعيداً فنزل إلى الشارع.

سار مرتدياً قيافته العسكرية وعصاه تحت ذراعه وكأنه في جولة تفتيش. لم يطأ تلك الأنحاء في الليل. قبل وفاة امرأته كان ابنه البكر يقلّه في سيارته عند الضرورة. كلما تقدّم في الأزقّة المظلمة اكتشف أكوام النفايات وحيوانات الظلام والعفونة. رأى ناراً وخيالات بشر فاتجه نحوها ملازماً ضفة النهر. كانت الأشياء محاطة بهالة غريبة حتى أنه أضاع موقع محل الكاظمي. غذى بعض الرجال نارا أوقدوها في إطارات العربات والنفايات وانتشر دخانها في الهواء. ما أن دنا النقيب حتى نهض رجلان واستدار آخر. تمعنوا فيه بريبة وتركوا ما بأيديهم. كانت وجوهم متّسخة . قال النقيب "ماذا تفعلون هنا؟" تساءل أحدهم " من هذا؟ لا أظنه ضابط شرطة؟ ماذا تريد؟ من أنت؟" تقدم الرجال نحوه. قال النقيب " هل خدمتم في الجيش؟" " ها؟ يا جيش عمي؟ ما هذا؟ بلت على نفسي من الخوف!" تضاحكوا وأحاطوا بالعجوز بينما نفخوا دخان سجائرهم في وجهه. ترنّح أحدهم ولمس بذلته قائلا " هيّا أعطني هذي!" كانت النار تشتعل في عينيه. سحب النقيب عصاه ومررها تحت ذقونهم قائلا "عليكم أن تصغوا إليّ جيداً. إنني أنتظر ساعة الصفر. لحظة الانطلاق.. هل تفهمون؟ لم أشك أن الأقدار خبأت شخصيتي لفرصة عظيمة. لقد حرمت من ترقياتي ودورات الأركان والامتيازات. اليوم أعرف السبب. لأن الأهداف العظيمة لا تتضح إلا في النهاية.."

كانوا يصغون إليه بذهول. بدا صدى أفكاره عظيماً في الظلام. أراد أن يواصل كلامه، لكنه لم يفهم سبب قهقهاتهم .. فجأة تقافزت أشباحهم وسط النار والدخان، ثم سحبوه نحو الضفة الموحلة وجردوه من بذلته.