يصور الكاتب العراقي في نصه المكثف ما جرى للموصل حينما أقتحمها برابرة "داعش" القادمين من ظلام التاريخ، من خلال حياة فنان تشكيلي مشهور وزوجته عارضاً العالم الداخلي للمرأة، وقلق الأنتظار والرعب من لحظة أقتحام الدار العاجة باللوحات التي كدست مع سيادة ثقافة القرون المظلمة، نص بتقنية محكمة جاهز للأخراج.

أوبرا: حريق نينوى

فخـري أميـن

 

شاشة كبيرة. مكان يفترض أنه بيت. الفنان وزوجته وفاء

المشهد الأول:

الرسام يحدث نفسه، وهو يؤدي راقصا حركات عشوائية متخبطة: أن تفلت الأشياء من سطوة يدي، أن تغادر الألوان عيوني، أن تختفي الحدود بين أشياء عالمي، وتتحول أشكالها إلى حالة هلامية، متحركة وخادعة، يعني خسارتي لكل شيء (هنا يمكن للشاشة أن تعرض الرؤية القريبة من العماء). يقول لي الطبيب لا ترسم، حافظ على ما تبقى من نور في عينيك. إنه مجنون لا يفهم ماذا يعني ذلك، يعني الاستسلام للعماء، يعني خسارتي لعالمي كله، لكرتي الأرضية برمتها، يعني لي فقدان اي معنى أو مبنى أو قيمة أو طعم للحياة، لا لالالا..

يهتف: وفاء، وفاء، تأتي زوجته مسرعة، خذيني إلى الورشة..

وفاء وهي تسير إلى جانبه: ارحم نفسك يا حبيبي. أكثر من نصف قرن وأنت ترسم، أعمالك كانت مطلوبة، وتعرض في المعارض الدولية في لندن وباريس وروما وعمان وبيروت. لكنك منذ ثلاث سنوات لم تفلح في تسويق قطعة واحدة، لا أحد هنا يجرؤ على اقتناء لوحة بسبب تحريم المتشددين، وعمليات التهريب توقفت ايضا نتيجة الخوف من سطوة المجاهدين، وأعمالهم الانتقامية الفظيعة، لقد غص البيت بأعمالك، واختنقت بها الجدران والفضاءات.. (هنا وظيفة الشاشة في عرض مشاهد من البيت، لوحات معلقة، وتماثيل، وغيرها)

الفنان: دعيني من هذا الكلام فوفيتي، لوحة جديدة تطرق جدران جمجمتي: اسكتشاتها مرسومة في ذهني منذ مدة بدقة ووضوح: الموصل تستغيث، قبابها، منائرها، كنائسها، جوامعها، خيولها، كلابها، اشجارها، ثورها المجنح، ونساؤها كلها ترفع اياديها إلى سماء من الاسفلت والرصاص والدخان، سأنفذها كلها بالأسود والرصاصي والأحمر القاتم، لتكون قطعة من جحيم..

وفاء: لوحة أخرى، مخلوق مارق آخر، كفر آخر عقوبته حز العنق. منذ سنوات ونحن في هذا البيت نعيش في وضع حرج بسبب مخلوقاتك يا حبيبي، علاقاتنا بالآخرين باتت محدودة جدا، ونخشى زيارة أي شخص لا نثق به..

وهي تقوده: ولكن قل لي كيف سترسمها وأنت لا تكاد تميز طريقك..؟

 

المشهد الثاني:

يقف الفنان أمام السطح الأبيض للوحة مستطيلة مثبتة على ستاد، مع نفسه : أنا والكانفاس والألوان والفرش والسطامات قصة عشق لا نهاية لها وغرام دائم التأجج. تعد له زوجته الألوان. يبدا بالضرب عشوائيا على الكانفاس (يمكن بواسطة التقنيات تمثيل سطح اللوحة على الشاشة، تتحول ضرباته فيها إلى سماء مغبرة، وأدخنة، وغيوم..)

الفنان لزوجته: وفاء أنا لا أرى على اللوحة غير السواد، أضيئي أكثر، أنا لا ابصر التفاصيل بوضوح، أضيئي كل المصابيح، كل البلاجكتورات، أضيئي..

تشعل وفاء كل مصابيح الغرفة، واحدا بعد الآخر..

بإلحاح أشد: اضيئي أكثر، أكثر..

وفاء وهي تتألم بعمق: آه يا حبيبي ماذا بوسعي فعله..؟ كل شموس الدنيا لا تستطيع أن تقشع الغيوم الثقيلة المتراكمة في سماء عينيك.

تظلم الشاشة فجأة، ويسمع صوت دوي بعيد، ومن حولهما يسقط العالم في عتمة كثيفة. الفنان يصرخ: وفاء..ما الذي يحدث..؟ وهذا الظلام الثقيل من أين يجيء..؟ إنني لم أعد قادرا على ابصار اللوحة كلها، لا أبصر الأشياء، حتى أنت لا أراك.. وفاء حبيبتي أهي الظلمة في عيوني أم ظلام الغرفة..؟

وفاء: انها الكهرباء يا حبيبي.. الكهرباء انقطعت..

يسمع في ذات اللحظة دوي انفجارات، واصوات رشاشات ثقيلة تقترب، فيما على الشاشة يظهر رجال مسلحون ملتحون بالزي الافغاني، في سيارات بيك آب من نوع عذاري، ورايات سود تنتشر على جدران المدينة..

وبعد هنيهة تأمل تتخللها موسيقى حزينة مختلطة بوقع خطى ثقيلة..

وفاء: والعالم أيضا، العالم سقط في هاوية مظلمة يا حبيبي..

ثم برعب: لقد وصلوا.. جنود الخلافة (الدواعش) وصلوا، وحل وباؤهم القاتل في المدينة..

 

المشهد الثالث:

أخبار في شكل أصوات، يمكن أن تظهر على الشاشة ايضا في صورة كتابة أو فديوهات وصور..

صوت: جند الخلافة يحرقون متحف الجامعة..

صوت: جند الخلافة يحرقون المكتبة العامة..

صوت: جند الخلافة يصادرون بيوت النازحين والمرتدين والكفرة والمارقين..

صوت: جند الخلافة يعدمون في الشارع شخصا عثر على قرص اغاني في سيارته ويحرقون السيارة..

صوت: جند الخلافة يدمرون متحف نينوى التاريخي، ويحطمون كل شواهده وتماثيله..

صوت: جند الخلافة يحرمون استخدام الموبايل..

صوت: جند الخلافة يحرمون خروج النساء من غير محرم..

صوت: عمليات حرق وإعدام جماعي للكتب واللوحات في الشوارع والساحات العامة..

صوت: جند الخلافة يأمرون النساء بالتحجب الكامل بارتداء عباءات سود من قمة الرأس إلى اخمص القدم..

صوت: جند الخلافة ينسفون بيت الفنان قاسم.. وينفذون به حكم قطع العنق امام اهله..

صوت: جند الخلافة يحرمون مشاهدة التلفزيون ويقومون بمصادرة الأطباق الفضائية..

صوت: جند الخلافة يشنون حملات تفتيش في البيوت بحثا عن أطباق البث الفضائي، وبقية المحرمات من كتب ولوحات وتماثيل وأغاني وأقراص وادوات موسيقية وأسلحة..

يعتمد هذا المشهد على حركات وفاء الراقصة وهي تجسد حالة الرعب والهلع الذي تعيشه، على وقع الصهير الناري المتدفق للأخبار الجحيمية.. (بين الخبر والخبر مسافة زمنية قصيرة تملؤها موسيقى دقات قلب بينما تؤدي وفاء تحت بقعة الضوء دورها في التعبير عن إحساسها بالهول وهي تتلقى بها كل خبر)

صوت الفنان صارخا من كتلة الظلام في رعب داخلي عميق: وفاء ما الذي يحدث هنا، لم أعد أرى شيئا، ظلمة حجرية سدت فجأة عيوني، هل الليل نزل بغتة هكذا..؟

(بقعة ضوء على الفنان وهو يؤدي حركات تدل على تخبطه وحيرته في الظلمة)

وفاء وهي تحتضنه: أجل يا حبيبي هو الليل، واي ليل..؟ ليل لا قمر فيه ولا نجوم. سماؤه مثل عينيك خاوية من اي نور، وغيومه حجارة وادخنة شديدة الاسوداد..

الفنان يهمس بيأس: ماذا تعنين هل صرت أعمى، أريد نور، وفاء حبيبتي أريد نور..؟

يتخبط ضائعا بحركات عمياء فاقدة الاتجاه وهو يصرخ: نور، نور، خيط من نور، لكي أبصر لوحتي..

قليل من نور لكي أرى طريقي..

وفاء باكية: أواه يا حبيبي انا نورك في ظلمات هذا الزمن الجهنمي البذيء ..

الفنان يستمر في الصراخ بصوت شاحذ: نور، أريد نور، أعطوني نور..

يتداعى على الأرض ناشجا، وهو يردد: نور، نور..

تمسكه وفاء، وتساعده على النهوض، وهي تحدق في عينيه بمزيج من العشق واليأس والألم، ثم بصوت تبلله الدموع: لا تيأس يا حبيبي ساتبرع لك بعيني الإثنتين إذا لزم الأمر..أنا مستعدة أن أحرق نفسي من اجل قطرة نور تضيء هاتين العينينين الجميلتين..

 

المشهد الرابع:

طرق مفاجيء على الباب..

يتشنج وجه وفاء خوفا، تفتح نافذة تطل على الطريق..

وفاء: لا احد قرب الباب..

على الشاشة.. في الشارع تمرق سيارات بيك آب تحمل رايات سود، وعلى ظهرها رجال مسلحون..

يتكرر الطرق بإلحاح أشد، تتجمد في وجه وفاء ملامح الحيرة والفزع، تتنحنح وبصعوبة تجد صوتها: من...؟

يأتيها صوت صبي صغير من تحت : أنا جائع خالتي، أعطوني شيئا لوجه الله اسد به رمقي..

مع نفسها: جاسوس من جواسيسهم..

وفاء: الله يعطيك..

صوت الصبي: لي ثلاث أخوات وأمي، نسكن جميعنا في خربة متروكة، ونكاد نهلك من الجوع..

وفاء: رح.. لا شيء لدينا الآن.. إذهب..

صوت الصبي: أبي قتل في القرية أيتها الخالة، ونحن هربنا بملابسنا، وليس لدينا ما نقتات به.. صدقيني..

وفاء وهي تقاوم بصعوبة كبيرة مشاعر الشفقة في داخلها: نفس الحكايات، حكايات متشابهة إلى حد التطابق، لا يمكن تصديق احد، في زمن الخديعة والكذب والمكيدة، زمن الاستخدام الوضيع والمنحط لأنبل وأقدس المشاعر الإنسانية، لا يمكن تصديق أحد حتى لو كان صادقا..

صوت الفنان من غرفة اخرى: ماذا يحدث عندك فوفيتي..؟

وفاء: مكدي آخر، خدعة أخرى، مكيدة جديدة، إنهم يا حبيبي يستكشفون البيوت ليصادروها..

مع نفسها: انا خائفة من كثرة مرور المكادي بهذه الكيفية على بيتنا بالذات، واشعر ان ثمة غاية خفية وخبيثة وراءها، وكلما يطرق الباب أشعر بالخطر يقترب، أتوقع قدومهم وأتصدع رعبا..

 

المشهد الخامس:

في الغرفة وفاء تجلس إلى جانب الفنان، ويدها تربت بحنو على يده..

الفنان: آه فوفيتي إنني أتهاوى اشلاء..أشعر أنني بدأت أتصدع من كل جانب مثل تمثال عتيق، أنا أتلمس كتلة الأشياء بيدي لكني لم أعد قادرا على تحديد ماهيتها، الشكل او الكائن الذي يقطن فيها، ما ينبض في داخلها من رسائل وأفكار، عيوني المثقلة ببكاءات مكبوتة لماض طويل جدا، والتي تعرضت للتجفيف من كثرة التحديق في تحولات ألوان الطيف، خذلتني الآن، لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الإنهاك، جسدي الذي صدمته الابواب المغلقة وسحقت راسه المخاوف بدأ يتصدع، إنني أتفكك بكل معنى الكلمة، أتفكك بصورة بطيئة يا حبيبتي

وفاء: لا تحزن كثيرا يا حبيبي لأنك لا تبصر، فإننا لا نرى حولنا سوى مشاهد قياماتية بشعة ومرعبة، يصنعها أجلاف بلحى قذرون ومتعصبون، انحدروا إلينا مثل جراد فاتك، من صحراء جافة، في عمق اسطورة نائية، أزاحوا الله جانبا، وتسلطوا على مصائر البشر: قطع الرؤوس في باب الطوب، حيث تتدحرج الرؤوس أمام انظار الناس المجمعين بالقوة، وبين ارجلهم كالكرات، وتعليق الجثث على أعمدة الكهرباء في الشوارع والجسور، ورمي الناس من اسطح العمارات العالية، والحرق حتى الموت في أقفاص حديدية، والخنق والإغراق في ذات الأقفاص تحت ماء النهر ووووو (يمكن الاستعانة بالشاشة في تفصيل المشهد).. لا تحزن على نظرك الآن يا حبيبي، وحين تعبر الزوبعة سنجد طريقة لإعادة النور إلى عينيك الحالمتين..

الفنان: وهل تصدقين انها ستعبر..؟

وفاء: دعنا نعيش على قليل من الأمل..؟ هل عرفت أنهم القوا القبض على (حاج رياض) المتخصص في إنتاج نسخ مزيفة من لقى وشواهد آثار نينوى، وبيعها لمن لا يعرف بوصفها لقى اصيلة، لكنهم لم ينسفوا بيته هذه المرة، ولم ينحروه كما أعتادوا، بل استولوا على كل ما لديه من تلك النسخ، وطلبوا إليه ان يتعاون معهم في إنتاج المزيد منها..

الفنان: هذا أمر طبيعي لأن هذا الرجل ليس فنانا، إنه مجرد مقلد ومزور، وهو سبق له أن اشترك مع شبكة كبيرة في عمليات تزوير العملة، لهذا سرعان ما تفاهم معهم لأنهم لصوص مثله، ومزورون مثله، زوروا كل شيء حتى الدين..

طرق إيقاعي مميز على الباب: إنه حمودي.. تذهب وفاء..

الفنان مع نفسه: أشعر أن قبضتي على محيطي بدأت تتراخى، وأنني أطوف مثل شبح في نوع من اللامكان الهلامي المعتم، أليس في الإمكان بطريقة ما خلط الحواس، أن أتذوق الألوان والخطوط، أو أرى الأشياء بأصابعي، أو اشم رائحة الضوء ورائحة الظل، في إيطاليا قال لي أحد أساتذتي المهووسين أن بوسع الرسام الرسم باذنيه. آه.. لقد بات العالم من حولي ضربا من عدم الوجود .. ترى ماذا يحمل حمودي معه من أخبار، لا بد ان أمرا مهما حمله على القدوم في هذا الوقت..

تعود وفاء مذعورة: جند الخلافة يفتشون أحياء السكر، والزهور، والجامعة.. الوباء القاتل يقترب منا يا حبيبي..

 

المشهد السادس:

وفاء وحدها تناجي نفسها وامامها كومة من اللوحات: إنه في الغرفة المجاورة يغط الآن في نوم خفيف.. حبيبي أنا مجبرة على فعل ذلك.. هي معادلة بسيطة: إن دخلوا بيتنا وعثروا على مخلوقاتك الرائعات، نسائك العاريات، التي انجزتها أثناء بحثك الدؤوب عن القيم الخالدة للجمال الأنثوي، أو اطلعوا على لوحاتك الجريئة المبثوثة في كل مكان من البيت، لن تنجو أنت ولا أعمالك ولا البيت من انتقاهم البشع، سيقومون بنحرك أمام عيوني، ويحرقون ويفجرون كل شيء، وياخذوني سبية إن لم ينكلوا بي ويقتلوني.. أعرف أني لو أخبرتك بما نويت فعله في حالة الضرورة، وقت دنو الخطر، كنت سترفض بقوة، وستهددني، وتصرخ بي دعيني أواجههم وحدي.. لكني لن أدعك لمصيرك وحدك يا حبيبي.. بقاءنا على قيد الحياة معا أهم عندي من كل لوحاتك وتماثيلك..أما اسمك وتاريخك فهو محفوظ في عشرات المتاحف الفنية في أهم عواصم الدنيا.. سامحني زوجي وحبيبي أنا مجبرة، وهو يبدو قدر هذه الأعمال..

توقد بيد مرتعشة النار في كومة من اللوحات..

بتصاعد اللهب من اللوحات بينما وفاء تؤدي رقصة مرعبة.. تتلوى مع ألسنة اللهب التي تبدو كأنها تتصاعد من جسدها أيضا..

الفنان يطل من باب في زاوية الغرفة متخبطا بطريقة عشوائية: أشم رائحة دخان، وفاء ماذا يحدث..؟

وفاء خائفة تلوذ بصمتها بينما الفنان يصرخ: رائحة حريق وفاء.. أين أنت حبيبتي..؟ يتقدم بخطى متعثرة ناحية اللهب المتصاعد، تسارع وفاء للإمساك به.. يحتضها بقوة متنهدا: كنت مخلوع القلب عليك.. ولكن ماذا يحدث قولي لي ما الذي يحترق..؟

وفاء: في غرفة المخزن سقطت شظية وأحدثت حريقا صغيرا..؟

الفنان: يعني النيران التهمت كل الأعمال هناك، ولكن هذا حريق آخر هنا.. في غرفتنا.. في هلع ورعب هائلين: وفاء قولي لي ما الذي يحدث هنا..؟ هل احترق كل شيء..؟ يتخلص من يدها بالقوة، ويتجه نحو ألنار المتاججة، تلتقط ذيل دشداشته النار وتتصاعد بسرعة إلى وجهه، يجري واللهب يتصاعد منه، بصطدم بالجدار ويسقط على الأرض، ترمي وفاء فوقه ببطانيات لتخنق النار، لكن النار تتصاعد بقوة اكبر ملتهمة حتى البطاطين.. وفي لحظة ياس مطلقة ترمي وفاء بنفسها وسط ألسنة النار المتصاعدة منه، وتحتضنه بقوة.. بعد بقليل يسود هدوء الموت.. لا شيء غير ازيز النار، وهباب الدخان الأسود يغطي كل شيء..

يمكن الاستعانة بالشاشة في أداء هذا المشهد.. الحريق في الشاشة والاداء في المسرح..

 

المشهد السابع:

بطريقة هادئة ومفاجئة ينهضان من موتهما، هنا نسيج من الحلم والحقيقة، بقع ضوء ساطعة، وسط إنارة شبحية خافتة وغامضة، على الشاشة مساحة مستطيلة من البياض أشبه بكانفاس كبير، يتجه الفنان تلقائيا نحوها يضرب بفرشاة كبيرة على البياض فتظهر تدريجيا لوحة جورنيكا الشهيرة لبيكاسو.. بينما تؤدي وفاء وسط بقع الضوء الساطعة رقصة باليه جميلة، وصوت عميق يتلو ببطء أو يغني (يمكن كذلك أن تظهر على الشاشة بحروف كبيرة واضحة):

نحن الذين احترفنا خلق الجمال ببراعة وردة،

نبني هنا حبنا بينما عالمكم يغرق في الوباء،

لا تأسوا كثيرا علينا، إن متنا حرقا،

النار الصاعدة ألسنتها حتى عنان السماء

صارت عيون ماء في لوحة من نرجس وتوت وحندقوق وجلنار،

النار لا تلتهم أمثالنا..

نحن نرى الآن بأسى ما ينقص عالمكم لكي يكون جميلا مثل لوحة،

إن عالما يدين بدين القبح،

ويؤدي طقوسه بنشر الخراب والموت والجهل والفساد،

عالم ماض نحو انقراضه الأكيد،

ولا مكان له في ذاكرة المستقبل..

ووقت يأتيكم فيضان النار،

ولن تجدوا وسط امواج اللهب المتصاعد نوحا آخر يقود سفينته،

تعالوا إلى حانتنا،

آمنوا بديننا البريء براءة وردة،

نحن عشاق البهجة واللذة والحب والجمال..

 

المشهد الأخير

الفنان وزوجته تحت الأضواء على منصة المسرح، وهم يؤديان حركات تعبر عن شكرهما للحضور، بينما تمر من خلفهم على الشاشة مشاهد وتيوبات عن الخراب المريع الذي اصاب المدينة القديمة، وفي الهواء تنبض سمفونية حريق نينوى، وتذوب تدريجيا في الصمت والظلمة والسكون، فيما على الشاشة يتجمد مشهد أخير، لجثث متناثرة وسط الحجارة والأنقاض..

صمت.....

ملاحظات:

1. توظف أعمال الفنان راكان دبدوب، وهي متوفرة على الشبكة، فديوهات وصور، ويمكن كذلك الاستفادة من أعمال فنانين آخرين لإيضاح وتعزيزالفكرة إن تطلب الأمر، ذلك متروك لتقدير المخرج..

2. ثمة مقطوعة موسيقية اسمها حريق نينوى، يقال أن اصلها آشوري، وهي أقدم سمفونية في العالم، تؤرخ للحظة خراب نينوى وحرقها زمن انهيار الامبراطورية الآشورية، وهي توفر نوعا من جذر تاريخي وحضاري للعمل، يمكن توظيفها في بعض لحظات النص.. خاصة انها تتوفر على خاصية درامية أحيانا، وغنائية حزينة أحيانا اخر.. كما يمكن استخدامها في بداية العرض، مع عرض مشاهد من خراب نينوى في العصر الآشوري، قبل الدخول إلى العمل، كنوع من تقديم أو تمهيد نفسي وذهني للعمل..

3. بوسع المخرج دمج بعض المشاهد في مشهد واحد، ذلك متروك لحاجات ومتطلبات الإنتاج..

4. من الأفضل أن يقدم هذا النص على شكل أوبرا راقصة، بيد انه من الممكن الاكتفاء بأداء تمثيلي، ذلك ما تقرره ظروف المكان وإمكانيات المنتج

5. يمكن على نهاية المشهد الأخير، إضافة كلمات تظهر على الشاشة: الموصل تتلفت نحوكم.. الموصل بحاجة إلى أياديكم لتنهض من جديد..