ينسج الروائي الأرجنتيني نصه الروائي الممتع بطريقة مونولوغ داخلي طويل يرويه رسام غريب الأطوار يشعر بالإحباط من الحياة وبلا جدواها وعبث الوجود وغرابة الكون فيتعلق بأمرأة تزور معرضه وتتأمل لوحة كثف فيها هذا المعنى فتقوم علاقة أكثر غرابة تنتهي بأستكمال دائرة جنونه بقتلها.

النــفـــق (رواية)

أرنيستو صاباتو

تعريب: عمر العويني

 

«كان هناك في كل الحالات نفق واحد، مظلم ومنعزل. انه نفقي أنا»

1

يكفي القول بأني بابلو كاستال الرسام الذي قتل مارية ايريبارني. أعتقد أن الجميع يتذكر القضية، ولا داعي لتفاصيل أكثر حول شخصي. فحتى إبليس نفسه لا يعلم ما ينبغي أن يتذكره الناس ولا سبب ذلك. ولا وجود لذاكرة جماعية حسب اعتقادي، وهو ما يمكن أن يكون شكلا من أشكال حماية الإنسان.

إن مقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان" لا تعني أساسا أن نقائص الماضي قليلة، بل ولحسن الحظ لأن الناس هم الذين رموا بها في طيات النسيان. إن مثل هذه المقولة لا تكتسي بالطبع صبغة عالمية، إذ من خصائصي أنا مثلا أني أفضل تذكر الأحداث السيئة. ولو لم يكن الحاضر على غاية من الفظاعة تماما مثل الماضي، لقلت "ليس في الإمكان أسوأ مما كان". ذلك أني أتذكر عديد المصائب والكثير من الوجوه الانتهازية ذات القلوب القاسية وشتى الأعمال السيئة، بحيث تكون الذاكرة بالنسبة إلي خافتة كمصباح ينير متحفا خاويا وعفنا.

كم مرة بقيت شاخصا عدة ساعات في ركن مظلم من الورشة، بعد أن علمت بخبر في مخفر الشرطة. ولعل الأمر المخجل للغاية في سلوك الكائن البشري لا يظهر دوما هناك في الحقيقة. والأرجح أن المجرمين نظيفو السريرة في الأصل، ولا يفكرون في الإيذاء على الإطلاق، ولا أسوق هذا التأكيد لأني قتلت كائنا بشريا. إن في ذلك شرف لي، وأنا مقتنع بذلك تمام الاقتناع. السؤال الذي يطرح نفسه: هل الفرد كائن مؤذ؟ لو صح ذلك فلنبده وكفى! ذلك ما اعتبره الصنيع المجدي. تخيلوا معي أيها السادة كم هو مضر بالمجتمع أن يظل ينفث فيه سمومه. فبدل أن نتخلص منه، نكتفي بمقاومته ملتجئين في كل هذا إلى أمور مجهولة أو إلى النميمة وما شابهها من السفالة. وعلي أن أعترف الآن أني آسف لعدم القضاء على ستة أو سبعة أشخاص ممن كنت أعرفهم لما كنت حرا طليقا.

إن الفظاعة في عالمنا لحقيقة ليست في حاجة إلى إثبات. ويكفي حدث واحد لإقرارها:

اشتكى عازف بيانو من الجوع في إحدى المحتشدات، فأجبروه على أكل فأرة. و لكنها حية. لا أريد الآن التطرق إلى ذلك. ربما سأروي لكم فيما بعد خبر تلك الفأرة وبأكثر تفصيل، لو سمحت الفرصة.

2

اسمي كما قلت "خوان بابلو كاستال". أيها السادة لكم أن تتساءلوا عما دفعني لتدوين قصة جريمتي (ولا أدري هل وعدتكم برواية تفاصيلها) والبحث لها عن ناشر. إني خبير بأغوار النفس البشرية وأعرف أنكم ستتهمونني بالغرور يا سادتي. فكروا فيما تشاءون فأنا لا أبالي. صرت منذ لحظات غير عابئ بموقف الناس و نظرتهم لي. و لنفرض أني أنشر هذه القصة بدافع الغرور، فما أنا في نهاية الأمر سوى مخلوق من لحم وعظم، لي جلد وأظافر كأي إنسان آخر. فليس من العدل أن تشترطوا في أنا، أنا بالذات، صفات خاصة.

يحسب الإنسان نفسه متفوق أحيانا إلى أن يكتشف أنه تعيس قذر، غادر. أما عن الغرور فلا داعي للكلام. أعتقد أن ليس ثمة بشرا مجردا من هذا المحرك الأساسي للتقدم الإنساني. و كم أضحك ممن يتظاهرون بتواضع اينشتاين و من شاكله. ويكون الجواب عندئذ: "من السهل أن نكون متواضعين، خصوصا إذا كنا بارزين، أقصد نبدو متواضعين"، وحتى في حالة تصور انعدام هذا الشعور مطلقا، فإننا نكتشفه بسرعة وفي أدق أشكاله. انه غرور التواضع. فكم مرة نلتقي صدفة بفئة من هذا القبيل سواء كان أنسانا عاديا أو منزها مثل المسيح، فكلاهما يقول كلمات باعثها الغرور أو الكبرياء على الأقل. وماذا نقول عن ليون بلوي¹ الذي كان يدفع عن نفسه تهمة الصلف بحجة أنه قضى حياته في خدمة أناس لا يستحقون الذكر ولا يقاسون بشعرة في مفرقه. يوجد الغرور حيث لا نتصور وجوده إطلاقا:

إلى جانب الطيبة وإنكار الذات وصفة الكرم. لما كنت فتيا، كنت أحس بالقنوط كلما فكرت أنه على أمي أن تموت يوما (ولكن بتتالي السنين و تداولها نكون على يقين أن المنية ليست شيئا محتملا فحسب، بل مريحة كذلك)، ما كنت أتصور أن أمي يمكن أن تصاب. علي أن أعترف الآن – وهي غير موجودة – أنها كانت طيبة للغاية، بل نموذجا للطيبة التي يصبو إليها أي إنسان. ما زلت أذكرها وهي في سنواتها الأخيرة، وكنت آنذاك كهلا، وكم كان يؤلمني بادئ ذي بدئ أن أكتشف في أفضل أعمالها خيطا دقيقا من غرور وعزة نفس. حدث لي أمر على غاية من الدلالة لما أجريت عليها عملية جراحية لاستئصال السرطان الخبيث. لأصل إليها في الوقت، كان علي أن أسافر مدة يومين كاملين بدون توقف ولا نوم وعندما وقفت إلى جانب سريرها، أفصح لي وجهها الكالح عن ابتسامة خفيفة مشحونة بالحنان، وهمست بكلمات إشفاق (إشفاق علي من التعب) وأحسست في نفسي المدلهة بعزة وغرور لأني وصلت إليها في وقت مبكر. أعترف بهذا السر حتى تروا إلى أي حد لا أعتبر نفسي أفضل من الآخرين، ولا أروي هذه القصة غرورا. ربما أميل إلى تقبل نوع من الاعتزاز بالنفس والكبرياء. ولكن لم كل هذه الرغبة الجامحة في إيجاد تفسير لكل أحداث الحياة؟

عندما شرعت في سرد أحداث هذه القصة كنت مقرا العزم على عدم إعطاء أي توضيح. كنت أريد تدوين أحداث جريمتي وكفى. ومن لم ترضه فلا داعي لقراءتها. ولو أني أشك في ذلك لأن أمثال هؤلاء ومن يسعون وراء التدقيقات هم أكثر حبا للاطلاع ولا أخال أحدهم يضيع فرصة قراءة قصة جريمة من البداية إلى النهاية.

من حقي الاحتفاظ بالأسباب التي ألجأتني إلى كتابة صفحات الاعتراف هذه. ولكن ونظرا لأني لا أرغب في أن أكون غريب الأطوار، سأصدع بالحقيقة عارية. وهي في كل الحالات بسيطة للغاية. فكرت في إمكانية اطلاع العديد عليها لأني صرت اليوم أشهر من علم في رأسه نار. ورغم أنه ليس لي أمل كبير في الإنسانية عامة وفي قارئي هذه الصفحات خاصة، فمازال يحدوني بصيص أمل في أن يفهمني ولو شخص واحد.

و قد يتساءل بعضهم: "ولم بصيص أمل فحسب، خاصة وأن هذا المخطوط من المفروض أن يقرأه عديد الأشخاص؟"

هذا اللون من الأسئلة أعتبره غير مجد، ولكنها أمثلة متوقعة يطرحها الناس باستمرار، ويرونها ضرورية رغم عقمها. وبإمكاني أن أصرخ عاليا وأن أتعب نفسي بالكلام أمام جمع يضم مائة ألف روسي... ربما لا يفهمني واحد منهم. وهل يدركون ما سوف أقول؟

هناك شخص واحد يمكن أن يفهمني: انه بالتحديد من قتلته.

3

الكل على علم أني قتلت "مارية ايريبارني هونتار"، ولكن لا أحد يدري كيف عرفتها، وما نوع العلاقات بيننا، وكيف نشأت، وكيف نشأت فكرة قتلها. سأحاول رواية كل تفاصيل الواقعة رغم إحساسي الشديد بالذنب، فأنا لا أدعي الكمال.

عرضت لوحة بعنوان: أمومة في قاعة الربيع سنة 1946. كانت كسابقاتها على حد زعم النقاد وانتقادهم الذي لا أطيقه. أنها ثابتة وآية في النظام الهندسي. في نهاية الأمر لها من المميزات التي يجدها دائما أولئك الثرثارون في لوحاتي ذات "البعد الثقافي العريق".

كان يرى في أعلى اللوحة ومن الجهة اليسرى عبر النافذة الصغيرة مشهد صغير بعيد: بحر نائي و امرأة تنظر إليه وكأنها تنتظر أمرا ما. ربما كان نداءا ضعيفا بعيدا. المشهد يوحي إلي بوحدة مطلقة وبقلق. لم يمعن أحد النظر في هذا المشهد. بل كان الحضور يجولون بصرهم من فوق، كأن هذا المشهد أمر ثانوي أو هو للزينة فحسب، ولا أحد على ما يبدو أدرك أنه يمثل أمرا جوهريا، باستثناء فتاة مجهولة. توقفت ردحا من الزمن أمام اللوحة دون أن تولي اهتماما حسب ما يبدو للمرأة البارزة في صدر اللوحة. امرأة فارعة تنظر إلى طفل يلعب. و لكنها في المقابل أمعنت النظر في مشهد النافذة.

كنت واثقا آنذاك من أنها كانت معزولة عن العالم كله: لم ترَ من كانوا يمرون أو يتوقفون أمام لوحتي ولا تسمعهم. كنت أرمقها طيلة تلك الفترة بقلق. فوقعت بين نابي أسد. بين خوف لا يمكن دفعه، ورغبة جامحة في مناداتها أشعرتني بالحرج والتردد إلى أن اختفت وسط الزحام . أهو الخوف؟ ومم الخوف؟ ربما كان ذلك مخافة المقامرة بكل ما أملك في الحياة دفعة واحدة داخل مربع واحد في دوامة اللعب. لما احتجبت، أحسست بالغضب والحزن معا، وتصورت أني لن أراها ثانية بعد أن ضاعت بين ملايين سكان "بوينوس آيريس" النكرات.

عدت تلك الليلة إلى المنزل عصبي المزاج، محتدم الأنفاس، محزونا. و صرت أذهب كل يوم إلى قاعة العرض، وأمكث طويلا قرب لوحتي أتفحص الوقوف أمامها حتى انتهى المعرض. غير أنها لم تظهر مرة أخرى. لقد انحصر تفكيري فيها طوال أشهر خلت وفي أمل رؤيتها من جديد. كنت بشكل أو بآخر أرسم لوحاتي من أجلها، كما لو أن مشهد النافذة الصغيرة بدأ ينمو ويجتاح كل اللوحة وكامل كياني.

4

و أخيرا شاهدتها ذات مساء في الطريق. كانت تسير بحزم وعزم كمن كان عليه أن يصل إلى مكان معين و في ساعة محددة. عرفتها فورا وكان ذلك ممكنا لي حتى وسط الزحام. فشعرت بإحساس غريب لا يمكن وصفه. إن تفكيري الطويل فيها خلال تلك الأشهر الخالية، وتخيلي عديد الأمور، جعلني لم أدر كيف أتصرف حين رأيتها. كنت في الواقع فكرت وضبطت بدقة عديد المرات كيف سيكون سلوكي في صورة ملاقاتها.

أعتقد أني صرحت بأني شديد الوجل. لذلك أمعنت النظر وأعدته تحسبا للقاء محتمل معها وفكرت في طريقة استغلاله. إن الصعوبة الكبرى التي تقض مضجعي أثناء تلك اللقاءات الخيالية هي كيفية الدخول معها في حديث. أعرف الكثير ممن لا يجدون إشكال في تجاذب أطراف الحوار مع امرأة لا يعرفونها، وأعترف أني حسدتهم على ذلك كثيرا في وقت ما.

لم أكن زير نساء أو ما يشبه ذلك بالمرة. و لكني تحسرت في مناسبة أو مناسبتين لعدم استطاعتي مخاطبة امرأة في بعض تلك الحالات القليلة السانحة، حيث كان من المستحيل التسليم بالفكرة القائلة بأن المرأة كائنا غريبا عن حياتنا على الدوام. كان محكوما علي للأسف أن أبقى بعيدا عن حياة المرأة مهما كانت.

كنت أحلل في تلك اللقاءات الوهمية كل الاحتمالات. أنا أدرى بطبيعتي وأعلم أن المواقف غير المتوقعة والمفاجئة تجعلني أفقد كل سيطرة على نفسي نتيجة الارتباك والخجل. لذلك أعددت بعض الصيغ المختلفة من الحوار المنطقي أو الممكن على الأقل. فليس من المعقول أن يبعث صديق حميم إلى صديقه رسالة يشتمه فيها وان كان ذلك ممكنا.

إنها متعودة على الذهاب إلى قاعات الرسم. سأقف بجانبها في حالة وجودها بإحداها. ربما لا يكون الدخول معها في حديث حول بعض اللوحات المعروضة أمرا كثير التعقيد. غير أني عدلت عن هذه الفكرة بعد أن درست كل تفاصيل هذه الإمكانية. لم أتعود أبدا على الذهاب إلى قاعات الرسم. ويمكن أن يبدو هذا الموقف غريبا من رسام مثلي ولكن في الحقيقة هناك تفسير لذلك. أنا على يقين لو أني قررت الإفصاح عنه لصدقني الجميع. أبالغ عندما أقول "الجميع". أنا فعلا أبالغ. بينت لي التجربة أن ما يبدو لي جليا، فهو بالتأكيد غير ذلك عند غيري. فأنا ملتاع شديد الالتياع وأتردد الآن ألف مرة في إثبات بعض مواقفي أو توضيحها و ينتهي بي المطاف غالبا إلى التقوقع والانغلاق على ذاتي، وضم فمي. هذا هو السبب الفعلي الذي جعلني إلى اليوم لم أقرر قص جريمتي. و لا أعلم في هذه اللحظة والتو هل من المجدي توضيح مسألة امتناعي عن زيارة هذه القاعات بكل دقة. وأخشى إن لم أفسر ذلك أن يظن البعض أنها عادة غريبة لا غير، بينما يعود الأمر إلى أسباب أشد عمقا.

في الواقع هناك أكثر من سبب. سأبوح بكل شيء: إني أكره التجمعات والمذاهب والرابطات والنقابات، وبصفة عامة تلك المجموعات البشرية المثيرة للسخرية التي تجتمع لأغراض مهنية أو ذوقية أو ما شابهها مما يعد ضربا من الجنون. إذ لها عادات قبيحة كتكرار واجترار الأشخاص لأنفسهم وفخامة اللغة المبتذلة والاعتقاد بالتفوق على الآخرين غرورا.

أرى أن المشكل يزداد تعقدا ولا أجد طريقة لتبسيطه من ناحية، ومن ناحية أخرى من يريد ألا يطلع على هذه النقطة من القصة فله ذلك. أقول هذا للمرة الأخيرة وليعلم أنه على أتم الحرية وأرخص له في ذلك.

ما ذا أعني بتكرار الناس لأنفسهم؟ لعلكم لاحظتم كم هو كريه الالتقاء بمن يغمز بعين، ويميل فمه في كل لحظة، تخيلوا كل هؤلاء مجتمعين في ناد! ولا داعي للوصول إلى هذا الحد من الشذوذ. تكفي ملاحظة العائلات الكثيرة العدد حيث تتكرر بعض الصفات والسلوكيات والنغمات الصوتية بانتظام.

صادف أن أحببت امرأة (مجهولة الهوية طبعا) وفررت مذعورا من فكرة التعرف على أخواتها. وفي مناسبة أخرى حدث ما هو أفظع. وجدت مجموعة صفات قيمة متجسدة في امرأة ولكن عند التعرف على أختها أحسست بالقرف والخجل مدة طويلة. فنفس الصفات التي بدت لي رائعة في المرأة المذكورة، صارت تقريبا قاسية ومشوهة وصورة كاريكاتورية لأختها. هذه النظرة المشوهة أشعرتني علاوة على ذلك الإحساس بالخجل كما لو كنت المذنب في تخيل الصورة المضحكة التي عكستها الأخت على من أعجبت بها أيما إعجاب. يمكن أن تحدث لي أشياء من هذا القبيل لأني رسام. و قد لاحظت أن الناس لا يولون اهتماما لهذه التمويهات العائلية. وعلي أن أضيف أن شيئا مماثلا حدث لي مع أولئك الرسامين المغرمين بتقليد أستاذ كبير مثل هؤلاء التعساء والأشقياء ممن يرسمون على طريقة بيكاسو.

تأتي بعد ذلك مسألة خشونة اللفظ وهي صفة أخرى لا أحتملها. يكفي معالجة مثال من الأمثلة التالية:التحليل النفساني والشيوعية والفاشية والصحافة. لا أفضل الواحدة منها على الأخرى. كلها كريهة لدي. ولأتناول المثال الذي عرض لي في هذه اللحظة: التحليل النفسي مثلا: للدكتور"روبارتو" موهبة عظيمة، وكنت أحسه صديقا حميما حتى منيت بخيبة أمل مريرة لما شرع الجميع في تشديد الخناق علي، وانظم هو إلى أولئك الأوغاد. على كل دعنا من ذلك. ما إن وصلت إلى مقر عيادته ذات يوم حتى قال لي "براثو" انه مضطر للخروج ودعاني إلى مصاحبته.

فقلت: إلى أين؟

فرد علي: إلى حفل استقبال الجمعية!

فأردفت: وأي جمعية؟ سألته هذه المرة بسخرية واضحة لأن كيفية توظيف أداة التعريف لدى كل هؤلاء أمر يزعجني. الجمعية بالألف واللام يعني بها جمعية التحليل النفسي والحزب هو الحزب الشيوعي والسابعة هي سنفونية بيتهوفن المعروفة طبعا.

فنظر إلي متعجبا و استقبلت نظرته باستخفاف.

"عجبا أنها جمعية التحليل النفسي". هكذا أجابني بعينين ثاقبتين يعتبرهما الفرويديون لازمتين في مهنتهم و كأني به يقول في نفسه: أي عتاهة أخرى أصابت هذا الرجل؟! وبالمناسبة تذكرت أني قرأت شيئا مما كتب عن اجتماع ترأسه الدكتور "بارنارد" أو "بارنارند". وبما أني كنت متأكدا بأنه لم يحدث بالجمعية التي كان يتحدث عنها سألته عن ذلك فنظر إلي وعلى شفتيه ابتسامة استخفاف ثم قال معلقا:

- "ما هم إلا بعض الثرثارين". " إن الجمعية الوحيدة المعترف بها عالميا في هذا الاختصاص هي جمعيتنا".

ثم دخل إلى مكتبه من جديد وبحث في صندوق وأراني رسالة خطت بالانجليزية فألقيت عليها نظرة خاطفة من باب الأدب واللياقة وقلت له موضحا:

- "لا أعرف الانجليزية"

- أنها رسالة من شيكاغو تثبت أنها جمعية التحليل النفسي الوحيدة في الأرجنتين.

فتظاهرت بكثير من الإعجاب والتقدير. وخرجنا بعد أن أقلتنا السيارة إلى المقر المذكور. كان هناك عدد من الناس أعرف البعض منهم كالدكتور غولدنبارغ المشهور بمحاولته علاج امرأة حتى آل الأمر بهما معا إلى مستشفى المجانين. و لكن خرج منه منذ مدة قصيرة. نظرت إليه بحرص فلم يبدو لي أسوأ من الآخرين. بدا لي هادئا كل الهدوء، وربما يعود الأمر إلى الاحتباس. مدح لي لوحاتي حتى فهمت أنه يمقتها.

كان الجميع هنا في غاية من الأناقة، الشيء الذي جعلني أشعر بالخجل من بذلتي القديمة وضمادة ركبتي. و لكن قبح ما كنت أحس به لم يكن بسبب ذلك، والغريب أني لم أستطع تحديده بعد. لكنه بلغ أقصاه مع وجود فتاة في غاية الرقة عرضت علي بعض الشطائر وهي تحاور سيدا حول شيء لا أعرف ما هو من مشاكل الشذوذ الجنسي.

من المحتمل أن يكون هذا الإحساس ناجما عن قوة التصادم بين سادة وسيدات متأنقين، يرتدون زيا نظيفا وجديدا، ولكنهم يعنون بأمور تناسلية بولية. أردت الفرار إلى ركن ما، ولكن الأمر كان مستحيلا. كانت القاعة تعج بأناس متشابهين يقولون نفس الشيء باستمرار. فتسللت إلى الشارع والتقيت بأشخاص عاديين (بائع جرائد وطفل سائق)، وعندها بدا لي فجأة رائعا أن يحضر ذلك الكدس من البشر في شقة.

من بين كل الأكوام البشرية أكره كوم الرسامين، لأني أدرى بهم وهذا طبعي. والمعلوم أن الإنسان تشتد كراهيته لمن يعرفه بعمق. ومع تلك الأسباب أضيف سببا لآخر وهو النقاد. إنها لآفة أن لا أتمكن من فهم هؤلاء. لو كنت جراحا قديرا، على سبيل المثال، ثم يتدخل شخص ليوضح لي أخطاء يزعم أني ارتكبتها، والحال أنه لم يلمس مشرطا يوما، وليس بطبيب، ولم يجبر ولو ساق واحدة قط. ما قولكم؟ أقول نفس الشيء في مجال الرسم. والغريب أن الناس لا يدركون ذلك، بل تراهم يستمعون بكل انتباه لهؤلاء الثرثارين، رغم أنهم يضحكون من ادعاءات ناقد الجراح. لعله من المعقول أن نستمع لأحكام ناقد مارس الرسم لبعض الوقت شرط أن لا تكون لوحاته رديئة. لأنه في تلك الحالة، يكون الأمر غير منطقي، إذ كيف يمكن لرسام رديء أن ينصح رساما متميزا وقديرا؟!

5

لقد حدت عن مبدئي نظرا لعادتي السيئة في تبرير كل تصرفاتي. عجبا لم أراني أوضح سبب عدم ذهابي إلى قاعات الرسم؟ والحال أن لكل إنسان حق حضورها أو عدمه كما يود ،دون أن يرى لزاما عليه الاستناد إلى حجج تبريرية مطولة!

أين سينتهي بي المطاف بهذه العادة الغريبة؟ الآن قضي الأمر رغم أن لي عديد الملاحظات حول مسألة العروض، مثل قلقلة الزملاء وعمى الجمهور، وسخافة المكلفين بإعداد القاعة وتعليق اللوحات. لحسن الحظ (أو لسوئه) كل ذلك لا يعنيني. على كل حال ربما أحرر مقالا مطولا تحت عنوان: كيفية دفاع الرسام عن نفسه أمام زملائه.

كان علي استبعاد إمكانية ملاقاتها في قاعة عرض. لعل عندها صديق أعرفه بدوري فيقدمني إليها؟

ارتميت بسرور بين أحضان هذه الإمكانية لأني مصاب بداء الخجل. مجرد تقديم! ذلك ما أطمح إليه. كم كانت الأمور تنساب بسهولة! وكم هي لطيفة! ولعل خجلي منعني من الإدراك الفوري لاستحالة هذه الإمكانية. لم أتصور في تلك اللحظة أن وجود صديقها صعب صعوبة وجودها هي، فأنا لا أعرفها، وحتى لو كنت أعرفها، فلم اللجوء إلى ثالث؟ إن الأمر المتأكد والفائدة الوحيدة المتبقية التي لا أستخف بها هي مسألة التقديم هذه. أنها أساسية بل وأكيدة. علي التعرف عليها وعلى صديق يقدمنا إلى بعضنا البعض.

هناك مسلك آخر مغاير. علي البحث عن صديق لي و صديق لها بمحض الصدفة دون الالتقاء بها مسبقا. يكفي أن استرشد من معارفي ما إذا كانوا يعرفون فتاة حجمها "كيت" وشعرها "ذيت" فبدا لي كل هذا نوعا من السذاجة و التفاهة فطرحته جانبا. إن مجرد طرح أسئلة من هذا القبيل على "مابيلي" أو "لارتيغي" مثلا أمر مخجل!

لعله من المفيد أن أبين أن استبعادي لهذا الحل ليس مرده أفكارا سخيفة. لقد دفعت إليه للأسباب الأنفة الذكر. يحق للبعض أن يعدوا إمكانية أن يكون صديقي في ذات الوقت أحد معارفها مثلا أمرا سخيفا. ربما يبدو ذلك كذلك لسطحي التفكير، لا لمن تعود على استعمال العقل في المشاكل الإنسانية.

نجد في المجتمعات طبقات أفقية متكونة من أصحاب أذواق متشابهة حيث تغلب لقاءات الصدفة، وخاصة عندما تكون القلة المتميزة هي سبب الترسب. حدث أن التقيت بشخص في احد أحياء برلين، ثم بمقاطعة صغيرة شبه مجهولة في ايطاليا، وبإحدى مكتبات بوينوس آيرس، هل من المعقول إرجاع هذه اللقاءات المتكررة إلى الصدفة؟ كأني بصدد قول سخيف يعرفه أي مغرم بالموسيقى والاسبيرنتو ومناجاة الأرواح.

كان علي إذا أن أقنع بالإمكانية المخيفة للغاية : ملاقاتها في الطريق. كيف يستطيع البعض إيقاف امرأة لمحادثتها أو الشروع في مغامرة معها؟ لذلك استبعدت أي مبادرة مني دون التفكير في أي حيلة أخرى. حملني مظهري وعدم معرفتي بمثل فن المحادثة في الطريق هذا على اتخاذ هذا القرار المأساوي والنهائي.

ولم يبق إلا انتظار حدث سعيد لا يحدث عادة إلا مرة في المليون :أن تكلمني هي أولا. وكانت سعادتي كوهم من يحلم بالربح في اليانصيب في المرة الثانية بعد أن خسرها في الجولة الأولى.

ما أحلى أن تتوفر إمكانية الالتقاء والكلام بمبادرة منها وهي الإمكانية الأقل احتمالا. ولكن التفكير في كل ذلك أصابني بالدوران والحزن واليأس ومع هذا واصلت التخطيط لموقفي.

كنت أتخيل إذن أنها ستكلمني لتسألني مثلا عن وجهة حافلة، وانطلاقا من تلك الجملة الأولى تصورت على امتداد أشهر من المعاناة والحزن والغضب والهجر والأمل سلسلة من المحادثات المختلفة لا نهاية لها. كنت أبدو حينا ثرثارا ظريفا (لم أكن في الواقع كذلك أبدا) وأحيانا قليل الحديث، وفي بعض الحالات ضحوكا، والعجيب أني كنت أرد عن أسئلتها بغلظة وغضب مكبوت، وفي إحدى تلك اللقاءات الوهمية وئدت المقابلة في المهد نظرا لغضبي اللامعقول. فقد أنبتها بغلظة لاستشارة بدرت منها اعتبرتها غير مفيدة أو منطقية.

لقد أشعرتني تلك اللقاءات الفاشلة بمرارة لا توصف. فكنت ألوم نفسي أياما لبلاهتي تلك التي ضيعت علي فرصة نادرة لإرساء علاقة معها إلى أن انتهيت إلى أن كل هذا كان خياليا، وأنه مازالت أمامي إمكانية حدوث الواقعة لحسن الحظ. وعدت بكل حماس إلى تخيل حوارات أكثر إثمارا معها في الشارع. وعموما كانت الصعوبة الكبرى تتمثل في افتراض سؤال عام بعيد عن الاهتمامات اليومية: مثل ما هو المعنى العام للفن، أو على الأقل سؤال مثل ما هو الانطباع الذي أحدثته فيك نافذتي الصغيرة؟ إن هذا النوع من العلاقات يكون معقولا، طبعا إذا كان هناك متسع من الوقت وكان في جو من الهدوء ودون وقوع أي تصادم. في اجتماع شعبي مثلا ربما يكون هناك وقت كاف ومناسب لطرح مثل مختلف هذه المواضيع.

كان علي في خضم صخب شوارع بوينوس آيريس بين الحافلات الصغيرة التي تدفع بالإنسان إلى الأمام أن أستبعد هذا اللون من المحادثة. ولكني لا أستطيع استبعاده دون التفكير في بلية قدر علي أن لا أشفى منها. فتراني أعود إلى تصور حوارات مجدية وخاطفة كأن أسألها مثلا: أين يوجد مقر البريد المركزي؟ أو النقاش حول مشاكل الانطباعية والسريالية وهو ليس بالأمر الهين.

في ليلة أرق، استنتجت أنه من غير المفيد، بل ومن التكلف محاولة الشروع في محادثة من هذا القبيل، وأنه من الأفضل معالجة النقطة الأساسية بطريقة مفاجئة وبسؤال شجاع، راميا كل ثقلي دفعة واحدة في تلك المحادثة كأن أقول لها مثلا : لماذا انصب اهتمامك في النظر إلى النافذة الصغيرة فقط؟ ذلك أن الناس عموما يكونون مبدئيا أكثر تصميم على تنفيذ أعمالهم أثناء ليالي الأرق منه في النهار. لما حللت هذه الإمكانية بكل تؤدة في اليوم الموالي، تأكدت من أنه ليس لي الشجاعة الكافية على طرح هذا السؤال بكل راحة. و كالعادة أدى بي الخوف إلى التفكير في سبيل آخر. تصورت عندها سؤالا غير مباشر، لأن مسألتها عن موقفها من مشهد النافذة يتطلب صداقة طويلة. علي أن أختار سؤالا من نوع "هل تهتمين بالفن؟"

لا أتذكر الآن كل المحادثات الممكنة التي تصورتها. أذكر فقط أنها كانت في غاية التعقد، وأنها عمليا غير صالحة تماما مثل إعداد مفتاح دون مراعاة شكل القفل فان ولج فبالصدفة العجيبة!

كنت كلما أفرغ من إعداد عدة محادثات صعبة، أنسى ترتيب الأسئلة والأجوبة، أو أخلط بينها كما يحدث في لعبة الشطرنج. كما كان غالبا ما يحدث أن أستبدل جمل محادثة ما بجمل أخرى، فتكون نتيجتها مضحكة ومثبطة للعزائم. أستوقفها لأسألها مثلا عن عنوان ما ثم أردف فورا : "هل تهتمين كثيرا بالفن؟" انه لأمر مضحك. عندما وصل بي الأمر إلى هذا الحد من التعقيد، حاولت أن أريح نفسي عدة أيام من خلط التدابير والحيل.

6

لما رأيتها تسير على الرصيف المقابل، تراكمت وتشوشت في رأسي كل المحادثات الخيالية، ولاحت لي في شيء من الغموض جملا متكاملة أعدت وحفظت أثناء ذلك التمرين الرياضي التحضيري الطويل. "هل تهتمين كثيرا بالفن؟"، "لم انصب اهتمامك بصفة خاصة على النافذة الصغيرة ؟"، و ظهر في تلك اللحظة سؤال ملح كنت قد تخليت عنه لأنه مضحك غمرني بالخجل، وأشعرني بأن سلوكي ساذج وباعث على السخرية : "هل يعجبك كاستال؟"

كانت مثل هذه الأسئلة المنفردة والمزدوجة بمثابة لغز متحرك ومضطرب فأدركت أنها وسيلة غير مجدية. و تذمرت أنه عليها أن تبادرني هي بالحديث، فأحسست عندها بالراحة البلهاء وخلت أني توصلت إلى حل مشكل اللقاء. ولكني مع ذلك كنت شديد التوتر والتأثر حتى أني لم أجد من حل غير المضي قدما في متابعتها وهي تسير على الرصيف المقابل دون أن يخطر ببالي قطع الطريق، والاقتراب منها إذ كنت أرغب في فرصة أن تسألني عن عنوان ما.

كم أنا غبي! هل هنا شيء أكثر مدعاة للسخرية من تصورها تطلب مني وهي تصيح من مكانها ذاك شيئا كهذا!؟ إذا ماذا علي أن أفعل؟ وحتى متى ستدوم هذه الحالة؟

شعرت بخيبة أمل لا مثيل لها. سرنا معا واجتزنا عدة بنايات دون أن يحدث شيء. واصلت هي سيرها بحزم، وبقيت أنا مهموما ومحزونا، ورغم ذلك كان علي مواصلة السير حتى النهاية. ليس من المعقول إضاعة الفرصة بعد أن انتظرتها أشهرا عديدة، ولكني كنت شديد التردد. كان سيرها الحثيث يبعث في إحساسا خاصا. وكانت أفكاري تائهة مثل دودة عمياء بلهاء وسط سيارة شديدة السرعة. انعرجت إلى شارع "سان مارتين" وسارت بضع خطوات ثم دخلت إلى بناية "شركة تاء"، فكان علي أن أقرر هذه المرة. دخلت ورائها رغم يقيني بأني أفعل شيئا غير وجيه، بل جسيم الخطورة. ها نحن في انتظار وصول المصعد ولم يكن هنا أحد سوانا. و بدر مني سؤال رغم أنه كأنما نطق به شخص آخر أكثر جسارة مني : "هل هذا مقر شركة تاء؟"، والحال أن هناك لافتة يبلغ طولها عدة أمتار تغطي كامل واجهة المبنى تؤكد فعلا أنه مقر الشركة المذكورة.

استدارت بكل بساطة مؤكدة صحة ذلك. ولما رأيت سهولة ردها وهدوئها، أدركت في نهاية المطاف أنه بالإمكان أحيانا ألا ترى لافتات جد كبيرة، ونتيجة لذلك لا يكون سؤالي شديد الحمق كما كنت أتصور في البداية. عندما رأتني، اعتراها خجل شديد وأدركت أنها تعرفني. لم أخطط لهذه الإمكانية من قبل، ولكنها كانت منطقية، إذ أن صوري كانت تظهر عديد المرات في المجلات والجرائد. أدهشني كثيرا أني أفلحت في توجيه سؤالا خسيسا آخر : لم تخجلين؟ فازداد حياؤها. ربما كانت ستجيبني بشيء ما، ولكني فقدت السيطرة على نفسي و أضفت على عجل:

_ حضرتك تخجلين لأنك عرفتني، وتخالين أنها الصدفة. ليست صدفة سيدتي. لا وجود للصدف أبدا. فكرت فيك عديد الأشهر، ولمحتك اليوم في الطريق فاتبعتك. لي أمر خطير سأسألك عنه يتعلق بالنافذة الصغيرة. هل تفهمين؟!

تمتمت في شيء من الخوف:

_ النافذة الصغيرة! أي نافذة صغيرة؟

فأحسست برجلي تخوناني وترتخيان. هل من المعقول ألا تتذكرها؟! لعلها لم تعرها أي اهتمام، ونظرت إليها من باب الفضول. يا له من اعتقاد مضحك! أدركت بشيء من الامتعاض أن كل ما فكرت فيه وفعلته طوال تلك الأشهر (بما في ذلك هذا التصور) كان نهاية في عدم التناسق والإضحاك وبعض من بناياتي الخيالية المغرورة الشبيهة برواسب دينصور متحطم الفقرات.

تولهت البنت وكادت تجهش بالبكاء. تصورت عندها أن الحوار يأتيني بسهولة، ولكن دون الوصول إلى شيء جدي ومجد، وألفيت نفسي أقول أمرا أخجل الآن من ذكره.

_ عفوا أرى أني أخطأت. تصبحين على خير آنستي!

و خرجت على عجل دون وجهة معينة وأنا أكاد أجري. وما أن قطعت مسافة بناية تقريبا، حتى سمعت من ورائي صوتا يردد: سيدي! سيدي! تبعتني دون أن تجرأ على إيقافي. أنا لم أصدق ما حدث، وأردفت هي بصوت خافت:

_ العفو يا سيدي، العفو عن حماقتي. كنت شديدة الخوف والارتباك...

كان العالم منذ لحظات في نظري ركاما من الأشياء والكائنات الفوضوية غير المجدية، ولكنه عاد ليتشكل ويخضع لنظام معين. واصلت الاستماع إليها كالأبكم، وواصلت هي توضيحها مرتجفة :

_ لم أهتد يا سيدي أنك تعني مشهد اللوحة.

وبدون أن أشعر أمسكت بأحد ذراعيها وقلت :

_ تذكرتها إذا!؟!

بقيت صامتة ردحا من الزمن وهي تنظر إلى الأرض ثم قالت ببطء :

_ أذكرها باستمرار.

و حدث بعد ذلك أمر عجيب. يبدو أنها ندمت عما صرحت به لأنها ولت الأدبار، وانطلقت تسير سيرا حثيثا كما لو أنها تجري.

و بعد لحظة اندهاش، جريت وراءها، ولكني أحجمت عن ذلك لسخافة المشهد. واصلت السير بخطى حثيثة موزعا نظري في كل الاتجاهات. كان لا بد من الرصانة لسببين على الأقل :

أولا من المزري أن يهرول إنسان مشهور في الطريق العام، وثانيا ليس في ذلك نفع، والجدوى جوهر الموضوع.

بإمكاني أن أراها في كل لحظة الآن. دخولها إلي المكتب، أو خروجها منه، فلم أجري كالمجنون؟! المهم جدا أنها تذكر مشهد النافذة بالفعل. ألم تقل "أذكرها بالاستمرار"؟!

داخلني سرور، وألفيت نفسي قادر على تذليل صعوبات جمة، فقط كنت ألوم نفسي على فقدان السيطرة على بعض المواقف، وعلى جريي وراءها كالمعتوه، بما أنه صار بإمكاني الآن رؤيتها متى أشاء في المكتب.

7

وبسرعة صرخت : "في المكتب؟"، وأحسست برجلي ترتخيان من جديد. من قال أنها تعمل بهذا المكتب؟ وهل لا يدخل إلى المكتب إلا العاملون به؟

أخافتني فكرة فقدانها لعدة أشهر أخرى أو ربما للأبد. أصابني دوار، ودون أن اشعر جريت شبه يائس ووجدت نفسي توا أمام مقر الشركة. لم أعثر لها على أثر في أي مكان. هل تكون امتطت المصعد. فكرت في استشارة العامل المكلف به، و لكن كيف أسأله عنها وعديد النساء يستعملنه، وسيكون لزاما علي في تلك الحالة مده بأوصافها. وماذا سيتهيأ له عندها؟ بقيت برهة أسير على الرصيف ثم انتقلت إلى الجهة الثانية أنظر إلى واجهة البناية دون أن أفهم لماذا. لعله الأمل الباهت في رؤيتها تطل من إحدى النوافذ رغم يقيني أنها لن تظهر لتلوح لي بإشارات أو بشيء من هذا القبيل! لم ألمح إلا لافتة هائلة : شركة تاء.

علي إذا أن أراقب عشرين مترا من الواجهة، فضاعف هذا الأمر قلقي. ليس الوقت مناسبا الآن للاستسلام إلى هذا الإحساس. إن كان لا بد أن أتعذب، فليكن بعد هذا الوقت وبهدوء. لم أجد من حل غير الدخول. ولجت مدخل العمارة وتفحصت المكان، وانتظرت نزول المصعد، وقبيل وصوله تضاءلت همتي وعاودني خجلي المعتاد. ولما فتح الباب، قررت ألا أقول أي كلمة. ما الداعي لأخذ المصعد في هذه الحالة؟ ولكن من البلاهة أن لا أصعد بعد أن انتظرته مع عدد من الأشخاص. كيف يرون سلوكا كهذا؟ لا مناص من الصعود، ولكني أصررت على ألا أنبس ببنت شفة. انه عمل سهل للغاية، بل وعادي وأنجع من عكسه. أليس عاديا أن لا يكون المرء مجبرا على الكلام داخل مصعد؟ اللهم إلا إذا كان يعرف العامل المكلف بالمصعد. فمن الطبيعي أن يسأله عن الساعة مثلا، أو عن حال ابنه المريض. وبما أني ليس لي به أية علاقة ولم أره قبل هذه اللحظة، فلن يسبب لي صمتي أي إشكال. غير أن وجود عديد الأشخاص سهل عملي لأنه جعلني أدخل المصعد دون أن يتنبه إلي أحد.

و صارت الأمور كما توقعت دون تعقيد. علق أحدهم مع العامل المكلف بالمصعد على رطوبة الجو، فزادني هذا التعليق ارتياحا وأكد صحة ما ذهبت إليه. لما أعلن الحارس وصول المصعد إلى الطابق الثامن، أحسست بشيء من التوتر لا يمكن أن يلاحظه إلا من كان على علم بالهدف الذي أسعى وراءه. عندما خرجنا رأيت شخصا يخرج معي، الأمر الذي عقد الحالة نوعا ما. فصرت أسير ببطء، منتظرا دخوله إلى أحد المكاتب، وواصلت ذهابي وإيابي في الممر، وانتظرتها بهدوء. تجولت فيه و قطعته إلى نهايته، وشاهدت من النافذة المنظر العام لبوينوس آيريس، ثم طلبت المصعد في النهاية وما هي إلا لحظات حتى كنت أمام باب المبنى دون أن يحدث أمر مما كنت أخافه (كأسئلة غريبة من الحارس أو غيره). لم أكد أنتهي من إشعال سيجارتي حتى أدركت أن الهدوء كان وهما. صحيح أنه لم يحدث شيئا على الإطلاق يقلقني، ولكن غاب عني أنها ضاعت مني، إلا إذا كانت تعمل في إحدى هذه المكاتب. لعلها دخلت لقضاء أمر بسيط. لو كان الأمر كذلك لكانت قضته ونزلت والتقت بي. ومن يدري؟ يمكن ألا تكون انتهت من قضاء شؤونها في وقت جد قصير.

شجعني هذا التخمين وقررت أن أنتظرها من جديد أمام المبنى. ومرت ساعة بلا جدوى حللت فيها كل الفرضيات الممكنة :

1- ربما تستغرق حاجتها وقتا طويلا، وفي هذه الحالة علي مواصلة الانتظار.

2- لعلها كانت متوترة الأعصاب بعد الذي حصل، فذهبت للتنزه قليلا قبل قضاء حاجتها، وهنا الانتظار أيضا يفرض نفسه.

3- أو أنها تعمل هنا، وعلي ترقبها حتى ساعة الخروج.

بحيث كان علي الانتظار في كل الحالات.

بدا لي هذا التحليل منطقيا وهدأ من روعي، فاعتزمت انتظارها في هدوء بالمقهى الموجود بالزاوية حيث أستطيع المراقبة من الرصيف. طلبت قارورة جعة ونظرت إلى الساعة. أنها الثالثة والربع.

وبمرور الوقت رسمت الإمكانية الأخيرة في ذهني : "أنها تعمل هنا". في حدود الساعة السادسة بارحت المكان. بدا لي من الأفضل انتظارها أمام باب المبنى. من الأكيد أن عديد الموظفين سيخرجون دفعة واحدة ويمكن ألا أراها من المقهى. وما هي إلا بضع دقائق حتى بدِؤوا يتوافدون، ولما حانت السادسة والنصف، خرج الجميع حسب ما يبدو، واستنتجت ذلك من ندرة الخارجين. وفي حدود السابعة إلا الربع لم يعد يخرج أحد تقريبا، اللهم بعض الموظفين السامين من حين لآخر. لعلها منهم. مستحيل أن تكون كذلك. لم لا تكون كاتبة لأحدهم؟ وتصورت إمكانية ذلك بأمل ضعيف. وحانت الساعة السابعة ولم يحدث شيء. لهذا انتهى الأمر.

8

وفي طريق العودة حاولت ترتيب أفكاري بوضوح، لكني كنت مهموما ودماغي يغلي غليان القدر، وأعصابي محتدمة، وتتالت الأفكار كأنها في رقصة تمثيلية سريعة جدا. ومع ذلك، وربما بسبب ذلك، تعودت السيطرة عليها وكبح جماحها بعنف. وعموما أحسست أني سأجن قريبا.

عدت كما قلت في حالة من الانهيار الشديد، ولكن تمكنت من تنظيم أفكاري وترتيبها. إذ لا بد حينئذ من وضوح الرؤية، لأني لا أرغب في إضاعة الوحيدة التي فهمت رسمي إلى الأبد.

لا بد أنها دخلت إلى المكتب لقضاء حاجة أو أنها تعمل هناك. ليس هناك إمكانية أخرى. أني أميل أكثر إلى الفرضية الثانية. قد تكون انزعجت عندما فارقتني، وفي تلك الحالة قررت العودة إلى منزلها. انتظارها إذن في اليوم الموالي أمام الواجهة أمر ضروريا.

حللت بعد ذلك الفرضية الأولى. لعلها قررت تأجيل قضاء حاجتها إلى اليوم الموالي نظرا لانزعاجها أثناء اللقاء وعادت إلى بيتها. وفي هذه الحالة أيضا يفرض الانتظار نفسه. ذاك ما كنت أفضل من بين كل الفرضيات. وأما الإمكانية الثالثة فهي فظيعة : لعلها انتهت من القيام بشؤونها عندما كنت قريبا من المبنى، أو عند ذهابي وإيابي في الممر بعد أخذ المصعد. ذلك يعني أننا تقاطعنا في الطريق ولم نلمح بعضنا. إن الوقت لم يكن كافيا لتجري الأمور بهذه الكيفية، ولكنها ممكنة. لعلها مضت لتسلم رسالة إلى أحد مثلا. و في مثل هذه الحالة رأيت انتظارها في الغد غير مجد. من بين كل هذه الإمكانيات تمسكت يائسا بالإمكانيتين المفضلتين.

لما وصلت إلى المنزل انتابتني أحاسيس مختلفة وغامضة. كلما فكرت في قولها : "أذكرها باستمرار" كان قلبي يخفق بقوة وأحسست أن ركنا مظلما ورحبا وعتيدا فتح بداخلي. وأدركت أن قوى هائلة كانت نائمة بصدري حتى هذه اللحظة هبت واستعدت للانطلاق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تصورت احتمال مرور وقت طويل قبل ملاقاتها من جديد. فوجدتني أقول بصوت عال عديد المرات : من الضروري أن أجدها. انه لأمر ضروري! ضروري!

9

كنت في اليوم الموالي واقفا أمام مدخل الشركة في ساعة مبكرة. دخل كل الموظفين غير أنها لم تظهر. واضح الآن أنها لا تعمل هنا. فبقيت إمكانية تغيبها لمرض ألم بها لعدة أيام وان كانت مستبعدة، وكذلك احتمال مجيئها لقضاء حاجتها، فقررت الانتظار كامل الصبيحة في المقهى الموجود بالزاوية. وفي حدود الساعة الحادية عشر والنصف فقدت كل أمل، وإذا بي أراها تخرج من نفق المترو. فقفزت وأنا في غاية الاضطراب و ذهبت للقائها. لما رأتني جمدت وكأنها تحولت فجأة إلى صخرة. أكيد أنها لم تحسب حسابا لمثل هذا الظهور المفاجئ والعجيب، وأحسست بعقلي يشتغل بطاقة حديدية خارقة للعادة. صرت أشعر بأني قوي وأن عزمي أقوى، وأني مستعد لكل شيء. و سرعان ما أمسكتها من ذراعها في شبه غلظة وجررتها في اتجاه ساحة "سان مارتين". كانت تبدو مسلوبة الإرادة ولم تقل شيئا حتى سألتني بعد أن قطعنا مسافة بنايتين :

_ إلى أين تأخذني؟! فأجبتها مواصلا السير بعزم وماسكا دوما بذراعها :

_ إلى ساحة "سان مارتين"، لي كثير من الكلام معك.

قالت بعض كلمات بخصوص شركة تاء، غير أني واصلت الإمساك بها دون أن أسمع شيئا مما كانت تقول. أضفت موضحا:

_ لي أمور كثيرة سأبوح بها إليك.

لم تبد أي ممانعة. وأحسست كأني نهر كبير يحمل غصنا. وصلنا إلى الساحة فبحثت عن مقعد منزو. وأول ما فاجأتها به قولي لها : لم فررت؟ فنظرت إلي بنفس الهيئة التي كانت عليها يوم أمس لما قالت : "أذكرها باستمرار". يا لها من نظرة غريبة ثابتة وثاقبة تكاد ترى من الخلف. أنها نظرة تذكرني بعينين مماثلتين لا أعرف بالتحديد المكان الذي رأيتهما فيه. أجابت أخيرا : لا أدري! الآن كذلك أريد أن أهرب. فضغطت أكثر على ذراعها و قلت :

_ عديني أنك لن تفلتي مرة أخرى. إني في حاجة إليك. بل في أشد الحاجة. تفحصتني كأنها تراني لأول مرة وصوبت عيناها تجاه شجرة بعيدة، غير أنه لم تضف أي ملاحظة.

لم أذكر شيئا من ملامحها. كان وجهها وسيما ولكنه قاس بعض الشيء. وكان شعرها طويلا وبنيا. هي لا تتجاوز حسب الظاهر ستة وعشرين عاما، ولكن شيئا دقيقا يوحي بأنها أكبر سنا، وأنها عاشت كثيرا. السبب لا يعود إلى هذا الأمر ولا إلى أي علامة مادية، بل هو شيء غير محدد لعله يتعلق بالحالة النفسية. ربما نظرتها. وهل إلى هذا الحد تفصح النظرة عن عمر الشخص، لعلها كيفية تحريك الفم والشفتين وبعض التجاعيد. وهذه العناصر تعد روحية وإن كانت بدنية في الأصل. لم أستطع تحديد ذلك الشيء الذي أضفى عليها ذلك السن لا في ما مضى و لا الآن. كما يمكن أن تكون لطريقتها في الحديث دخل في ذلك.

أعدت عليها من جديد :

_ إني في أشد الحاجة إليك.

بقيت تنظر إلى تلك الشجرة دون أن ترد علي. وسألتها : لم لا تتكلمين؟

فأجابت دون أن تكف عن الأشخاص إلى الشجرة :

_ ليس لي كبير اعتبار، وحضرتك فنان عظيم. لا أدري كيف تحتاج إلي,

فصرخت بغلظة :

قلت لك إني في حاجة إليك! ألا تفهمين؟

فتمتمت وهي تنظر دوما إلى الشجرة :

_ و لم؟

لم أجد ما أجيبها به في تلك اللحظة. تركت ذراعها وأطرقت مفكرا. لم؟ فعلا انه لأمر محير. لم أسأل نفسي هذا السؤال إلى حد الآن بل كنت خاضعا لنوع من التصرف الفطري. وألفيتني أخط رسوما جغرافية على الأرض بغصن صغير.

بعد وقت ليس بالهين نطقت :

_ لا أدري! إلى حد الآن لا أدري!

كنت أفكر بعمق، وكان الغصن الصغير بدوره يزيد الرسوم تعقيدا في كل مرة. ومضى بي التفكير في متاهات مظلمة ينيرها برق خاطف من حين لآخر. لم أتمكن أبدا من معرفة سبب قيامي ببعض الأمور. لا، ليس هذا هو المطلوب... أحسست أني على غاية من الحماقة : ليس هذا هو السبيل الذي رسمته لحياتي. وبذلت جهدا فكريا أكبر، لعلي لم أكن أفكر رغم أن دماغي يعمل مثل الآلة الحاسبة باستمرار. فمثلا ألم أمضي في هذه القضية أشهرا طويلة أبذل قصارى جهدي في التفكير في الفرضيات المختلفة وترتيبها؟! ألم أتوصل إلى العثور على "مارية" بتخطيط عقلي إلى حد ما؟!

و شعرت بأني اقتربت من الحل، وانتابني خوف من إضاعتها من جديد فبذلت جهدا أكبر وصرخت :

_ المسألة ليست في عدم قدرتي عل التفكير. بالعكس فأنا دائم الإصغاء لصوت العقل مثلي مثل نقيب يخطط باستمرار للوصول إلى الهدف ويحدد موقعه بدقة، ولكنه لا يدري لم يمضي إلى تلك الغاية. أتفهمين؟

فحدقت في برهة في حيرة ثم عاودت النظر إلى تلك الشجرة. وأضفت :

_ أشعر سيدتي أن وجودك معي محور أعمالي رغم أني لا أعرف سبب ذلك الآن.

وعدت أخط رسوما بالغصن مضاعفا التفكير، وبعد لحظات قلت لها :

_ كنت أعرف من الوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بمشهد النافذة. لأنك الوحيدة التي أعرته الاهتمام اللازم.

فهمهمت في خفر :

_ لست ناقدا فنيا.

أثار ذكر النقاد غضبي فصرخت :

_ لا تحدثيني عن أولئك البلهاء.

التفتت إلي مندهشة ومذعورة. فخفضت من صوتي وبينت لها سبب عدم ثقتي بالنقاد، وسردت عليها مثال الجراح وما شابهه. كانت تصغي إلي بانتباه دون أن تنظر إلي، وعندما انتهيت علقت قائلة :

_ سيادتك تشتكي منهم، ولكنهم دوما يمدحونك. فقلت غاضبا :

_ ذلك ما يسيء إلي. أتفهمين؟ و هو من الأشياء التي نغصت حياتي وجعلتني أرى بأني أسير في الطريق الخاطئ. أنظري إلى ما وقع في القاعة مثلا. لا أحد من هؤلاء الثرثارين اهتدى إلى أهمية المشهد. هناك شخص واحد نفذ إليه. انه أنت سيدتي ولست بناقدة. في الحقيقة هناك شخص ثان أولاني اهتماما، ولكنه ذمه واشمأز منه، أنت في المقابل...

قاطعتني بلباقة وهي تنظر دوما أمامها :

_ ألا يمكن أن يكون لي نفس الرأي؟

_ وأي رأي؟

_ رأي ذلك الشخص.

نظرت إليها في شيء من القلق دون أن أتمكن من استقراء ملامحها وقلت بثبات :

_ لا شك أنك تفكرين مثلي.

_ ما هو الشيء الذي فكرت فيه عند رسم اللوحة؟

_ لا أدرى. لا أستطيع الإجابة. لعله من الأفضل أن أقول : إن أحاسيسنا مشتركة. كنت تنظرين إلى المشهد كما لو كنت أنا مكانك. لا أعرف فيما فكرت، ولا فيما تفكرين سيدتي، ولكني أعرف أنك تشعرين مثلي.

_إذن أنت لا تخطط للوحاتك.

_ كنت أفعل من ذي قبل. كنت أبنيها كما تبنى الدار. أما عند رسم ذلك المشهد فلا. كنت أشعر أنه علي أن أرسمه على البديهة دون أن أعرف بالتحديد لماذا، وما زال الأمر كذلك إلى حد الآن. في الواقع ليس لذلك المشهد أي علاقة ببقية اللوحة كما لاحظ أحد أولئك البلهاء. إني تائه وأحتاج إلى معونتك لأني واثق أنك تحسين مثلي.

_ لا أعرف بالتحديد فيما كنت تفكر سيدي.

فقلت لها في شيء من الجفاف والضجر :

_ ألم أقل أني لا أعرف فيما فكرت؟ لو كنت أقدر على ترجمة ما أحس به بكلمات واضحة لاستبانت الفكرة، أليس كذلك؟!

_ نعم! انه كذلك.

صمت برهة وحاولت إمعان النظر ثم أضفت :

_ يمكن اعتبار عملي السابق شديد السطحية.

_ أي عمل سابق؟

_ السابق لمشهد النافذة!

أعدت التركيز و قلت :

_ ليس الأمر كذلك. ليس ذلك ما أعني بالضبط. لا أعتقد أنه شديد السطحية كما قلت. كيف كان إذن. لم أفكر في هذا الأمر بعد. الآن فقط أدركت غموض مشهد النافذة كأني رسمته وأنا أمشي نائما.

و أضفت كأني أحدث نفسي :

_ لست شديد السطحية. وعموما لا أدري. كل ذلك له علاقة بالإنسانية عموما، أتفهمين؟! كل ما أذكره أني قرأت خبراً قبل رسمها بأيام يتعلق بإجبار أحد أسرى المخيمات الجائعين على أكل فأرة حية. فشعرت أن كل شيء صار بلا معنى في كوكب صغير يمضي نحو لا شيء منذ ملايين السنين. ننشأ في خضم الآلام ونعتقد ونصارع ونمرض ونتألم ونؤلم ونصرخ ونموت، في حين يولد آخرون ليبدؤوا رحلة الكوميديا الباطلة من جديد!

هل هذا منطق سليم؟ ظللت مطرقا مأخوذا من غياب منطق لكل الأشياء. هل تكون حياتنا مجرد سلسلة من الصرخات المتتالية المجهولة في متاهات كواكب غير مجدية؟!

واصلت هي اللوذ بالصمت فقلت :

_ مشهد ذلك البحر يخيفني لعلمي بأنه عميق، أقصد أنه يمثلني بعمق! هو ذاك. ليس له رسالة واضحة ولكنه يمثلني بعمق.

سمعتها تقول :

_ لعلها رسالة يأس!

فنظرت إليها بعمق وقلت :

_ نعم. هكذا يبدو لي. أرأيت كيف تحسين مثلي حضرتك؟!

وبعد لحظة أردفت :

_ وهل رسالة اليأس تبدو لك أمر جيد؟!

فتأملتها في دهشة وأضفت :

_ لا أظن. يبدو لي غير ذلك. وأنت ما ترين؟!

لم ترد. و بعد وقت طويل التفتت وصوبت إلي نظرتها الثابتة وقالت :

_ إن عبارة جيد لا دخل لها هنا. المهم البحث عن الحقيقة.

قالت ذلك وكأنها تجيب نفسها.

_ ترين أن المشهد ينشد الحقيقة؟!

_ طبعا انه كذلك.

نظرت باضطراب إلى ملامحها القاسية ونظرتها الحادة وسألت نفسي : لم كل هذه القسوة؟! لماذا؟!

ربما أحست باضطرابي وحاجتي إليها إلى أن تشاركني أفكاري وأحاسيسي. ذلك أن نظرتها لانت لبعض الوقت وبدت كأنها تمد لي جسرا ولكنه هش ومؤقت و معلق بين الأرض والسماء يهدد في كل لحظة بالسقوط في الهاوية. و أضافت بصوت مغاير :

_ و لكني لا أدري إن كنت ستغنم من معرفتي! أنا أسيء إلى كل الذين يقتربون مني.

10

اتفقنا على أن نلتقي في أسرع وقت ممكن وأخجلني أن أصرح لها بأني أرغب في مقابلتها في اليوم الموالي. علينا ألا نفترق للأبد. ورغم أن ذاكرتي قوية، فقد تسرب إليها عطب لا يفسر ولا أذكر الآن ما صرحت لها به آنذاك. أتذكر فقط أنها أجابتني بأنه عليها أن تنصرف.

كلمتها هاتفيا في نفس الليلة فردت علي امرأة أخرى. ولما أعلمتها أني أريد محادثة الآنسة مارية ايريبارني، ترددت لحظة واستأذنت لترى هل هي موجودة. وفورا سمعت صوت مارية بلهجة الإداري الحازم مما سبب لي الانزعاج.

_ أود أن نتقابل مارية. إني دائم التفكير فيك منذ افترقنا.

توقفت عن الكلام، وارتعشت لأنها لم تجبني. وقلت وأنا محتدم الأنفاس :

_ لم لا تردين؟

أجابت : انتظر قليل! وتركت السماعة، ثم عادت فسمعت صوتها الحقيقي هذه المرة وهي تقول موضحة لي في ارتعاش :

_ لم أكن أستطيع الكلام.

_ ولم؟

_ الداخلون والخارجون هنا كثيرون.

_ والآن كيف استطعت إذن؟

_ لأني أغلقت الباب. وعند غلقه يعرفون أنه لا يجب إزعاجي.

أعدت عليها بإلحاح :

_ أنا في حاجة إلى رؤيتك مارية! منذ منتصف النهار لم أفكر في شيء سواك.

ولم ترد كالعادة.

_ لم لا تردين؟

فشرعت تقول في حيرة :

_ كاستال...!

فصرخت مزمجرا :

_ لا تناديني كاستال.

قالت عندها في خجل : إذن خوان بابلو...

و شعرت ببداية سعادة لا نهائية بعد ذكرها لتينك الكلمتين. ومن جديد توقفت عن الكلام فسألتها : ما الذي حدث؟ لم لا تتكلمين؟ فتمتمت : أنا كذلك طوح بي التفكير. فواصلت تساؤلي بكل لهفة :

_ أنا أيضا ماذا؟

_ أنا أيضا لم أفعل شيئا غير التفكير.

_ التفكير في أي شيء؟

_ في كل شيء.

_ كيف في كل شيء! فيم بالتحديد؟

_ في غرابة كل ذلك. لوحتك. لقاء الأمس... لقاء اليوم... لا أعرف بالتحديد.

لله! كم يغيظني عدم الدقة. فأردفت قائلا :

_ طيب. أنا قلت أني لم أكف عن التفكير فيك.

فقالت بعد لحظة :

_ كنت أقول إني فكرت في كل شيء.

_ و لكن لم تعطني التفاصيل.

_ لأن كل شيء كان على غاية من الغرابة بل نهاية في الغرابة. وكنت شديدة الاضطراب. طبعا فكرت في شخصك...

وارتعش فؤادي بين ضلوعي. ما أحوجني إلى مزيد من التفاصيل. التدقيقات هي التي تعنيني وليس التعميم. فقلت بشوق متزايد :

_ ولكن كيف؟ كيف؟ إني فكرت في كل أوصافك وكلامحك وأنت شاخصة إلى الشجرة. أذكر شعرك البني وعينيك القاسيتين اللتين تلينان فجأة وكيفية سيرك.

و قاطعتني فجأة :

_ سأقطع المكالمة. الناس يجيئون الآن.

فقلت لها يائسا :

_ أطلبك غدا مبكرا.

فردت بسرعة خاطفة: طيب.

11

قضيت ليلتي مضطربا ولم أستطع الرسم رغم أني حاولت عديد المرات الشروع في عمل ما. فتلهيت بالسير، وفجأة و جدت نفسي في شارع كورينتاس². وانتابني إحساس غريب جدا. كنت أنظر إلى جميع المارة بشيء من العطف.

أعتقد أني صرحت لكم بأني سأروي لكم قصتي هذه بصفة موضوعية، وسأقدم الآن برهانا أولا على ذلك. أعترف أني كنت أنظر إلى الناس دائما بجفاء بل وباشمئزاز، خصوصا إلى الحشود المتجمعة، وتلك واحدة من أبشع عيوبي.

لا أتحمل بالمرة الشواطئ في الصيف. وما أقل من أحبهم من الرجال والنساء، ربما أعجب ببعضهم دون حسد، وللبعض الآخر أكن عطفا حقيقيا. نحو الأطفال أحس بنوع من العطف المشوب بالشفقة وأحاول جاهدا أن أنسى أنهم في النهاية سيصيرون رجالا مثل الآخرين. غبر أن السمة الطاغية هي كرهي للبشرية. فصفة واحدة من أوصافهم البشعة كفيلة بأن تمنعني من الأكل يوما كاملا أو من الرسم أسبوعا. ما أفظع أن ترى الحسد والعجرفة والغلظة والجشع ومجموع نقائص الإنسانية على محيى أحدهم أو في طريقة مشيه أو نظرته. بديهي عندها أن تنعدم شهية الأكل أو الرسم أو حتى القدرة على العيش بعد مقابلة شخص من هذا النوع. وأود أن أوضح أني لا أعتز بهذا الشعور وأعرف أنه نوع من الكبرياء، وأن نفسي حدثها الطمع عديد المرات واستهواها الجشع والغلظة والعجرفة في وقت معين، ولذلك قلت أني أروي لكم حكايتي بكامل التواضع وهذا ما أفعل. في تلك الليلة انمحى احتقاري للإنسانية أو على الأقل احتجب مؤقتا. دخلت مقهى مارثو تو. اعلموا أن الناس يذهبون إليه للتمتع بالتانغو³ كما يستمتع المؤمن لآلام المسيح حسب رواية القديس متى.

12

في اليوم الموالي كلمتها هاتفيا في حدود العاشرة. فأجابتني نفس المرأة التي أجابتني بالأمس بأن الآنسة مارية ايريبارني خرجت إلى الحقل منذ الصباح. فبقيت مصعوقا وقلت:

_ إلى الحقل!

_ نعم سيدي! حضرتك السيد كاستال؟

_ هو بعينه.

_ لقد تركت لك رسالة. المعذرة لا أعرف عنوانك.

كنت أعول كثيرا على ملاقاتها في هذا اليوم ولكن هذا الخبر صعقني، فجالت بخاطري تساؤلات عديدة. لم قررت الذهاب إلى الحقل؟ لعلها اعتزمت ذلك بعد أن انتهت مكالمتها بالأمس وإلا لكانت أعلمتني بالسفر، ولما قبلت اقتراحي بالتحادث معها هاتفيا في اليوم الموالي. حتى وان كان الأمر كذلك فلعله كان نتيجة لتلك المكالمة؟ ولو كان كذلك فما الداعي؟ هل تريد الهروب مرة ثانية؟ هل كانت تخشى اللقاء الحتمي؟ كان موضوع سفرها باعثا على الشك في صدقها لأول مرة، وكما يحدث لي دائما بدأت أتصور أمورا مريبة لم أعرها في البداية أي اهتمام. لم تغير صوتها بالأمس؟ ومن هم الداخلون والخارجون الذين يمنعونها من أن تكون طبيعية؟ كل هذا يبرهن على قدرتها على التكلف! ثم لم ترددت الخادم لما سألتها عن الآنسة ايريبارني؟ وعلقت بذهني جملة حامضة الطعم: "عندما أغلق الباب يعرفون أنه لا يجب إزعاجي". حول مارية هناك أمور كثيرة مجهولة.

هرولت نحو منزلها وأنا أفكر في هذه الأشياء. أليس عجيبا أنها لا تعرف عنواني في حين أعرف بيتها ورقم هاتفها؟ كانت تقيم بشارع "بوصاداص" في زاوية "سيفر" حسب ما أذكر.

أحسست بتأثر عميق وأنا أضغط على زر الناقوس لما وصلت إلى الطابق الخامس. فتح الباب خادم يبدو بولنديا أو شيئا كهذا، وعرفت بنفسي فأدخلني إلى قاعة صغيرة تعج بالكتب، غزت الرفوف جدرانها إلى السقف و ثمة كذلك رزم كتب على طاولتين صغيرتين وحتى على الكرسي الوثير، ولفت انتباهي الحجم الضخم للمجلدات. قمت لألقي نظرة على المكتبة وفجأة أحسست كأن شخصا ينظر إلي في صمت من الخلف. التفت فشاهدت رجلا في الطرف المقابل من القاعة الصغيرة. كان طويل القامة، نحيف الجسم، جميل الوجه، باسما بلا سبب، وأدركت أنه أعمى رغم أن عينيه كانتا مفتوحتين، ووضح لي سر الحجم الضخم للمجلدات وقال وقد توردت وجنتاه وهو يمد يده إلي:

_ حضرتك كاستال. أليس كذلك؟

فأجبته باسطا يدي في حيرة: نعم سيدي ايريبارني. وفكرت في نوع العلاقة التي بمكن أن تربط بينه وبين مارية. أشار علي بالجلوس وهو يتبسم في شبه استخفاف وأضاف:

_ لا أدعى ايريبارني ولا تقل لي سيدي. أنا آياندي زوج مارية.

و أضاف على الفور وهو المتعود على تقييم الصمت أو تفسيره:

_ مازالت مارية متمسكة بلقب عزوبيتها.

كنت أنا واقفا كصنم حي بينما واصل هو قوله:

_ حدثتني مارية كثيرا عن رسومك ورغم أني فقدت بصري منذ بضع أعوام، فمازلت أقدر على تصور الأشياء بشكل جيد.

بدا لي كأنه يريد الاعتذار عن فقدان بصره. لم أعرف ما أرد به عليه، ووددت لو كنت وحيدا في الطريق حتى أفكر في هذا الحدث المفاجئ. أخرج رسالة من جيبه ومدها إلي قائلا: "هي ذي الرسالة". تكلم ببساطة كما لو كان الأمر عاديا.

أخذتها منه لأخبأها غير أنه أضاف كأنه أحس باضطرابي:

_ اقرأها. لا بأس! بما أنها من مارية فقد لا يكون الأمر مستعجلا؟!

فتحت الظرف مرتعشا في حين أشعل هو سيجارة ومدني بواحدة، فقرأت قولها: "أنا أيضا أفكر فيك سيدي: مارية. لما اهتدى الأعمى إلى طي الورقة قال: "ليس هناك أمر مستعجل حسب اعتقادي". أجهدت نفسي على الكلام وأجبت:

_ لا... لا شيء يستحق العجلة.

أحسست بنوع من القرف والفظاعة وأنا أرى الأعمى يبتسم وينظر إلي بعينين جد مفتوحتين وهو يقول وكأنه يحدث نفسه:

_ هكذا هي مارية، والكثير يخلط بين اندفاعها وتعجلها. تقوم مارية بأشياء عاجلة لا تغير الوضع. كيف سأوضح لك هذا؟

أطرق في شرود كأنه يبحث عن تفسير أكثر وضوحا و قال في الحين:

_ إنها مثل واقف في الصحراء، وفجأة غير مكانه بسرعة فائقة. هل تفهم؟ السرعة لا تهم ما دمنا في نفس الإطار الطبيعي.

جذب نفسا من سيجارته وفكر لحظة كما لو لم أكن موجودا ثم أضاف:

_ لست ماهرا في فن الاستعارة والبلاغة. لا أدري بالضبط هل هذا ما يجب قوله.

لم أجد لحظة الفرار من هذه الغرفة الملعونة قد حانت وهو لا يشعر بالحرج. أي مهزلة فظيعة هذه التي وقعت فيها. واصل آياندي قائلا:

_ الآن وجدتها! تنهض باكرا مثلا وتعلمني أنها ذاهبة إلى الضيعة... فقاطعته متسائلا دون أن أشعر:

_ إلى الضيعة؟!

_ نعم الى ضيعتنا. أعني ضيعة جدي. يتصرف فيها الآن ابن عمي "هونتار" أعتقد أنك تعرفه!؟

و بهذا الخبر الصاعقة انتابني قلق شديد وغيظ في نفس الوقت. ماذا عساها تجد عند ذلك الأبله الفاجر المستهتر؟ حاولت تهدئة نفسي موهما إياها أنها لا تذهب إلى الضيعة من أجله بل طلبا لعزلة تعجبها في ضيعة عائلية. هذا كل ما في الأمر. و لكن شيئا من الحزن مازال يراودني. وأجبته بمرارة:

_ سمعت عنه.

و قبل أن يتمكن الأعمى من الكلام قلت له فجأة:

_ لا بد أن أنصرف.

فقال مظهرا أسفه:

_ عجبا هكذا بكل سرعة؟ آمل أن نتقابل مرة أخرى.

فقلت متخلصا:

_ طبعا. طبعا.

صاحبني إلى الباب فصافحته وخرجت أجري في اتجاه المصعد وأنا أخاطب نفسي باحتدام: "يا لها من مهزلة فظيعة!"

13

كنت في حاجة ماسة إلى وضوح الرؤية والتفكير بهدوء، فسرت في شارع بوصاداص المجانب لريكوليتا. ما أكثر الدوي في رأسي حتى كأنه ضجيج. لقد اختلطت عديد الأفكار وتتالت الأسئلة وتضارب شعور الحب والكره والضغينة والذكريات:

_ ما الذي حدا بي أن أذهب إلى منزلها بحثا عن رسالة يسلمها لي زوجها؟!

_ كيف لم أتوقع أنها متزوجة؟ ما الذي تفعله في الضيعة مع السافل "هونتار"؟ لم لم تنتظر مكالمتي؟ وذلك الأعمى أي حيوان هو؟

أعلمتكم آنفا أن لي فكرة سيئة عن الإنسان وأضيف الآن أن العميان لا يعجبوني بالمرة. أشعر أمامهم بانطباع مماثل لما تحدثه الحيوانات السامة نظرا لعدم مبالاتهم وصمتهم وسلبيتهم تماما كالأفاعي. وليس بإمكانهم إدراك مدى الاشمئزاز الذي أحسست به نحوه في تلك اللحظات التي قرأت عليه رسالة المرأة التي تقول: أنا أيضا أفكر فيك سيدي.

حاولت ترتيب بعض الشيء أفكاري وأحاسيسي المشوشة وحرصت على أن أتصرف بنظام كما تعودت، وعلي أن أبدأ من البداية (أو انطلاقا من الأحداث القريبة على الأقل). هناك عدة نقاط غامضة في المحادثة الهاتفية: إذا كان من الطبيعي جدا أن تكون لها علاقات مع الرجال في ذلك المنزل كما يفهم من الرسالة التي أمدني بها زوجها، فلم قالت لي بصوتها الإداري: انتظر حتى أغلق الباب. ثم ما تعني بقولها: "عندما يكون الباب موصدا يعرفون أنه لا يجب إزعاجي"؟ يبدو أنها كثيرا ما تغلقه على نفسها للتحادث. ليس من المعقول أن تفعل ذلك لتحادث بعض أصدقاء العائلة حديثا عاديا تافها. من المفروض أن تكون هذه المكالمات شبيهة بمحادثاتنا. لو كان في حياتها آخرون مثلي فكم يكون عددهم؟! و من عساهم يكونون؟ فكرت أولا في هونتار، ولكنني استثنيته فورا. كيف تهتف إليه والحال أنه بإمكانها رؤيته بالضيعة متى شاءت؟ وفي تلك الحالة من هم الآخرون؟

اعتقدت بذلك أني أنهيت قضية الهاتف ،ولكنها لم تكن منتهية. بقيت مسألة ردها عن سؤالي. لاحظت بمرارة أنها في الواقع لم تجبني مباشرة وبدقة بل في شيء من التلكؤ والالتباس: "ألم أقل لحضرتك بأني فكرت في كل شيء؟!" والإجابة عن سؤال بسؤال تبعد الحرج. الدليل على أن الإجابة ليست واضحة ومحددة: أنها اضطرت بطريقة أو بأخرى إلى توضيح ذلك كتابيا في نفس تلك الليلة أو في اليوم الموالي.

و قلت في نفسي بقي أمر الرسالة، فأخرجتها من جيبي و أعدت قراءتها:

"أنا أيضا أفكر في حضرتك". مارية.

كانت الكلمة عصبية أو على الأقل كلمة شخص عصبي والمعنى ليس واحد. إن الكلمة العصبية تعكس حالة من التوتر وهو مؤشر مفيد لمشكلتي. وفي كل الحالات قد أثر في بصفة خاصة إمضاؤها. ]مارية[. هكذا بكل بساطة. و أشعرني هذا الإمضاء بنزعة غامضة للتملك، وجال بخاطري أنها أصبحت جزء من حياتي وتنتمي إلي بشكل من الأشكال.

آه ما أقصر لحظات سعادتي!!!

إن الانطباع الحاصل لا يمحوه أي دليل. هل أن زوجها أيضا لا يناديها مارية؟ وبالتأكيد أن هونتار كذلك كان يناديها آنسة. والآخرون. أولئك الذين كانت تكلمهم والباب مغلق؟؟ ما كان لهم أن ينادونها باحترام آنسة ايريبارني والأبواب موصدة. الآن أدركت سبب تردد الخادمة عندما كلمتها أول مرة. انه لموقف يبعث على الضحك عندما فكرت مليا في كل ذلك. انه دليل آخر على أن مكالمتي ليست الأولى. لا شك أنه عندما سأل أحد هؤلاء لأول مرة عن السيدة ايريبارني صوبته الخادمة مندهشة من كلمة السيدة. ولكن من الطبيعي أن تفضل الخادمة في النهاية المجاراة وعدم التصويب بسبب التكرار والاستدراك. لذلك كان من الطبيعي أن تتردد في مثل هذه الحال.

وبرجوعي إلى الرسالة استنتجت عديد الأمور وسأبدأ بالأمور الأكثر غرابة والمتعلقة بالطريقة التي أطلعتني بها على الرسالة. وتذكرت السبب الذي تعللت به الخادمة بقولها: "المعذرة. لا أعرف عنوانك" ولكنها لم تطلب عنواني كما لم أتفطن أنا إلى مدها به. ولو كنت مكانها فان أول ما يتبادر إلى ذهني البحث عنه في دليل الهاتف. لا يمكن إذن إرجاع سلوكها إلى الكسل، ولا مناص من الاستنتاج التالي: كانت تريد أن تبعث بي إلى منزلها فأصطدم بزوجها. لم فعلت ذلك وألقت بي في وضعية شديدة التعقيد؟! لعلها تشعر بنوع من المتعة في استعمال زوجها كواسطة. أو لعل زوجها هو الذي يحس بتلك النشوة، أو لعلهما معا؟ هناك إمكانية واحدة أخيرة منطقية غير الاعتبارين السابقين المخيفين: لعل مارية أرادت إفهامي أنها متزوجة بهذه الطريقة حتى أقدر العاقبة السيئة للمضي قدما في المغامرة.

أراني على يقين أن عديد هؤلاء الذين هم بصدد قراءة هذه الصفحات يميلون إلى الفرضية الأخيرة ولا يمكنهم اعتبار أمرا آخر، اللهم إلا إذا كانوا مثلي في غرابة أطواري. فعندما كان عندي أصدقاء، كم سخروا من عادتي الغريبة في اختياري لأصعب السبل دائما. وأتساءل: لم يجب أن يكون الواقع دائما سهلا؟ علمتني التجربة عكس ذلك. عندما يبدو الأمر على غاية من الوضوح ويمكن تبرير الحدث بسهولة هناك خلفيات تجعله أكثر تعقيدا. وأسوق إليكم هذا المثال المعهود: يعتبر المتصدق أكثر كرما من غيره وأفضل منه، لكني استسمحكم في احتقار هذه النظرة السطحية. الكل يعلم أن مشكلة المتسول (المتسول الحقيقي طبعا) لا تحل بأن نرمي له ب [بيسو] أو كسرة خبز فهذا لا يحل إلا مشكل المتصدق ويريحه نفسانيا مجانا تقريبا. يحس براحة بال وبأنه كريم. تصوروا إلى أي حد تصل به الدناءة إذ يضمن هدوء نفسه وطيبته وانتعاش روحه المغرورة بقطعة نقدية حقيرة. فكم نحن بحاجة إلى الشجاعة وصفاء الروح لمعالجة بؤس الإنسانية بغير هذا النفاق المعتاد.

على كل لنعد إلى أمر الرسالة. إن فرضية محاولة مارية إفهامي أنها متزوجة وما ينجم عن ذلك لا يقبلها إلا سطحي التفكير لأنها تنهار عند تحليلها. جميل جدا أن يكون ذلك كذلك. ولكن لماذا الالتجاء إلى هذا المسلك المتعب والقاسي؟ ألا تستطيع مصارحتي بذلك مباشرة أو عبر الهاتف؟ كان بالإمكان أن تكتب ذلك في الرسالة إن لم تكن لها الشجاعة. هناك أمر هائل آخر: كأنها لا تريد أن تكون علاقاتنا هادئة، تريد توجيهها نحو طريق أشد إثارة وخطرا.

أعود إلى الافتراضين السابقين. هل يمكن أن تشعر مارية بالمتعة في استعمال آياندي كوسيط؟ أم كان هو يبحث عن هذه المناسبة. أم أن القدر يتسلى بهذا الجمع المتشابه؟ وبسرعة أحسست بالندم على توصلي إلى هذه الاستنتاجات، وتلك كانت عادتي في تحليل الأحداث والكلمات دون حدود.

تذكرت نظرة مارية المثبتة في شجرة الساحة وهي تنصت إلي، وتخيلت خجلها وتهربها في البداية فاجتاحني ود فياض تجاهها وبدت لي كأنها مخلوق هش في عالم قاس مليء بالبشاعة والبؤس. وعاودني نفس الإحساس الذي شعرت به نحوها في القاعة. كانت شبيهة بي وهذا أنساني تحليلاتي الجافة واستنتاجاتي الشرسة. وانشغلت بتخيل ملامحها ونظرتها التي تذكرني بأمر لا أستطيع تحديده، وبطريقة تفكيرها العميقة والكئيبة فشعرت بأن الحب المجهول الذي غذته سنوات الوحدة انصب على مارية وتركز حولها. كيف طوح بي التفكير في أمور مستحيلة كهذه؟

حاولت إذن نسيان كل استنتاجاتي الحمقاء حول موضوع الهاتف والرسالة والضيعة وهونتار، ولكن دون جدوى.

14

عشت بعد ذلك أياما مضطربة جدا. لم أسأل متى تعود مارية من الضيعة، وما منعني من ذلك هو الحرص على مغادرة منزلها. عدت لأتثبت من الأمر في نفس ذلك اليوم، لكن الخادمة أخبرتني بأنها لا تعلم شيئا، فطلبت منها عنوان الضيعة.

كتبت لها في نفس تلك الليلة رسالة وأنا قلق للغاية وسألتها عن موعد رجوعها طالبا منها أن تكلمني ما أن تعود الى بونوس آيريس أو أن تكتب لي رسالة. قضيت كما قلت أياما مضطربة للغاية وعاودتني الأفكار المظلمة التي عشت عليها أثناء مقابلة بوصاداص، فرأيت في الحلم كأني أزور ليلا منزلا قديما منعزلا، وبدا لي كأني أعرفه من قبل وأتشوق إلى زيارته منذ طفولتي. فما أن دخلت حتى قفزت إلى ذهني بعض الذكريات. كنت تائها في ظلامه، وكنت أشعر أن هناك أعداء مختبئون يمكن أن يهاجموني من مختلف أركانه، وهناك أشخاص يتهامسون ويستخفون بسذاجتي. منهم هؤلاء الأشخاص وماذا يريدون؟ رغم كل ذلك كنت أحس بأن حب المراهقة القديم يعاودني من جديد ممزوجا بالاضطراب والخوف والفرح. عندما أفقت عرفت أن ذلك المنزل هو مارية.

15

خلال الأيام الأولى لوصول رسالة أخرى منها كان ذهني مثل كشاف تائه في منظر طبيعي مكسو بالضباب، ولم أعد أرى إلا بشيء من الصعوبة، هنا وهناك أشباح أناس وأشياء غامضة وملامح لهوة سحيقة وأخطار في الأفق. كان وصول الرسالة بمثابة طلوع الشمس، ولكنها شمس سوداء، شمس ليلي أنا لو صح التعبير. ورغم أني لست كاتبا قديرا ولست واثقا من صحة دلالة هذا التشبيه، فلن أغير عبارة ليلي هذه لأنها حسب اعتقادي هي العبارة الأقرب ترجمة وإفصاح عن حالي مع مارية من كل مصطلحات لغتنا المنقوصة. وهذا نص رسالتها:

"قضيت ثلاثة أيام عجيبة. البحر والشاطئ والطرقات أعادت إلي ذكريات الماضي. إنها لا تتوافد صورا فحسب بل أصواتا وصراخا أو صمت الأيام الخوالي. انه لأمر مضحك، ولكن قيمة الحياة تتمثل في بناء ذكريات المستقبل. الآن وأنا أمام البحر أعرف أنني بصدد إعداد ذكريات دقيقة سوف لن تجلب لي سوى الكآبة والقلق.

ها هو البحر أمامي في غضب مستمر، وبكائي في مثل هذا الحال غير مجد أو مفيد. ما أقسى الانتظار وراء الانتظار وحيدة على الشاطئ محدقة بعناء في البحر! هل تخيلت ذكراي هذه ورسمتها، أو هل رسمت ذكريات عديد الكائنات أمثالي ومثلك؟ لكن الآن تدخلت صورتك وحالت بيني وبين البحر والتقت عيناي بعينيك. أراك هادئا وفيك مسحة من حزن دفين ونظراتك كأنها تطلب الرفد والمعونة." مارية.

فعلا إني لشديد التفهم لنفسيتها، وما أكثر الأحاسيس المدهشة التي نمت بداخلي بفعل هذه الرسالة! إن استعمالها لضمير المخاطب المفرد (أنت) بلا كلفة عند مخاطبتي جعلني على شبه يقين من أنها صارت لي، لي أنا وحدي. "أنت بيني وبين البحر"، لا وجود لشخص آخر بالبحر، مشهد نحن فيه فرادى كما توقعت بالحدس منذ اللحظة التي نظرت فيها إلى مشهد النافذة. في الحقيقة كيف لا تخاطبني بضمير المخاطب (أنت) إذا لم نكن على معرفة قديمة قدم ألف سنة. نعم فهمت ذلك عندما توقفت أمام لوحتي ونظرت إلى ذلك المشهد الصغير دون أن تسمع الحشد المحيط بنا أوتراه. لقد كان الأمر كما لو أننا خاطبنا بعضنا بلا مقدمات، مما جعلني أعرف على الفور كيف كانت، ومن هي، وكيف أني في حاجة إليها كحاجتها إلي.

أواه إني قتلتك مارية رغم كل شيء! أنا من كان يرقب وجهك الصامت القلق كما لو كنت أشاهده من خلال حائط زجاجي دون أن أقدر على لمسه! يا لحمقي وعماي وأنانيتي وقسوتي! أراني أيها السادة أكثرت من الحديث عنها وقد وعدتكم أني سأروي هذه الحادثة باقتضاب، وذلك ما سأفعل.

16

أحببت مارية بعمق دون أن ألفظ لها بتلك الكلمة. انتظرت عودتها من الضيعة في شيء من القلق لأصارحها بذلك. ولكنها لم تعد. وبمرور الأيام تزايد جنوني فكتبت لها رسالة ثانية: أحبك مارية. أحبك، أحبك"، ذلك نصها بكل بساطة.

بعد يومين وصلني ردها في هذه الكلمات: "أخاف أن أسيء إليك شديد الإساءة". فرددت عليها بعجالة: "ليس مهما ما قد تلحقينه بي. المهم أني لا أقدر على العيش دون أن أحبك. وكل لحظة تمر دون أن أراك هي عذاب في عذاب".

مرت أيام فظيعة دون أن يصلني رد مارية، فكتبت إليها قائلا: "انك تدوسين حبنا". في اليوم الموالي سمعت صوتها بعيدا مرتعشا بالهاتف فجف حلقي وانعقد لساني، ورددت بصعوبة: مارية، عدة مرات إلى أن قالت:

_ أعود غدا إلى بوينوس آيريس. سأكلمك فور وصولي.

وكلمتني بالفعل مساء اليوم الموالي من منزلها. فقلت:

_ أريد أن أراك توا. فقالت:نعم فلنتقابل.

_ سأنتظرك في ساحة سان مارتين.

فقالت وهي مترددة:

_ أفضل أن يكون ذلك في شارع ريكوليتا. سأكون هناك على الساعة الثامنة.

لا أدري كيف انتظرت إلى حد تلك اللحظة، ولا كيف سارت بي قدماي بلا وجهة معينة في الطرقات كي يمضي الوقت سريعا. أي عاطفة انتابتني؟! ما أجمل العالم في هذا المساء الصيفي! ما أروع الأطفال يلعبون على الرصيف! الآن أحسست فعلا أن الحب يعمي، وأن له قدرة سحرية على التحويل. العالم جميل يضحك كي نموت ضاحكين.

مرت لحظات رأيت مارية بعدها تقترب باحثة عني في الظلام. كان الوقت متأخرا جدا لا يسمح برؤية وجهها ولكني عرفتها من كيفية سيرها.

وجلسنا. ضغطت على أحد ذراعيها ولهجت باسمها مرارا بسذاجة ولم أقدر على قول شيء آخر. ظلت صامتة إلى أن قلت في النهاية بشيء من العتاب:

_ لم ذهبت إلي الضيعة؟ لم تركتني وحيدا؟ لم تركت تلك الرسالة في بيتك؟ لم لم تقولي بأنك متزوجة؟

لم تجب. فعصرت ذراعها إلى أن أنت وقالت في رقة:

_انك تؤلمني خوان بابلو.

_ لم لا تقولين شيئا؟ لم لا تردين؟

لم تنبس ببنت شفة. فرددت: لم؟ لم؟

وأخيرا قالت: لماذا تحب أن يكون لكل شيء جواب. لا داعي للحديث عني. فلنتحدث عنك وعن أعمالك واهتماماتك. إني دائمة التفكير في لوحاتك وفي ما صرحت لي به في ساحة سان مارتين. أريد أن أعرف ما تفعل الآن وما ترى وهل رسمت من جديد أم لا؟!

ضغطت على ذراعها من جديد في شيء من الحدة وقلت:

_ لا أود الحديث عن شخصي بل أرغب في الحديث عنا معا، وأحتاج أولا إلى معرفة هل تحبينني، ولا شيء قبل ذلك. هل تحبينني؟

لم ترد. ولما أقلقني الصمت وأزعجني الظلام الذي لا يمكنني من تكهن أفكارها من خلال عينيها، أشعلت عود ثقاب، فاستدارت بسرعة كأنها تخفي وجهها، فأدرته بيدي الأخرى وأجبرتها على النظر إلي. كانت تبكي وتنشج في صمت. فقلت في لوعة: آه إذن لا تحبينني!؟ وقبيل انطفاء العود تمكنت من ملاحظة نظراتها الحنونة وأحسست بعدها بيدها تداعب رأسي وسط الظلام الدامس وهي تقول في عذوبة:

_ طبعا أحبك... وهل نحن في حاجة إلى قول مثل هذه الأشياء؟

فقلت بلهفة: طيب ولكن كيف تحبينني؟ هناك ألوان من الحب. محبة كلب... أو طفل... أرغب في الحب الحقيقي هل تفهمين؟

فراستي غريبة: أشعلت عندها عود كبريت آخر. كان وجه مارية باسما كما توقعت. الآن لم تعد باسمة ولكنها كانت كذلك منذ عشر الثانية. كم يحدث لي أن ألتفت بسرعة فأحس كأن بعضهم يتجسس علي رغم عدم وجوده، وأحسست الآن بنوع من العزلة الجديدة المخيمة حوالي، أو كأن شيئا برز واختفى أوكأن هناك ارتجاجا خفيفا في الجو، أو شيئا من هذا القبيل. قلت لها غاضبا:

_ كنت تبتسمين! فردت مندهشة: أبتسم!!!

_ نعم تبتسمين. أني لا أخدع بسهولة وأركز كثيرا على الجزئيات.

_ أي جزئيات تقصد؟

بقيت آثار الابتسام مرسومة على محياك.

فاحتجت بقوة قائلة: وما الداعي لأبتسم؟!

_ من يدري؟ من سذاجتي مثلا أو من تساءلي إن كنت تحبينني كطفل... لا يخامرني أي شك في أنك كنت تضحكين.

فنهضت مارية فجأة، فقلت مندهشا:

_ ماذا حدث؟ ما بك؟

فأجابت بجفاء: سأنصرف. فانتصبت قائما بدوري كالزنبرك وقلت:

_ كيف تنصرفين؟ وما الداعي لذلك؟

ولما لم تجب، رججتها من ذراعها وكررت:

_ لم تنصرفين؟ فردت ببرودة:

_ أخشى أيضا أن لا تفهمني.

فقلت مغضبا: كيف بربك؟ أنا أسألك عن مسألة حياة أو موت وأنت عوض أن تجيبينني تبتسمين وتغضبينني كذلك. طبعا كل هذا لكي لا أفهمك.

قالت في غير مبالاة:

_ هب أني تبسمت، ماذا حدث؟

_ أكيد أنك تبسمت.

_ إذا فأنت مخطئ ويؤلمني كثيرا أن تفكر هكذا.

في الواقع لست واثقا مما ذهبت إليه. لم أر الابتسامة على محياها بصراحة، ولكن هناك شيء من ذلك الأثر في وجهها المتعود على الجد.

فاعتذرت لها بحزن وقلت : المعذرة مارية لا أعرف ولكن على كل حال كأنك ابتسمت.

وبقيت محزونا صامتا، وفي التو أحسست بيدها تأخذ بذراعي في رفق وقالت على الفور بصوت ضعيف متألم:

_ ولكن كيف يمكنك تصور ذلك؟

فأجبتها وأنا أكاد أبكي: لا أدري لا أدري.

أجلستني من جديد وداعبت رأسي مرة ثانية قائلة بعد لحظات صمت:

_ لقد أنذرتك بأني سأسيء إليك كثيرا. لعلك ترى أن الحق معي.

فأجبت: الذنب ذنبي. فعلقت مشغولة البال كما لو أنها تحدث نفسها:

_ لا أعتقد، ربما كان ذنبي أنا.

_ يا للغرابة!

فتساءلت: وما الغريب في الأمر؟

أدهشتني طيلة هذه الأيام قدرتها على تصور الأفكار وقراءتها، وعموما لست متأكدا الآن بأني كنت قد قلت تلك الكلمات بكل وضوح دون أن أشعر. وأعادت التساؤل لأني لم أوضح لها سبب اندهاشي. فقلت:

_ الغريب هو عمرك.

_ عمري؟!

_ نعم عمرك. كم عمرك؟

فضحكت وقالت:

_ وكم تظنه؟

_ بالضبط ذاك هو الغريب. لما رأيتك، بديتي لي أول وهلة في حدود العشرين.

_ والآن؟

_ لا أعرف. وعموما فأنا حائر منذ البداية. هناك شيء غير عادي يبرر هذه الحيرة.

_ وما الذي حيرك؟

_ شعوري بأنك أكبر من ذلك. أحيانا أشعر كما لو كنت طفلا إلى جوارك.

_ وكم عمرك أنت؟

_ ثمان وثلاثون سنة.

_ أنت فعلا صغير جدا.

فازدادت حيرتي لا لأني أفوتها سنا ولكن لعدم تصوري مطلقا إمكانية أن تتجاوز الست وعشرين سنة.

فأكدت من جديد بعد أن أدركت ذهولي: انك صغير جدا.

فتجرأت وقلت: وأنت كم عمرك؟ فأجابت بشيء من الحزم:

_ وما الفائدة من ذلك؟

فقلت في نوع من الغضب: ولم سألتني عن سني إذن؟

_ أصبح الحوار مستحيلا وعقيما. كل هذا تافه. يدهشني أن تهتم بأمور كهذه.

هل أهتم فعلا بأمور تافهة من هذا القبيل؟ كيف كان حوارنا كذلك وهل يعقل أن يحدث ذلك؟ ومما زادني حيرة أني نسيت سبب السؤال أو بالأصح لم أفكر فيه. وبعد ساعة من وصولي إلى منزلي أدركت كم كان حديثنا مبتذلا.

17

كنا نتقابل كل يوم طيلة شهر تقريبا. لا أريد أن أعيد عليكم ذكرياتي بكل تفصيل. ولكن ما حدث كان رائعا وفظيعا في نفس الوقت. هناك أحداث تبعث على الأسى لا أرغب في أن تطفو إلى الذاكرة.

صارت مارية تأتي إلى الورشة. وعاودني مشهد محياها تحت نور عود الكبريت مرتين أو ثلاث مع بعض الإضافات والتغيرات. وأثر في الاعتقاد أن حبها لي لن يكون في أحسن الحالات إلا حب أم لابنها أو أخت لأخيها. وأنا أؤمن أن ضمان الحب الحقيقي هو الاتحاد الجسدي.

أعتقد أن هذا الاعتقاد هو إحدى اعتقاداتي الساذجة الكثيرة التي جعلت مارية تبتسم من وراء ظهري. كل الذي فعله بي الحب الجسدي هو أنه زادني اضطرابا عوض أن يهدئني، وجلب لي شكوكا جديدة عذبتني ووضعتني في حالات من سوء الفهم المؤلمة والقاسية مع مارية. لن أنسى أبدا تلك السويعات التي قضيناها في الورشة. تجاذبت مشاعري في تلك الفترة عاطفتان متضاربتان، فكنت موزعا بين حب غاية في الصفاء والجلاء، وكره لا يوصف لسلوك مارية المتناقض ومواقفها غير المفهومة. وسرعان ما اعتراني الشك في مصداقيتها واعتبرت أن كل ما صدر منها هو تكلف لا غير.

كانت تبدو لي أحيانا مراهقة خجولة، وأحيانا امرأة ناضجة. وألحت علي الشكوك وتسابقت إلى ذهني تلك الأسئلة في شكل طابور طويل: أين؟ وكيف؟ ومتى؟ ومنهم؟ لم أستطع استبعاد فكرة قيام مارية بدور الكوميدي في كثير من الرقة والفظاعة، حتى كأني صرت طفلا ساذجا بين يديها تخدعه بقصص سهلة كي يقبل على الأكل أو النوم. كان أحيانا يعتريني ذلك الخجل المشئوم فألبس ثيابي بسرعة وأخرج إلى الشارع لأستنشق الهواء النقي وأجتر شكوكي ومخاوفي الكثيرة. كان سلوكي معها أحيانا ايجابيا ومتوحشا، إذ كنت أداهمها وأمسك بذراعيها بقوة كما لو كان ذلك بالملقط، فألويهما وأتأمل عينيها محاولا إجبارها على تقديم ضمانات حب حقيقي.

ولكن ليس هذا هو بالضبط ما أريد قوله. أعترف أني إلى حد الآن لا أعرف بدوري ماهية "الحب الحقيقي". والأمر العجيب أني رغم استعمالي تلك العبارة عديد المرات في المطارحة لم أحاول تحليل مدلولها بكل عمق. ماذا يعني ذلك الحب؟ وهل يشمل المتعة الجسدية، تلك التي بحثت عنها ربما عند شعوري باليأس في تعاملي بثبات مع مارية. كنت متأكدا أننا تمكنا من التواصل في بعض المناسبات، ولكنه كان تواصلا في غاية من الرقة والاختصار والخفة جعلني أشعر بعد ذلك بمزيد من الوحدة القلقة وعدم الرضا ونحن نسعى وراء الحب الحالم. صحيح أننا نشترك في العواطف. ووجودنا مع بعضنا يخفف من المعاناة التي تصاحب هذا الشعور المادي المرتبط بالجماليات الزائلة. وكان يكفي أن ننظر إلى بعضنا لنعرف أننا بصدد التفكير أو بالأحرى الشعور بنفس الإحساس.

واضح أننا سندفع ثمن تلك اللحظات غاليا وكل ما سيحدث بعد ذلك ربما يكون مبتذلا وبذيئا. وكل ما نفعله من حوار وتناول القهوة ربما يكون مؤلما ويؤكد هشاشة لحظات التفاهم العابرة تلك. والأدهى والأمر أنها تتسبب في ما يبعدنا من جديد، لأني كنت أجبرها بطريقة أو بأخرى، في لحظات اليأس، على تمتين اندماجنا، وعلى الاتحاد الجسدي. ولكننا لم نتوصل بواسطة عمل مادي إلا إلى عكس ذلك، لأنها كانت تعقد الأمور وتظهر، ربما رغبة في محو تلك الفكرة لدي، أنها تشعر بلذة حقيقية لا توصف. ونتيجة لذلك كانت مشاهد مثل ارتداء ثيابي بسرعة والفرار إلى الشارع، أو الضغط بعنف على ذراعيها لإجبارها على اعتراف ما حول صدق أحاسيسها وانطباعاتها. كان كل ذلك على غاية من الفظاعة بحيث كانت كلما تتوقع لحظة اقترابنا من الالتحام الجسدي تحاول الهروب وتجنب حدوثه. وصل بي الأمر إلى حالة قصوى من الارتياب. كم حاولت إقناع نفسي بأن العنصر المادي لا يجدي حبنا، بل ربما يضر به. غير أن ذلك ضاعف شكوكي حول طبيعة هذا الحب. فتراني أتساءل هل هي صادقة في هذا الاختيار أم أنها تمثل هذا الدور؟ واستنتجت عموما أن الجنس يضر بعلاقاتنا مما يستوجب تجنب التفكير فيه في المستقبل. كانت تكره ذلك منذ البداية وتتكلف الإحساس بالمتعة، ولذلك تطرأ بيننا بعض الخصومات، ولم تجدي محاولات إقناعي بل زاد جنوني اثر شكوك جديدة وواضحة. وعاودتني أسئلة أخرى معقدة. ولم يغظني انخداعي بقدر ما أغاظتني مسألة استسلامي إليها كليا مثل الرضيع.

نعم تجرأت وقلت لها مغضبا:

_ الغالب على الظن أنك خدعتني. لذا سأقتلك كما يقتل الكلب.

كنت عندها ضاغطا على ذراعيها مدققا النظر في مقلتيها لعلي ألاحظ مؤشر لمعان مريب أو بريق تهكم عابر. غير أنها كانت تنظر إلي خائفة كالطفل، حزينة في استسلام وهي تشرع في ارتداء ملابسها في صمت.

وذات يوم صار النقاش عنيفا، أشد عنفا من العادة، يوم صرخت فيها قائلا: يا فاجرة!!! فبقيت خرساء كالمشلولة، وانسلت ببطء وصمت لارتداء ملابسها خلف الستار، وتجاذبتني نار الحقد والإحساس بالندم، فجريت أطلب منها العفو، فرأيت دموعا تنسكب على خديها، فلم أعرف ما أفعل.

قبلتها برقة بين عينيها وطلبت منها الصفح بإلحاح وبكيت أمامها. نعتتني بالوحشية والقسوة والظلم والانتقام وأشياء من هذا القبيل حتى زالت عنها بقايا الكآبة. وما أن هدأت وتبسمت حتى بدا لي أنه من غير الطبيعي أن لا تظل حزينة. من المعقول أن تهدأ ولكن من المريب أن تظهر فرحا بعد أن اتهمتها بتلك الصفة. أظن أن كل امرأة تشعر بالاهانة عندما ننعتها بذلك النعت، حتى المومسات والمتخصصات في بيع الهوى. لا يمكن لأي امرأة أن تعود بسرعة إلى الفرح إلا إذا كان هناك بعض الصحة في ذلك النعت.

كانت هذه المشاهد تتكرر يوميا تقريبا ولكنها تنتهي بسلام. كنا نخرج للسير في ساحة فرنسا كأننا مراهقان عاشقان. غير أن لحظات الحنان صارت شيئا فشيئا نادرة وقصيرة مثل لحظات مشمسة غير مستقرة في سماء عاصفة شديدة الظلمة. كانت شكوكي وتساؤلاتي تخنق كل شيء مثل نبتة طفيلية متسلقة تقتل ما حولها من أشجار في شبه مؤامرة ضخمة.

18

تركزت تساؤلاتي التي تكاثرت وتعقدت يوما بعد يوم حول مسألة صمتها ونظراتها وكلماتها الطائشة وسفرها إلى الضيعة وطبيعة حبها لي. سألتها ذات يوم لم كانت تسمي نفسها الآنسة ايريبارني عوض السيدة آياندي فابتسمت وقالت:

_ كم أنت صغير! وأي أهمية يمكن أن تكون لذلك؟! فأجبتها وأنا أتفحص عينيها:

_ الأمر هام جدا بالنسبة إلي. فقالت وقد كفت عن التبسم:

_ إنها عادة عائلية. فأضفت قائلا:

_ لكن عندما كلمتك هاتفيا في المرة الأولى وسألت الخادم عن الآنسة ايريبارني ترددت قبل إجابتي.

_ ربما بدا لك ذلك.

_ جائز، ولكن لم لم تصوب ذلك آنذاك؟ ابتسمت مارية من جديد بوضوح هذه المرة وقالت:

_ ألم أقل لك أنها عادة عائلية تعرفها الخادم كذلك. الكل يناديني مارية ايريبارني.

_ يبدو لي طبيعي مارية ايريبارني، ولكن الغير طبيعي هو أن تتعجب الخادم قليلا عندما ينادونك السيدة.

_ آه... لم أكن أعرف أن الذي يشغلك هو ذاك الأمر. طيب ربما الذي جعل الخادم تتردد هو أنها غير معتادة على تلك التسمية.

ظلت واجمة كما لو أنها اكتشفت المسألة لأول مرة. وسارعت أنا بالقول:

_ ولكنها لم تصلح لي التسمية! فقالت بعد أن عاد إليها وعيها:

_ من؟

_ الخادمة. لم تعدل مسألة الآنسة.

_ ليس لكل هذا أي فائدة بابلو كاستال! لا أدري ما ذا تريد أن تثبت بذلك؟

_ أريد أن أثبت أنها ليست المرة الأولى التي نادوك فيها بالآنسة. أو لما ترددت الخادمة ولأصلحت الأمر في الحال. فواصلت ابتسامتها قائلة :

_ أنت غريب جدا. وراحت تداعبني بحنان ولكني ظللت جادا وقلت:

_ زيادة على ذلك لما كلمتني أول مرة كان صوتك مختلفا عن صوتك العادي، بل فيه لهجة الإداري ولم يعد إلى طبيعته إلا بعد غلق الباب. عندها واصلت الحديث بصوت ناعم: لماذا ذلك التغير في الصوت؟ فقالت بلهجة جادة:

_ كيف أجيبك أمام الخادم خوان بابلو؟

_ كلامك معقول ولكنك قلت لي حرفيا: "عندما أغلق الباب يعرفون أنه لا يجب إزعاجي". وهذه الجملة لا تشير إلي لأني أكلمك لأول مرة، كما أنها لا تعني هونتار لأن بإمكانك مقابلته في الضيعة متى شئت!أكيد أن هناك آخرون يكلمونك. أليس كذلك؟

فنظرت إلي بحزن عميق، فصرخت فيها غاضبا:

_ عوض أن تكتفي بالنظر إلي ردي علي.

_ ما هذا التصابي خوان بابلو! طبيعي أن يكلمني أشخاص آخرون، أبناء عمي، أصدقاء العائلة، أمي ولست أدري من مثلا!!

_ ولكن محادثة هؤلاء لا تحتاج إلى إخفاء. فردت في عنف:

_ من يسمح لك بالقول أن لي ما أخفيه؟!

_ لا تنفعلي. أنت بنفسك أخبرتني في إحدى المناسبات عن شخص يسمى ريتشارد. ولم يكن ابن عم لك أو صديقا ولا أما!

بدا عليها قلق شديد فقالت برأفة:

_ مسكين ريتشارد!

_ ولم مسكين؟

_ الحق معك لا تعرف أنه انتحر، ولي بعض الذنب في ذلك. كان يبعث إلي برسائل ملتهبة ولكني لم أفعل شيئا لصالحه. مسكين! مسكين ريتشارد!

_ أرني واحدة من تلك الرسائل.

_ وما الجدوى إن كان الرجل قد مات.

_ لا يهم، أريد ذلك.

_ أحرقتها كلها.

_ كان عليك أن تقولي ذلك منذ البداية. لكنك قلت في المقابل: ما الجدوى إن كان الرجل قد مات، هذا إن كنت حقا فعلت ذلك، إذ سبق أن اعترفت لي مرة بأنك تحتفظين بكل رسائل الحب. لا بد أن تكون رسائل ريتشارد محرجة جدا حتى تحرق. أليس كذلك؟

_ لم أبدها لأنها محرجة بل لأنها محزنة وذلك يضايقني.

_ ولم يضايقك؟

_ لا أدري. كان ريتشارد شديد الحزن، وهو يشبهك إلى حد بعيد.

_ هل تحبينه؟

_ أرجوك...

_ ماذا ترجين مني؟

_ لكن لا، خوان بابلو. كل فكرة لديك...

_ ليس هناك أي حمق. انه يحبك ويكتب إليك رسائل غرامية ملتهبة، فرأيت من الأفضل حرقها ثم ينتحر، وترين بأن أفكاري حمقاء.

_ إني لم أحبه رغم كل ذلك.

_ ولماذا؟

_ حقيقة لا أعرف. لأنه لم يكن من صنفي.

_ قلت أنه شبيه بي.

_ بالله عليك دعني. أردت القول أنه يشبهك في بعض الأشياء وهذا لا يعني أنه يطابقك، ثم هو غير قادر على خلق أي شيء، وكانت نظرته هدامة متشائمة وذكاؤه ميتا، وكان ضبابيا يميل إلي العدمية وهو يماثلك في هذا الجانب السلبي.

_ طيب. ولكني لم أعرف بعد سبب حرقك لرسائله.

_ أعيد عليك بأني أحرقتها لأنها تضايقني.

_ كان يكفيك عدم قراءتها والاحتفاظ بها، أما إعادة قراءتها وحرقها يعني أن فيها ما يجذبك إليه.

_ أنا لم أقل أنه لا يجذبني.

_ ألم تقولي أنه ليس من صنفك؟

_ يا الهي كيف أفهمك! الموت مثلا ليس من صنفي ولكنه يستهويني تماما مثل ريتشارد. أعتقد أنه لا يجب أن نستسلم طواعية للموت. لذلك ربما لم أحبه، وأحرقت رسائله. وعندما مات قررت أن أجعل حدا لكل ما يذكرني به.

ظلت كئيبة، ولم أستطع الحصول على معلومات أخرى حول ريتشارد. لم يكن هو الرجل الذي يعذبني أكثر من غيره. فقد تمكنت في النهاية من معرفة عديد الأشياء حوله وبما فيه الكفاية. هناك مجهولون وظلال مدفونة لم تذكرها لي، ولكني أحس بوجودها تتحرك بصمت وسطحياتها المظلمة، وأعتقد أن صفات مارية السيئة مرتبطة أساسا بتلك الظلال المجهولة. أما ما يعذبني أكثر فكلمة أفلتت من لسانها في لحظة لذة جسدية كانت ولا زالت تقض مضجعي.

واشتدت بي الظنون والتساؤلات وعلي أن أركز حول مارية وطبيعة حبنا وأولي ذلك أكبر العناية.

19

نظرا لزواجها من آيانادي من المفروض أن تكون أحست مرة من المرات نحوه بشيء من الحب. لقد استولت هذه المشكلة، "مشكلة آياندي" على تفكيري. إن الألغاز التي أحب توضيحها كثيرة وأبرزها لغزان: هل أحبته في مناسبة معينة؟ وهل لا تزال تحبه؟ ولا يمكن الفصل بين هذين السؤالين اللذين تتولد عنهما أسئلة أخرى. إن كانت لا تحبه فمن تحب إذن؟ أنا أم هونتار؟ أم واحدا من المبهمين الذين يكلمونها هاتفيا؟ أم يمكن أن تحب عديد الأشخاص بنسب مختلفة كما يحدث للبعض؟ ويمكن أن لا تحب أي واحد منا جميعا، وأن تعتبرنا صبيانا مساكينا، أو تقول لكل واحد انه حبيبها الوحيد وأن الآخرين مجرد ظل وأشباح تربطها بهم علاقة سطحية عرضية.

قررت ذات يوم معالجة قضية آياندي، فسألتها لم تزوجته، فأجابت:

_ كنت أحبه

_ إذن أنت الآن لا تحبينه.

_ لم أقل ذلك.

_ ألم تقولي "كنت أحبه" عوض عن "أحبه"؟ فقالت محتجة:

_ أنت دائما تجعل من الكلمات قضية وتجادل حتى في غير المعقول. إن كنت قلت "كنت أحبه" لا أقصد أني لم أعد أحبه.

فقلت بسرعة وأنا أريد أن أوقعها في الخطأ نظرا لتناقض تصريحاتها:

_ آه! إذن تحبينه هو!

فسكتت وبدا الحزن عليها. فقلت:

_ لماذا لا تردين؟

_ لأن ذلك غير مجد. تناولنا هذه المسألة عديد المرات وبشكل مماثل.

_ لا أعتقد. سألتك هل تحبينه فأجبت بنعم، وأذكر أنك قلت لي في إحدى المناسبات في الميناء أنك أول من أحببته بالفعل!

عادت مارية إلى صمتها. ما يغيظني منها ليس أنها متناقضة في كلامها فحسب، بل الجهد المضني الذي يتطلب للحصول منها على اعتراف أو تصريح. وعدت أسألها:

_ بم تردين عن هذا؟ فقالت متعبة:

_ لعلك تتصور أني لا أستطيع الآن حب آياندي كما أحببته منذ سنوات عندما تزوجنا وبنفس الطريقة؟

_ أي طريقة؟

_ أنت تعرف ما أريد قوله.

_ لا أعرف شيئا.

_ قلته لك عديد المرات.

- ولكن لم تفسريه أبدا. فصرخت بمرارة:

_ أفسره! قلت لك ألف مرة إن هناك كثير من الأشياء لا تقبل التفسير، ومع ذلك تريد أن أشرح لك شيئا جد معقد. قلت لك مرارا إن آياندي رفيق دربي وأني أحبه مثل أخي ، أعتني به وأعطف عليه كثيرا وأنا شديدة الإعجاب بسكونه وروحه. انه يبدو لي أرفع مني من جميع النواحي وأحس بجانبه أني مجرد كائن حقير مذنب. فكيف يمكن أن لا أحبه؟!

_ لم أقل ذلك بل أنت التي قلت أن الأمر لم يعد مثل يوم تزوجته. حدث ذلك في الميناء حيث أكدت لي بأني أول من أحببته فعلا.

فنظرت إلي بحزن وقالت:

_ طيب لنترك هذا التناقض جانبا. فقلت:

_ لنعد إلى آياندي. تقولين أنك تحبينه كأخ! أجيبيني بصراحة عن سؤال واحد: هل تضاجعينه؟

فنظرت إلي بحزن عميق وبقيت صامتة لحظة. وأخيرا قالت بصوت مليء بالألم والحسرة:

_ هل من الضروري أيضا أن أجيبك عن هذا؟ فقلت محتدا:

_ بل ضروري جدا.

_ انه لأمر فظيع أن تسألني بهذه الجرأة.

_ الأمر سهل جدا: قولي نعم أو لا.

_ ليس الجواب هينا كما تتصور. ربما نفعل ذلك وربما لا نفعله. فقلت ببرودة:

_ هذا يعني أنك تضاجعينه وكفى.

_ أجل. فأضفت منتبها إلى حركات عينيها:

_ وتشتهينه؟! سألتها هذا السؤال عن سوء نية ولا أؤمن أنها تشتهيه حقا (رغم أن هذا ممكن نظرا لمزاج مارية المتضارب) بل أريد إجبارها على الاعتراف وتفنيد هذه المحبة الأخوية. وكما كنت أتوقع تأخرت مارية في الإجابة. أكيد أنها كانت تختار الكلمات، وفي النهاية قالت:

_ قلت أضاجعه ولم أقل أشتهيه.

فصرخت صرخة المنتصر:

_ آه! هذا يعني أنك تسلمين نفسك إليه دون شهوة وتجعلينه يعتقد أنك تشتهيه.

بقيت مبهوتة صامتة دامعة، وصارت نظراتها جامدة مثل زجاج شفاف، وهمست في تباطؤ:

_ لا أعتقد ذلك. فواصلت دون تسامح:

_ بل تقصدينه. لو أظهرت عدم الإحساس بالمتعة معه وعدم رغبتك فيه، ولو لم تظهري أن الاتصال الجنسي تضحية تقدمينها على شرف حبه، لما عاد آياندي إلى مضاجعتك أبدا؟ وبمعنى أوضح إن تواصل الاتصال الجنسي بينكما يظهر انك قادرة على خداعه في الأحاسيس والانطباعات.انك ماهرة في التظاهر بالإحساس باللذة.

كانت مارية شاخصة بنظرها إلى الأرض تنتحب في صمت. وفي النهاية تمكنت من القول:

_ انك لعلى قسوة لا تصدق. فقلت:

_ لندع الاعتبارات الشكلية جانبا. يهمني العمق. والعمق انك قادرة على خداع زوجك طيلة أعوام لا في الأحاسيس فقط بل وفي الانطباعات. والخلاصة الواضحة يمكن أن يستنتجها كل متعلم جديد لأي صنعة: لم لا يمكن أن تخدعيني أنا أيضا؟ الآن ستفهمين لم كنت أتعقب عديد المرات حقيقة انطباعك. أذكر دوما كيف أن والد "ديسديمونا" حذر ابنه "أوتيلو"4 بأن المرأة التي خدعت الأب بإمكانها أن تخدع أي رجل. لا شيء يستطيع محو هذا الحدث من ذاكرتي: مسألة خداعك لآيانذي باستمرار طيلة سنين.

وشعرت في تلك اللحظة برغبة جامحة في مضاعفة القسوة إلى أقصى درجة. فأردفت قائلا رغم ابتذال العبارة وبلادتها:

_ خداع أعمى.

20

أحسست ببعض الندم قبل أن أتفوه بهذه الجملة: إذ كأنما كان هناك كائن آخر في داخلي كثير النقاوة، كان يتهيأ للبروز ما إن تبدأ قسوة هذه العبارة بالتأثير. قبل النطق بتلك الكلمات الحمقاء وغير المجدية انضممت بشكل أو بآخر إلى صف مارية (وما الفائدة التي يمكن أن تحصل فعلا؟). وما أن نطق لساني بها حتى كان ذلك الكائن الآخر يسمعها بخجل كأنه لم يصدق إمكانية أن أنطق بها. وفي الوقت الذي كانت تخرج من فمي، بدأ يتحكم في وعيي وإرادتي وكاد يمنع خروج الجملة كاملة، ولكنني أنهيتها رغم كل شيء. ولم تكد تنتهي حتى سيطر علي بصفة كلية وكأنه يأمرني بأن أطلب العفو من مارية وأعترف أمامها ببلادتي وقسوتي.

كم من مرة ينقسم فيها وعيي الملعون المذنب فيرتكب أعمالا فظيعة. فبينما كان شيء ما يحملني على القيام بعمل طيب، كان قسم مني يحب أن يفضح الغش والنفاق والكرم الزائف. هذا يحملني على شتم الكائن البشري وذاك يشفق عليه ويتهمني أنا بدوري بما أفضح به الآخرين. وبينما يريني أحدهما جمال العالم يؤكد لي الآخر بشاعته وغرابة كل إحساس بالسعادة. فات الأوان على كل حال كي ينغلق الجرح المفتوح في نفس مارية (ذاك ما أكده لي جانب الأنا مني الغارق في كهف الأقذار بدون شفقة). فات الأوان الآن ولن يعود.

نهضت مارية صامتة ومتعبة ومجهدة بينما كانت نظرتها ، تلك التي أعرفها مليا، ترفع الجسر المتحرك الممدود بيننا.كانت نظرة جادة معبرة، وأدركت بسرعة أن الجسر بيننا سيرفع إلى الأبد، فلم أتردد في تقبل أكبر الاهانات في تلك اللحظة الحرجة المفاجئة حتى وان أدى الأمر إلى تقبيل رجليها. لم تفعل أكثر من النظر إلي في شيء من الشفقة والعطف. أنها شفقة وكفى وليس شيء آخر.

عندما هممت بالخروج من الورشة لم أكن أشعر تجاهها بأي حقد ولكني غرقت في عملية إفناء تام للإرادة. وبقيت داخل الورشة دون أن أقدر على فعل أي شيء، شاخصا بذهول نحو نقطة محددة وأدركت أنه علي القيام بمجموعة أمور.

ركضت إلى الشارع دون أن أعثر عليها في أي مكان، فأسرعت إلى منزلها في سيارة أجرة لأني كنت أعتقد أنها لن تذهب مباشرة حيث آمل أن أجدها. وانتظرتها بلا جدوى أكثر من ساعة. كلمتها هاتفيا من مقهى، فقيل لي أنها ليست هناك ولم تعد منذ الساعة الرابعة (الساعة التي قصدت فيها ورشتي). وانتظرت عدة ساعات أخرى ثم هتفت إليها ثانية فقالوا لي أنها لم تأتي إلى المنزل رغم أنه ليل. فخرجت أبحث عنها قلقا في كل مكان. في الأماكن التي تعودنا أن نتقابل فيها ونسير فيها مثل ريكوليتا وشارع ثينتيناريو وساحة فرنسا والميناء الجديد. لم أرها في أي مكان وخمنت أنها من المحتمل أن تسير في أي مكان إلا في الأماكن التي تذكرها بأسعد لحظاتنا. فجريت من جديد نحو منزلها ولكن الوقت كان متأخرا، ويمكن أن تكون قد دخلت. كلمتها هاتفيا من جديد. وعلمت أنها فعلا قد عادت، وقيل لي أنها في فراشها ومن المستحيل أن تجيب رغم أني أعطيتها اسمي. هناك شيء قد قطع بيننا.

21

رجعت إلى بيتي شاعرا بوحدة مطلقة. إن الإحساس بالعزلة في العالم كثيرا ما يبدو ممزوجا بالإحساس بالغرور والرفعة واحتقار الناس: أراهم وسخين وبشعين وعاجزين وجشعين ومساكين. ووحدتي هذه لا تخيفني، بل لعلها تشعرني أني بطل أولمبي.

أراني في مثل هذه اللحظات وأشباهها وحيدا، ولعل ذلك يعود لصفاتي السيئة وأعمالي الدنيئة. أحس عندها أن العالم حقير رغم أني أمثل جزء منه. يجتاحني غضب الإبادة واستسلم لفكرة الانتحار وأتركها تداعبني فأسكر وأبحث عن بائعات الهوى. أحس ببعض المتعة عندما أجرب سفالتي فأتأكد أني لست أفضل من وحشيي الطباع القذرين الذين يحيطون بي.

سكرت كثيرا تلك الليلة في مقهى الباخو5 الصغير وشعرت بقرف واشمئزاز لا يوصف من المومس التي كانت معي ومن البحارة المحيطين بي، جعلني أخرج مسرعا إلى الشارع وسرت في فيامونتي6. ولما وصلت إلى الرصيف جلست وبكيت بكاء مرا. كان الماء القذر يلامسني من الأسفل فأشعر بقشعريرة. لم كل هذا الألم؟! فكرة الانتحار تغريني بسهولة الفناء. كل هذا الكون العبثي ينهار الآن في ثانية مثل عملاق أسطوري صلب صلابة ناطحات سحاب أو مدرعات ودبابات، ولكن لا يعدو أن يكون سوى خيال أو ظل. انه كابوس. في ضوء هذا التحليل تبدو الحياة فعلا شبيهة بكابوس مديد لا يستطيع الإنسان التخلص منه إلا بالموت الذي يعد لونا من الاستيقاظ. وأي استيقاظ؟ ومم؟ إن حيرة الارتماء في العدم المطلق والدائم جعلت حدا لكل خطط الانتحار. واكتشفت أن الإنسان رغم همومه كثير التشبث بالوجود ويفضل في النهاية تحمل النقائص والألم البشعين على أن يبيد نفسه بمحض إرادته. فإذا وصلنا إلى ذلك الحد من القلق الذي يسبق عملية الانتحار بفعل إنهاك كل ما هو سيء لكياننا حيث يكون الشر لا يطاق، فان أي عنصر خير مهما يكن صغيرا يكسب قيمة لا حد لها تكون حاسمة فتتعلق به كما يتمسك المتدحرج في هوة بأي نبتة عند الإحساس بالخطر.

كان الوقت فجرا أو يكاد عندما قررت العودة إلى المنزل. لا أتذكر كيف ولكن رغم هذا القرار الذي أذكره جيدا وجدت نفسي فجأة أمام منزل آياندي. الغريب أني لا أتذكر كل الأحداث التي وقعت في تلك اللحظة. أذكر فقط أني وجدت نفسي جالسا على الرصيف أشاهد الماء العكر. ولكني كنت مشدودا إلى الطابق الخامس. لم أنظر إليه؟ من العبث تصور إمكانية رؤيتها بأي صورة من الصور. وبقيت منشغلا ردحا لا بأس به من الزمن حتى ألحت علي فكرة النزول إلى الشارع والبحث عن مقهى لمكالمتها هاتفيا. فعلت ذلك دون التفكير في ما سأقول لتبرير مكالمة في مثل تلك الساعة. طلبتها طيلة خمس دقائق، وعندما أجابوني ظللت مشلولا دون أن أقدر على فتح فمي. وتركت السماعة مذعورا وخرجت من المقهى وطفقت أسير بلا وجهة محددة، وفجأة وجدتني في المقهى من جديد. وحتى لا أجلب الانتباه طلبت لنفسي خينيبرا7، وأثناء شربها رأيت أن أعود إلى منزلي، وبعد وقت طويل نسبيا وجدتني في الورشة مرتميا على الفراش بثيابي ونمت.

22

  • من النوم صارخا. ولكني وجدت نفسي في ورشتي. يا له من حلم مزعج: كنا عدة أشخاص وكان علينا الحضور إلى منزل سيد يبدو من الخارج كأي منزل آخر. ودخلنا. كنت عندها متأكدا أنه لم يكن على هذا الشكل وأنه كان مخالفا لبقية المنازل. قال لي صاحبه: كنت في انتظارك. وأدركت أنني وقعت في فخ. أردت الهروب وقمت بجهد هائل ولكن أتى ذلك متأخرا. كان جسدي لا يطاوعني واستسلمت لما سيحدث. بدأ ذلك الرجل يحولني إلى عصفور في حجم إنسان. بادر بالرجلين. رأيت كيف كانتا تتحولان إلى ساقي ديك أو شيء مثل ذلك. ثم واصل تحويل سائر أعضاء الجسم من أسفل إلى أعلى كما يصعد الماء وسط صهريج. أملي الوحيد للخلاص في أصدقائي الذين لم يصلوا بعد. وبعد وصولهم حدث ما أرعبني. لم يلاحظوا تحولي وتعاملوا معي كالعادة وعزمت أن أروي لهم ما فعله بي الساحر وظننت أنه أوهمهم بأني شخص عادي. ورغم نيتي رواية هذا بهدوء حتى لا تزيد الحالة سوء بفعل غضب الساحر الذي ربما يرد الفعل بعنف أشد، إلا أنني كنت أصرخ ولاحظت أمرين مدهشين: خرجت الجملة التي كنت أريد أن أنطق بها في قالب صوت خشن لعصفور. صراخ غريب متقطع يبرز خوف الإنسانية، والأغرب أن أصدقائي لم يسمعوا صراخي وكأنهم لم يشاهدوا تبدلي إلى عصفور كبير. بالعكس بدا لي أنهم يسمعون صوتا عاديا يفوه بأمور عادية، ولم يبدوا أي استغراب في أي لحظة. فسكت وأنا أحس برعب لا متناه. نظر إلي صاحب المنزل وفي عينيه بريق سخرية خفي على الآخرين، واضح بالنسبة إلي، وأدركت أخيرا أن لا أحد لاحظ هذا التحول. سأضيع إلى الأبد وسيذهب هذا السر معي إلى القبر.

23

عندما أفقت كنت وسط الغرفة واقفا مذعورا عائما في عرق بارد. نظرت إلى الساعة. إنها تشير إلى العاشرة صباحا. أسرعت لأهتف فقيل لي أنها ذهبت إلى الضيعة. فصعقت وظللت مرتميا على الفراش زمنا طويلا لا أنبس ببنت شفة، وقررت أن أكتب لها رسالة. لا أتذكر بالضبط الآن كلماتها. ولكنها كانت طويلة جدا. وعموما رجوتها فيها أن تصفح عني وقلت لها أني لا أستحق حبها ومن العدل أن أموت في وحدة مطلقة.

مرت أيام فظيعة دون أن يصلني منها رد. فبعثت لها برسالة ثانية، فثالثة، فرابعة مرددا كل مرة نفس الشيء ولكن بأكثر مرارة وكآبة. وقررت في الرسالة الأخيرة أن أقص عليها ما حدث لي في تلك الليلة التي تلت افتراقنا، ولم أخجل من رواية التفاصيل الساذجة وأعمالي السافلة، ولم أهرب من الاعتراف لها بمحاولة الانتحار. أخجلني استعمال هذا كسلاح ولكني استعملته. وبينما كنت أعدد أعمالي السافلة وأذكر قلقي وإحساسي بالوحدة في الليل وأنا أمام منزلها في شارع "بوصاداص"، كنت أحس بشفقة على نفسي الضائعة بلغت درجة البكاء عليها. كنت آمل أن تحس مارية بشيء مماثل عند قراءة الرسالة. وكم كان هذا الأمل يشعرني ببعض الفرح. بصراحة كنت متفائلا بهذه الرسالة المضمونة الوصول.

وأخيرا عدت من مركز البريد محملا برسالة من مارية. لقد كانت مفعمة بالعطف والحنان. أحسست بأن شيئا من خصائص حبنا الأول بدأ يعود من جديد، وان لم يكن بالشفافية الأصلية الرائعة، وعلى كل فقد عاد ببعض صفاتها الأساسية تماما مثل الملك المخلوع. انه يبقى دائما ملكا رغم أن الحاشية والخدم غدروا به ولطخوه مؤقتا بالوحل. واستبدت بي الرغبة في الذهاب إلى الضيعة ، فأعددت حقيبة كالمجنون وصندوق رسم وجريت إلى محطة كونستيتوثيون8.

24

محطة آياندي محطة ريفية بها بعض القرويين ورئيسا في قميص بأكمام فولانتا9 وبعض قوارير حليب.

لقد حز في نفسي أمران: غياب مارية وحضور السائق الذي ما أن وصلت حتى اقترب مني وبادرني بقوله:

_ حضرتك السيد كاستال؟ فأجبته ببرود:

_ لست أنا السيد كاستال. وأدركت أنه من الصعب انتظار قطار العودة إذ يمكن أن يتأخر نصف يوم أو نحو ذلك فأجبرت على التعريف بنفسي، واستدركت على الفور:

_ بلى أنا السيد كاستال. فنظر إلي مندهشا. فقلت له مسلما إياه الحقيبة وصندوق الرسم:

_ خذ. وسرنا حتى السيارة. أوضح لي السائق أن الآنسة مارية أصابتها وعكة. فقلت متمتما:

_ وعكة؟

وأي وعكة؟ من أين له أن يعرف مثل هذه الحيل! وخالجتني من جديد فكرة العودة إلى بوينوس آيرس. ولكن علاوة على انتظار القطار، كان هناك شيء آخر يجب فعله: ضرورة إقناع السائق بأني لم أكن فعلا كاستال، أو ربما إقناعه بأنه حتى لو كنت السيد كاستال، لم أكن مجنونا. فكرت بسرعة في مختلف الحالات وتوصلت إلى النتيجة الآتية: انه من الصعب إقناع السائق فتركت نفسي أجر إلى الضيعة. ماذا سيحدث لو رجعت إلى بوينوس آسريس كالعادة: سأضل بغيظي بل وربما سيتضاعف نظرا لعدم صبه على مارية وسأتألم كثيرا لعدم مقابلتها ولن أستطيع العمل لأني لم أتمكن من تعذيب مارية كما عذبتني، وليس من المفروض حقا أن هذا النوع من العقوبات يؤلمها، انه مجرد افتراض.

هناك بعض الشبه بين آياندي وهونتار. (أعتقد أني صرحت لكم بأنهما ابني عم). هونتار طويل، أسمر أقرب ما يكون إلى النحافة، له نظرة متزلفة. انه جامد ومنافق (ذاك ما أحسست به في تلك اللحظة على الأقل).استقبلني بمجاملة وتصنع وقدمني إلى امرأة نحيفة تدخن سيجارة طويلة جدا، لها نبرة باريسية تدعى ميمي آياندي. كانت تبدو شريرة وقصيرة النظر.

أين دفنت مارية نفسها؟ هل متوعكة بالفعل؟ كنت كثير الارتباك والقلق إلى أن كدت أنسى وجود هذه الكائنات، ولكن عندما تذكرت وضعيتي التفت نحو هونتار أتفحصه. إنها طريقة ناجحة تعطي نتائج ملموسة مع أفراد من هذا النوع. كان يحملق في بعينين ساخرتين مذبذبتين وقال لي: أصيبت مارية بوعكة خفيفة ألزمتها الفراش وأعتقد أنها ستنزل قريبا.

لعنت نفسي لكي أسليها: هل كان من الضروري أن أبقى مع أناس أكون معهم على احتراس مستمر؟ ونويت تقصي طرق تفكيرهم ومزاحهم وردات فعلهم وأحاسيسهم. لعل ذلك ينفع في مزيد التعرف على سلوك مارية. واستعددت لأسمع وأرى محاولا القيام بذلك في أفضل حالة نفسية، غير أن نفسي كانت مدلهمة ومظلمة، والغريب أن نفاق هونتار والمرأة النحيفة كان يفرحني.

قالت المرأة قصيرة النظر بعينين شبه مغلقتين كما نفعل عند هبوب عاصفة رملية:

_ حضرتك رسام!؟ كانت تغمز بعينيها محاولة تحسين قصر نظرها بلا نظارات، ولعلها بالنظارات تكون أكثر قبحا وعجرفة ونفاقا فقلت حانقا:

_ نعم سيدتي. قلت ذلك رغم أني متأكد من أنها لا تزال آنسة. فأوضح الآخر:

_ كاستال رسام بارع. ثم أضاف سلسلة من التفاهات في قالب مدح، مكررا ما كان النقاد يكتبونه حولي كلما أقمت عرضا كقولهم عمل صلب (الخ). ولا أنكر أن ذلك كان يسليني. ولاحظت أن ميمي عادت تتفحصني بعينيها الصغيرتين نصف المغلقتين مما أزعجني واعتقدت أنها كانت تتحدث خفية عني. لا أعرفها جيدا إلى حد الآن. وسألتني كأنها تختبرني:

_ وأي الرسامين تفضل؟

لا أتذكر بالتحديد هل سألتني عن ذلك بعد أو قبل أن نزلنا. وما إن قدمني هونتار إليها وهي جالسة في الحديقة بجانب مائدة الشاي حتى أدخلني إلى غرفة خصصوها لي، وعندما صعدنا تبين لي أن المنزل يتكون من طابقين، وأوضح لي أنه بقي نفس المسكن رغم بعض التحسينات الطارئة عليه فقد بناه الجد في ضيعة أبيه القديمة. كنت أقول في نفسي وماذا يهمني؟ أكيد أنه يريد أن يبدو متواضعا صريحا ولا أعرف غرضه من ذلك. وبينما كان يتحدث عن ساعة شمسية أو شيئا يعمل بالطاقة الشمسية كنت أفكر أن مارية لا بد أن تكون في إحدى الغرف الفوقية. وأضاف هونتار بسبب نظراتي الفاضحة:

_ هناك عديد الغرف. المنزل في الواقع مريح جدا وهو مبني بمقياس دقيق جميل.

تذكرت عندها أنه مهندس وسأرى ما يعني بالمقياس الجميل. وأشار إلى الغرفة التي في الوسط قبالة المدرج قائلا:

_ هذه غرفة الجد القديمة التي شغلها! وأردف بعد أن فتح بابا ثانيا:

_ وهذه غرفتك أنت! ثم تركني قائلا: أنتظرك في الأسفل للشاي.

وما أن بقيت وحدي حتى طفق قلبي يدق بقوة باعتبار أن مارية ربما تكون في الغرفة المجاورة. ولم أدر ما أفعل. كنت واقفا وسط الغرفة حتى اقتربت من الحائط الذي يفصلني عن الغرفة المحاذية (ليست غرفة هونتار) ودققت برفق بقبضة اليد، ولكن ما من مجيب، فخرجت إلى الممر ولما تأكدت أنه ليس هناك أحد اقتربت من الباب المجاور وعندما رفعت يدي لأدق أحسست باضطراب كبير ولم أجد القوة الكافية لذلك، فعدت أجري إلى غرفتي وقررت بعد ذلك النزول إلى الحديقة ولكني كنت شديد الحيرة.

25

سألتني النحيفة ذات مرة عن من أحب من الرسامين فذكرت بعض الأسماء من بينهم فان كوك اليوناني، فنظرت إلي بسخرية وقالت كأنها تخاطب نفسها: "عجبا!"، وأضافت: "أكره المشهورين جدا"، وواصلت حديثها متوجهة إلى هونتار: "إن أشخاصا مثل ميغال آنخيل والغريكو يقلقانني. كم هي عدوانية الشهرة والمأساوية! ألا تعتقد أن في ذلك قلة تربية؟ أنا أعتقد أن على الفنان أن لا يجلب الانتباه أبدأ. إن الإفراط في المأساوية والأصالة يغضباني. الأصالة بأي شكل من الأشكال تعني إبراز قلة ذكاء الآخرين مما يبعث على الشك في ذوق أصحابها. أكيد أنني لو رسمت أو كتبت فلن أقوم بأشياء تلفت النظر أبدا".

فعلق هونتار بخبث:

_ لا أشك في ذلك. وأضاف بعد ذلك قائلا:

_ أكيد أن الكتابة التي على شاكلة الأخوة كرامازوف¹º لا تعجبك. فصرخت ميمي مصوبة نظرها إلى السماء:

_ أي فظاعة! يبدو أن جميعهم "أغنياء الوعي الجديد" بما في ذلك الراهب. ما اسمه؟ زوزيم. أليس كذلك؟

_ لماذا لا تقولين زونمو ميمي؟ إلا إذا قررت ذكر اسمه بالروسية.

_ هكذا تبدي غباوتك البورستية! أنت تعرف أن الأسماء الروسية يمكن أن ننطقها بطرق مختلفة. كما كانت تقول شخصية المسرحية الهزلية "دولستوي أو تولستوؤ كما نشاء". فعلق هونتار بقوله:

_ لذلك يضعون همزة فوق الواو مثل ما هو الحال في ترجمة اسبانية انتهيت من قراءتها حديثا (مباشرة من الروسية حسب دار النشر). فعلقت ميمي مستبشرة:

_ تلك الأشياء تعجبني. قرأت ذات مرة ترجمة فرنسية لتشيكهوف حيث تجد كلمة "ايشفوشنيك" (أو شيئا كهذا) وفي أسفل الصفحة تجد معناها مثل كلمة حمال، ثم تصور أن القارئ لا يفهم لماذا لا يذكرون بالروسية كلمات مثل "بالرغم" أو "قبل". ألا يبدو ذلك غريبا؟ عموما إن أعمال المترجمين تعجبني خصوصا إذا كانت لقصص روسية. هل تتحمل القصص الروسية؟

كانت توجهت بهذا السؤال إلي دون أن أتوقع ذلك منها ، غير أنه لم تنتظر الجواب وواصلت قائلة وهي تنظر من جديد إلى هونتار:

_ تصور أني لم أنهي أبدا قصة روسية. أنها مرهقة جدا. يظهر آلاف الأشخاص وفي النهاية لا يبقى أكثر من أربعة أو خمسة. تبدأ شخص يسمى اسكندر، على سبيل المثال، فيصير اسمه صاتشا، ثم صاتشكا فصاتشينكا، وفجأة يصير اسما عظيما مثل اسكندر اسكندروفيتش. ولا تكاد تهتدي لمعرفة أحدهم حتى تضيع من جديد. انه تحول لا نهائي. فكل شخصية تبدو عائمة. لا تقل أن هذا بدورك لا يضنيك ؟!

_ ليس هناك داعي ميمي كي تنطقي الأسماء الروسية بالفرنسية. لم لا تقولين تشيخوف عوض عن تشيكهوف الذي يبدو أقرب إلى الأصل؟ زد على ذلك تشيكهوف اصطلاح فرنسي فظيع.

_قالت ميمي في شبه توسل:

_ أرجوك لا تكن مملا لويسيتو. متى تتعلم إخفاء معلوماتك؟ انك ثقيل جدا ومتعب جدا. أليس كذلك؟

هكذا ختمت كلامها متوجهة بالحديث إلي، فأجبتها بنعم دون التأكد مما كانت تقول فرمقني هونتار بتهكم. ما أشد إحساسي بالحزن. يقولون أني شديد الضجر. ولكني كنت أصغي بشيء من الانتباه إلى تلك التفاهات بكل دقائقها، والغريب أن ذلك يدخل علي شيئا من الفرح وأقول في نفسي: "إن هؤلاء لتافهون وسطحيون. أناس من هذا النوع لا يمكن أن يبعثوا في مارية غير الإحساس بالعزلة، ولا يمكن لهم أن ينافسوني". لم أشعر بالفرح في الواقع لأني أحس في أعماقي كأن شخصا يوصيني بالحزن ولم أعرف سبب ذلك فتحولت إلى شخص شديد الملل والعصبية. وحاولت تهدئة خاطري ممنيا نفسي بمعالجة عواقب هذه الظاهرة عندما أصير وحدي. لعل غياب مارية هو السبب . كنت أتوقع أن غيابها يغضبني أكثر مما يحزنني ولكن الأمر لم يكن كذلك. إنهم الآن بصدد الحديث عن قصص بوليسية. سمعت النحيفة تسأل هونتار إن كان قرأ القصة الأخيرة "للحلقة السابعة"¹¹. فقال:

_ ولم هي بالتحديد؟ كل القصص البوليسية متشابهة. وواحدة منها في السنة تكفي، أما من يقرأها أسبوعيا فهو ضعيف الخيال.

فغضبت ميمي أو هي تظاهرت بذلك وقالت:

_ كف عن البلاهة. إنها النوع الوحيد الذي يمكن أن يقرأ الآن. إنها تعجبني، كل شيء فيها في غاية من التعقيد: مخبرون رائعون يعرفون خبايا كل شيء. انه فن راق من عهد مينغ¹², انه علم يعرفك بأخلاق الشخص من خطه. فيها نظرية انشطاين¹³ والفايس بول، وفيها اقتفاء الأثر وقراءة خطوط الكف. فيها الاقتصاد السياسي وإحصائيات تربية الأرانب في الهند. وهم منزهون عن الخطأ، ويبعثون على الإعجاب.

وتوجهت إلي قائلة:

_ أليس كذلك؟

لم أعرف بما أجيب نظرا لأنها فاجأتني، فكان علي أن أقول شيئا فقلت:

_ طبيعي. الأمر أكيد.

وعاد هونتار لينظر إلي نظرته التهكمية. أضافت ميمي بصرامة وهي تنظر إلى هونتار:

_ سأخبر جرجي بأن القصص البوليسية تزعجك.

_ لم أقل ذلك. قلت فقط إنها متشابهة.

_ على كل حال سأعلم جورجي. لحسن الحظ ليس جميع الناس متحذلقين مثلك. وأنت سيد كاستال إنها تعجبك أليس كذلك؟ فتساءلت مرعوبا:

_ بالنسبة لي؟

وواصلت ميمي قائلة دون أن تنتظر جوابي، طبعا، موجهة نظرها نحو هونتار من جديد:

_ لو كان كل الناس علماء كبيرين مثلك لاستحال العيش. أنا متأكدة أنه يجب عليك الإلمام بكل نظريات القصة البوليسية. فقال هونتار مبتسما متظاهرا بالقبول:

_ إنه كذلك.

أضافت ميمي في شيء من الجد والصرامة متجهة بالحديث من حديد إلي كأنها تعينني شاهدا على كلامها:

_ألم أقل ذلك؟ إني أعرفه جيدا. ليس لي أدنى شك في إشعاعه ولكن عليه أن يستبسل ليفسر ذلك.

لم يظهر هونتار استخفافا وقال موضحا:

_ أعتقد أن القصة البوليسية في القرن العشرين تمثل ما كانت تمثله الفروسية في عهد ثيرفانتيس، وأذهب إلى أكثر من ذلك. أعتقد أنه يمكن أن تكون شيئا معادلا لدون كيشوط: هجاء للقصة البوليسية، تصوروا حضاراتكم أن إنسانا يقضي حياته في مطالعة قصص بوليسية ويصل به الجنون إلى الاعتقاد بأن العالم يسير مثل ما حدث في قصة نيكولاس بلاند أو ايلاري كيين. تخيلوا أن هذا الشخص المسكين يذهب في النهاية إلى اكتشاف الجرائم ويتصرف في الواقع مثلما يتصرف مخبر في إحدى القصص. أظن أنه سيقوم بأشياء مسلية ومأساوية أو رمزية وهجائية وان كانت جميلة.

فعلقت ميمي باستهزاء قائلة:

_ ولماذا لا تفعل مثله؟ فرد قائلا:

_ لسببين: أولا لست ثيرفانتيس وثانيا أنا كسول. فعلقت ميمي قائلة:

_ السبب الأول يبدو كافيا. وتوجهت إلي بالقول وهي متكئة ومشيرة بمبسم سيجارتها الطويل إلى هونتار:

_ هذا الرجل ضد القصص البوليسية لأنه غير قادر على تأليف قصة واحدة حتى وان كانت أثقل قصة في العالم. فقال هونتار لابنة عمته:

_ ناولني سيجارة. ثم أضاف:

_ متى تكفين عن المبالغة. أولا لست ضد هذه القصص. كل ما قلت بكل بساطة أنه يمكن كتابة شيء مثل دون كيشوط عصرنا. وثانيا أنت مخطئة في تصور عدم قدرتي على تأليف مثل هذا النوع. تصورت ذات مرة قصة بوليسية شيقة. فقالت ميمي:

_ لا تقل ذلك.

_ بلى! تصوري قصة رجل له وزوجة وطفل. تموت الأم ذات ليلة بشكل غامض ومفاجئ. ولم يتوصل الباحثون إلى أي نتيجة. وبعد مدة تموت الزوجة بنفس الطريقة. ثم يقتل الطفل في نهاية الأمر حتى جن الزوج لأنه يحبهم جميعا وخصوصا الابن، فقرر مجبرا استقصاء الأمر دون استشارة أحد وذلك بإتباع الطرق الاستقرائية العادية التحليلية والتأليفية والاستدلالية وما شابهها، إلى أن توصل في نهاية المطاف إلى أن القاتل يجب أن يرتكب جريمة رابعة يوم كذا وساعة كذا وفي مكان كذا، والخلاصة أن المجرم سيقتل الأب بدوره. وفي اليوم المحدد يذهب الأب إلى مكان الجريمة المرتقبة وينتظر ولكن القاتل لا يصل. فيضطر لمراجعة استنتاجاته. لعله لم يوفق إلى تحديد المكان المضبوط. لا، إن المكان مناسب جدا. لعله لم يختر الساعة بالتحديد. لا، إنها كذلك مناسبة جدا. يا لها من نتيجة مفزعة. لا بد أن يكون القاتل في المكان المطلوب. انه هو القاتل، هو من اقترف تلك الجرائم في حالة لا وعي. إن الباحث والقاتل هما نفس الشخص.

فعلقت ميمي:

_ بالنسبة لي قصتك على غاية من الإبداع. وكيف تنتهي؟ ألم تقل أن هناك جريمة قتل رابعة؟ فقال هونتار في شيء من الكسل:

_ أكيد. الزوج ينتحر. ويراودنا الشك هل قتل نفسه ندما أو أن الأنا القاتل فيه قضى على المفتش. مثل أي جريمة عادية. ألا تعجبك؟

_ تبدو مسلية. ولكن رواية قصة ليس ككتابتها. فقال هونتار بهدوء:

_ بالفعل. وانتقلت المرأة بعد ذلك للحديث عن قارئ خطوط الكف الذي كانت تعرفت عليه في بحر البلاطا14 وعن سيدة تتنبأ بعلم الغيب. ولما روى لها هونتار طرفة غضبت وقالت:

_ هل تتصور بأن الأمر جدي؟ الرجل أستاذ في جامعة الهندسة.

وواصلا النقاش حول مسألة تبادل المشاعر عن بعد، وكنت أنا في حرج وقلق لأن مارية لم تظهر، وعدت إلى الاستماع إليهما فكانا يتحدثان عن القانون الأساسي للعامل. كانت ميمي تمسك بمبسم السجائر وكأنه عصى رئيس فرقة موسيقية وقالت:

_ المشكلة أن الناس لا يريدون الزيادة في ساعات العمل.

ولما انتهت المحادثة أحسست فجأة بزوال حزني وهو ما لا أستطيع تفسيره. شعرت أن ميمي وصلت إلى نهاية المناقشة، وأدركت أن مارية لم تنزل كي لا تجبر على تحمل آرائهما المملة. أحسست بذلك الآن نظرا لما قاله لي السائق عندما كنا في طريقنا إلى الضيعة، ولكني لم أعره اهتماما في البداية. انه شيء يتعلق بابنة عم الشخص الذي وصل من بحر البلاطا لتناول الشاي. فالمسألة واضحة: إن مارية حبست نفسها داخل غرفتها متذرعة بتوعك صحتها نظرا لتحرجها من الوصول المفاجئ لهذه المرأة. واضح أنها لا تستطيع تحمل أمثال هؤلاء. لذلك أحسست بزوال حزني. وعندما وصلت إلى المنزل وتأكدت أن ميمي وهونتار منافقان تافهان، سر الجانب الأكثر سطحية في نفسي لأني لم أر أي منافسة لهونتار لي. وعلى عكس ذلك أحسست بحزن عميق عندما اعتقدت بأن مارية يمكن أن تكون جزء من هذه الحلقة وأن تكون لها صفة مماثلة.

26

عندما فرغنا من الشاي وتهيأنا للتجول في الحديقة، رأيت مارية تقترب منا، الأمر الذي أيد ما كنت ذهبت إليه من افتراض. كم انتظرت هذه اللحظة لنقترب من بعضنا، وكم تجنبت الحديث حول الطاولة. ولما كانت تخطو وسط الجمع كنت أقول في نفسي: إن بين هذا الكائن العجيب وبيني لرابط سري. فجمعت كل مشاعري وأدركت أن مارية ضرورية بالنسبة لي (ضرورة تعرف شخص على آخر في جزيرة مقفرة)، لتتحول فيما بعد زوال الخوف من الوحدة المطلقة إلى نوع من الترف الذي كان أعتز به. وبدأت أحس في هذه المرحلة الثانية من حبنا بألف صعوبة تماما مثل رجل بصدد الموت جوعا، فهو يقبل أي شيء ليعيش وبدون شرط، ثم إذا هو أشبع حاجته الملحة بدأ يشكو من عيوبه وتنامي سلبياته.

عرفت في السنوات الأخيرة مهاجرين وصلوا إلينا أذلاء كأنما فروا من مخيمات تعذيب، فقبلوا أي شغل للعيش وقاموا بأعمال جد وضيعة بكل فرح. الغريب أن الإنسان لا يكتفي بفرح الفرار من التعذيب ومن الموت. إذ ما أن يشعر بالأمن من جديد حتى يعود إلى الكبرياء والأنفة والاعتداد بالنفس. وهذا الشعور الذي يبدو أنه أبيد فيه إلى الأبد يطفو إلى السطح من جديد مثل حيوانات فارة مذعورة بل وبأكثر وقاحة من ذي قبل وبأشكال مختلفة كأنهم يخشون السقوط من جديد في تلك الهوة السحيقة. فليس مستحيلا في مثل هذا الحال أن تصدر منهم أفعال تنم عن الجهل والجحود.

الآن وأنا قادر على تحليل أحاسيسي برصانة وتعقل، أعتقد أن في سلوكي شيئا مما تقدم في علاقتي بمارية. وأشعر أني أدفع بشكل من الأشكال ثمن حماقتي وعدم اقتناعي بأهمية مارية التي أنقذتني (مؤقتا) من الوحدة. إن الإحساس بالكبرياء والرغبة اللامتناهية في حب التملك أوحيا لي بالسير في الطريق الخاطئ. ولكن وبمجيء مارية تصاغر ذلك الإحساس بالكبر وحل محله الشعور بالذنب والخجل اثر تذكري لما صدر مني من فعل شنيع في ورشتي لما اتهمتها بكل قسوة وحماقة وقلت لها بكل ابتذال: "خيانة أعمى"، فأحسست برجلي ترتخيان وببرودة وشحوب يجتاحان وجهي. ووجدتني وسط هؤلاء دون أن أجرأ بكل تواضع على طلب الصفح فتهدأ نفسي المرعوبة وإحساسي باحتقار نفسي. غير أن مارية حسب ما يبدو لم تفقد السيطرة على أعصابها وعاودني على الفور ذلك الإحساس بالحزن العميق نظرا لما حدث تلك الليلة.

حيتني مارية باعتدال كما لو أنها تريد أن تثبت لابني عمها أنه ليس بيننا غير صداقة بريئة. وتذكرت بمرارة موقفا حدث بيننا منذ أيام. كنت عرضت عليها في إحدى نوبات القلق مشاهدة أبراج القديس خيميغنانو15 مساء من فوق ربوة ، فنظرت إلي في حماس وقالت: "كم يكون ذلك رائعا خوان بابلو!"، ولكن عندما اقترحت عليها أن نذهب إلى ذلك المكان في نفس تلك الليلة، انزعجت وتصلب وجهها وقالت في عبوس: "ليس لنا الحق التفكير في نفسينا فقط. إن العالم شديد التعقيد"، وسألتها عما تقصد فأجابت بكآبة: " إن السعادة محاطة بالألم"". فغادرتها فجأة دون توديعها وأدركت أنه من المستحيل الفوز بها كليا، وأنه علي التسليم بالأمر، وأقنع بأن يكون لي معها لحظات قصيرة ممتعة مشوبة بحزن شديد أحيانا، فهي مستحيلة المنال كعدم تحقق بعض الأحلام أو عدم الإحساس بالسعادة عند سماع بعض المقاطع الموسيقية.

أنها مقبلة الآن. وها أنا أراقب كل حركة في وجهها وأعد لكل كلمة. إنها قادرة حتى على التبسم لتلك المرأة، وسألتني إن كنت أتيت باللطخات. فقلت في انفعال وأنا أعلم أني كنت أضيع مناورة معقدة كانت في صالحنا:

_ أ ي لطخات؟ فردت في هدوء:

_ تلك التي وعدتني أن ترينها. لطخات الميناء.

فنظرت إليها مستنكرا ولكنها أنستني ذلك بنظرتها التي لانت في عشر ثانية وكأنها تقول: "أشفق علي من كل ذلك". كم تألمت في انتظار لحظة التوسل والتذلل لعزيزتي مارية. نظرت إليها بتودد وأجبتها:

_ طبعا أتيت بها. إنها في الغرفة. فقالت في مثل برودتها السابقة:

_ أنا جد مشتاقة لرؤيتها. فقلت وقد فهمت قصدها:

_ يمكن أن نراها الآن.

وارتعدت من إمكانية انضمام ميمي إلينا، ولكن مارية التي تعرفها أكثر مني قالت بعض الكلمات التي تمنع أي محاولة للذهاب معنا:

_ سنعود بسرعة. وما أن فاهت بذلك حتى أخذتني من ذراع في حزم وقادتني إلى الداخل، وألقيت نظرة على من بقيا، فإذا بعيني ميمي تبرقان إلى هونتار.

27

كنت أنوي المكوث عدة أيام في الضيعة ولكن قضيت ليلة واحدة فقط، وفي اليوم الموالي ما إن طلعت الشمس حتى هربت بالحقيبة وصندوق الرسم إلى المحطة. يمكن أن يبدو هذا الموقف جنونيا ولكنه مبرر على كل حال. ما أن فارقنا ميمي وهونتار حتى صعدنا إلى الداخل نبحث عن اللطخات المزعومة، وفي النهاية نزلنا بصندوق رسومي ومحفظة رسوم على أنها اللطخات. لقد اختلقت مارية تلك الخطة. على كل حال اختفى أبناء العم وبدت مارية أكثر انشراحا، وعندما سرنا إلى الحديقة نحو الساحل كانت متحمسة جدا. كانت مختلفة عما عرفتها تلك اللحظة في أجواء المدينة الحزينة. كانت جد نشيطة وحيوية. كان يبدو عليها الإحساس بشهوانية لا أعرفها، شهوانية الألوان والروائح: كان يطربها بغرابة لون جذع أو ورقة جافة أو لون حيوان صغير أو أريج شجرة الكافور الممزوج برائحة البحر. (إنها غرابة بالنسبة لي أنا الذي أملك شهوانية باطنية وخيالية صرفة تقريبا). وعوض أن يفرحني ذلك زاد في حزني وقلقي لأني لاحظت أن شكل مارية كان غريبا بالنسبة إلي. فكأنه ينتمي إلى هونتار أو أي شخص آخر. وازداد الحزن تدريجيا ربما لصخب الأمواج الذي يسمع في كل لحظة، وعندما تجاوزت الجبل ولاحت السماء فوق الشاطئ أحسست أن لا مفر من ذلك الحزن، إذ دائما يحدث لي ذلك أمام هذا النوع من السحر والجمال. هل الكل يحسون بهذا أم أنه عيب آخر لمثل هذا الظرف المشئوم؟ جلسنا على الصخور وبقينا صامتين زمنا غير يسير نسمع تلاطم الأمواج الهوجاء تضرب أسفل الصخر، ونحس بزبد البحر في وجهينا مما علا الجرف، وذكرتني السماء المكفهرة بسماء لوحة التينتوريتو16 عند إنقاذ أحد المسلمين.

قالت مارية:

_ كم مرة حلمت بأني أقاسمك هذه السماء وهذا البحر. وأضافت بعد زمن:

_ يبدو لي أحيانا كأننا عشنا هذا المشهد سويا. خاصة بعدما رأيت المرأة المنعزلة في تلك النافذة المفتوحة. أحسست أنك مثلي تبحث عن محاور أبكم. ومنذ ذلك اليوم فكرت فيك باستمرار وحلمت بك عديد المرات هنا في نفس هذا المكان حيث قضيت ساعات كثيرة من حياتي، حتى فكرت ذات يوم في البحث عنك والاعتراف لك بهذا الأمر، غير أني كنت أخشى الفشل مثلما حدث لي ذات مرة، وانتظرت أن تبحث عني أنت بشكل أو بآخر. كنت أعينك على ذلك بقوة وأناديك كل ليلة، وتأكدت من إمكانية الالتقاء بك حتى إذا حدث ذلك في باب المصعد بقيت مشلولة من الخوف ولم تصدر مني إلا حماقات. وعندما هربت ظنا منك أنك فشلت أو أخطأت الهدف جريت خلفك كالمجنونة. جاءت بعد ذلك اللحظات التي عشناها في ساحة القديس مارتين حيث كنت تحاول توضيح بعض الأمور وأنا أضللك، فكنت مترددة حائرة خائفة من أن أخسرك إلى الأبد، مشفقة من الإساءة إليك. كنت أحاول إحباط عزيمتك وجعلك تفهم أني لا أفقه كلامك المعتدل ورسائلك الموجزة.

لم أقل شيئا. كنت فقط أشعر بأحاسيس جميلة وكانت الأفكار المظلمة تدور في خلدي عندما استمع إلى صوتها العذب. بل وصل الأمر بي إلى الافتتان. وأشعل غروب الشمس لهبا هائلا بين سحب الغرب، وأحسست أن تلك اللحظة السحرية لن تعود من جديد. لن تعود مرة أحرى، لن تعود أبدا. بدأت أحس بدوران الجوف وقلت لنفسي كم من السهل جرها معي إلى الهاوية.

سمعت مقطوعات موسيقية تقول: "الهي... كثير من الأشياء تصاحبنا إلى الخلود... أشياء فظيعة، ... نحن لسنا فقط هذا المنظر الطبيعي، بل كائنات حقيرة من لحم ودم، كلها قبح وتفاهة".

تحول البحر إلى وحش مظلم، وفجأة أرخى الظلام سدوله على الكون فاكتسب صخب الأمواج هناك في الأسفل جاذبية معتمة. وقالت مارية: "نلاحظ بسهولة أننا كائنات ممتلئة قبحا وتفاهة". ورغم معرفتي أني في بعض الحالات أقترف بعض ذلك فقد أحزنني أن تكون هي أيضا مثلي. أكيد أنها تفعل ذلك، ولكن كيف، ومع من، ومتى؟ ونمت في رغبة مكبوتة للارتماء عليها ونهشها بالأظافر والضغط على عنقها حتى خنقها ورميها في البحر. وفجأة سمعتها تقول شيئا آخر. كأنها تتحدث عن ابن عمها خوان أو شيئا كهذا. تحدثت عن طفولتها في الريف وأفعالها المؤلمة القاسية مع ابن عم لها آخر. إن مارية بصدد البوح باعترافات ثمينة وخطيرة كنت أضعتها كالأحمق. فصرخت قائلا:

_ أي أعمال مؤلمة قاسية؟ ولكنها لم تكن تسمعني كما لو أن النعاس بدأ يداعب جفونها، فبدت وحيدة بعيدة. ومر زمن، نصف ساعة تقريبا حتى كانت تداعب وجهي كما كانت تفعل في لحظات سابقة مشابهة. ولم أقدر على الحديث فدفعت برأسي إلى حضنها كما كنت أفعل مع أمي لما كنت طفلا، وبقينا هكذا وتوقف الزمن. انه فعل طفولة وموت. للأسف هناك أعمال ناقصة ومريبة وراء ذلك. كيف أغالط نفسي فأقع في الخطأ بالاعتقاد بأن مارية ليست إلا كما تبدو في تلك اللحظة. بينما كنت أستمع إلى دقات قلبها عن قرب، وبينما كانت يدها تلاطف شعري، تحركت الأفكار المظلمة في ظلام رأسي كما لو أنها كانت في سرداب مستنقع تنتظر لحظة الانفجار وتدوي بصمت في الوحل.

28

اثر عودتنا إلى الضيعة وقعت أشياء نادرة جدا. وجدنا هونتار مضطربا للغاية رغم أنه ممن لا يروقهم إظهار التأثر ولكنه كان يحاول إخفاءه. أكيد أن شيء ما حصل. كانت ميمي قد انصرفت وكل شيء جاهز في غرفة الأكل. لقد تأخرنا كثيرا وما أن وصلنا حتى جرى الإعداد بسرعة فعالة للأكل. لم نتكلم كثيرا ونحن نأكل. كنت أراقب حركات هونتار لعلها تنبآني بعديد الأشياء التي كانت تحدث لي والأفكار التي كانت في حاجة إلى مزيد التوضيح، كما راقبت ملامح مارية التي يصعب النفاذ إليها. ولكي تخفف من حدة التوتر قالت:

_ كنت بصدد قراءة قصة لسارتر17. فعلق هونتار:

_ قصص في هذا العصر! يا للعجب مازالت تكتب وتقرأ؟!

عاد الصمت من جديد ولم يبذل هونتار أي جهد للتخفيف مما قاله. فأدركت أن له شيئا يعيبه على مارية. وبما أن ذلك لم يكن قبل أن نخرج إلى الساحل استنتجت أنه يرتبط بمحادثتنا الطويلة. من الصعب القبول أنه لم يكن بسبب المحادثة والوقت الطويل الذي قضيناه هناك. وخلاصة القول: إن هونتار يحس بالغيرة وذلك يبرهن على أن هناك شيء أكثر من علاقة صداقة وقرابة عادية بينه وبينها. ليس من الضروري أن تحس مارية بميل نحوه، في المقابل من السهل جدا أن يغضب هونتار عندما يرى اهتمام مارية بغيره. وفي كل الظروف إذا كان غضب هونتار بسبب الغيرة فانه سيظهر لي العداوة رغم أنه ليس بيني وبينه أي شيء آخر. بالفعل هكذا كان الأمر ولو لم تكن هناك تفاصيل أخرى لاعتبرت نظرة هونتار لي بخصوص كلام مارية عن الجرف عرضية.

ما إن نهضنا من حول الطاولة، حتى تعللت بالتعب ورحت إلى غرفتي. حاولت تجميع أكثر ما يمكن من عناصر للحكم على المشكلة. بعد أن صعدت المدرج وفتحت الباب وأشعلت النور رددت الباب بقوة على أني أغلقته، ولكني بقيت في الممر أسترق السمع. وفورا سمعت هونتار يقول جملة في اضطراب ولم أستطع تمييز كلماتها. لم ترد مارية. فأضاف هونتار جملة أخرى أطول بكثير من الأولى وأكثر اضطرابا. ولكن إجابة مارية كانت متطابقة مع كلماته الأخيرة، غير أنها كانت مصحوبة بجر كراسي. وسمعت إثرها خطى تصعد المدرج فأغلقت الباب بسرعة وبقيت أتجسس من ثقب المفتاح. بعد لحظات سمعت خطى امرأة أمام بابي. بقيت صاحيا زمنا طويلا أفكر فيما كان قد وقع، محاولا الاستماع إلى أي همس. غير أني لم أسمع شيئا طوال الليل. لم أستطع النوم. إن سلسلة من التوقعات التي لم تخطر ببالي من قبل بدأت تعذبني. وفجأة بدا لي استنتاجي الأول ساذجا إذ، وهو الصواب، ليس من الضروري أن تحب مارية هونتار حتى يكون غيورا. لقد هدأني هذا الافتراض. ولكن ليس معنى هذا أنه غير ممكن. وحتى إن كان كذلك فلا يعد عيبا. إن من الممكن أن تكون تحبه مارية ويحس هو بالغيرة. ولكن هل هناك سبب يؤكد حدوث شيء مع ابن عمها؟ ثمة أسباب في الواقع.

أولا أن كان هونتار يقلقها بغيرته وهي لا تحبه فلماذا تأتي دوما إلى الضيعة حيث يعيش بمفرده. لم أكن أعلم هل هو أعزب أو أرمل أو مطلق إلا بعد أن أعلمتني مارية ذات مرة بأنه منفصل عن زوجته. الخطير أنه يعيش في النهاية وحده في الضيعة. والسبب الثاني للشك في تلك العلاقة هو أن مارية لا تحدثني عن هونتار الا بعدم اكتراث، أعني باللامبالاة التي تتحدث بها عن أحد أفراد العائلة. ولم تذكر لي أو حتى لمحت أن هونتار يحبها وأكثر من ذلك أنه يغار عليها.

والسبب الثالث أن مارية حدثتني مساء ذلك اليوم عن ضعفها، فماذا كانت تقصد؟ كنت بحت لها في رسالة بسلسلة أعمالي الحقيرة (مسألة سكراتي والعاهرات...). قالت أنها تفهمني وأن أعمالها ليست دائما سفن تنطلق وحدائق عند الغسق. ماذا تقصد غير أن في حياتها أمور مظلمة جدا بل وحقيرة مثل دناءتي! ألا يمكن أن يكون بينها وبين هونتار مسألة دعارة وهوى خسيس؟

عالجت هذه الاستنتاجات واجتررتها طوال الليل من زواياها المختلفة والنتيجة النهائية القاسية التي توصلت إليها أن مارية عشيقة هونتار.

ما أن طلع الفجر حتى نزلت من المدرج بحقيبتي وصندوق رسومي. فاعترضني أحد الخدم وقد شرع في فتح الأبواب والنوافذ للتنظيف. فكلفته بإبلاغ سلامي إلى السيد وأن يقول له أني وجدت نفسي مجبرا على الرجوع عاجلا إلى بوينوس آيرييس. فنظر إلي الخادم بعينين مندهشتين خصوصا عندما أعلمته بأني سأذهب راجلا إلى المحطة رغم اعتراضه الضمني.

علي أن أنتظر عدة ساعات في المحطة الصغيرة. وتخيلت للحظات ظهور مارية, وتقبلت تلك الإمكانية بذلك الرضا المر الذي يشعر به أحدنا وهو صبي وقد حبس نفسه في مكان ما، وظل ينتظر قدوم من يبحث عنه ويعترف له بالخطأ في حقه . غير أن مارية لم تأت. ولما وصل القطار وألقيت نظرة أخيرة على الطريق الموصل إلى الضيعة متمنيا ظهورها في آخر لحظة ولم أرها أحسست بحزن لا متناه.

عندما سار القطار نحو بوينوس آيريس كنت أجول ببصري في الخارج من خلال النافذة. وعند مروره بجانب كوخ، نظرت امرأة إلى القطار من تحت إفريز السطح، فقفزت إلى ذهني فكره حمقاء: "إني أرى هذه المرأة لأول ولآخر مرة. لن أراها مرة ثانية في حياتي". كانت أفكاري تائهة تطفوا على السطح كشجرة فلين في نهر مجهول المسار. وواصلت الانشغال بتلك التي أطلت من تحت إفريز السطح. وماذا يهمني منها؟ لم أستطع التخلص من التفكير فيها، فبالنسبة لي قد وجدت ولو للحظة، ولكنها لن توجد من جديد. فكانت بالنسبة لي كما لو أنها قد ماتت. يكفي أن يتقدم القطار قليلا فيبعد الكوخ ولن توجد أبدا في حياتي. كل شيء يبدو لي عابرا ومؤقتا غير مجد وغير دقيق. كان عقلي لا يشتغل جيدا ومارية كانت تبدو لي المرة تلو الأخرى شيئا كئيبا وغير مؤكد. ساعات بعد هذا فقط ستبلغ أفكاري تعقد وعنف المرات السابقة.

29

كانت الأيام الموالية لمصرع مارية الأكثر فظاعة في حياتي. لعله من المستحيل رواية ما أحسست به وفكرت فيه ونفذته بدقة حتى وان كنت أذكر بمهارة عجيبة كثيرا من الأحداث، فهناك ساعات بل أياما كاملة تبدو لي أحلاما مشوهة غير واضحة المعالم. لي انطباع كأني قضيت أياما كاملة تحت تأثير الكحول وأنا مرمي على سريري أو على كرسي قرب الميناء الجديد.

عندما وصلت إلى محطة كونستيتوثيون أذكر أني دخلت إلى الحانة وشربت كؤوس وسكي متتالية، كما أذكر بشيء من الغموض أني نهضت وركبت تاكسي واتجهت إلى حانة في شارع 25 مايو أو ربما حانة لياندرو آلام18 حيث ضجيج الموسيقى وصراخ الرواد وقهقهاتهم المشنجة للأعصاب، وأضواء ساطعة وقوارير مهشمة. كما أذكر أني قمت بتثاقل وأنا أحس بألم رهيب في رأسي داخل زنزانة في مركز الشرطة. وفتح حارس الباب، وحدثني ضابط بشيء ما، ووجدتني بعد ذلك ألف الشوارع من جديد وأنا ثمل، وأظن أني دخلت حانة أخرى. ساعات بعد ذلك (أو أيام) أخذني أحدهم ورمي بي في ورشتي. أصابني بعد كل هذا كابوس حيث صرت أسير على سطوح إحدى الكنائس، كما أذكر أني استيقظت ذات ليلة في الظلام فأرعبني أن تبدو لي غرفتي متسعة أكثر من اللازم حتى أني لا أستطيع بلوغ حدودها مهما حاولت أو جريت. لا أدري كم مضى من الوقت حتى لاحت الأضواء الأولى للفجر من النافذة الكبيرة. فتحاملت على نفسي حتى أدركت غرفة الاستحمام وارتميت بثيابي في الحوض. ولما فعل الماء البارد فعله وهدأني نوعا ما، بدأت تلوح في مخيلتي بعض الأحداث المعزولة المتقطعة كأنها تطفوا بعد أن كانت راسبة في الأعماق: تذكرت مارية في الجرف وميمي وهي تقبض على مبسم السيجارة، ومحطة آياندي والمغازة المقابلة لها تلك التي تسمى مغازة الثقة أو مغازة الإقامة. أذكر أيضا أن مارية سألتني عن اللطخات فصرخت فيها "أي لطخات؟"، وكذلك هونتار وهو ينظر إلي عبوس وأنا استمع في قلق إلى الحوار بين ابني العم. تذكرت أيضا بحارا وهو يرمي بقارورة ، ومارية مقبلة علي بنظراتها الثاقبة وميمي وهي تقول تشيكهوف، وامرأة قذرة تقبلني وأنا أسدد إليها لكمة هائلة، و وبراغيث تخزني من كل جانب، وهونتار يتحدث عن قصص بوليسية، وسائق المحطة. كما لاحت لي من جديد في شبه حلم الكاتدرائية في ليلة مظلمة، والغرفة الفسيحة اللامتناهية. وكلما بردني ماء الحوض أكثر، انضمت الأفكار المتقطعة إلى بعضها وعاد إلى وعيي. كانت عناصر المشهد تتآلف شيئا فشيئا في حزن وكآبة المشاهد التي تطفوا بعد غرق على سطح الماء. خرجت من الحمام ونزعت ثيابي المبتلة ولبست أخرى وشرعت في كتابة رسالة إلى مارية. عبرت لها فيها على رغبتي في توضيح سبب هروبي من الضيعة، ثم شطبت عبارة "هروب" وأبدلتها ب"مغادرة"، وأضفت أني أقدر لها العناية الكبيرة التي أولتها لي. وشطبت عبارة "لي" وكتبت "لشخصي". ووضحت أنها كانت طيبة للغاية، صادقة الأحاسيس، رغم أنها كانت تسيطر عليها أحيانا أهواء سافلة. قلت لها أني كنت أقدر موقفها من مسألة خروج سفينة أو الحضور في حديقة عند الغسق دون كلام، ولكن تماما كما تتصور هي، شطبت عبارة "تصور" ووضعت بدلها "تحسب"، ليس كافيا للاحتفاظ بنوع من الحب والبرهنة عليه: لم أفهم كيف يمكن لامرأة مثلها أن تبرهن عن حبها لزوجها ولي كذلك وفي نفس الوقت تنام مع هونتار. وأضفت أن ما هو أخطر من ذلك أنها تضاجع زوجها وتبادلني الفراش. وانتهيت قائلا أن هذا النوع من المواقف مدعاة إلى تفكير عميق، كما يمكن أن تفهم هي....قرأت الرسالة من جديد فبدت لي مع التغييرات المسجلة جارحة للغاية. فختمتها وذهبت إلى مركز البريد وأرسلت بها مضمونة الوصول.

30

ما أن خرجت من مركز البريد حتى لاحظت أمرين: لم أصرح في الرسالة كيف استنتجت أنها كانت عشيقة هونتار. ولا أدري جدوى جرحها بكل قسوة. ربما أجعلها تغير سلوكها بذلك في حالة ثبوت توقعاتي. انه لأمر مضحك أن أجعلها تجري ورائي. ليس منطقيا أن أحقق ذلك بمثل هذه الطرق. ولكني كنت في أعماقي أتشوق إلى عودتها إلي. في تلك الحالة لم لا أعلمها مباشرة بذلك دون جرح كرامتها؟ كان علي أن أصارحها بأني غادرت الضيعة فجأة لغيرة هونتار. لعل هذا الأمر في النهاية استنتاجا مجانيا علاوة على أنه جارح. انه مجرد افتراض يمكن تدعيمه بأبحاث مستقبلية. إذن لقد ارتكبت حماقة جديدة لتعودي كتابة الرسائل بكل عفوية وإرسالها على الفور. يجب الاحتفاظ بالخطابات الهامة يوما على الأقل حتى تتضح جليا كل النتائج المسجلة. لم يبق إلا حل واحد ميئوس منه: العثور على الوصل. بحثت عنه في كل الجيوب دون أن أجده. هل تركته هناك في مركز البريد بكل غباوة؟ وعدت مهرولا إلى عين المكان ووقفت في صف الرسائل المضمونة الوصول. عندما جاء دوري سألت الموظفة وأنا أصطنع الابتسام:

_ ألم تعرفيني؟

فنظرت إلي باستغراب. أكيد أنها اعتبرتني مجنونا. وحتى أخرجها من حيرتها أعلمتها أني أنا الذي بعث منذ حين رسالة إلى ضيعة لوس أومبوويس. فزاد استغراب تلك الحمقاء وأدارت رأسها نحو زميل لها كي يبادلها التعجب، أو لعلها ترجو أن يوضح ما لم تتمكن من فهمه. ونظرت إلي من جديد فقلت لها موضحا:

_ لقد أضعت الوصل. لم أحصل منها على جواب فأضفت:

_ أريد أن أقول أني أحتاج إلى استعادة الرسالة وليس الوصل. فنظرت المرأة إلى زميلها مدة بتفحص مثل صديقين أثناء لعب الورق. وفي النهاية سألتني مندهشة:

_ تريد استرجاع الرسالة؟ فقلت: نعم.

_ وحتى الوصل لا تملكه؟

كان علي أن أسلم بأني لا أملك فعلا لتلك الوثيقة الهامة. وبلغ اندهاشها إلى أقصى حد فتمتمت بكلمات لم أفهمها وعادت تنظر إلى زميلها من جديد هامسة:

_ يريد أن نرجع إليه الرسالة. فتبسم في بلاهة ظاهرة مبديا شيئا من الاندفاع، وصوبت المرأة نظرها إلي وقالت:

_ انه عمل مستحيل تماما. فقلت وقد أخرجت بعض الأوراق:

_ يمكنني أن أريك بعض الوثائق؟ فردت:

_ لا يمكن أن أفعل شيئا. القانون صريح

فصرخت بعنف وقد بدأت تقلقني شامة لها ذات شعر طويل في خدها:

_ ولكن على القانون أن يكون موافقا للمنطق. فردت في سخرية:

_ حضرتك تعرف القانون؟ فقلت في برودة:

_ لا داعي لمعرفته سيدتي. كنت واثقا من أن كلمة "سيدتي" سترجها بشدة. فلمع في عيني الطائر الكاسر بريق الغضب، وأردفت قائلا:

_ تعرفين حضرتك سيدتي أن القانون لا يمكن أن يكون غير منطقي. يجب أن يكون حرره شخص عادي لا مجنون. أن أبعث برسالة وأعود توا لاستعادتها لأني نسيت أمرا أساسيا، تعد الاستجابة لطلبي أمرا منطقيا. أو أن البريد يصر على أن تصل الرسائل ناقصة أوفيها التباس. والمعقول أن البريد وسيلة اتصال لا قهر وانفصال. انه لا يمكن أن يجبرني على أن أبعث برسالة لا أريد بعثها. فأجابت:

_ ولكنك فعلت بإرادتك. فصرخت قائلا:

_ نعم ولكني الآن لا أريد.

_ لا تصرخ ولا تكن قليل التربية. فات الأوان الآن وكفى.

فقلت مشيرا إلى صندوق الرسائل التي ستبعث:

_ لم يفت بعد لأن رسالتي مازالت هناك.

بدأ الناس يحتجون ويضجون وكانت العانس ترتعش غضبا وأدركت أن كراهيتي لها متركزة حول الشامة. أريتها بعض الوثائق وكررت:

_ أستطيع أن أبرهن أني باعث الرسالة. فقالت من جديد:

_ لا تصرخ. لست خرساء، لا استطيع اتخاذ مثل هذا القرار.

_ شاوري رئيسك أذن.

_ لا أستطيع. هناك أناس كثيرون ينظرون. هنا لنا عمل كثير، أتفهم؟ فأوضحت:

_ وحاجتي جزء من هذا العمل.

واقترح بعض المنتظرين أن ترجع إلي الرسالة فتنتهي القضية ويتواصل العمل. ترددت الموظفة برهة وبعد أن تظاهرت بأنها تقوم بعمل آخر ذهبت في النهاية إلى الداخل، وبعد زمن غير قليل عادت عابسة كالكلب وبحثت في السلة وسألتني وكأنها أفعى تفح:

_ أي ضيعة؟ فأجبتها في سمو هادئ:

_ ضيعة لوس أومبوويس.

وبعد بحث تعمدت إطالته أخذت الرسالة بين أصابعها وبدأت تتفحصها كما لو أنها تحصلت عليها في عملية بيع وشراء وشكت في مزايا هذا الشراء، وقالت:

_ ليس بها سوى العنوان وحروف ابتداء الاسم.

_ وماذا يعني ذلك؟

_ أ ي وثائق تملك لتبرهن على صحة أنك أنت باعث الرسالة؟ فقلت وقد أريتها ورقة:

_ عندي المسودة.

أخذتها ونظرت إليها ثم أعادتها لي وقالت:

_ كيف أعرف أنها مسودة الرسالة؟

_ سهل جدا. نفتح الظرف ونتثبت. ترددت المرأة لحظة ونظرت إلى الظرف المغلق وقالت:

_ كيف يعقل فتح الرسالة إذا كنت غير متأكدة من أنها لك؟ لا لا، لا أستطيع ذلك.

واحتج الحاضرون من جديد. وكدت أرتكب حماقة. وختم الطائر الكاسر قائلا:

_ هذه الوثيقة لا تصلح. فسألتها بتأدب مفتعل:

_ ألا يبدو لك أن وثيقة بطاقة الهوية كافية؟

_ بطاقة الهوية! فكرت لحظات ونظرت من جديد إلى الظرف ثم أجابت:

_ لا، الوثيقة وحدها لا تكفي لأن على الرسالة حروف ابتداء فقط. يجب أن تريني شهادة السكن أو دفتر الجندية الحامل لعنوانك. وفكرت لحظات ثم قالت:

_ من المستحيل ألا تكون قد غيرت منزلك منذ ثماني عشر سنة، ولذا ستحتاج إلى إحضار شهادة سكنى جديدة.

ففجرت في بذلك غضبا لم أقدر على كبحه حتى كأنه يصل إلى مارية، بل والأغرب من ذلك وميمي أيضا، فصرخت فيها قبل أن أنصرف:

_ ابعثي بها كما هي حضرتك وروحي إلى جهنم.

خرجت من مركز البريد غاضب جدا، وفكرت في أني لوعدت لأضرمن النار في سلة الرسائل. ولكن كيف؟ أيكون ذلك بقذف عود كبريت؟ من السهل أن يطفأ وهو في طريقه إلى السلة. تكون النتيجة مضمونة لو نقذف بقطرات من البنزين. ولكن ذلك يعقد الأمور. وفي نهاية المطاف قررت أن أنتظر خروج الموظفين لأشتم العانس.

31

بعد ساعة من الانتظار قررت أن أنصرف. ماذا سأجني من شتم تلك السخيفة؟ وخطرت ببالي مجموعة رأى أثناء تلك المدة هدأتني ومنها أن الرسالة تعد جيدة للغاية في الواقع ولا بأس بأن تصل إلى مارية. كم حدث لي أن أصمد في وجه عقبات تمنعني من انجاز أمرا أعتبره ضروريا ومناسبا، فأهزم وأتقبل الهزيمة في غضب، فأدرك في النهاية أن للقدر دخل في ذلك. في الواقع عندما شرعت في تحرير الرسالة لم أفكر كثيرا، وبعض تلك الجمل الجارحة كانت تبدوا لي لازمة. وفي لحظة الانتظار تذكرت حلما في إحدى سكراتي الليلية. كنت جالسا على كرسي في مخبأ أتجسس وسط غرفة مظلمة بلا أثاث ولا زينة فرأيت ورائي شخصين ينظران إلى بعضهما في شيء من السخرية الواضحة. أحدهما مارية والثاني هونتار. فتملكني حزن عميق فغادرت مركز البريد وسرت متثاقلا.

وجدت نفسي بعد ذلك جالسا في ريكوليتا على كرسي تحت شجرة هائلة. واستسلمت للخيال فبدأت الأشجار والطرقات والأماكن التي قضينا فيها أفضل اللحظات تغير فكرتي. لماذا أنا في نهاية الأمر ضد مارية؟ وبدأت لحظات حبنا (وجهها المشرق ونظراتها الناعمة ويدها المداعبة لشعري) تمتلك علي روحي في لطف، لطف من يحنو على حبيب أصيب بحادث ولم يتحمل المفاجئة. بدأت انتصب شيئا فشيء، وبدأ الحزن يتحول إلى قلق وكره مارية إلى كره نفسي وخدري إلي حاجة مفاجئة إلى الهرولة نحو منزلي. بينما كنت اقترب من الورشة رغبت في أن أهتف إلى الضيعة فورا وبلا إضاعة وقت. كيف لم أفكر من قبل في ذلك؟

لما طلبتها أجابني خادم فلم أقدر على الكلام، ثم أعلمته أني أرغب في الاتصال بالسيدة مارية عاجلا. وبعد برهة أجابني نفس الصوت بأنها سوف تكلمني بعد حوالي ساعة. وطال الانتظار حتى كأنه لا ينتهي..

لا أتذكر مليا فحوى المحادثة الهاتفية ولكن أذكر أني عوض أن أطلب منها العفو على ما ورد من عنف في الرسالة، وهو سبب مكالمتها، أبلغتها أشياء أعنف مما احتوتها الرسالة نفسها. لم يحدث هذا دفعة واحدة بالطبع. الحقيقة أني تحدثت إليها في البداية بهدوء وعطف ولكن نبرة صوتها المتذمرة أغاظتني، وخصوصا عدم إجابتها عن الأسئلة المحددة كما تعودت. فكانت محاورتي لذاتي تنمي في لهجة العنف، وكلما صار الحوار أعنف بدت أكثر تألما. وزادني ذلك غيضا لأني كنت أدرك تماما سبب غضبي وبطلان ألمها. وأنهيت المكالمة صارخا مهددا بأني سأقتل نفسي، وأفهمتها أنها تمثل دور المتأثرة، وختمت بأني أحتاج إلى رؤيتها على الفور في بوينوس آيريس.

لم تجبني عن طلباتي المحددة ولكن في النهاية وتحت تأثير إلحاحي وتهديدي بالانتحار وعدتني بالمجيء في اليوم الموالي "رغم أنها لا تعلم لماذا؟"، وقالت بصوت ضعيف مختنق:

_ الشيء الوحيد الذي سنحصل عليه هو أن نؤلم بعضنا بقسوة مرة أخرى.

وأكدت في النهاية قائلا:

_ إذا لم تأت سأنتحر. فكري مليا قبل أن تقرري.

وعلقت السماعة دون إضافة أي شيء آخر. والحقيقة أني كنت في تلك اللحظة مصمما بالفعل على قتل نفسي إن هي لم تأت لتبين الوضعية. والغريب أني كنت راض على قرار الانتحار هذا وقلت لنفسي "سترى" كما لو أن المسألة مسألة انتقام.

32

كان ذلك اليم بغيضا. خرجت غاضبا من ورشتي ورغم أني أنتظر رؤيتها في اليوم الموالي، فقد كنت كئيبا أشعر بحقد غامض أصم وغير دقيق. أظن الآن أنه كان حقدا على نفسي لأني كنت مؤمنا في أعماقي أن جرحي لها ليس له مبرر. لعل ما أغاظني أنها لا تحاول الدفاع عن نفسها. أضف إلى ذلك صوتها المتألم والمتواضع الذي كان يهيجني أكثر مما يهدئني.

انتهى بي الأمر إلى احتقار نفسي، وسكرت في تلك الليلة كثيرا حتى صرت أحدث المشاكل في حانة لياندرو آلام. لقد اختصصت لنفسي امرأة بدت لي أكثر فسقا، ثم تحديت بحارا وصارعته لأنه قدم لها طرفة بذيئة. ولم أتذكر ما حدث بعد ذلك. أذكر فقط أننا كنا نتصارع وفرقنا الناس مبتهجين جدا. أذكر بعد ذلك أني كنت مع المرأة في الشارع. لقد أراحني مرطب تناولته. وفي الفجر أخذتها معي إلى الورشة وما أن وصلنا حتى طفقت تضحك من لوحة كانت على طاولة الرسم. (لا أدري هل كنت صارحتكم أن رسومي بعد حادثة النافذة تحولت تدريجيا حتى صارت الكائنات والأشياء في لوحاتي كأنها عاشت كارثة كونية.) على العموم سأتحدث عن ذلك بعد قليل. أريد الآن أن أروي تفاصيل ما حدث تلك الليلة الحاسمة.

نظرت المرأة ضاحكة إلى اللوحة ثم شخصت إلي كأنها تطلب تفسيرا. كما تتوقعون كنت لا أبالي بحكم تلك المرأة الشقية ودعوتها إلى أن لا نضيع الوقت في التفاهات. انتقلنا إلى الفراش فعرض لي فجأة خاطر مهول: إن عبارة الرومانية تشبه أحيانا عبارة كنت لاحظتها لدى مارية، فابتعدت عن المومس في اشمئزاز وصرخت كالمجنون: عاهرة! طبعا إنها عاهرة!

فقفزت الرومانية كالحية وعضت ذراعي حتى أدمته معتقدة أني أقصدها. فأخرجتها من ورشتي وأنأ أركلها وكلي احتقار وكراهية للإنسانية قاطبة، وحذرتها أني سأقتلها كالكلب إن هي لم تنصرف على الفور. ففرت صارخة وهي تشتمني رغم المقدار المالي الذي رميت به وراءها.

ظللت مصعوقا زمنا طويلا في الورشة دون أن أدري ما الذي أفعله، كما لم أتمكن من تنظيم أفكاري أو التحكم في مشاعري حتى ذهبت إلى غرفة الاستحمام وملأت الحوض ماء باردا ونزعت ثيابي وغطست. كنت أريد توضيح أفكاري. وبقيت هناك حتى بردت، وعاد دماغي شيئا فشيئا ليعمل بصفة عادية. حاولت التفكير بكل دقة وعمق لأني في اللحظة الحاسمة. إن أول فكرة حضرتني هي جمع من الكلمات المتبقية من ذلك السؤال الذي سبق أن ألقيته على نفسي: رومانية ومارية ومومس ولذة وتظاهر. لعل هذه الكلمات توصلني الى الحقيقة أو تكون منطلقا حسنا لذلك. وبذلت جهدا كبيرا لتنظيم تلك الكلمات تنظيما منطقيا واستنتجت بلا ريب أن عبارة مارية ومومس تتشابهان، فالمومس تتصنع الإحساس باللذة وكذلك تفعل مارية، فهي إذن مومس، وصرخت قافزا من الحوض قائلا: إنها لعاهرة! عاهرة! عاهرة!

كان دماغي يعمل في صفاء نادر، فرأيت بجلاء أن أحسم القضية ولن أخدع مرة أخرى بتمثيلها وتصنعها صوت المتألم. كان علي أن أنقاد لصوت العقل لا العاطفة. وقررت دون خوف أنه على مارية أن تتحمل عواقب جملها المريبة وإشاراتها وصمتها الملتبسين. إنها كوابيس تتلاحق بسرعة غريبة تحت ضوء في هوة سحيقة. وخطرت ببالي كل حركاتها المريبة لما كنت ألبس ثيابي: المكالمة الهاتفية الأولى وقدرتها المذهلة علي التكيف وتغيير نبرات الصوت، والمعاني المبهمة لأكثر كلامها، وقولها لي: "أخشى أن أسيء إليك". كأنها تعني "أن تسيء إلي بكذباتها وتناقضاتها وأعمالها المخيفة وتكلفها في الأحاسيس والانطباعات"، وإلا فكيف تسيء إلي. هل بحبها الهش؟ وعاودني المشهد المؤلم لأعواد الكبريت وكيف أنها تفادت أن أقبلها في البداية، ولم تسلم لي جسدها إلا عندما وضعتها أمام ضرورة الاعتراف إما بكرهها لي أو في أفضل الحالات بحبها الأخوي لي مما شككني في صدق كلماتها ولذتها وذهولها. وفضلا عن ذلك تجربتها الجنسية الأكيدة. فمن الصعب أن تكون قد اكتسبتها مع فيلسوف روماني مثل آيانادي فقط. ثم تذكرت ادعائها حب زوجها مما يدل على قدرتها على المخادعة وافتعال الانطباعات والأحاسيس. ولم أنس حلقة عائلتها المكونة من مجموعة منافقين كذابين. ورباطة جأشها والحيلة التي خدعت بها ابني عمها بلطخات الميناء الوهمية، ومشهد اجتماعنا إلى الطاولة في الضيعة وما دار من حوار بيننا بالساحل وغيرة هونتار، وتلك الجملة التي أفلتت من لسانها في الجرف: "مثلما كنت أخطأت مرة". مع من أخطأت ومتى وكيف؟ وأقولها أيضا: "الأعمال القاسية المؤلمة مع ابن عم لي آخر". كل ذلك أفلت من شفتيها دون أن تشعر والدليل أنها لم تجبني عن طلبي لأنها ببساطة لم تكن تستمع إلي. كانت صادقة كالطفلة وربما ما قالته يعد الاعتراف الصادق الوحيد الذي أفلت منها في حضوري. وعاودني ذلك المشهد الشنيع مع الرومانية أو الروسية أو غيرها. كان لتلك البهيمة القذرة التي سخرت من لوحتي، والمخلوقة الهشة التي أوحت لي برسمها نفس التعبير في فترة من فترات حياتنا. يا الهي! إن طبيعة الإنسان لباعثة على الهم والغم إذا فكرنا أن بين بعض لحظات البرهميين وبالوعة هناك ممرات تحت الأرض خفية ومظلمة.

33

لعل جل الاستنتاجات التي توصلت إليها اثر ذلك الامتحان الجلي ولكنه الضبابي أيضا كانت مجرد افتراض لا أستطيع الاستدلال عليها رغم ثقتي من صحتها. واهتديت فجأة إلى أني أضعت حتى هذه اللحظة نقطة هامة في أبحاثي: لم أعتمد على رأي أشخاص آخرين. فكرت لأول مرة برضا ووضوح كبير في ذلك الأسلوب وفي شخص لارتيغي، صديق هونتار الحميم. أكيد أنه كان هو الآخر حقيرا: كان قد نظم ديوان شعر حول بطلان كل الأشياء والعدمية وكثيرا ما كان يشتكي من عدم حصوله على الجائزة الوطنية. وعاودتني الشكوك فكلمته هاتفيا في شيء من الاشمئزاز ولكن بلهجة حازمة وقلت له أني أريد أن أراه على عجل. وكان لي ذلك فقابلته في منزله وامتدحت ديوانه، وعبر لي عن استيائه الكبير من سوء حظه ، ورغم أنه يريد مواصلة الحديث في ذلك الموضوع فقد وجهت له سؤالا خطيرا مفاجئا كنت قد أحضرته من قبل، فقلت له دون مقدمات:

_ منذ كم كانت مارية ايريبارني عشيقة لهونتار؟

تذكرت عندها أمي التي كانت لا تسألنا أبد من منا أكل التفاح، لأننا سنجيبها بالنفي، ولكنها كانت تسألنا بدهاء: كم أكلنا منه، فنجيبها بكل سذاجة عن الكمية بأننا أكلنا واحدة فقط.

ولارتيغي وان كان مزهوا فهو ليس بغبي، وأحس أن هناك شيء غامض في سؤالي فحاول التهرب من الإجابة قائلا: لا أعرف شيئا عن ذلك.

وواصل الحديث عن كتابه وعن الجائزة الضائعة. فصرخت باشمئزاز واضح: أي ظلم ارتكبوه في حق كتابك! ومضيت مسرعا.

لم يكن لارتيغي أحمق ولكنه لم يلاحظ أن ما قاله كان كافيا.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال. يجب أن تكون مارية الآن بيوينوس آيريس. فهتفت إليها من مقهى ولم أصبر حتى أصل إلى ورشتي. وما أن أجابتني حتى قلت بحزم:

_ يجب أن أراك فورا. وحاولت أن أخفي كرهي وحقدي حتى لا تشك في شيء من ذلك فلا تأتي للموعد. واتفقا أن نلتقي على الساعة الخامسة في ريكوليتا وفي المكان المعتاد. حدث هذا بعدما ختمت كلامها قائلة في حزن:

_ سآتي رغم أني لا أرى ما الذي سنجنيه. فأجبتها:

_ الكثير من الأشياء. الكثير من الأشياء. فأضافت في لهجة يائسة:

_ وهل تعتقد ذلك؟

_ بالطبع.

_ أعتقد أننا لن نحصل إلا على مزيد من الإساءة وتحطيم الجسر الذي يصل بيننا، فنجرح بعضنا بقسوة أكبر... قبلت أن أجيء إليك لأنك تلح وكان علي أن أبقى في الضيعة. إن هونتار مريض.

قلت لنفسي: إنها كذبة أخرى بلا شك. فأجبتها في جفاء خفي:

_ أشكرك على ذلك. اتفقنا على أن تلتقي في الوقت المحدد. فقبلت مارية ذلك متنهدة

34

كنت في ريكوليتا قبل الخامسة جالسا على كرسي حيث تعودنا التقابل وغرق عقلي في ظلام دامس وحزن شامل عند رؤية الأشجار والمسالك والكراسي التي كانت شاهدة على حبنا، وتأسفت كثيرا على تلك اللحظات التي قضيناها في حدائق ريكوليتا وفي ساحة فرنسا، وكيف كنت أعتقد في خلود حبنا في ذلك الزمن الممتد. لقد كان كل شيء عجيبا رغم ما فيه من غموض والتباس أحينا، لكنه صار الآن مظلما فاترا حتى تجرد العالم من كل معنى. وانتابني خوف جعلني مترددا في أن أحطم ما تبقى من حبنا وأن أبقى وحيدا بصفة نهائية. أليس من الممكن ترك الشكوك التي تعذبني جانبا، وما الذي يهمني مما تفعله مارية وهي بعيدة عني. ولكن مشاهدة تلك الأشجار والكراسي جعلتني لا أقدر على الاستسلام لفكرة تضييع سند مارية، رغم أن ذلك كان فقط في لحظات الوصل تلك والحب الغامض الذي كان يجمع بيننا. ورغم أن التخمينات طوحت بي، رأيت نفسي أقتنع شيئا فشيئا بوجوب قبولي لحبها كما هو بلا شروط، في الوقت الذي كانت ترعبني فكرة بقائي بلا حب مطلقا. وانطلاقا من ذلك الرعب نما في تواضع من ليس له خيار آخر، وأحسست بفرحة عارمة عندما خمنت أنه لم يضع شيئا، وبالإمكان بدء حياة جديدة بعد هذه الصحوة. ولكن للأسف خيبت مارية ظني مرة أخرى.

كلمتها من جديد في حالة ذعر وجنون واضح في حدود الساعة الخامسة والنصف، فعلمت بأنها عادت إلى الضيعة فجأة. ودون أن أشعر صرخت في وجه الخادمة قائلا:

_ ولكن كنا اتفقنا على أن نلتقي على الساعة الخامسة! فأجابت مذعورة:

_ لقد خرجت سيدي على متن السيارة منذ برهة وأعلمتني أنها ستبقى هناك أسبوعا على الأقل.

"أسبوعا على الأقل". بدا لي أن العالم كله قد انهار وأن كل شيء صار غير معقول وغير نافع. غادرت المقهى كالسائر في نومه، وشاهدت أشياء باهتة بلا معنى: أنوارا وأناسا يسيرون من مكان إلى آخر كما لو أن ذلك ينفع لأمر ما. لقد طلبت رؤيتها بإلحاح ذلك المساء لأني كنت في حاجة أكيدة إليها. وكنت مستعدا لاستعطافها والتذلل إليها. وقارنت بمرارة فظيعة بين وجودي وحيدا في حديقة معينة وبين اضطجاعها مع هونتار في الضيعة، الأمر الذي لم يعد مجال الشك فيه. وما أن انتهيت من ذلك حتى خطر ببالي خاطر. لا، الأفضل تأكدت لدي فكرة. فقطعت البنايات التي تفصلني عن ورشتي جريا ، ومن هناك هتفت إلى منزل آيايندي، وسألت هل كانت تلقت السيدة نداء هاتفيا من الضيعة قبل خروجها، فأجابتني الخادمة بنعم بعد أن ترددت قليلا. فقلت:

_ مكالمة من السيد هونتار. أليس كذلك؟

وبعد ترددها من جديد أكدت لي ذلك في النهاية. فسجلت ترددها للمرة الثانية، وأحسست بمرارة لا توصف، وتملكني الشيطان. كان الأمر كما خمنت! وسيطر علي إحساس بوحدة لامتناهية، ولكن شعرت باعتزاز لا يفسر: لعله الاعتزاز بأني حدست بذلك ولم أخطأ في تقديراتي.

وفكرت في ما بيلي.

عندما كنت على وشك الخروج مهرولا، قفزت إلى ذهني فكرة. ذهبت إلى المطبخ وقبضت على سكين كبير وعدت إلى الورشة. كم هي قليلة الرسوم القديمة التي بقيت لبابلو كاستال! قد يبقى لهؤلاء الحمقى الذين يقارنوني بمهندس معماري ما يروق لهم! كما لو أن أحدهم يمكنه تغيير الحقيقة! كم من هؤلاء الحمقى توقع أن تحت تلك الهندسة بركانا سينفجر قريبا. لا أحد. وعموما سيكون لهم الوقت الكافي ليشاهدوا تلك الأعمدة المهشمة والتماثيل المبتورة وذلك الخراب المدخن وتلك المدارج الجهنمية. إنها تحاكي متحفا محنطا متصلبا، متحف الكواليس واليأس والعار. هناك شيئا أريد تحطيمه كليا فلا تبقى فيه بقية. نظرت إليه للمرة الأخيرة فأحسست بانقباض مؤلم في الحلق، ولكني لم أتردد: أذكر في غموض وأنا أبكي كيف كان يسقط ذلك الشاطئ، وتلك المرأة البعيدة والقلقة وذلك الانتظار. رفست خرق القماش وفركتها حتى تحولت إلى أشلاء وسخة. لا أعتقد أنذلك أن الانتظار الأحمق الغامض سيعرف جوابا. وأدركت الآن أكثر من أي وقت أن ذلك الانتظار لم يكن مجديا بالمرة.

وجريت نحو منزل مابيلي فلم أجده. قيل لي ربما يكون في مكتبة فيو.وجدته بها فأمسكته من ذراعه وقصدت به ناحية وأعلمته أني في حاجة إلى سيارته. فنظر إلي باندهاش وسألني هل الأمر خطر. فلم أجد من حيلة غير إعلامه بأن أبي مريض جدا، وأن لا وجود لقطار حتى اليوم الموالي. فتطوع أن يحملني بنفسه، ولكني رفضت وأكدت أني أفضل الذهاب وحدي، فعاد ليندهش من جديد، ولكنه سلمني المفاتيح في نهاية الأمر.

35

الساعة تشير إلى السادسة مساء. قدرت أنه بالإمكان الوصول بسيارة مابيلي في أربع ساعات، بحيث أكون في الضيعة في حدود العاشرة. إنها ساعة مناسبة. وما أن صرت في طريق بحر البلاطا حتى أسرعت بالسيارة بمعدل مائة وثلاثين كيلومتر في الساعة، وأحسست بتنعم نادر، يمكن أن يعود سببه إلى أني كنت متأكدا من أني سأحقق شيئا ملموسا معها. معها هي، تلك التي تشبه شخصا وراء حائط زجاجي لا ينفذ إليه، بحيث أستطيع مشاهدته دون لمسه. هكذا عشنا قلقين كئيبين مفرقين بحاجز زجاجي.

أثناء ذلك التنعم، كان إحساسي بالذنب والكره والحب يختفي حينا ويظهر أحيانا: كانت قد تظاهرت بالمرض، وهو ما أحزنني، وكنت تمكنت من مهاتفة آاياندي مرة ثانية، وهو ما أغاظني. مارية استطاعت الاستخفاف بي والضحك بسخافة والاستسلام لذلك المستهتر الفاسق، ذلك الشاعر المزيف المغرور! إني أحس تجاهها بازدراء بشع. كان اختيارها وقرارها الأخير تفضيل اللذة على الوفاء بالتزامها أن تراني ذلك المساء. لماذا يا ترى؟ أخشيت أن نتحدث في أمور مبهمة كريهة ونتقابل وجها لوجه مرة أخرى خلف الحائط البلوري، فنرى نظراتنا القلقة اليائسة، ونحاول فك الرموز ونتلامس باطلا ونتلاطف من وراء الزجاج، أم خوفا من عدم تحقيق ذلك الحلم المستحيل.

وفي المقابل هناك هونتار. كان يكفي أن يمسك بالهاتف ويناديها كي تجري نحو سريره! كل شيء مضحك. كل شيء سخيف حزين!

وصلت إلى الضيعة العاشرة والربع. أوقفت السيارة في الطريق الرئيسي كي لا أجلب الانتباه بأزيز المحرك، وسرت راجلا. كان الحر لا يطاق. وكان الهدوء خانقا. لا يسمع إلا همس الأمواج. وكان نور القمر يتخلل سحابات سوداء بين الفينة والفينة. استطعت السير دون صعوبة كبرى في مدخل الضيعة بين أشجار الكافور. عندما وصلت إلى الدار الكبيرة، رأيت أنوار الطابق السفلي مضاءة. وقدرت أنهما لا يزلان في غرفة الأكل. ما أشد هذا الحر الصامت القاتل الذي يسبق عواصف الصيف العنيفة. لا بد أن يخرجا بعد الأكل. واختفيت في زاوية من الحديقة تسمح لي بمراقبة الخارج من السلم، وانتظرت.

36

طال انتظاري حتى كأنه لا ينتهي. ولا أدري كم دارت عقارب الساعة طيلة ذلك الوقت المجهول والعام، الذي لا يمت بأي صلة إلى أحاسيسنا وقدرنا، وإلى نشأة الحب أو أفوله، والى انتظار الموت. إنه ليس كزمني الخاص المعقد المليء بالتأملات والأحداث والنظر إلى الخلف الذي يبدو لي حينا كالنهر المظلم المضطرب، وأحيانا هادئا هدوء غريبا حتى كأنه بحر خالد وساكن تماما ليس فيه سوانا: أنا ومارية نتأمل بعضنا في سكينة، فيحملنا في شبه حلم إلى زمان الصبا. فأتخيلها تجري على حصان بلا توقف، شعرها تذروه الرياح وعيناها شاردتان، وأتصور نفسي في قريتي في الجنوب وأنا مريض واقف إلى الحائط البلوري أرمق الثلج بعينين تائهتين. كنا الاثنان كما لو أننا نعيش في سراديب أو أنفاق متوازية دون معرفة أننا نمضي الواحد بجانب الآخر مثل روحين متشابهين في أوقات متشابهة لنجد أنفسنا في غياهب تلك السراديب أمام المشهد الذي رسمته أنا، فكأنه مفتاح مخصص لها وحدها، وكأنه إعلان سري بأني موجود هناك، والسراديب تجمعت في النهاية لتعلن أن ساعة اللقاء قد حانت.

وحانت ساعة اللقاء بالفعل، ولكن هل جمعت بين السراديب وهل اتصلت أرواحنا؟ أي وهم أحمق كان كل ذلك! تواصلت السراديب محاذية كذي قبل، ولكن هناك الآن حائط يفصل بينهما كأنه من زجاج أستطيع من خلاله مشاهدة وجه مارية الصامت دون لمسه. بل إن هذا الحائط لم يعد شفافا أحيانا فأتحول إلى شبه صخرة سوداء فلا أعرف ما كان يحدث في الناحية المقابلة، وفي تلك المسافات المجهولة بما فيها من أحداث غريبة، فأتخيل فقط في تلك اللحظات تغير وجهها المصعر الساخر مني والضاحك من غيري. لعل قضية السراديب اختلاق مضحك. ولكني واثق في كل الحالات أن هناك نفق واحد، مظلم ومنعزل: انه نفقي أنا. نفق طفولتي وشبابي وكل مراحل حياتي. ومن بعض نواحي حيطانه الحجرية الشفافة لمحت فتاة اعتقدت بكل سذاجة أنها آتية من نفق آخر مواز لنفقي، بينما هي في الحقيقة تنتمي إلى العالم الفسيح، عالم بلا حدود لمن يعيشون خارج الأنفاق. لعلها اقتربت من نوافذي الغريبة حبا للاطلاع فلمحت مشهد عزلتي التي لا يمكن التغلب عليها، ولعلني دسست لها فيها مفتاح لوحتي بلغة بكماء. وفي حين كنت أمضي في سردابي، كانت تعيش خارجه حياة عادية، حياة صاخبة تلك التي يعيشها كل من في الخارج حياة عجيبة سخيفة حيث الرقص والأعياد والفرح ومثل هذه السخافات ما أكثرها. كنت أراها وأنا أمام واحدة من نوافذي تنتظرني في صمت وقلق. لم تنتظر؟ وما سر هذا الصمت والقلق؟ غير أنها أحيانا لا تصل في الوقت فتنسى ذلك الكائن الحقير المحشو في صندوق ضيق، يخيل إلي أني أرمقها من بعيد ووجهي مشدود إلى الحائط الزجاجي، وهي ترقص بلا مبالاة في أماكن خليعة مشينة، فأشعر بأن عزلتي فوق التصور. ذلك هو قدري.

37

أخرجني نزولهما من السلم ورؤيتهما يتماسكان من الذراع من الأنفاق والبحار، وصار قلبي باردا كقطعة ثلج. نزلا بتوءدة كمن ليس له أي مشكلة. وأي مشكلة، قلت لنفسي بمرارة. كانت تعلم أني في حاجة أكيدة إليها، وأني أنتظر قدومها ذلك المساء، وأني سأتألم بفظاعة في كل دقيقة انتظار بلا طائل. كانت تعلم أنها في اللحظات التي كانت تتمتع فيها، سأعذب بجحيم تحاليلي وتصوراتي. يا له من حيوان جامح جامد قذر قبع في قلب امرأة شديدة الهشاشة!

كانت تنظر إلى السماء الهائجة كما كانت تفعل في تلك اللحظات وهي تسير إلى جنبه هو، جنب ذلك السخيف المضحك. إنها تتبختر وتشتم بشهية أريج الزهور وتجلس حذوه على العشب، رغم أنها تعلم أني أنتظرها بلا جدوى في تلك اللحظات، وأني كلمتها في منزلها وعلى علم بذهابها إلى الضيعة، وأني سأكون في شبه صحراء مقفرة سوداء معذبا ينهشني دود جائع ويلتهم أحشائي بنهم. ها هي تحادث قبيح الشكل، ذلك المضحك. عما يمكن أن تتحدث مارية مع ذلك العفن وبأي لغة؟ لعلني أنا قبيح الشكل المضحك؟ من يدري لعلهما يضحكان من سذاجتي في هذه اللحظة. هل أكون أنا الغبي ورجل النفق المضحك وصاحب الرسائل السرية؟ سارا طويلا في الحديقة. كانت العاصفة من فوقنا في أوجها يمزقها برق ورعد. وكان البامبيرو19 يهب بقوة، ونزلت القطرات الأولى. لم يبق لهما سوى الركض والاحتماء بالمنزل من المطر. كان قلبي عندئذ يخفق بعنف مؤلم وشعرت من مكمني أني سأشهد أخيرا كشف السر الفظيع الأغرب من الخيال.

راقبت أضواء الطابق الأول. انه مظلم إلى حد الآن. وما هي إلا برهة حتى أنيرت الغرفة الوسطى. إنها غرفة هونتار. إلى حد هذه اللحظة كل شيء يعد عاديا. فغرفة هونتار قريبة من السلم ، ومن الطبيعي أن تضاء هي الأولى. بقي الآن أن تضاء الغرفة الثانية. إن الثواني التي تكفي مارية للوصول من السلم إلى غرفتها كانت مصحوبة باضطراب وبدقات قلبي المتوحشة. غير أن النور لم يشعل. الهي! لا أملك قوة للإفصاح عن مدى إحساسي بالوحدة اللامتناهية حتى كأني أسلم الروح. أحسست كما لو أن سفينة النجاة مرت بعيدا عن جزيرتي المقفرة دون أن تنتبه إلى إشاراتي وعزلتي. فانهار جسدي كليا كما لو أن ساعة الهرم قد دقت.

38

شعرت وأنا أقف مبللا بالمطر بين الأشجار المهتزة بعنف الريح الهوجاء أن اللحظات التي كانت تمر علي هي لحظات لا ترحم. وحينها رأيت بعيني المبللتين بالماء والدموع اشتعال النور في الغرفة الثانية، وما حدث بعد ذلك لا أذكر إلا أنه كابوس: تسلقت إلى الطابق العلوي مستعملا القضبان الحديدية لإحدى النوافذ إلى أن صعدت إلى السطح ووجدت بابا فولجت إلى الداخل وبحثت عن غرفتها ودلني على ذلك خط نور من تحت الباب. فأشهرت السكين في ارتعاش وفتحت الباب. فنظرت إلي مارية بعينيها الشاردتين. كنت عندئذ في مدخل الباب، ولما دنوت من فراشها قالت في حزن:

_ ماذا تفعل خوان بابلو؟ فأجبتها وقد مررت يدي اليسرى على شعرها:

_ علي أن أقتلك مارية. لقد ضيعتني وتركتني وحيدا. وأغمدت السكين في صدرها وهي تنشج. أغمضت عيناها وضغطت على فكيها. وعندما استللت السكين وهي تقطر دما، فتحتهما بمشقة ونظرت إلي في إشفاق وعتاب وألم. وقوى عزيمتي غضب مفاجئ فطعنتها من جديد عدة مرات في صدرها وبطنها.

وإثرها صعدت إلى السطح ونزلت باندفاع كبير كما لو أن الشيطان سكن روحي إلى الأبد، وأراني نور البرق، وللمرة الأخيرة، منظرا طبيعيا كان مشتركا بيننا. أسرعت إلى بوينوس آيريس حيث وصلت حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة فجرا، وهتفت إلى آياندي من إحدى المقاهي، فأيقظته من نومه وأعلمته أني في حاجة إلى رؤيته دون ضياع للوقت. ورحت مسرعا إلى بوصاداص. كان البولندي ينتظرني أمام باب الشارع، ولما وصلت إلى الطابق الخامس، رأيت آياندي أمام المصعد وعيناه جد مفتوحتان غير قادر على أن يفهم شيئا. أمسكت به من ذراعه ومضيت به إلى الداخل. فجاء معي البولندي يتبعني كالأحمق وهو ينظر إلي مذهولا فدفعته، ولم يكد يخرج حتى صرخت في الأعمى:

_ جئت الآن من الضيعة. إن مارية عشيقة هونتار.

فتصلب وجه آياندي وصاح بكره بارد كالثلج:

_ غبي!

_ أنت هو الغبي! لقد كانت مارية عشيقتي وعشيقة أشخاص آخرين.

وشعرت عندها بنشوة غريبة بينما كان الأعمى يقف جامدا كالصخر. وصحت في وجهه من جديد مرددا:

_ نعم أنا خدعتك وهي خدعتنا جميعا! ولن تستطيع أن تخدع أحدا بعد الآن! هل تفهم! لن تخدع أحدا.

فعوى الأعمى كالحيوان وجرى نحوي بيدين كالمخالب وهو يقول:

_ مجنون! مجنون!

فتنحيت جانبا واصطدم هو بطاولة صغيرة أمامه فسقط ونهض بسرعة مذهلة، وطاردني في أرجاء القاعة وهو يبكي، دون أن يبالي بما يعترض سبيله من كراسي وأثاث، بكاء جافا بلا دموع مرددا نفس الكلمة: "مجنون، مجنون"

تسللت إلى الشارع من السلم بعد أن أطحت بالخادم الذي حاول صدي. وتملكني احتقار وكره ممزوجان بشيء من الشفقة لكل شيء.

عندما سلمت نفسي إلى الشرطة كانت الساعة تشير إلى السادسة تقريبا. ورأيت من النافذة الصغيرة لزنزانتي طلوع يوم جديد سماؤه بلا سحب. وتخيلت عديد الرجال والنساء يشرعون في الاستيقاظ لتناول فطور الصباح وقراءة الجرائد والذهاب إلى المكاتب. تصورتهم يطعمون الأطفال أو القطط كذلك ويعلقون على فلم الليلة الماضية. وأحسست أن هوة سوداء تكبر شيئا فشيئا في أحشائي.

39

حاولت عديد المرات في سنوات سجني تحليل كلمة الأعمى الأخيرة: مجنون، ولكن منعني من ذلك باستمرار فتور كبير أو غريزة مبهمة. ربما أتمكن من تحليلها يوما ما وأعرف سبب انتحار آياندي. وسأستطيع على الأقل أن أرسم بعدها ، رغم أني أشك في أن الأطباء سيضحكون من خلفي كما ضحكوا عندما ذكرت لهم مشهد النافذة.

هناك كائن واحد كان يفهم رسومي. بينما ينبغي لهذه اللوحات أن تثبت في كل مرة وجهة نظرهم الحمقاء. وستبقى جدران هذا الجحيم محكمة السد.

 

هوامش

* (Ernesto Sábato)

1. ليون بلوي: (1846-1917) هو روائي وكاتب مقالات فرنسي

2. شارع كورينتاس هو شارع وسط بوينوس آيريس صاخب ومليء بقاعات السينما والنزل والحانات والمحلات التجارية. حياته الليلية كثيفة، ومعروف بأنه الشارع الذي يمكن أن نستمع فيه دائما إلى موسيقى التانغو.

3. التانغو يعرفه المؤلف بأنه "ضاحية متواضعة للأرجنتين" بسبب العمق الروحي لأغانيه

4. ديسديمونا وأوتيلو هي شخصيات لرواية شيكسبير التراجيدية "أوتيلو". أوتيلو هوعربي في خدمة فينيسيا قام بخنق زوجته ديسديمونا في لحظة غضب بسبب الغيرة

5. مقهى الباخو: ينتمي إلى منطقة الباخو القريبة من ميناء بوينوس آيريس، تعرف بمقاهيها الصغيرة وملاهيها التي تعج بأشخاص رائعين وأصحاب أخلاق مشكوك فيها.

6. فيامونتي: هو شارع يبدأ من منطقة الباخو.

7. خينيبرا:مشروب كحولي

8. محطة كونستيتوثيون: المحطة التي تنطلق منها القطارات نحو جنوب بوينوس آيريس

9. فولانتا: نوع من السيارات

10. الأخوة كرامازوف: هي تحفة الرواية النفسية للروائي فيدور دوستويفسكي (1821-1881)

11. الحلقة السابعة: مجموعة أدبية مخصصة للنوع البوليسي.

12. عهد مينغ: بين 1368 و1644

13. نظرية اينشطاين المتعلقة بالنسبية التي غيرت النظريات التقليدية حول الزمان والمكان.

14. بحر البلاطا: مدينة في الجنوب الشرقي لمقاطعة بوينوس آيريس بالأرجنتين.

15. يشير المؤلف إلى القديس خيميغنانو وهي مدينة في ايطاليا تحتوي على معالم تعود إلى القرون الوسطى (11-15) مثل الكنائس والقصور والأبراج.

16. لوحة التينتوريتو: لوحة محفوظة في أكاديمية البندقية حيث يقوم القديس ماركوس بإنقاذ مسلم من الغرق.

17. جون بول سارتر (1905-1980) هو فيلسوف وكاتب فرنسي واحد منظري الفلسفة الوجودية.

18. شارعان في منطقة الباخو في بوينوس آيريس قريبان من الميناء. شارع 25 مايو وحانة لياندرو آلام:

19. البامبيرو: هي ريح قوية وباردة تنشأ في سهول البامبا الأرجنتينية

 

أتوجه بالشكر الخاص إلى الصديق هادي المقدميني، أستاذ اللغة العربية بمعهد المنزه السادس بتونس، على المساهمة في مراجعة هذا النص.

المترجم: عمر العويني. جامعي تونسي.