المقدّمة
يَشهدُ الشِّعرُ الحديثُ في أيامنا تحديّاتٍ كبيرة، والتي تحاكي واقعنا، فهو يعتبر من العلامات الفارقة الّتي يستظلّ بها عشّاق اللّغة. في الأدب المحليّ هنالك عددٌ لا بأسَ به من الشعراء الّذين يحاولون من خلال ما يكتبونه فرض ألوانٍ تتماشى مع تضاريس تليقُ بحداثةِ العالم، فيمزجون عوالم بتراكيب حديثةٍ، وصور لم يسبق أن شهدناها. الشاعر يرشق لنا بكلماته وأحاسيسه عالـمـًا يكبته داخله، بملامح وآفاق لم نعهدها، لم يسـبق لنا أن اقترنّا بها.
الناظر في عنوان الموضوع الّذي ارتأيت اختياره، لا بد وأن تتشكل في خاطره تداعيات، قد تقوده إلى أماكن تبعدُ أمـيالًا عن مسافات ضئيلة بينه وبين الـ"معجم".
تجلّيات الرّومانسيّة السّرياليّة في "مُعْجَمٌ بِكِ" للشاعر محمد حلمي الريشة، ستكون نافذةً بمعايير مختلفةٍ عن كـشفِ مـا هو أبعد من حبرٍ جافّ، دون أن تكون حتّى لنقاطه لغة نرتشف منها معاني بتجلّيات ما وراء الواقع، كالحلم الّذي يكون مثل فاكهةٍ شهيّة تمتزج باتّساق مشاهد مزدحمة بكل لحظة تؤرّق الشاعر.
ممّا يحويه الـ"معجم" قصيدة النّثر التي لها رصيدٌ في صفحات الكتاب، فَتُتَوَّجُ برؤيةٍ جماليّةٍ تلهم النّفوسَ، وتستحوذ القارئ وتحتضنه، كأنّه شهيدُ الموقف، وكأنه العاشقُ والمحبُّ وسط علاقات مزدحمة المشاعر.
يشغلُ الغموض، والإحساس الثائر، والرومانسيّة المطلقة، وطريقة الحلم، سردابًا يشقّه الشاعر ليخرج بمفاهيم تفوق الّتي نمتلك، من فكرٍ جديدٍ، وأحاسيسَ بطقوسٍ لم نمتهنها، بمضامين قد يراها كل واحدٍ منا بمنظورٍ يبعد كل البُعد عن الّذي نَتصور، نراه مترنحًا عاشقًا يـستدرجُ الحياةَ التي اكتملت بتواجد أنثاه كأنها الحياةُ ونبضُ القصيدة.
السّرياليّة في الـ"معجم" نراها كنوعٍ من التَّجديد، لكن لا بد من الإشارة إلى أن السرياليّة في "مُعْجَمٌ بِكِ" هي ليست، فقط، بالفكر الّذي يحمله تيار السرياليّة بكل أبعاده، فنرى المعجم سرياليّ المضمون، يحلّق بنا إلى سماءاتٍ بعيدةٍ.
كأنّه اختصرَ الحروفَ في مُعجَمِهِ، فنشعر بانطلاقةٍ لمعاني مغايرةٍ لا تليق إلا بوطنٍ يستقبلها، وبأنثى انتقاها واستثمرَ لها الشوقَ والعشقَ ولهفةَ الانتظار.
لغةٌ صارخةٌ لا تناغمَ فيها إلا باتّساق وتوافُقِ شتّى الحالات التي تصيبُ الفردَ، فَتُدمَجُ الحالاتُ مع هذا الإحساس المرهف الّذي نستشعر به كل لحظةٍ بلحظةٍ، ومع كل حرف يَنْقِطُهُ، ويرسمُ أجزاءه، كأنها صرخة مدويّة تجتاحُ كل من أصرّ أن يعيشها.
* * *
الفَصْل النَّظَري
الحَداثة في الشّعر العربيّ
- الاتِّجاهات المعاصرة في الشِّعر من حيث المضامين والّلغة
إنَّ تَعامل الشُّعَراء مع اللّغة واقعٌ ليس بجديد، إذ نجد أنها مشكلةٌ غير مطروحة بين الشُّعراء الرمزيين، والسرياليين، والمعاصرين، فهذا يرجع إلى مُيول الشّاعر في الكتابة باللّغة التي يشاء.
اللّغة ليست كيمياء، وليست مُجرد لفظٍ، بل أَصبحت القصيدة كيمياءً شعوريَّةً إذ إنها تركيبٌ جديدٌ، وحالةٌ من تَوَحّد الفِكر والانفعال. لم تَعد اللّغة تعبيريَّةً وحسب، بل هي "لغة خلق". الكلمة رمز، ليست معنى فقط، تحمل معاني تفجيريَّة، حيث يُفجّر المبدع الكلمة من خلال حملها عوالم غريبة.
المُلهم للشعر الحَديث كان كوكبةً من الشُّعراء الغربيين، حيث انكشف المعاصرون من النّقاد إلى جوانب عديدة؛ كالّلغة المغايرة، وأنماط التَّجديد. اللّغة أشبه ما تكون زخرفيَّة من خلال الابتعاد عن معاجم التَّقليد، وخلق ثروة ألفاظ معجميَّة حداثيَّة.
الكلمة ليست لفظة صوتيَّة فقط، ولا مجرد ترجمةٍ لواقعٍ أو تجربة، ففي لغة الشِّعر يكون المعنى أقوى، وأوسع، وأعمق، فكأنها ثورة مستمرة تنقل صورةً حدسيَّة وصوتيَّة.
بالنِّسبة للمواضيع المعاصرة الّتي تُسَلَّطُ الأضواء عليها، تعتمد، بشكلٍ كبيرٍ، على الذاتيَّة كدليل الحضور، والوُجود، والحب، والمرأَة، والتجارب الإنسانيّة.
نظام الخطاب الشِّعري تَغَيَّر ولم يعد ثابتًا؛ حيث إن التَّجربة الشعريَّة تكشف عن علاقة الذّات مع النَّص من خلال التَّوترات، والإرهاصات، والبحث عن عوالم جماليَّة حداثيَّة. القَصيدة الحداثيَّة انتصارها في الشعريَّة الجَّديدة حدث من خلال كسر الحدود باعتماد الحاسة البصريَّة المحتشدة بالنَّسق الإبداعيّ الجَّديد.
- بنيويَّة القصيدة الحديثة
في كل مرحلة جديدة يكتب الفرد الإنساني نمطًا جديدًا متناسبًا مع حَضارته، وكذلك مع الشّعر؛ حيث يتَّخذ الشّاعر مفهومًا آخر بِسِماتٍ فنيَّة خاصَّة، ونسقٍ إبداعي مختلف.
بناء القصيدة في المذهب الرومانسي يتمركز حول الذّات؛ الأنا بنزعة خطابيّة انطلاقًا من حركة الواقع والمجتمع.
الشّاعر من خلال شعره يريد أنْ يجعله لغة تواصليَّة. من حيث اللّغة يتم استخدام عدة آليات فنيَّة تتماشى مع مراحل التَّجديد؛ كثرة الاستعارات، واللّغة المغايرة، ومن حيث البناء، فالقصيدة لها عدة سِمات:
- الفرد والخصوصيَّة: تكوين رؤية بطريقة فنيَّة متفردة بأبعاد خفيَّة.
- التَّركيب: تنَوّع بالأدوات الفنيَّة، ومنها ما يصل إلى التَّعقيد، ولا يعتبر هذا نوعًا من الحذلقة، بل تعبير عن رؤية شعريَّة حداثيّة.
- الوحدة: هنالك وحدة تؤلف بين العناصر، سواء أكانت شعوريَّة، أو فكريَّة، أو نفسيَّة.
- الإيحاء: اللّغة تكون بعيدة عن المباشرة؛ فالأفكار، والأحاسيس، والمشاعر غير مُحددة.
قصيدة النَّثر كنوع من التَّجديد
- مُصطلح قصيدة النَّثر
أخذ العرب قصيدة النَّثر عن الغرب، والتّسمية أطلقها أدونيس. قصيدة النَّثر بمثابة تحرر الشِّعر من القافية والوزن الواحد، وظهرت قصيدة الـنَّثر كدليلٍ واضحٍ على أن النَّثر قد يَسمو لمرتبة الشِّعر، وتبقى مسألة الموسيقى هي الحد الفاصل بينها.
فهي إعلان عن ولادةٍ جديدةٍ للبحثِ عن مُقوماتٍ فنِّيَّة حديثة بعد التَّمرد على قيود العَروض ومنهم: أدونيس، أُنسي الحاج، خالدة سعيد، كمال خير بك، فاضل الغزّاوي، وقد اهتموا بنتاجات الشُّعراء الفرنسيين المرموقين مثل: سان جون بيرس، آرتور رامبو، وغيرهم.
ظلَّت قصيدة النَّثر رهينة تجربة النَّثر الفرنسيَّة، وظلَّت محط جدلٍ قائم في مجلَّةِ "شعر"، حيث نشر محمَّد الماغوط أول قصيدة نثريَّة فيها، وقد وصلت أعلى مستوياتها من التَّعبير.
إن بعض من كتبوا قصيدة النَّثر وقعوا في خطأ أنهم لم يستوعبوا خصائص قصيدة النَّثر ذات المرجعيَّة الفرنسيّة. أدونيس لم يُعِد نشر قصيدة النَّثر، وكتب نثريَّة ملحميَّة ذات مرجعيَّة عربيَّة. حتى يومنا هذا لم يُقَيّض لقصيدة النَّثر النَّجاح لوجود خلافات فكريَّة وحضاريَّة وتاريخيَّة.
- الُّلغة الشعريَّة والرومانسيَّة في قصيدة النَّثر
السياقات تُسهِم في توثيق العَلاقة بين الدّال والمدلول في اللُّغة؛ فالكلمة حين توضع داخل القصيدة تكون كما لو أنها اسْتُخرجتْ من خطابٍ عاديٍّ، ووظِّفت داخل جوٍّ دلاليٍّ جديد. اللُّغة الشعريّة تَركيب من عناصر معنويَّة وتأثيريَّة وخياليَّة، تأخذ وَجهًا يَتلبَّسهُ هاجِسٌ من الغُموض على المستوى التَّعبيري، وداخل اللُّغة تتغلغل تحاليل صوتيَّة وتركيبيَّة.
المدارس الأدبيّة
- المدرسة الرومانسيَّة
مدرسة أدبيَّة ظهرت قبل القرن التّاسع عشر في فرنسا، كفنٍّ أدبي يقدم آثارًا أدبيَّة فيها من الحداثة والتَّجديد. يَشغل الخيال أساسًا فيها، فتقبع فيه صورٌ جماليَّة، يعجز عن إدراكها العقل، فيُطلِق العنان للعواطف. نظرة رُوّاد هذه المدرسة نراها متأثرة بالهروب من دنيا النّاس، والبحث عن منابع جديدة ينهلون منها، فينتجون إبداعًا بنتاجٍ فنِّي يحكمه الجَمال وتدفق المشاعر.
تجدر الإشارة إلى أن الرومانسيّة التي نشأت، كان سببها الألم نتيجة ظروف عايشها النّاس، فراح المجدِّدون يبحثون عن منحًى جديد في حياتهم، فنشأ الشِّعر الرومانسيُّ. من جهة أخرى، نرى أن الشِّعر الرومانسي كان بمثابة ثورة على الشّعر الكلاسيكي التَّقليدي، فأخذ الرومانسيون يتحررون من هذه القيود والأغراض التَّقليديّة التي التزم بها السّابقون، ونشأ الشِّعر الرومانسيُّ محاكيًا جمالًا وفتنة.
الرومانسيَّة تُخاطب ما فوق الطَّبيعة؛ الأحلام، والليل، والموت، وما دون الوعي. الفرديّة/ الذّاتيّة أبرز خواصها. تؤكد الرومانسيَّة العفويّة والغنائيَّة، وتميل للحُلم، والغموض، وتزامن الإحساس. من رُوادها عربيًّا: عبد الرّحمن شكري، وأبو شادي، والشّابي، وأبو ماضي، وبشارة الخوري، وغيرهم.
- السرياليَّة ومضامينها
بعد اندلاع الحرب العالميَّة الأولى، وانعدام القيم الإنسانيَّة، وهوان حياة الإنسان حيال المجزرة البشريَّة، ظهرت نزعة في أوروبا للتعبير عن الغرائز والرغبات المكبوتة، فظهر ما يُسمى "مذهب ما فوق الواقع".
السرياليَّة مذهب لا يرضخ لتقليدٍ وعُرفٍ تَقَمَّصَهُ وأَلِفَهُ السّابقون، فهو يعتلي الحرية المطلقة، ولا قيمة للنُّظم التقليديّة السّابقة، وتؤخذ مأخذ الاحتقار.
الّذين أقبلوا على هذا الفِكر، لا يهيمون إلا في الأحلام، واللاشعور، وتأثُّرات الماضي.
نرى الشّاعر يَنْظمُ كلماته بدون قيودٍ أو نظامٍ يأسره. الشِّعر توليفة من أمزجة وتراكيب شعريَّةٍ مغايرة، تُحلّق في حُدود اللامنطق. التّعبير عن العقل الباطن بدون مبالاة، ولا عِبرة في التَّسلسل، والتَّرابط، والتَّناسق. العقل الباطن هو ذخيرة فنِّيَّة لتدوين ما تشفه الإحساسات بلغةٍ لا تؤمن بالمنطق. الصورة التعبيريَّة تكون شبيهة بالحُلم، أو كنوعٍ من الفن التشكيليّ.
في علم النَّفس تبدو أنها محاولة لاستخراج ما يُعانيه الإنسان من أوهام وأَحلام تتوهمها النفوس، حيث تَتَّضح العلاقة بين المحسوس والعاطفة والمادَّة والحُلم.
المدرسة السرياليَّة هي تحدٍّ للشعراء المجدِّدين، وبما أن الشِّعر الحديث تغيرت مناهجه، فالحركات الذاتيَّة تَدعو إلى التَّغيير والتَّجديد. الهدف الّذي ترتكز عليه هذه المدرسة؛ هو خلق جيلٍ يطمحُ إلى ابتكار ما هو جديد للتعري من الواقع والتَّقليد.
المرأة في الشِّعر الحَديث
- نظرة الشعر الحديث إلى المرأة
في الشِّعر الحديث نرى عدة أشكال من القصيدة المنظومة، منها ما هو عاديّ، ومنها ما هو جديد وغير مألوف. المرأة تحتل عددًا كبيرًا من القصائد؛ فهي تُعَبِّر عن التَّوق المشتعل للمرأة وتَتَجسد في كل نقاطه، وهذا يَعود إلى تأثر الشّعراء الحداثيين بالشعر الغربي، وهذا ما يعيدنا إلى شعر النَّسيب، لكن بصبغة وذائقة شعريّة جديدة.
عند ذِكر الأُنثى، يتم التَّركيز على قيمة الحرمان. المرأَة حاضرة في كل قصيدة يغزلها الشّاعر؛ إما بالجَسد، أو بإيحاءات واسعة تُعَبِّر عن الوِحدة، وغياب الحُب، والرّوح المتَفَكِّكة. المرأة تُعبر عن الشّاعر عن لَواعجه ما بين الحُب والشَّهوة كَصراعٍ بين الرّوح والجَسد.
- تأنيث الّلغة الشعريّة
تأنيث الكلمات، واستخدام لُغَة مؤنثه تُبْرِز المشهد الخياليّ وأُنوثَة الأشياء. الأُنوثة لها دور دلاليّ على مستوى النَّص. تأنيث الّلغة هو تسليط الضوء على الجنس الآخر "الأُنثى".
الميتالغة: مُصطلحٌ حَداثيّ ظَهَر مِنْ قِبَل النُّقاد، ونعني بذلك تركيز الكاتب على لُغَةِ النُّصوص المكتوبة وأدواتها دون الاهتمام بالنَّص.
الميتا- ما وراء/ الميتالغة- الميتالسانيات تعني اللغة الواصفة على التَّعاقب.
دلالة الّلغة وجماليتها وأشكال استخدامها
- أشكال القصائد هُبوطها ونُزولها ودَلالتها الرومانسيّة
إذا ما تمعنّا في أشكال القصائد، فإنّ البِناء العام لها يُثير عُنصر السينمائيّة، من حيث الصُّور، والحركة، وَوَقْع الصَّوت.
هذه التّقنية من شأنها أن تنشط الجانب البَصريّ، حَيثُ إنها تأخذ القارِئ إلى عَوالم تأويليَّة. الهُبوط والنُّزول داخل القصيدة يكونُ في أعلى حالاتِه ومستوياتِهِ، حيث تعمل هذه الأسْطُر على مَدّ شَبكة تَواصل واتّصال على مُستوى سَطح الورقة. هذه البُنْيَة للقصيدة تمنحها شكلًا متحررًا.
فنّ الحسّ التَّصويري في نَقل المشاهد الرومانسيَّة والسرياليّة
- توظيف الحسّ التصويري في نَقْل مشاهد رومانسيّة
يُوظّف الشّاعر قصائده النَّثريّة من خلال التَّشكيل البَصري والحِسّي باستخدام الأدوات اللغويَّة، والإيقاع الصوتيّ، والمؤثرات الحسيَّة.
بِناء القَصائد بأُسلوبٍ حسِّيّ هو عُنصر من شاعريَّة النَّص، حَيْثُ تَظْهَر الصّورة الحسِّيَّة اللغويَّة كلوحة تَشْكيليَّة ناطقة، من حيث البدء فيها حتَّى تصاعدها فالوصول إلى الذُّروة.
المعاني الإدراكيَّة لها دلالة حسيَّة. الفِكْرَة تَتَحَوّل إلى إحساس حَيْثُ تَتَجاوز المعاني بالمفاهيم المُتَعارف عليها، إذ يَضُج الـ"مُعْجَمُ" بِتعابير لغويَّةٍ، تَتَّحد بطَريقة بِناء الجُمَل الشِّعريَّة لإضفاء صورة حسيَّة رومانسيَّة.
- توظيف الحس التصويري في تمثيل الصور السرياليّة
يَشْغَل الحِسّ للمادَّة النَّصيب الأكبر في الدّيوان كتجربة ذاتيَّة بابتكارٍ حَداثيٍّ سرياليٍّ.
يَعْتَمد الشاعر محمد حلمي الرّيشة على التَّشكيل الصَّوتي، واللّغوي، والصوري، حيث يَعمل بكل طاقات التَّأثير والتَّعبير، مع ملامسة الحواس باكتمال الحُلم ولحظات الوصال، ويكون هذا التَّشكيل الحسِّي أَقرب ما يكون إلى لوحة تشكيليّةٍ، أو نصٍّ سينمائيٍّ.
الصِّور التي ينقلها الشاعر الرّيشة تستدعي حضور الحسِّ، والبصر، والسَّمع، بعفويٍّة وبساطة. هذا التَّوالد الحسِّي يُحدث ثنائيةً مع الذّات الأُنثوية لاستمالتها، والغَرق في تجربة شِعريّة سرياليَّة، يكتبها في منطقة اللاوعي، كأنَّه مُغَيَّبٌ عن أي رقابة تتربص طُرُقَهُ.
في مقابلة بعنوان: "أمشي وأجعل قصيدتي أمامي"، طرح المحاور سؤالًا حول نمط الكتابة الّذي ينتهجه الشاعر الرّيشة، فردَّ قائلًا: "إن لحظات الوعي أثناء الكتابة تتعلق بالأَشياء المحسوسة، وأنَّ اللاوعي هو الّذي يكتب النَّص، ومقصده هو إظهار الشّعر لا إظهار رغبته".
- دراسة سابقة لها علاقة بموضوع السرياليّة
"دراسة النَّص المناور يتطلب قارئًا مناورًا" (ريتا عودة)
الدّيوان الشِّعري مُقْسَم إلى ثلاثةِ أقسام: ما بَعد، ما قَبل، وجُويس. جُويس مَنْصور هي إحدى رائدات الشِّعر السرياليّ، حيث عَبَّرَ شعرها عن الرَّغبات، والإحساس، واللذة. توظيف جُويس كَفَصِل في الـ"معجم" دلالة لحضور الأُنثى، حيث اسْتخدِمت للتعبير عن الحركة السرياليّة.
يَتَعَمّد الشّاعر استخدام الأشياء الواقعيّة ليُعَبِّر بها عن الحُلم، وَعَن اللاواقع بِلوحاتٍ شعريَّة، كَرَسْمٍ سرياليّ. الرّسم التَّشكيلي السرياليّ يَعتمد على الحالة النَّفسيَّة، وهذا بالضَّبط يَتَوافق مع ما يَرِد في الـ"معجم"؛ فَهُوَ يضمُّ لوحاتٍ فنِّيَّة نفسيَّة لا شعوريَّة.
الحركة السرياليَّة لا تَعْتَمِد على المدلولات اللغويَّة التقليديَّة، فاستهلالًا بالعنوان: "مُعْجَمٌ بِكِ"، دلالة الوصول إلى المضامين بِشَكْلِها الغامض.
الشاعر محمَّد حلمي الريشة مَضى في "مُعجمه" ما قَبلَ، وما بَعدَ السرياليَّة، حيث أَوْلَى اهتمامًا للمضمون والشَّكل، وأثراه بسرياليّتِهِ، وَتَشْكيلاتِهِ اللُّغَويَّة والمعرفيَّة.
الشّاعر يَتَعَمَّد المناورات لِيَستَقطب الصّورة الشِّعريَّة بِدَهشةٍ، وذلك اعتماد رُموزٍ سرياليَّة للارتِقاء بالأفكار.
الفَصْل التَّطْبيقِي
صوَر مُقْتَطَفَة مِن أشكال التَّحديث في الدّيوان (رُؤيَة عامَّة)
- مِن حَيْثُ شَكل القَصائد وَبِنائها
هُنالك عُلاقة بين المونتاج السينمائي والشِّعر حالَ إخراجِهِ عَلَى صَفَحات الـ"معجم"، إذ يُسْهِمُ في البَوح عن الحياة الّتي استقر الشاعر عليها ليُخْرِجها بتقنية سينمائيَّـة عالية، والمأخوذة عن شُعراء الغَرب.
المنتَجة الشعريَّة تَعْتَمِد على البُنية البَصَريَّة المرافقة لطقوس الكتابة، حيث تَكونُ عاملًا مُساعدًا للدلالة على القيمة الشعريَّة على المستويين؛ الشكلي والمضموني.
بالنِّسبة للشاعر محمد حلمي الريشة، فقد اعتمد هذا النَّمط من الكتابة بِرَسْمٍ تَشْكيلي: هُبوط، ونُزول، وانحناء، وَمَيَلان، للدلالة على علاقة الذَّكر بالأُنثى، وليسَ الرَّجُل بالمرأة، فَـ"مُعْجَمٌ بِكِ" نَحْتُ الجَسدين، وتلاقيهما بِشَكلٍ شِعريّ حسِّي.
هُنالك عِدَّة أشكال بصريَّة اعتمدها الشاعر ومنها:
نَجْمَةٌ
ضُحًى * * أَرْبَعَاءٌ
مُثَلَّثُ
وَرْدَةِ * * الْوَجْدِ
لَوْ تَأَمَلْنا هذا النَّص الشِّعري لَأدركنا تمامًا الرَّسم الهَنْدَسي الّذي ارتآه الشاعر ليوصله للمتلقي. أَحيانًا قَد لا نَعي الصّور المتعددة للأشكال التي اعتمدها الشاعر؛ فهي تعبيرٌ عن حالاتٍ يمر بها. أثناء حَديثي مَع الشاعر أخْبَرَني أَنَّ فَهْمَ القَصيدة هُوَ المقصد الأخير الّذي يَضَعه، فَسُلَّم اهتماماته هو الإحساس. هذا الالتقاء الّذي نمدُّ جسوره يَدُل على حالة التَّوحد التي يلتقيها الشاعر مع محبوبته بانسجام.
لَا وَزْنَ لِي فِي طُقُوسِ جَاذِبِيَّتِهَا المُضْمَرَةِ؛
أَ
شْ
تَ
ا
قُ
كَ
هكَذَا..
تَدَلَّتْ حُرُوفُهَا كَانْدِلَاقِ دَالِيَةٍ
فِي حَلْقِ عَيْنَيَّ،
وَهكَذَا..
لَملَمْتُ عِنَبَ شَهْقَتِي.
يَسْتَعرض الشّاعر شكلًا آخرًا بِشَكْلٍ أُفُقِي خَطّي مستقيم مُفَكَّك كالسّاق. تَفْكيك الحُروف على استِقامة واحِدَة بِخَط طولي يُعَبر عن اعْتِصار الشَّوق الّذي لا قيمَةَ لَهُ أَمام جاذبية أُنثاه، والّتي وَقَعَتْ لها حُروف الشَّوق مُتَناثرة واحدةً تِلْوَ الأُخْرى، كأنَّ القارِئ شَريكٌ فَعّالٌ في تَجميع هذِه الحروف وَوَصْلِها، لاسْتِشعار ما انحصر داخله.
عِنْد قِراءتنا لِكَلمة "أشتاقك"، حَرِي بِنا أَنْ نَقْرَأَها بِبطءٍ وإحساسٍ عالٍ لِنَشْعُرَها وَنَحُسَّها، فالتّركيز عند استخدام مثل هذه التّقنية يعتمد على نبرة الصَّوت.
أَمَامَكِ أَمَامِي، وَبَيْنَهُمَا؛
خَمْسُ سَنْتِمِتْرَاتٍ مِنَ الْهَوَاءِ الرَّخْوِ
يَ تَ نَ ا ثَ رُ
فَوْقَ
ارْتِعَاشِ أَقْدَامِنَا بِفَرَحٍ.
تَقطيع الحُروف وَجَعْلها مُفَكَّكة لا يَعْتمدها الشّاعر إلا في الكَلمات الّتي يُبقيها رَهينة القارئ ليُعيد تَجْميعها. المسافات القريبة الّتي بينه ووُلوج هذا الفَرَح بِنسائِمَ طيبةٍ رخوةٍ عذبةٍ تَتَناثر (عَلَى المستوى السَّمعي؛ كَلِمَة يتناثر حين نَقْرؤها نَشْعر بأَجْواء من البَعثرة والتَّطاير، فَكَيف لو قام بِفَصل أحرفتها؟). كلمة "فَوْق" جَعَلَها مُفْرَدة وَحيدة ليؤكد أَنَّ هذا الفَرَح في العُلوِّ والصَّدارة. يَنْثُر الشّاعر حُروفَهُ في سَماءٍ لا تَسْتَقبل إلا دُنيًا مِن فرَحٍ تُخاجِل المسافة التي جمعته بمعشوقته.
لِمَ كُلُّ هذِهِ الاهْتِزَازَاتِ الضَّالَّةِ
عَلَى
شَفَا
جُرُفِ الْبِدَايَةِ؟
وَكُلُّ تِلكَ المَسَااااااااااافَااااااااااتْ ..
المَسَا .. فَاتْ..
الَّتِي مَشَتْنِي بِكَامِلِ حُفْيِهَا وَثُقُوبِ وَهْمِي؟
كَلمة المسافات تعبيرٌ عن البُعد، وليست مَسافة تُقَدَّر بِبِضْعَةِ كيلومترات، إنما هِي مسافات مُضنية مُتْعِبَة، وكأنَّ هذه المسافات مَساءاتٌ تَتَوالى وَراء بَعْضها بِبُعْدٍ وَمَسافة أكْبر بِفَوات الأَيام. إذا كانت هذه المسافات طَويلة، فهل يَجعل غِياب هذِه المساءات قريبة؟
كما وَيَسْتَخْدم التّقنية نَفْسَها في مَوْضِعٍ آخر، حَيْثُ يُوَظِّف الكَلمة الواحدة بأَكثر مِنْ دلالةٍ وَمَعْنى.
تَعَطَّلَ اللِّسَانُ عَنْ بَيَاضِ يَاقُوتِهِ لاِنْهِمَارِي..
يَا .. قُوتَ .. نَارِي.
يُجزِّئ الكلمة، ويُفَكِّكها، ويخرج منها كلمات معجميَّة جديدة.
الشّاعر بتفاعله مع تجربة النَّص يُسقط ما في ذاكرته، فتتطابق البنية مع المعاني.
- الجماليّة اللغويّة في إضفاء لغة شعريّة رومانسيّة
إنَّ انْتِقاء الكَلام في نَظْم القصائد له وقعٌ يُثيرُ مسامعَ كُلِّ مَن ارتشف جُرْعَةً من شَدق الكَلام، فَيَبْعَثُ عند القارئ رغبةً في الاستمرار، والترقب، وعدم الاكتفاء.
لَيْسَ شَهْدًا، فَقَطْ،
مَا يُضِيءُ شَفَتَيْكِ؛
إِنَّهُ ذَوَبَانُ كَوْكَبِ الشَّوْقِ.
يُوَظِّف الشّاعر، بِسياقاتٍ مُغايِرة، كَلِماتٍ أَلِفْناها؛ كَوْكَبُ الشَّرق كَلِمَة مُسْتَوحاة من الفَنّ الجميلِ الّذي استوحى منه الشّاعر لُغَةً أُخرى، فَدَمَجَ جَمال الفن وأصالته بالشَّوق، فما يَجْمَعُ الشَّرقَ والشَّوقَ تَداعِيات الجمالِ المنصهرة لِولادة مَفْهوم فنِّي شعريّ فائق الجَّمال.
كُنْتِ؛
أَكْثَرَ مِن جَسَدٍ لاِحْتِلَالِي..
كُنْتُ؛
أَكْبَرَ بَيَاضًا فِي حُلُولِي فِيهِ.
الثنائيَّة بين الشّاعر ومَحبوبته في أَوجِها هي أَكثر من جَسَدٍ لِيمتلكها وحده، حالة من الانصهار.
التَّوحد حالة دائمة يَعْتَمِدها الشّاعر لِلدلالة عَلى حُضوره وحُضورها، وفاعليتهِ وفاعليتها (كُنتِ- كُنتُ)، (أكثر- أكبر) (صيغة أفْعل التَّفضيل). عُلاقة الذَّكر بالأُنثى الّتي تَحْضُر في المشاهد، تُعَبّر عَنْ حالَةٍ حَميمة بَيْنَه وَالأُنثى. يُولي الشّاعر أَهمية كَبيرة لِكَلمة "البَياض" في فَراغات الصَّفحة، وَبِنائها، وفي استخداماتها، فَتَظْهَر الأُنثى دائمًا بهذا البَياض الّذي يَرْمزُ للنَّقاء والطُّهر والقَداسة.
البياض لا قيمة شعريَّة له إلا بالسَّواد، لكن أمَام بياضها تَنْعَدِم الحروف وتَتَعَرَّى.
لَمْ أَزَلْ أُوَبِّخُنِي كَثِيرًا
لِأَنِّي نَسِيتُ لَملَمَةَ دُرَّاقَ الْعِنَاقِ
عَنْ حَقْلِ عَرْشِنَا.
بلغةٍ عاليةٍ، لَيْسَت تَقْليديَّة أو واردة على مسامعنا، يَنْتقي مِنْ حُقول "مُعْجَمِهِ" كَلِماتٍ يُعاتب بها نفسه، مستيقنًا قيمةَ هذه الفاكهة التي لم يَحصدْها لِينال عَرْشَ محبوبته: العِناق الّذي طارَدَ حُلمه، وَنَسِيَ أنْ يُلَمْلِمه ويجمعه في وَصلةٍ واحدة.
الَّذِي ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ كَمَدٍ لَا يَرَى
أَمَّا الَّذِي تَرَمَّدَ صَدْرُهُ فَلَمْ تَزَلْ
جَمْرَةُ قَلْبِهِ تَنْبِضُ.
لأن الفَقْدَ علامة مُوجعة في عوالم المحبين العاشقين، نَرَى الحُزن يُخَيِّم أطراف القلب الّذي صار غباراً بنثر متطاير محترق، لكن على من الرغم الأسى، يشعل جمرة شوق كدليل عشق نابض لا يرضخ للألم كشمعة ألم يضيئها.
مَا بِكِ أَيَّتُهَا اللُّغَةُ
لَا تَسْتَطِيعِينَ بَرِّيَّةَ حِبْرِي؟
لَمْ أَزَلْ أُحَاوِلُكِ إِلَيْهَا
رَاعِيَ أَسْمَاكِ بَحْرٍ.
كأَنَّ هذه اللّغة غير قادرة على اجتياز ما مر به هذا العاشق الهائج، يستنجدها كأنَّ بداخله فيضًا يحاول من خلالها الوصول إليها والتقاءها.
مُرَقَّشَةٌ بِالْوَدَاعَةِ..
طَافِحَةٌ بِالْإِبْهَامِ؛
صَفْحَةُ يَقِينِ الْبَيَاضِ الْخَاطِفِ
الَّتِي لَمْ تَمْتَلِئْ بَعْدُ.
حتى بانتقائه للتعابير والمفردات، نراه يرجع للعالم الأنثوي (حروف العطف أم استغاثة عطف يرجوها؟). هو لا يقصد حروف العَطف، بل وَظَّفَها مجَازًا لاسْتِحضار هذه الصِّفات العاطفيَّة التي اختصت بها محبوبته فدوَّنها في كل صفحة.
مُعَلَّقَةً أَضْحَتْ، عَلَى صَدْرِكِ، قَصِيدَتِي؛
نَجْمَةً دَائِخَةً بَيْنَ مَذْبَحَيْنِ..
مَحَارَةَ دُوَارٍ حَوْلَ انْحِنَاءَاتِهِمَا..
القصيدة والأُنثى كلامها، بنظر الشّاعر، خط واحد، فكيف لو أضحت القَصيدة والأُنثى بتواحد؟ كأنّها محَطُّ إغراء. أتكون القَصيدة بذلك مقتل الشّاعر، أم أنه استسلام بَيْنَ يَدَيْها، فَتَكون هذه القَصائد مُعلقةٌ بين يديها؟
تمثيل المدرسة الرومانسيَّة
بالنِّسبة للمدارس الأدبيَّة، سواء أكانت المدرسة الرومانسيّة أم السرياليّة، وفي مقابلة بعنوان: "محمّد حلمي الرّيشة.. منشد الحريّة الأبديّ"، صرح الشاعر الرّيشة: "مَا منْ مدرسةٍ معيَّنةٍ علَى الشَّاعرِ أَن يتَّبعها، أَو يميلَ إِليها وحدَها. الشَّاعرُ المبدعُ يلتقطُ بحواسِّهِ النَّشطةِ أَيَّ/ كلَّ شيءٍ، وبوساطةِ الحواسِّ الشَّاعرةِ لدَى الشَّاعرِ، تشتغلانِ معًا لإِنتاجِ نصٍّ شعريٍّ مُغايرٍ".
- تلاحم النثريّة والرومانسيّة في قصائد الديوان
كُلُّ لَوْنِ عَطَشٍ
بَيْنَ
مَدَى
مِعْرَاجِنَا
يُمْحَى بِرِيشَةِ مَاءٍ
مَغْمُوسَةٍ
بِصَرْخَةٍ
تَ تَ عَ رَّ ى
يُدْخِلُنا الشاعر الرّيشة في طُقوس الحياة التي لا تَرضى دائمًا بالشَّبع والاكتفاء، بدون أن نَنْغَمِسَ بمعالم الحياة وعَطَشِها؛ حالةٌ من الظَّمأ الّتي تُصيب كلًّا من الشّاعر وأُنثاه بين شَذَرات حياتهم، التي تَنْقلهم، في مَرحلةٍ ما، إلى محوِ كل ما اندثر إلى زَوال هذا العَطش الّذي ارْتَسم، سُرعان ما تُشْطَبُ بِبارقة أَمَلٍ يتصورها، وكأنها خَرَجَت من صَرخَةٍ مُدوية قد انْتُزِعتْ.
ألوان العَطَش دَلالة على الشَّـوق الّذي يخْفِق داخِله، كـأن هذا الشَّوق يتخذ أنماطًا مُتعددة. الصَّوت الشِّعري المرافق له دلالة كُبرى في القَصائد، فَيَحْضر هذا الصَّوت مُعَبّرًا عَنْ مَكنوناته. هو الحاضِر الذي يُريد بهذه الحروف تفجير شاعِرِيته.
طَرَّزَتْ وِسَادَتِي بِتَنَاثُرِ رَائِحَتِهَا..
أُحَاوِلُ
لَثْمًا
نَسْجَهَا
زَنْبَقَةً.
*
أَنْفَاسُهَا تَصَّاعَدُ هَدِيلَ وَرْقَاءٍ..
سُطُورًا
يُخَرِّقُنِي
أَنِينُ
لَهْثِي.
في قَصيدته "نُعاسٌ"، نلحظ هذه العَلاقة الّتي تجمع الشّاعر والأُنثى الّتي تربعت قَلَقَ نُعاسه بِعبيرها الّذي نَشرته عطرًا زنبقيًّا يلملمها معه، كأنَّ الشّاعر يلثم بأنفاس محبوبته، الّتي شَبَّهَها بحمامة تهَدل وتَخترق بِتَصاعدٍ، لُغَةَ السُّطور اللَّهثة المـتألمة. أنْفاس المحبوبة كَهَديلِ حَمامة اجْتَمَعَت بها الرِّقة ولَهْثُ الشَّوق مُؤلمٌ بَلَغَ حَدَّهُ.
تَتْرُكُ كَلِمَاتُهِ آثَارَ نَرْجِسٍ
عَلَى شُرْفَةِ الشَّفَتَيْنِ..
أَضُمُّهَا اشْتِعَالًا طَيَّ قُبْلَتِي.
أتراه جوعٌ، أَم فقدٌ، أم ولعٌ، أم وَلَهٌ هذا الّذي فاض وأناره اشتعالًا لِتوَقُّدِ حالة انسجام تجمعه بها؟ الصورة الغائِية للأنثى تحَضر في أكثر من مشهد، فتراه يحيك لها من الكلام المعسول، وغريب الصور، ما يَليقُ بِقُدومها.
السِرياليّة وانعكاساتها
- التَّعبير عَنْ الدَّواخل الباطنيّة بصور لا واقعيّة
الذات الشاعرة تؤكد حضورها في العالم من خلال خَوْضها في تجارب معبرة. التَّلاصق مع العالم الواقعيّ لن يُفْسِحَ المجال لتوالد تجارب بِسِماتٍ جديدة، لذلك لا بد من الانفتاح على الواقع، للإفلات من الكبت والضغط الواقعي.
في مقابلة مع الشاعر، صرَّحَ بأن اللاوعي في الكتابة هو حالة كتابة غيبوبيّة تتسع لمساحات التَّخييل في تشكيل الصور الشِّعريّة.
ها أَنْتَ
إِلَى
زَوَالٍ
- مِثْلَ دَبَقٍ تَعَرَّشَنِي خِلْسَةً -
أَغْسِلُهُ بِعَضَّةِ الْقَلْبِ..
ها أَنَا
- فِي انْفِلَاتِكَ-
بَقِيَّةٌ كَامِلَةٌ.
بأشكال ومضامين غير اعتيادية، نتعثر بسريالية في الجزء الثالث، ونحتاج بذلك معجمية جديدة لتجميع هذه الصور وتركيبها كالبقية الكاملة التي احتواها في انفلاتها.
كَأَنَّكَ قَلَمُ رَصَاصٍ مِنْ خَشَبِ الْقَلْبِ..
كَأنَّهَا مِبْرَاةُ خَوْفٍ مَثْلُومَةٌ؛
/ دَائِمًا /
تَقْصِفُكَ عَلَى بَيَاضِ وَعْدٍ.
مِن عَوالم الكِتابة يَسْتجمع صُورة أُخرى كأداة كتابة ومبراة، يقف الخوف أمامها دائمًا. اللّغة العالية تَجعلنا نَضَعُ المعنى جانبًا، وَنَهيمُ بِنَسجِ الكلام بحضور اللاوعي، واللامنطق، كدائخ مترنح يجني لغةً بلون هذا البياض الّذي أتحف معجمه! أتراه بياضها أم بياض هذه الصّفحة عند إخراجها.
لَسْتُ جَسَدًا
- فَقَطْ -
لِأُشْوَى بِجَمْرَتِي الطَّائِشَةِ
أَوْ ..
لِتُلْتَهَمَ "وَجْنَتِي السَّمَاوِيَّةُ"
كَقُرْصِ جِبْنَةٍ مِنْ حَلِيبِ شَاةٍ مُرْضِعَةٍ
"كُنْتُ أَصْرُخُ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ فَمِي
لِأُشَرِّعَ رَأْسِي عَلَى اللَّيْلِ"
... وَأَجِنُّكَ.
بصورة حسيّة إيحائية جسديّة يتلوى الريّشة لِجَنْيها، وجني هذا الجَسد، الّذي عَبّرَ عنه بجوعٍ، وشَهْوةٍ، ولهفَةٍ، أغدقتهُ بألمِ الوصولِ إليها حَتى امتلكها بِلَوى جمرِ انتظارهِ وأشواقِهِ.
بُؤْرَةٌ تَتَلَصَّصُ بِانْدِفَاعِ أَنْيَابِهَا
تُشِعُّهَا رَائِحَةَ بَنَفْسَجَةٍ
فِي عُزُوفِ لَوْنِهَا
كَأَنَّهَا رِيشَةٌ
تَغْمِزُ سَرِيرًا طَائِرًا
بِفُحُولَةٍ مَعْقُوفَةٍ..
لو نمارس هذه اللّغة.. لو نُصيبها.. لو نَتَحَقق منها، لوجدناها تبعد عن واقعنا، حتى لو وجدنا علاقة بين حروفها، أتراها تحدث؟ يطلق الشاعر الرّيشة تَصَوراته المكبوته، بدون تحكم، وبدون مراقبة، عازفًا عن العوالم الواقعيَّة بمنأى يجد فيه نفسه أولًا.
- جماليَّة اللّاواقعيّة في الدّيوان
جماليَّة النُّصوص الشِعْرِيّة تَبْدأ مِنْ العَتبة الّتي يَسْتَهل بها الشّاعر قَصيدته للاصْطِدام بجمالها وَغَرابتها، قَبْلَ قِراءة المضمون، والوُلوج إلى عَوالِمها وَنَسْقِها.
في قصيدته "خَشْخاش"، تَكْمُنُ مَلامح الجماليَّة بألوان الخشخاش، وإزهارها في الفَحوى بألوانِ عِشْقٍ وَرْدِيَّة بتِضاريس يُدلي أنَّهُ لم يَخُنْها.
أَيَّتُهَا التَّضَارِيسُ الَّتِي
لَمْ أَخُنْهَا بَعْدُ/
(هَلْ أُرِيدُ؟)
وَلَمْ تَسْرِ أَنْفَاسِي إِلَى
مَكْمَنِهَا الضَّئِيلِ/
(نَضُجَتْ مَكِيدَتُهَا)
فَارْتَدَتِ النُّعَاسَ
اخْتِبَاءً/
(ظِلُّهَا سَائِلٌ حَارٌّ)
فَاسْتُلَّ لَهْثُ قِمَاشِي.
بدونَ وَعْيٍ تَتَصَدّر صوَرٌ بِتَراكيبَ لقارِئٍ مُتَذَوِّقٍ، مُتَمَرِّس، قَدْ يُبْهَر بِغَرابَةِ نَقْل الصّور حَدَّ التَّعْقيد، وحَدَّ الغَرابة، وَحَدَّ الغَيْبوبَة الّتي نَشَطَ بِها الشّاعر في كتابَتِه.
بانْسِجام وَاتّساق الألوان المنتقاة بَدءًا مِنْ جمَيل الفَراش الّذي يَحط على وَرد الخشخاش، وانتهاءً باللازورد، بِتَمازُجِ هذه الطُّقوس كأُهزوجة تَنْحَني فَوْقَ عَثْرَته، تَرَى أيكون هذا الانزلاق التَّعثر بأُنثاه؟
اللاواقع بالنسبة للشاعر، هو الشعور بالألم، فنراها مجموعة شعريّة معذبة تحتاج منك تحليلاً واسعًا.
حَتَّى وَإِنْ كَتَبْتُكِ
بِأَزْرَقِ السَّمَاءِ
فَوْقَ
أَصْفَرِ الصَّدْرِ
سَتَسْتَخْلِصِينَ بَيَاضَ صَوْتِي
بِنَحْلَةِ أُذُنِكِ
يَتَنَاقَطُ:
أُ
حِ
بُّ
كِ
أي حُلمٍ هذا الّذي لاحَقَهُ واسْتَقَرَّ داخله مُناجيًا السّماء لتنقيط لُغة الحُب والجَمال بأزرق سماء يظلل أحلامه فوق هذه الأرض، ليهمس بشفافيّة ورِقَّة بأذنها بكل لغات الحب.
تجسيد صورة المرأة
- تمثيل المرأة حسِّيًا
تَتَثَاءَبُ دَلَالًا كَغُنْجِ قِطَّةٍ تَتَعَاذَرُ..
تَتَوَاثَبُ
رِقَّتِي
قَسْوَةً
فَوْقَهَا.
يُشَبِّهُ الشّاعر الرّيشة أُنثاه بالقِطَّة. القطَّة في الشِّعر العربي رَمْزٌ للتعبير عن المرأة، تُصَوَّرُ بكامل رِقَّتها، وأُنوثتها، ودلالها، وبراءتها، وعذريتها. رقَّته قسوةٌ أمام ما تَتَحَلَّى به. يستخلص الشاعر الصفات الإيجابيَّة لتكوين الصورة التي يحلم بها ويكتبها.
آهٍ: مَا بِهَا تِلْكَ الْقَصِيدَةُ الشَّقِيَّةُ..
تُدْرِكُهَا
الْيَقَظَةُ
كُلَّمَا
أَنْعَسَتْنِي.
هي القصيدة المؤنثة التي تَشْغله وتُطارده، وتَتَرَبَّصُ قَلَقَ نُعاسه، بيقظةٍ تُجابِهُ حُلمـه، لتبقى حاضرةً تقاوم نعاسه كلما اشتد.
كُلُّ هذَا الْبَيَاضِ جَسَدُكِ؟
إِذًا:
سَيَجْعَلُنِي الشَّاعِرَ الْوَحِيدَ
بِلَا الْأَعْمَالِ الْكَامِلَةِ.
كأنَّها العَمل الكامل الّذي اهتدى أنْ يكون بحضورها فعلًا وواقعًا لا مجازًا. الجَسد يَحْضُر في كل مرة يستشعر قُدومَها. البياض الّذي يُكرره في أكْثَرِ مِن قَصيدَة إصرارٌ على نَقائها وَصَفائها، فَيُتخَيَّلُ في بَياضها جاذبيةً لا تضاهى تعبيرًا عن شَهْوَةِ العِشْق وَنَشْوَتِهِ.
أَسْتَأْذِنُكِ الْآنَ لِأَعُودَكِ قَبْلًا
أَيَّتُهَا المُهْرَةُ فِي سَهْلِ مُخَيَّلَتِي
تَعِبَتْ اللُّغَةُ مِنَ ازْدِحَامِي
وَلَا أَتْعَبُ مِنْكُمَا أَبَدًا.
كأنَّها الأصالة، واللغة، والأُنثى. عِشْقهُ للغته، وعِشْقه لمَن وَلَّى لها هذا الـ"معجم" جديرٌ أن يبقى، فمدلَّلته كلغته هائمة في خياله لا مَناصَ مِنها، فهي الرّاحة التي لا يتعب منها.
الأُنثى التي يوظِّفها بِصُوَرٍ مُتعددة هِيَ، فَقَط، موجودة في مُخَيَّلَة الشّاعر.
الكتابة وَليدَة تجارب سابقة مرَّ بها الشاعر الرّيشة. فَشَلُ التَّجارب، وَفَشَلُنا في الحُصول عَلَى ما نَرْغب، يَجْعَلُنا نَفيضُ بِلُغَةٍ تَكونُ مَلاذَنا بعد َفَرارَنا مِنْ واقعٍ لا يُقَدِّمُ لنا ما نَحْلُم.
وَرْدَةٌ.. مِنْ أَظَافِرَ
بَسْمَةٌ.. مِنْ إِبَرٍ
شَهْوَةٌ.. مِنْ شَوْكٍ
حِضْنٌ.. مِنْ سِيَاجٍ
بِتجربةٍ بمفهومٍ لغويٍّ، يَتَهَيَّأ هذا العالَمُ لحضورها بلغةٍ زخرفيَّة مُنَمَّقَة.
- تأنيث اللّغة
صَبَاحُهَا بِطَعْمِ عُرْيِ كَرَزَةٍ..
أَيَّتُهَا
السِّنَةُ
هذِهِ
ثَمَرَتِي.
*
الْبُخَارُ الَّذِي يَتَصَاعَدُ بَيَاضًا
الْآنَ
مِنْ قَهْوَةِ قَصِيدَتِي؛
هُوَ
رَقْصَةُ الشِّعْرِ
تَعْلُو
مِنْ مَلَكُوْتِ الْقَصِيدَةِ.
يَستخدم الشّاعر كلمات مُؤنَّثة، مُعتمدًا على تَوَحُّدِه بها (هو- هي).
يُوَظِّف كَلِماتٍ مُستوحاةً مِن عالم المرأَة الأُنثوي دلالةً عَلى هذا الجوع المضني الّذي يتربص الشّاعر في كل خيبةٍ، فَتَحُلُّ هِيَ كَثَمَرَةٍ شَهِيَّة بِلَوْنِ الإغراء والشَّهوة (كرزة، السنة، ثمرتي، قهوة قصيدتي، رقصة الشِّعر، القَصيدة...) كلها كلمات مؤنثة، كأنَّها عَوالِم مؤنثة تَتَصاعد لِتَحل كَأنفاسه، وَتَغْدو خَيالًا يتَعَالى كُلما هَمَّ لِقَهْوته وَقَصيدته وَعالمه، فاستحضر صورتها الغائبة.
هي في الغِياب حاضرةٌ قبل الحضور، فكيف يُشفى من هذا الهاجس الّذي سَيْطَر على كيانه واستولى على مخيلته؟
ههُنَا.. إِذًا:
أَسْتَظِلُّ بِأَمْوَاجِكَ النُّورِيَّةِ
كَأَنَّ يَدَيْكَ شِرَاعَا شَجَرَةٍ
تُورِفُنِي عِنَاقًا بِحَنَانٍ
حدّ الجمال، وحدّ العنفوان، ينقل لنا صورتها النّديّة التي علقت في كل من لامست أطرافه هذا الـ"معجم". تُؤرقنا صور الغِياب، والعِناق، واللّهفة، والانتظار، والمشاعر المُؤطرة، في سماء كل مشهد يسوقنا إليه، فيجمعها تحت هذه الظلال النّوريّة الّتي يتشبث بها بدون فراق يديها.
توظيف السرياليّة
- مَضْمون الحُلم في بَعْض القَصائِد
التَّجربة الشعريّة عند الشاعر الرّيشة تُعبِّر عن القُدرة الفائقة في الانتقال من مرحلة إلى أُخرى، حيث إن الدَّلالة تكون فوق المعنى مستخدمًا طريقة الحُلم. "يرتفع الشّاعر بأَحلامه من البؤرة المركزيَّة للنص إلى لغة الحُلم والذّاكرة".
كَأَنَّكِ طِفْلَةٌ تَعِدِّينَ بَاقِي المَسَافَةِ..
كَأَنِّي طِفْلٌ أُعِدُّكِ شَهْدًا لِشَفَا شَفَتَي..
كَأَنَّا طِفْلَانِ كَبِيرَانِ يَهْبِطَانِ الْعُمْرَ إِلَى
أَوَّلِهِ.
بصورٍ مُتعددة يَعودُ بنا الشاعر إلى أَدراجه الأُولى؛ إِلى المحطات الّتي تعيده إلى جمَاليّة الرّوح والجَسد، إلى الشَّهد الأَول، إلى العُمر الأَجمل، إلى الإِحساس الأَروع، إلى طفولة حلّت عليهما، وأعادت جمال اللقاء الأول.
كَمْ تَمَنَّيْتُ لَوْ أَكْسِرُ سَاعَةَ الرَّمْلِ؛
تِلْكَ الَّتِي أَغَاظَتْ لَحْظِيَ بِسَرِقَتِهِ/
وَأَنَا جِدُّ جَعَلْتُهُ نَحْوَكِ
دَائِمًا.
أَتراه يقف إن كسرته في الوقت الّذي لا سيطرة لنا عليه؟ فعلًا لو أننا نُوقفه ليقف هذا الفرح طويلًا كي لا يغادرنا، ويلتصق بنا. تراها شظايا ساعة الرَّمل قادرة أن تعيده إلى أَمجاده الأُولى للحظته المرتقبة المنسيَّة التي ادخرها لها؟
... وَحِينَ وَحْدِي أَخِيرًا فِي نُزُلِ الْفَرَاغِ؛
تَذَكَّرَتُ ذَاكَ الْحَنِينَ الَّذِي غَادَرَنِي كَحُلُمٍ/
آنَهَا - شَهَقْتُ بِتَفَحُّمٍ:
آآآآ...
تُفجعه بالفراغ الّذي سكنه بدونها، بتجاوز ومرور شريط ذكريات الحنين الّذي غادره. ترى مَن يرجع له صدارة أحلامه وعلوها؟ يجعل القارئ شهيد اللّحظة متنهدًا متأَوهًا بهذه الشَّقهات التي ينتظر خروجها بحلم يتزين دروبه بخطى من الحنين، والشوق، ورجوع الأيام الأُولى. بكل حرف ينقطه يريد لهذا التأثير والتعبير أن يصل القارئ بكافة انفعالاته.
ثَمَّةَ أَمْطَارٌ كَانَتْ
تُمَارِسُ احْتِلَامَهَا خَارِجَ النَّافِذَةِ،
وَأَنَا أَتَرَاذَذُ دَاخِلَ مَكْنُونِكِ
بَيَاضَ نَبِيذٍ.
بلغة أشبه بالحُلم نرى معاناة هذا الشّاعر؛ الإيحاء، والحسيّة، وصورة الانصهار الدائمة في المشاهد.
بِاسْتِقَامَةِ سَيْرِنَا المُبْهَمِ نَحْوَنَا؛
اِفْتَضَحَ الْحُلُمُ عَنْ غَبَشٍ ضَئِيلٍ..
وَبِفُجْأَةٍ مُوَارَبَةٍ،
وَلُجْأَةٍ خَفِيضَةٍ
مِلْنَا
مَيْلَةً
عَالِيَةً.
يُسْقط الشّاعر طريقة الحُلم في شكل القصيدة، فيلجأ إليها بميلٍ حين أصاب حُلمه غبش (سيرنا المُبهم نحونا، فجأة مواربة، لجأة خفيضة، ميلة عالية)؛ نشعر بتناقض يشغل مساحات الـ"مُعجم"، كأن دلالة المعنى مُغيَّبة.
في مقابلة مع الشاعر الرّيشة بعنوان: "الخسارات استمرأت روحنا.. نحن لا نريد الآخر نائبًا"، أوقفني ما ردَّ به الشّاعر قائلًا: "الشّاعر نفسه قد تعتريه صَدمة مرعشة لذيذة للدَّهْشة بعد أن يتحول إلى قارئ خلَّاق لنصّه".
- فَوْضَوِيَّة اللّغة من خلال تَزاحُمِ المشاهد
مَعًا نَنْحَنِي
نَحْوَ
مَهْبِطِ الْغَيْبُوبَةِ
كَيْ يَنْتَصِبَ فِينَا الدُّوَارُ
يَقْبَع الخَيال في شِعْريَّة الرّيشة، فَهُوَ يُصَور لنا التَّلاحم الّذي اجتمع فيه مع أُنثاه، وكأنَّهُ في حالةٍ لا أمَلَ ولا رَجاءَ مِنها. تظلُّ هذه الحالة مُلازِمة لهما؛ قَدْ لا يَكون شِفاءٌ لها إذ إنه يَرْفُضُ الإفاقَة مِنْها، بل يريد لهذه الوَضْعِيَّة الاستمراريَّة، وأنْ تَبْقَى دائريِّة لا تقف في أَية زاويةٍ، فَكُلُّ شَيٍء حَوْلَه يَجْري دونَ وَعيٍ، كأنَّه تصريحُ إصرارٍ منه عَلَى بَقائها، وكأَنها تُشْبِهُ حـاَلة الهَذيان الَّتي تُصيبُ عاشِقًا أَغْرَقَه الشَّـوق، فَيَرْفُضُ الخُـروج لحَياةٍ لا يَرْضاها.
إنَّ الفَوضَوِية والغُموض ناشِئة عَن عدَّة التواءات واضطرابات، حيث نعجز عن الإمساك بجملةٍ واطّرادها في حدود المعقول، فأحيانًا نشعر أن المعنى قد استغلق علينا، ونحتاج إِلى من يُفَسِّر، وَيَشْرَح، وَيُزيح اللثام عن المجهول.
في المقطع "ثباتٌ"، يحضر مشهد التَّعلق دون مسافة فارغة بينها وبينه، فهي كقرط القمر المتدلي، والعالق في روحه متأرجحًا. ترفٌ بالمشاعر، والثنائيّة حاضرة في كل حرف يسطره. المشاهد الرومانسيَّة في الـ"معجم" متتابعة كأنك في مُعترك من المعاناة، والحُلم، والعشق، والسكينة، إذ تحتاج تحليلًا نفسيًّا للوعة التي تسحق لعته وعنفوانها.
يَاااااااااه..
كَيْفَ ابْتَلَعَ كَمَّ مَسَامِيرِ فِتْنَتِهَا
وَلَمْ يَزَلْ
شَجَرَةَ غِنَاءٍ
لَمْ تَتَمَعْدَنْ بَعْدُ
وَلَنْ...
أتكون فتنة جمالها، أم فتنة لغة أتقن تعبيرها ونسجها للانجراف نحوها؟
أَرْغَبُ، اللَّيْلَةَ، أَنْ أَخُونَكِ..
نَعَمْ.. هكَذَا؛
نَافِرًا مِثْلَ شَقْاوَةِ بُرْكَانٍ
فَوْقَ
فِرَاشِ
مُخَيَّلَتِي
مَعَكِ.
هذه القوة التي تأتيه لخيانته معها تصيبنا بنوعٍ من الارتعاش؟ لغةٌ بمعايير فوضويَّة تَسوقُنا إِلى عالمها الَّذي اهتَدى إليه. كَيْفَ تَكون خيانَتُه معها؟
بأقصى درجات الرغبة والعشق من التعبير يحيل إلينا شقاوته المتفجرة في مخيّلته. هذه الفوضويَّة تتشابك مع مخيّلة الشّاعر كانزياح عن عالمه، ليَنفُرَ ويَفرَّ بعيدًا؛ إلى مناطق لا حدود لها.
تَسْتَلْقِي، مُرْغَمًا، عَلَى ذُهُولِكَ فِي حَدِيقَةِ الْإِثْمِ..
هكَذَا تُتِيحُكَ لِثِمَارِهَا
/ الْتَشْتَهِيكَ /
وَلَا تُبِيحُكَ حَتَّى لِخَرِيفِهَا.
في قصيدته "سأمٌ"، نلحظ فوضويَّةً لغويَّة مُرتَبِكة يَرتكبها الشّاعر (حديقة الإثم، تبيحك لثمارها، تشتهيك...). الإباحة، والاشتهاء، والإثم. تُرى ما الّذي يجعله مُنصاعًا بكامل دَهْشته لِعَلق ثمار إثم الحديقة سِواها؟ أتَكون هي هذه الحَديقة الّتي لا تَرضخ دائمًا لأَحلامه فلا تأتيه كاملة بشهوة أقبل عليها، أم تراها الحياة التي لم يظفر منها بما اشتهى؟
توظيف الرومانسيّة
- الموسيقى وتأثيرها على إضفاء الرومانسيّة
هِيَ قِيثَارَةٌ بِتَوَاحُدِ وَتَرٍ..
أَعْزِفُهُ
ضَائِعَ
الْبَحْثِ
عَنْهُ.
يَعودُ بِنا الشاعر الرّيشة إلى امتثال الجَسَديْنِ بِجَسَدٍ واحد، كاتِّحاد صَوْت الوَتر وإيقاعِه مَعْ هذِهِ الآلَةِ لِتَخْرُجَ عَلَى مَسامعنا بأعْذَب أَلحانٍ. القيثارة بدونَ أَوْتارٍ لا وُجودَ لها، ولا مَكانَ يَزُفُّها. أُنثى الشّاعر هي هذِهِ القيثارة، لا يَذوقُ حَلاوَة الأَلحان إلا إذا عزفها. الشّاعر لا يَرْتَعِشُ إلا إذا كانت هذه الأُنثى له، كَوَتَرٍ خاصٍّ لا يَليقُ إلا بِهِ. يَدْخُل في مَتاهَةٍ مِن الضَّياع والشَّتات بِبَحْثِهِ عَنْ هذا الوَتر. ضَياعٌ بِسَبَبِ فَقْدِ هذا الوَتَر الّذي يَجْعَلُ بَيْنَ السَّطر والآخر، والكَلمة والأُخرى، مَسافةً، كأَن بين كُلِّ حَرْف مِن كَلِمَة الضَّياع والبَحث مَـسافَةٌ كَبيرة.
أَيَّةُ مُوسِيقَى سَائِلَةٍ الْآنَ
تَتَخَارَقُ إِنَاءَيْنَا
تَتَشَاسَعُ دَائِخَةَ تَجَلٍّ
كَسَكْرَانِ وَابِلِ تُفَّاحَةٍ لَا تَكُفُّ
كَأَنَّهَا صَبَاحُ نُعَاسٍ
أَوْ
لَيْلَةٌ هَشَّةُ سُدُولٍ
هُنَا
نُقَارِبُنَا إِلَيْنَا بَعْدَ نِصْفِ تَقْشِيرٍ
وَنَعْتَصِرُنَا
قَطْرَةً كَامِلَةً
تَحْضُرُ الموسيقى لِتَخْتَرِقَ عَوالِمَ الـ"مُعجم" بسينمائِيّتِهِ التَّشْكيليَّة، وَباستخدام لُغَةٍ شاعريَّة، تَغْدِقُ عِشْقًا وَتَوَحُّدًا بَيْنَ الجَسَدَيْنِ تَعْبيرًا عن الكَبْتِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، إذ تُعَبِّرُ عَنْ جوعٍ، وتَمازُج، وَحالةٍ مِنْ التَّوَهُج والانصهار.
لَكِ شَكْلُ المُوسِيقَى؛
يَصَّاعَدُ مِنْ حَسْرِ يَدَيَّ/
وَمِنْ خَلْفِي؛
أَوْتَارُ أَصَابِعِكِ النَّجْلَاءُ
تَسُوطُ:
كَمَانْ.
بِمَفْهومٍ مُختلف جَماليٍّ لِلُّغة، تَغدو الموسيقى رسمًا بِتَوَجُّهٍ آخر في صَفَحات الـ"معجم"، تَحديدًا في قَصيدة "كَمان"، نَشْعر بازدِواجِيَّة في المفاهيم اللُّغَوِيَّة؛ الكَمان وتَوْظيفه كآلةٍ موسيقيَّة، وكَمان في المقابل بِمَعْنَى مَرّاتٍ أُخرى، وكَأَنَّه الصَّوت الخارِجُ مِنْ الشّاعِر.
حينَ حَدَّثَني الشّاعر عَن قَصيدَةِ "كَمان"، وقد أَصَرَّ عَلَى أَنَّ القارِئ يَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ الكلمات بإحساسٍ أًكبر. الحسّ عند الشاعر الرّيشة يَخْتَرِقُ حُدودَ الكَلمات والطّاقة. القَصيدة بالمفهوم العام تُعَبِّر عن حالةٍ من الشهوة. الكَلمات هِيَ سِلْسِلة مُتَتابِعَة من الإيحاءات (أتذوق فجعًا ملمسك الثر، منفرج فجرك ذو الساقين الخيليّة...).
أنهى الشاعر الرّيشة في حَديثِهِ أنَّ القَصيدة مَعْ ما تَحْمل مِنْ كَلماتٍ إيحائيَّة لا يَعْتَبِرها إلا نوعًا مِنْ التَّصوير الحسِّي، وعارَضَ كُل مَن اعتبر الـ"معجم" جِنسيًّا، بَل هُوَ حسِّي في كُل مَشاهده، واعتبر قَصيدة "كَمان" نوعًا من التَّمازج والحُلول.
قَصيدَة "كَمان" تَعْتمد على البِناء النَّفسيّ، وَتأتيك بِلُغَةٍ إنسانيَّة.
الصورة الموسيقيَّة في القَصيدة تَعْمَل على تكوين إيقاعات مُعتمدة على التَّجاوب والانسجام. تَكْمن أهمية الموسيقى بنشر تأثيرات عاطفيَّة ناشئة عن التَّجربة الشعريَّة، فتعمل على زيادة الحيويَّة، وبثّ شحنات انفعاليَّة.
- اللغة المؤنّثة وصورتها في تشكيل صورٍ رومانسيّة-حسيّة
كُلَّمَا..
وَقَعَ الصَّمْتُ حَوْلِي
كُلَّمَا..
تَحَسَّسَتْ أُذُنِي وَقْعَ خُطُوَاتِكِ الْقَادِمَةِ.
يَأخُذُ الشّاعر بِيَدِنا إلى عالم السُّكون الّذي يَعْتَري المَكان؛ بِحُلول الصَّمت والسَّكينة. الصَّمت يُدْخِل الشّاعر إلى واقع الانتظار الّذي يعيشه، فعندما يهدأُ المكان، يُهيأ للشاعر الغَوص في مُخَيَّلَتِه، فَيَسْرَح، وَيُخَيَّل إليه كأن صوتًا داخِلَهُ يُصارِحهُ بِقُدوم أنثاه الّتي يَتَرَقَّب نَبْضَ خُطواتها المنتظرة. للصّمت والهُدوء إشارة إلَى الدُّخول في أجْواء رومانسيّة هادِئَة بَعيدَة عَنْ صَخَبِ الحياة وَضَوْضائِها، فتأتيه الرّاحةُ المنشودة.
كُلُّ ذَاكَ الْحَنِينِ الَّذِي اجْتَاحَنِي؛
مِثْلَ مَوْجَةِ فُتُونٍ تِلْوَ أُخْرَى/
لَمْ يُشْبِعْ ذُهُولَ صَدْرِي
بِعِنَاقِكِ.
أَعْلَى دَرَجات الشَّوق تُزَيِّنُ أَدراج العاشق عِنْدَ انسجام وتناغم الحنين مع اللقاء الّذي يُضْفي رَونقًا آخر، بِحُضور أُنثاه الّذي لا يَكْتفي بِعِناقها، وَكَأن التَّوافق الجَسدي عِنْدَ لحظة العِناق لَيْسَ حَلًّا لأَمواج الاشْتِياق الّتي تأسره.
كَمْ كُنْتِ عَلَى صَوَابِ الْقَلْبِ
حِينَ خَطَّأْتِ سَاعَةَ الشُّرْفَةِ الْعَاشِرَةِ
سَبَقْتِ عِنَاقَ عَقَارِبِهَا لِعِنَاقِنَا
بِسَاعَةِ رُوحِكِ الرَّشِيقَةِ
مِثْلَ أَيْلٍ
يَ تَ وَ اثَ بُ
فَوْقَ
طَمْيِ انْتِظَارِي
دُونَ
أَنْ يَتْرُكَ أَثَرًا.
يُؤكد الشّـاعر عَلَى أنَّهُ مُحِقٌّ كُل الحقذش في صِـدْقِ ما يَحمله مِن مَـشاعر جامِحة وَمُنْدَفِعة في قلَبه، كَأَنَّه أَشَدُّ دِقَّة وانْسِيابيَّة مِن هذا الوَقْت المعلق؛ فَقَبْلَ أنْ يَدُقَّ جرس العاشرة، سَبَقَ التقاء العَـقارب عِـناق الشّـاعر مَع محبوبته، كأن التِقاء الصِّفْرِ مَعْ الواحد لَمْ يَكن بِحجم القُوّة واللهفة الّتي كانت بَيْنَه ومَعْشوقته، فَكَأَنَّ الوقت عَدَمٌ. جمال الشّوق يَتَجَلَّى في الرّوح الَّتي تَسْكن أُنثى الشّاعر الّتي تَنْساب نَحوَ عَشيقها، بِـسُرْعَةِ هذا الأَيل الّذي يَنْقَض وَيَتَواثَبُ فَوْقَ هذا الانتظار، كـأَنَّ لِكَلِمَة "يَتَواثب" دَلالة حِسِّية نَشْعُرها حين يخيَّل إلينا هذا المـشهد، وكأن هذا الوثوب، مع سرعته التي سبقت عقارب الساعة، نحسُّه رشيقًا كَحُروفٍ تَدَلَّت، وتَبَعَثَرَت، فتجمَّعت، واتّقدت شَـوقًا. هذا الشَّوق العارِم يُشبه مَوْجةً من السَّيل، كان مصيره الجَّفاف لَوْ أَنَّ هذا الالتقاء لم يحـدث.
الحياة وتأنيثها بصورة امرأة يلاحقها
لَكِ، الْآنَ، أَنْ تُعِيدِي
تَرْتِيبَ فُسْحَةِ فُصُولِي؛
شِتَائِي اشْتِهَاءً
خَرِيفِي خَفِيفًا
رَبِيعِي رُجُوعًا
صَيْفِي انْصِرَافًا
لكِنْ..
إِلَى خَفِيضِ
فَصْلِ
وَصْلِكِ
الطَّوِيلِ.
الحَياة والقَصيدة والأُنثى واللّغة هي الصّورة المؤنثة الحاضِرَة في كُل مَشْهدٍ نَتبَعَهُ، فَكَيْفَ لا تَكون الحياة بِفصولها الأَربعة وأَزْمِنتها كُلُّها مُسَلّمة لَها، وَرَهينة بَيْن يَدَيْها؟! فهي الّتي ِتُعيد وَصْل البَعْثَرة َلتَأتيه حَياة كامِلَة طَويلة بِرَبيعٍ مُتَجدد وَشتاءٍ يُقْبِلُ بِشَهْوَة وَدِفٍء، وَخَريفٍ يَدبّ هَمِسًا خَفيفًا، كَأَنَّها الاستمراريَّة المتجددة التي تُتْحفنا بِقدوم كُل شيء جديد كَتَميُّزِ كل فصلٍ عن الآخر.
لَا أُرِيدُكِ أَنْ تَأْتِيَ
بِرَمَادِي..
لَا أُرِيدُكِ أَنْ تَذْهَبِي
بِبَيَاضِي..
كَيْفَ لَكِ حَرَكَةُ خُطْوَةٍ
وَاحِدَةٍ
وَأَنْتِ
فِيَّ؟
زوال هذا الرّماد وتجاهله قوة دالة على حضور هذا البياض، كأن هذا الرّماد سرعان ما ينجلي ويغيب. يريدها أن تبقى بهذا البياض جَسدًا له يَحْكُمه وَحده كَسُلْطَةٍ كاملة أَسَرَتْهُ وعاشت فيه أَينما خَطَت وَتَحَرّكَت. البَقاء صُورة مَرْجُوة لَدى الشّاعر لأَنَّ غيابها يُشعِل فَوضى مُتَزاحمة مَعه ومع لغته، فَيُحَلِّق في دُنيا لا يَعي حَجْمَها.
لَمْ أَتَمَاسَكْ
حِينَ كَأَنَّكِ شَجَرَةُ خَوْخٍ
بَعْدَ بَيَاضِ أَزْهَارِهَا..
كَيْفَ لِقَطِيعِ جُوعِي
أَنْ يَنْتَظِرَ اغْتِسَالَ ثَمَرِكِ وَقَدْ
دَنَا
فَتَدَلَّى؟
كفاكهة شهية ينتظر ربيعها ليظفر بها فيشبع. رغبة، وتوق، وحالة جوع تفاقمت حالتها مع الشّاعر.
"وقد دنا فتدلى"، تعيدنا إلى الآية الكريمة: "ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى" (سورة النجم، الآية8)، حين كان يأتي سيدنا جبريل (عليه السلام) إلى النبيِّ محمَّد (صلى الله عليه وسلم) بآية أو سورة.
لا يريدها صورة متخيلة تعب من استحضارها وانتظارها، بل يريدها صورة كاملة.
سَأَصْطَادُ سِرْبَ خَيَالَاتِكَ
بِخَدْشَةٍ طَائِشَةٍ
أُضَفِّرُهَا بِدُوَارِ الْعَاطِفَةِ
أَعْجِنُهَا بِمَحْلُولِ الْحَنِينِ
وَأَدَعُ رُؤُوسَ أَصَابِعِ الانْتِظَارِ
تَنْقُرُ
صَهْوَةَ الْوَقْتِ ثَانِيَةً:
أَمَا آلَ لِي؟
لأنها آماله الّتي آنَ لها الوُلوج إِلى عالمه لتُعيده إليه، وَيَنسى هذا الوقت الّذي أثقله الانتظار. يريدها بكامل أُنوثتها، وكبريائها، ورقّتها، الّتي سَطَّر لها كامل جسده وعشقه. هذه الغائبة التي لا يراها إلّا في سراب خياله، ستشغله طويلًا حتى يَصلها بِوَصْلِهِ حَقيقةً، فلا سَراب يتوّهم أحلامه.
النَّتائِج
هِيَ تَجَلِّيات إبداعيًّة سرياليَّة كانت أَم رومانسيَّة تَعْبِقُ بِدافِعِ الهائِج العاشِق المتمرد بِريشَتِه مُوَقّعة بأَقْصَى دَرَجات الإعجاب لِنَظم "مُعْجَمٍ" بِرَغْبَةٍ أَكبر للالتقاء بِلُغَتِه أَولًا، وَمِنْ ثُمَّ أُنْثاه، لِيَخْرُجَ بِمشاهد تَدْفق وَتَفيضُ شاعِريَّةً فاتِنَة.
هِيَ "فِتْنَةٌ في اللُّغة" كَما وَصَفَها مَنْ قَرَأ الـ"مُعجم" بِلَذةٍ عالية، وَشَهْوَةٍ أَكْبَر، بِتمازجٍ بَيْنَ عَوالم لا نَعيها، فَقط نحسُّها، فنَرْتَعِشُ عِنْدَ قِراءَتنا لها.
هذه المعجميَّة لم تقتصر على وجود الأشياء الحسيَّة وَحَسْب، فاللّغة أحيانًا نحسها إيحائية لأبعد حدٍّ، كتوليفة من عدّة مواضيع أحسَّها، فأَخْرَجَها بِقالب الإعجاب.
حَدَّثَني الشاعر الرّيشة: لو أَنَّهُ يَجِدها فيَلتقيها، أَو يُصادفها. هو دائمًا يَكْتُبها، وَيُصوّر وِجْهَةَ نَظَرِهِ في العِشق، والّتي هِي هَواجِس مِن تَأَثُرات الماضي الّذي عايَشَها مِنْ بَعيدٍ.
الفَشَلُ يَجُرُّنا إِلى أشياء كَثيرةٍ. فَشلنا في علاقتنا مَعْ مَن نَعْشَق وَنُحِب تُوَلِّدُ إبداعًا بِصَفَحاتٍ مُعْجمية. نَحْنُ لا نَفْهَمُ عِطْرَ الوُرد، ولا نُدْرِك الرَّقص، فَقط نَحِّسّه كَما العشق.
في قصيدته "كتابٌ"، لفتَتني هاتان المقطوعتان فيها:
لَمْ أَكُنْ لِأَبْدَأَهُ كِتَابًا،
أَوْ أُعِيدَ تَهْجِئَتَهُ..
هُوَ فِي مَتْنِهِ مَتْنِي.
*
مَلِيئَةً بِفَارِغِ وُجُودِي
كَانَتْ سُطُورُهُ..
يُرَطِّبُ إِبْهَامِيَ فَأَقْلِبُهُ.
حينَ نَهمّ بالكِتابة يَسْبقنا إليها شَغفنا الأَول، إحساسنا بِفراغٍ، وَفقدٍ، وألم، واحتراق، وَضياعٍ يَنزف. نَحن لا نُحدّد اللّغة الّتي نُريدها، ولا نَتَقمصها، بل تَتَقَمصنا أولًا، تَعيش داخلنا، فَنَخْتَزلها دَمْعًا يُؤرقنا على صَفَحاتٍ بإحساسٍ نَتَعَمَّد أنْ يَصل لِكل مَن يَقرأ.
مَنْ يَعْشق لُغته يُصبح هُو الفَحوى والمعنى، فَيَتَلاحم مع اللّغة والمكان والصور أولًا، ومن ثم يتفاعل مع من يكتبه. اللّغة هي الطريق الّذي تَعِبت منه أمانينا الحُبلى بالألم.
مَن منا لا يحب شهرة يكتسح بها أجراس هذا العالم، لتدقه خبرًا متداولًا؟ ترى ما الّذي يدفعه إلى عدم الميل إلى الشّهرة؟ أتراه تعثّر بحظّ لم يكتب له شهرة واسعة أم أنه فعلًا- كما قال- يريد لأعماله أن تكون إرثًا أَدبيًّا من بعده؟!
* * *
قائمة المصادر والمراجع
المصادر:
- الريشة، محمد حلمي: معجمٌ بكِ، ط1، دار الزاهرة للنشر والتوزيع وبيت الشعر الفلسطيني، رام الله، 2007.
- الريشة، محمد حلمي: مرايا الصهيل الأزرق- رؤية. قراءات. حوارات. ط1. بيت الشعر، رام الله، 2010.
المراجـع:
- تامر، فاضل: مجلة الكوفة. ع2، العراق، دار التنوير، 2013.
- حجازي، محمود: ظاهرة الغموض في الشعر الحديث. الإسكندرية، دار الوفا للطباعة والنشر، 2001.
- حمود، محمد: الحداثة في الشعر العربي المعاصر. ط1، بيروت، دار الكتاب اللبنانية، 1986.
- الحميري، عبد الواسع: الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية. ط1. بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1991.
- خليل، إبراهيم: مدخل لدراسة الشعر العربي الحديث. ط1. عمان، دار الميسرة، 2003.
- الخمشيلي، حورية: الشعر المنثور والتحديث الشعري. ط1. بيروت، الدار العربية للعلوم، 2010.
- الدوخي، حمد: المونتاج الشعري في القصيدة العربية المعاصرة- دراسة في أثر مفردات اللسان السينمائي في القول العشري. دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2009.
- زايد، علي: عن بناء القصيدة العربية الحديثة. ط4، القاهرة، كلية دار العلوم، 2002.
- س، موريه: أثر التيارات الفكرية والشعرية الغربية في الشعر العربي الحديث 1800-1970. ط2، حيفا، مكتبة كل شيء، 2004.
- السعدني، مصطفى: البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث. القاهرة، منشأة المعارف بالإسكندرية. د. ت.
- شاهين، أحمد: موسوعة كتاب فلسطين في القرن العشرين. ج2، ط2، غزة، منشورات المركز القومي للدراسات والتوثيق.
- الصفراني، محمد: التَّشكيل البصري في الشعر العربي الحديث. ط1، الرياض، النادي الأدبي والمركز الثقافي العربي، 2008.
- ضرغام، عادل: في تحليل النص الشعري. ط1، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2009.
- عبد التواب، صلاح: مدارس الشعر العربي الحديث. ط1. القاهرة، دار الكتاب الحديث، 2005.
- العجيلي، كمال: البنى الأسلوبية دراسة في الشعر العربي الحديث. بيروت، دار الكتب العلمية، 1971.
- قبش، أحمد: تاريخ الشعر العربي الحديث. بيروت، دار الجليل، د. ت.
- محبك، أحمد: قصيدة النثر. دمشق، اتحاد الكتاب العرب، د. ت.
-المنصوري، علي: النقد الأدبي الحديث. ط1، عمان، دار عمار، 2000.
- هلال، عبد: قصيدة النًّثر العربية بين سلطة الذاكرة وشعرية المساءلة دراسة في جماليات الإيقاع. ط1، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 20121.
- الورقي، السعيد: لغة الشعر العربي الحديث- مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية. القاهرة، دار المعرفة الجامعية، 1997.
- وسمي، ضمد: أسرار المواهب. د.م، منتديات ليل الغربة، د. ت.
- موقع الكتروني مقابلة مع الشّاعر:
http://www.felixnews.com/news-9063.html