هي لحظة لقاء جامع، حدث لا يتكرّر وليس له مثيل في أي نشاط آخر. إنه الفعل البسيط الذي تتخذه مجموعة من الأشخاص اختاروا أن يكونوا معاً في مكان وزمان واحد لخوض تجربة مشتركة. إنها دعوة لأفرادٍ كي يصيروا جماعة ليتبادلوا الأفكار ويتصوّروا سبل تحمّل أعباء الأفعال الضرورية... كي يستعيدوا، بتأنّ، روابطهم الإنسانية، ويجدوا أوجه التشابه بينهم بدلاً من الاختلاف...
هنا يمكن لحكاية فرديّة أن ترسم خطوط "الكونيّة"... ها هنا يكمن سحر المسرح؛ حيث تستعيد المحاكاة خصائصها القديمة.
في خضمّ تفشّي ثقافة الخوف من الآخر والانعزال والوحدة، يشكّل هذا التواجد الغريزيّ معاً، "هنا والآن"، فعلَ حبّ. القرار أن نبتعد عن الإشباع الفوري والانغماس بالملذات في مجتمعات مفرطة في الاستهلاكية وفي سباقها مع التطوّر؛ أن نتأنّى، أن نتأمّل ونفكّر معاً، هذا بحدّ ذاته فعلٌ سياسيّ، فعلٌ نبيل.
كيف يمكننا أن نعيد رسم مستقبلنا بعد سقوط الأيديولوجيات الكبرى، وفي ظلّ إثبات النظام العالمي فشله عقداً بعد عقد؟
هل ما زال يمكننا الخوض في نقاشاتٍ غير مريحة في ظل خطابٍ يروّج للسلامة والراحة؟
هل يمكننا تجاوز حدود المناطق الخطرة دون الخوف من فقدان امتيازاتنا؟
اليوم أصبحت السرعة في تلقّي المعلومة أهم بكثير من المعرفة، وأصبحت الشعارات أكثر قيمةً من الكلمات، وصور الجثث أكثر تبجيلاً من الجسد الإنساني الحقيقي. هنا يأتي المسرح، ليس فقط ليذكّرنا أننا مصنوعون من لحم ودم وأنّ لأجسادنا وزناً، بل ليوقظ جميع حواسنا كي لا نستكين إلى حاسة النظر وحدها للاستهلاك البصري السريع..
هنا يأتي المسرح ليعيد إلى الكلمات قوّتها ومعناها، ليستردّ الخطاب من السياسيين ويعيده إلى مكانه الصحيح... إلى ميدان الأفكار والنقاش، إلى فضاء الرؤية الجماعية.
من خلال قوّة الحكاية والخيال، يمدّنا المسرح بسبُلٍ جديدة لرؤية العالم وبعضنا البعض؛ مما يفسح لنا المجال لفتح فضاءات للتفكير المشترك وسط الجهل والتعصّب المستشريين. عندما يعود خطاب الكراهية ورهاب الأجانب وسيادة العرق الأبيض إلى التداول بهذه الخفّة، بعد عقود من العمل الشاق والتضحيات بملايين البشر حول المعمورة في سبيل جعل هذه المفاهيم عاراً على جبين الإنسانية... عندما تُطلق النار على رؤوس الفتيان والفتيات القاصرين، أو يُسجنون لرفضهم الاستسلام للظلم والفصل العنصري... عندما تُدار بعض الدول الكبرى في العالم الأول من قبل شخصيّات غير متّزنة تجسّد الاستبداد اليمينيّ المتطرف... عندما تلوح الحرب النووية في الأفق كلعبة افتراضية يلعبها صبيةٌ-كبار في مواقع السلطة... عندما تصبح حرية التنقّل رفاهية مقتصرة على قلّة قليلة من المحظيّين، في حين أنّ البحر يبتلع المزيد من أجساد اللاجئين في محاولاتهم اليائسة لدخول حصونٍ عالية من الأحلام الوهمية، حيث يُشيَّد المزيد من الجدران العازلة بتكاليف باهظة... أين يمكننا أن نسائل عالمنا، عندما تُعرض معظم وسائل الإعلام للبيع؟ أين يمكننا أن نعيد التفكير في حالتنا الإنسانية، ونتخيّل نظاماً عالمياً جديداً، في غير حميميّة المسرح؟ بشكل جماعي، بالحبّ والتعاطف، لكن أيضاً بمواجهةٍ بنّاءة، بحنكة، وبالمرونة والقوّة معاً.
كوني من العالم العربي، أستطيع أن أتحدّث عن الصعوبات التي يواجهها الفنانون في العمل، لكنني أنتمي إلى جيل من المسرحيين الذين يشعرون بالامتياز لأنّ الجدران التي نحتاج إلى هدمها هي جدران مرئيّة وواضحة. وهذا يدفعنا إلى تعلّم كيفية تحويل كل ما هو متاح، ودفع كل أنواع التعاون والابتكار إلى أبعد حدود ممكنة؛ لقد مارسنا المسرح في كلّ فضاء ممكن، في الأقبية، على الأسطح، في غرف المعيشة، في الأزقّة، في الشوارع، مشكّلين جماهيرنا في كل مكان نذهب إليه، في المدن والقرى ومخيّمات اللاجئين. لقد استطعنا أن نبنيَ كل شيء من الصفر في بيئاتنا، لقد ابتكرنا سبلاً للتخلص من الرقابة، في حين ما زلنا نجتاز الخطوط الحمراء ونتحدّى المحظور. يواجه جميع المسرحيين حول العالم اليوم هذه الجدران، في ظل شحّ التمويل غير المسبوق وحلول اللياقة السياسيّة محل الرقابة.
وهكذا، فإنّ لمجتمع المسرحيين هذا دوراً جماعياً يلعبونه اليوم أكثر من أي وقت مضى، في مواجهة تلك الجدران المتزايدة، الملموسة وغير الملموسة. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، ثمّةَ حاجة إلى إعادة بناء منظوماتنا الاجتماعية والسياسية بطريقة خلاقة، بصدقٍ وشجاعة. ثمّةَ حاجة إلى مواجهة أوجه القصور لدينا وتحمل مسؤولياتنا تجاه العالم الذي نشارك في صنعه.
بِوَصفنا صنّاع المسرح في هذا العالم، نحن لا نتبع أيديولوجية أو منظومة عقائدية واحدة، لكنّنا نحمل هذا الهمّ الأزلي المشترك في البحث عن الحقيقة بجميع أشكالها، وهذه المساءلة المستمرّة للوضع القائم، وهذا التحدّي لأنظمة القمع السلطوية، وأخيراً وليس آخراً، نملك هذه النزاهة الإنسانيّة.
نحن كُثُر، نحن لا نهاب شيئاً، نحن هنا لنبقى!