يرى الناقد المصري أن قراءة هذه الرواية ليست باليسيرة، حيث تتطلب اليقظة من القارئ علي مدار القراءة. فقد أطاح الروائي بالزمان والمكان، وتأرجح بين الفصيح والعامي، وتماهي عنده الخاص في العام، والشخصي والإنساني مما خلق حيوية الحركة، التي من شأنها أن تمسك بالقارئ حتي النهاية.

التاريخ المصري في «ممرات الفتنة»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

منذ أن أصدر مصطفي البلكي روايته البديعة "سيرة الناطوري"[1] في العام 2014، وأنا اترقب البلكي عبر إصداراته التالية "نفيسة البيضة" ، "قارئة الأرواح"، "جلنارة حمراء" إلي أن عثرت عليه في فتنته الجديدة "ممرات الفتنة"[2]، ليثبت بها أن الإصرار والتأني، لابد ينتجان عملا يستحق الالتفات، والتحية.

إلا ان القارئ الذي يغامر بالدخول إلي تلك الممرات، لن يكون مروره سهلا، إذ عليه أن يتسلح بالكثير من الإضاءة الكاشفة، وإعادة المرور داخل الممرات أكثر من مرة، حيث أطاح البلكي بالزمان والمكان، وتأرجح بين الفصيح والعامي، وتماهي عنده الخاص في العام، والشخصي والإنساني، وكأنه يعود بالتكنيك الروائي إلي مرحلة التيه التي اجتاحت الرواية العربية عموما، والمصرية خصوصا، فيما بعد نكسة يونيو 67، وسوف يزول العجب إن أدركنا أننا بالفعل أمام ذات الفترة، يعود إليها البلكي ليجسد النكسة في النفس البشرية، مستمدا جذورها فيما قبلها، ومتخطيا ما بعدها، ليصنع ما صنعه الكثيرون ممن تناولوا النكسة، متخطين مباشرة إلي الانفتاح الساداتي، أو معاهدة السلام الساداتية أيضا، وكأن حربا بحجم ما حدث في أكتوبر 73 لم تحدث، ولم يكن لها أي آثار علي الإنسان المصري، وهو ما تناولناه تفصيلا في كتابنا "الرواية في أكتوبر 73[3]. إلا ان نجاح الكاتب في صياغة رواية محكمة الإتقان، كان للشكل الذي إختاره دور في إيصال الرؤية، وليلعب دورا رئيسا فيها، يدعونا للتغاضي عن ذلك التجاهل، الذي أعتقد أنه متعمد، لرؤية خاصة لديه. وإن كنت أري أن (لاشعور العقل) إن جاز هذا التعبير، هو الذي يتغلب في بعض الأحيان، وهو ما أثبتته التجربة في كتابة كُتَابٍ كانت لهم أيدولوجيتهم المعروفة، وجاءت إبداعاتهم تخالف تلك الأيديولوجية الظاهرة، ومنهم –علي سبيل المثال، الراحل خيري عبد الجواد، في قصته البديعة "العشة". وأتصور أن هذا ما يمكن قراءته في ممرات البلكي، علي نحو ما سنري.

تبدأ "ممرات الفتنة" بالفقرة المفتاح، والتي تحدد لنا أحد ممرات الوصول إلي مرمي الرواية، حيث تبدأ بصورة "غصوب" علي سرير المرض، الذي وصل لحد فقدان الأمل في شفائه :

{ يجلس الآن علي السرير، نظراته تمر علي جدران وزعت عليها عدة صور متجاورة. واحدة لجده بجوار صورة عبد الناصر، وواحدة للحناوي والده بجوار صورة السادات، والأخري تخصه تجاورها صورة صابر، كل صورة شُدت إلي مسمار، وتُركت للأيام، ولفضلات الذباب وللغبار، ساهموا معا في طمس ملامح الوجوه، ما زال هذا الجوار يحمل رمزيته، لكن ما يحيره: لماذا الإصرار المتعمد منه لمحو التفاصيل؟ وجعلها مغيبة تحت كم هائل من الأتربة؟}

حيث تحدد الرواية من البداية، ذلك التجاور(التاريخي) بين الماضي والحاضر- نسبيا- المتمثل في الجد (المجاور لعبد الناصر) والأب (المجاور للسادات) وكأنهما ، الجد والأب، هما الآباء المؤسسين لدولة العائلة، بينما صورته هو "غصوب" أو الأخ الأكبر، بجوار صورة أخيه "صابر" الأخ الأصغر، وكأنهما الامتداد الطبيعي، أو النتاج الذي غرسه الآباء المؤسسون. وإن كان الكاتب قد غطي الصور بمظاهر القدم والإهمال من فضلات الذباب والغبار، ما طمس معالم الصور، ليضعنا الكاتب أمام سؤال يذهب بنا بعيدا عن سؤاله المباشر الذ صاغه { لكن ما يحيره: لماذا الإصرار المتعمد منه لمحو التفاصيل؟ وجعلها مغيبة تحت كم هائل من الأتربة؟}. وهو: ما أهمية هذا التجاور في تطورات الرواية فيما بعد،بينما انحصر الفعل بين الآباء المؤسسين، ونتاج أفعالهم؟ حيث الإجابة تتطلب منا استعراض الرواية بكاملها، متلبسين بروح إيزيس التي جابت البلاد بطولها لتجمع أشلاء أوزوريس. بينما إجابة سؤاله المباشر عن حيرته، يتمثل بأن الكاتب يكشف عن أحد عناصر الرواية القائمة علي التداخل والتماهي بين مراحل التاريخ، مزيحا عنها أتربة النسيان، وبقايا الأغراض الذاتية، و كاشفا عنها بجملته الكاشفة { ما زال هذا الجوار يحمل رمزيته}. فضلا عن محاولة الرواية إزالة تلك الأتربة وكشف وجه حقيقة الوجوه. وليعود بنا عند مشارف نهاية الرواية ليبث لنا جملة تكاد تكون عابرة، إلا انها كاشفة أيضا – كما درج خلال الرواية علي نحو ما سنري – حيث يعلق "صابر" بعد زيارته لبيت "ثورة" معشوقته، وفي مقارنة بين بيتها وبيت العائلة ، مسرح الأحداث: :{ فبيت "ثورة" يخلو تماما من صور الرجال, أما بيتهم فهو يحتفي بالأموات بطريقة مذهلة, كأنهم وحدهم هم الأحياء!}. إذ تتكشف الرؤية حين ينفتح بيت "الحناوي" ويتسع ليشمل الوطن كله، الذي ذهب من حكموه للقاء ربهم، في الوقت الذي لا يزال الأبناء والأحفاء يستحضرونهم، ويستحضرون أفعالهم التي يعتبرونها دستورهم ، لم يزل.

كما يوضح – دون أن يصرح – انتقال ما في الآباء للأبناء، حينما يموت "الحناوي" الأب، ويختفي الأبناء، ليكشف عن وجودهما، وقد احتويا، أو في حراسة موروث الأب : { وبحثت بعينيها عن غصوب وصابر, وحينما لم تجدهما, صرخت, فطن بعض أهلها, فخرج أحدهم, لم يبحث كثيرًا, وجد صغيرها يلبد في حضن غصوب, ومخلاة والدهما المودعة فيها بضاعته بجوارهما}. فضلا عن تكرار تأثير الأب علي ابنته، مثل تأثير الأب علي سلوك "ثورة"، أو الشبه الكبير بين "رقية" وأمها في كل شئ. خاصة أن البلكي يهتم كثيرا بمثل هذه العلاقات المتراتبة، وتأثيرها، مثلما كان الجد "الناطوري" في روايته "سيرة الناطور" هو الغائب الحاضر، غيبه الموت، غير أن تاثيره لازال يسيطر علي تصرفات الأحياء. فهنا أيضا، مات الحناوي، غير أن تأثيره علي ابنيه حاضرا وقويا، وفاعلا. ومن هنا، نستطيع القول بأن الشخصيات الرئيسية و الفاعلة في الرواية، هي "غصوب" و "صابر" و"رقية" وهي الشخصيات التي تقع تحت تأثير الجد "طايع" والأب "الحناوي" ممثلين لكل من عبد الناصر والسادات، لنتعرف علي حقبة فوارة، وفاعلة في تاريخ مصر.

علي الرغم من أن شخصية أخري، احتلت مساحة كبيرة في الرواية، وكان لها حضور قوي في حياة "صابر" غير أننا لم نعتبرها شخصية حقيقية، تلك هي شخصية "ثورة". حيث يتوحد "صابر" في شخصية "ثورة" التي تدفعه لقبول عرض أخيه "غصوب" بعد أن اصبحت قادرة علي كشف أغوار نفسه، أن يقبل العرض لأنه - كما تؤكد حقيقته- يحب المغامرة، ورغم العلاقة المتفردة التي أصبحت تجمع بينهما – رغم ما مر عليها من رجال – حتي تسأله – وهي عارية لتتجلي له كجسد – ماذا تراني الآن فيجيبها بأنه يراها نور. فيسألها بدوره عن رؤيتها له فتجيبه {في كل مرة تأخدني لبعيد, وأشوفك جواى كأنك أنا}. وكأنهما قد توحدا علي طريق الصوفية، لتتماهي العلاقة بينهما، وتتسامي، رغم حسيتها، لعلاقة روحية. ولتتوقف شخصية "ثورة" عند حدود الرمز، رغم وجودها الحسي البحت في الرواية، ليبرز جانب هام من قدرة الكاتب علي التصوير، وعلي الخداع الروائي الجميل.

جناية الآباء

الجد "طايع"، الإسم "طايع" والعمل طايع. ذلك كان عليه عند الفيضان، أن يقف علي الحد الفاصل بين الماء واليابسة، لمنع الأطفال والدواب من الدخول إلي الماء. وهي المهنة التي بشره وكيل البوسنة – الذي يقرأ الجرائد – بأنها آخر مرة يقف فيها، حيث اقترب بناء السد. الأمر الذي أغضب الجد طايع، فيشعر بفقدان لقمة العيش { من إمتي الفقير اتنصف، زمان خدوا منا كل حاجة وكان ناقص يقلعونا الهدمة الزرقة، ودلوقت لما قلت خلاص جه واحد منا وهينصفنا، هتاخد مني لقمة العيش اللي بجري وراها علشان المرة والواد الصغير اليتيم}.

ويصب الجد غضبه علي عبد الناصر، وفي تصرف إنساني بحت، يحطم صورته { وفي الصباح حضرت سيارة شرطة. حملته, فغاب شهرا, وحينما عاد لم ينم إلا وصورة أخرى لعبد الناصر في مكان التي كسرها}. لتتكشف أولي وأخطر سوءات عبد الناصر تأثيرا علي النفس، وليبدأ الكاتب في الكشف عن تحولات الشخصية التي ستؤدي إلي ما يليها من أحداث. يكشف عنها الكاتب، في قول "غصوب" وهو يروي حكاية جده، وأثرها علي حياته مع "رقية" وأمام هذا الانكسار { يتنهد, ويستدير, ويثبت عينيه على رقية, كانت نائمة, ويدها ساكنة بين فخذيها, فسحب الغطاء على وجهه, والدموع تسقط من عينيه}.

الأب "الحناوي". يعود بعد غيبة مجهولة مقطوع الذراع. بعد التيه في صحراء سيناء، وقد تكشفت معالم النكسة في 1967وهو ما تكشف عنه "تهاني" في حديثها عن نشأة "غصوب" {الصغير كان ينام في عينيّ جدته ليس بوجهه بل بوجه والده التائه في صحراء شاسعة, يبحث عن مخبأ يلوذ إليه, هربًا من موت محقق يلاحقه في كل لحظة, يثبت وجوده في أجساد رفقاء السلاح الذين يتساقطون علي رمال ساخنة, تلهبها عين شمس لا ترمد أبدا في مثل هذا الوقت من كل عام}. وفي تلك الأثناء ، يولد "غصوب". اعتقدت الجدة "حنونة" أن الحناوي والد "غصوب" هو السبب في موت ابنتها "سندس" – وهي تلد "غصوب"{ لأنه ـ لمعتقدها ـ السبب المباشر لموت ابنتها فهي من دون أن تدري, وبعد عشر دقائق, جمعتْ رضابها, وبصقته, حلق الرضاب, ثم حط على وجه الصغير, المغسول بالعرق من جهد بذله من مصه لإصبعه, وبماء رحم المستسلمة كلية ليد الحاجة "شاة"}.

وبعد عودة الحناوي ، ومعرفته بموت زوجته، قبل مولد ابنه "غصوب": { اتكأ الحناوي على صدغ الباب, ولم يملك القدرة على الكلام, وظهر كمن كبر مرة واحدة, وكان يود لو عاد إلى سيناء, فيموت كمن مات من دون أن يملك حق الدفاع عن نفسه............ عاوده شعور هزيمة مازالت حاضرة, كانت كما قال لي بطعم الرمال في فمه }.

وتكتمل صورة "الحناوي" المقترنة بصورة السادات فيما تحكيه عنه "تهاني" { في يومه قبل الأخير، وبعد ما دخل البيت، وبعد ما غير هدومه، تركته وكنت بعمل لقمة ليه، وأنا قدام النار سمعت صرخته، ولقيته متصلب قدام الراديو، وهو بيسمع خبر زيارة السادات للي ما يتسموش، شفت واحد تاني، واحد ظهر فجأة في قلب المندرة}.

إذن، فقد ولد "غصوب" في أعقاب النكسة، حاملا غضب الجدة عليه، ودون ذنب اقترفه، ودون أن يجد من يحنو عليه، أو يطعمه، بينما انشغل الجميع في تجهيز الأم انتظارا لتوديع جثمانها، حتي يتبرع له جده "أبو سكينة" بمعزة يتغذي علي لبنها. ولتكتمل مآسته حين يأتي موعد ذهابه للمدرسة، كأقرانه، وفيها يتم النداء علي كل الأطفال إلاه. يسأله المدرس عن اسمه، فيبحث المدرس عن الإسم في كشوفه، فلا يجدها، فينهال علي صدغيه ضربا، ويذهب به إلي ناظر المدرسة، يسأله الناظر عن اسمه، وليتأكد من أنه هو الشخص المدون عندهم، يسأله:

  • اسم والدتك إيه؟
  • سندس طايع.
  • ووالدك؟
  • سيد الحناوي.

ابتسم وقال لي برفق: اسمك من النهارده غصوب.

ويربط الكاتب هذا الاسم بالصورة المعلقة بحجرة الناظ، حيث يسرد غصوب تلك الواقعة، عندما دخل به المدرس حجرة الناظر: { وجلست بضع دقائق، كانت مريحة بفعل طيبة الرجل، الذي أحببته لأنه مثل جدي يحتفظ بنفس الصورة فوق رأسه، صورة لرجل باسم الثغر، والكاب بنسره يستقر علي رأسه، تناول الناظر الملف، وسحب منه ورقة قديمة، ظلت لسنوات مطوية عدة طيات ، ومسجونة في كيس بجوار عقد البيت والقراريط القليلة التي يملكها جدي في الملقة}. فقد تحول الإسم من "نصر" إلي غصوب، ذلك الإسم الذي اصبح لا يُعرف إلا به. غاب النصر الذي كان مأمولا، ليصبح إغتصاب ، وقهر، وفق ما يعني الإسم "غصوب" ، وعَلمٌ علي مرحلة تركت بصمتها الحياتية علي "غصوب"، وما انعكس علي علاقته بزوجته "رقية"، التي عاشت الحرمان والجوع الجنسي، في ظل رجل عاجز عن الفعل، حتي لم يعد لديها ملجأ إلا يدها، تبحث بها عن الراحة، وليس الإشباع، في الوقت الذي يتعرض هو لفتنة الإغواء أمام زوجة كاملة الأنوثة، يراها تعاني الرغبة، بينما يعجز عن الأداء بواجبه:{ ومنذ سبعة وستين يوما, لم تنزع ملابسها, إلا مرة واحدة, مرة جعلتها تلجأ ليدها لتستريح, والآن لا طاقة داخلها لتستنفذها أثناء وجودها أمام عينيه, والوجه المطلّ يتفحص كل جزء من جسدها, والروح المنكسرة في ظلال الخيبة ترعى, ومعها سؤال وحيد: أين ذهبت الحياة؟}. مدركين تصريح الكاتب علي لسان "رقية" أن الحرمان بدأ منذ(سبعة وستين يوما).

إلتصق الأخ الأصغر "صابر" بأخيه الأكبر "غصوب" بعد أن اصبح له البديل للأب. وكما يحاول الآباء مع الأبناء، يحاول "غصوب" أن يخلق من أخيه صورة منه. إلا انه يفشل، لاختلاف الطباع بينهما: { رغب في جعلي نسخة منه, لذلك وضع صورتي بجواره, في غرفته, وكلما بالغ في سد الثغرات فتحتها, وكنت أمعن في عنادي, وكأني كنت أقول له: "مش هتقدر تقصف جناحاتي"}. فقد كان صابر، يعشق المغامرة، وتتعدد علاقاته النسائية، والتي كانت علاقته ب"ثورة" أهمها، وإن لم تتوقف عند حدود العلاقة الجسدية، مثلما أوضحنا، بل كانت إكتشافا للذات، للحد الذي يمكن معه القول بأن "ثورة" هي جوهر "صابر"، حيث كان المرآة التي يتعري أمامها، وليكشف أحد عناصر الشخصية (الفردية والجمعية) والتي إعترف فيها بأن بداخله (مهرج)، وهو اللقب الذي أطلقه معارضوا السادات عليه، حين كان يلبس لكل موقف لباسه. لذا، ومن خلال دلالة الأسماء، يمكن أن نخلع صورة السادات لنضعها إلي جوار صورة صابر، مثلما نضع صورة عبد الناصر بجوار صورة "غصوب" لنعيد تشكيل الصور التي وضعها الكاتب في بدايات روايته، إذا ما تأملنا تلك السمات الشخصية التي وضعها ل"صابر"، ولتلك النهاية الأكثر إبداعا، للعلاقة بين الأخوين، إذا ما تأملنا تعيين عبد الناصر للسادات نائبا له فيما بعد 67، حيث يطلب "غصوب" من أخيه "صابر" أن يحتل جسد "رقية". الأمر الذي لايصدقه "صابر"، إلا أن "تهاني تبارك الفكرة، يقوم "غصوب" ببيع بيت الملقة، ويشهد "صابر علي عقد البيع". ويكتب صابر عقد الزواج من "رقية" ويشهد "غصوب" علي عقد الزواج. وتستسلم "رقية" لصابر من أول ليلة، بناء علي وصية "غصوب"، لتشعر بالروي والإشباع، بعد حرمان طال في ظل زوج عجز عن أن يحقق لها الإشباع، فيحدث التجانس الذي كان الكاتب موفقا إلي درجة كبيرة، في وصف معالم ذلك اللقاء، الجسدي الروحي، وكأنه، ودون أن يهدف له. يعيد الاعتبار لصاحب النصر الوحيد للعرب، والذي سعي لمحو عار ما حدث في يونيو 1967.

 

التقنية الروائية

لأن مصطفي البلكي يقدم إبداعا، ولا يكتب تاريخا، فإنه يتحتم الوقوف أمام تلك التقنية التي حولت الفردي للجمعي، بسلاسة خالية من أي إنفعال، أو افتعال. حيث حافظ علي ذلك التوازن الذي يحمل القارئ علي أجنحة الخيال، والمعايشة الواقعية في ذات الوقت. فبينما استعمل اللغة المحلية، العامية،التي تضع القارئ في البيئة المحلية، مدمجة ومنصهرة في ذات الجملة الفصيحة التي تسعي بالقارئ لملامسة الإنسان، عموم الإنسان أينما كان. حيث جاء الكثير من العبارات التي تحمل الرؤي العامة، دون أن تنخلع من سياقها، مثل:

{كنت أفعل هذا وأنا لا أعلم أن التفكير في الشيء نصف الطريق إليه}، { ولأني أؤمن بأن الخوف في كثير من الأحيان يحرمنا من الحياة, صاحبت المهرج الذي يعيش بداخلي}.

{ في الحياة, القلب يحتل مرة واحدة, ويختل عدة مرات}.

هذا في الوقت الذي تابعنا تصرفات الجدة، وقوتها، أمام الجد الذي لم يكن يملك إلا الاستسلام. خاصة عندما عاد "الحفناوي من الجبهة، وعلم أن ابنه "نصر"، الذي غيرت الجدة اسمه إلي "غصوب" وكانت الجدة قد فقدت كل وسائل الاتصال بينها و"الحناوي" الذي كان سببا في موت ابنتها "سندس"- وفق معتقدها – خبأت الولد، وأمام مقابلة الجدة الجافة، وضع يده السليمة في جيبه وأخرج بعض المال، استقبله الجد بلا تعليق. بينما اختلف استقبال الجدة ف {ساد صمت, لا جدي تكلم, ولا هي نطقت, وكان عليها أن تُظهر قوتها, فردت طولها, واقتربتْ من المصطبة, وكالحدأة حينما تخطف الكتاكيت, خطفت ما في يد جدي, وسجنت الأوراق في قبضتها, فلما غيرت من هيئتها, ألقت بها على المصطبة, وهي تقول:

  • الواد مش ناقصه حاجة.}.

ومثلما كانت الرؤية الجمعية متخفية وراء السطح، لا تُري إلا من خلال غلاف الإنسانية الفردية الشفافة، كانت تلك الرؤي الإنسانية موغلة في النفس البشرية، فاستطاع الكاتب أن يعبر عنها بحرفية عالية في الفصل الأخير، حيث كيف لإمرأة كانت زوجة لمن تحب، تجد نفسها ، وبأمر ممن تُحب، زوجة لأخيه، وأن تنام معه في أول ليلة – بأمر من تحب-. دون أن يحدث خلل في شعور أي من الأخ أو الزوجة التي كانت زوجة لأخيه. وتزداد صعوبة الموقف، وقدرة الكاتب علي معالجتها، وإبراز عمقها، بذلك الوصف الذي كان قد ساقه من قبل، لمعاناة تلك الزوجة، وإحتياجها لمن تحب، في الوقت الذي لا يملك هو إلا الدموع، بما تحمله الدموع من قهر للنفس، نفس الرجل:

{ نظر غصوب إلى رقية, وهي تلقي بمرتبة بجوار سريره, هاله الحزن وحضوره العميق على وجهها, منحته نظرة, واتجهت إلى الداخل, يصحبها شعور بأن ما حدث, وما استقر في رأسه, كان بمثابة الماء الذي يُرمي على نار مشتعلة, صحيح لم تسمع فحيحًا للنار الميتة, لكن كان كافيًا أن تسمع صوت تنفسه عاليًا, فتلوم نفسها, وتعيد المشهد مرة أخرى, فعندما نظرت مد يده أمام عينيه, مخفيًا الدموع, وحينما استدارت نظر بحذر, وجدها تعطيه ظهرها المستقيم والمعلق به ردفان كبيران, والنائم عليه شعر كموج البحر الهادر, كثيف في سواده وفي تراكمه, أطرافه تكاد تطال الأرض, لو مالت وارتكزت على يديها}.

كما حطم الكاتب اي نوع من التسلسل الزماني أو المكاني، فبينما يسير الزمن في الحاضر، لا نشعر بأننا قد انتقلنا للماضي، عن طريق الديالوج الذي يتحول إلي منولوج دون أن نشعر إلا بعد عمليات استرجاع القراءة. وبينما كانت البداية المبهمة مع "غصوب" في سرير المرض، لا يستطيع لنفسه أمرا، نعود، وعلي فترات، نسترجع طفولته، وبعدها نسترجع مولده. وقد جعل كل ذلك قراءة الرواية ليست باليسيرة، حيث تتطلب اليقظة من القارئ، علي مدار القراءة. إلا ان كل ذلك خلق حيوية الحركة، التي من شأنها أن تمسك بالقارئ حتي النهاية، مسلحا بتلك الصور الممتعة التي جسد فيها الكاتب الأشياء، فتحولت إلي بشر يتحرك ويفعل، الأمر الذي يساعد في خلق الحركة، حتي في حديث النفس، الذي يأخذ ظاهريا شكل السكون. مثل:

{ فتسلم جدي وجهي بينما ظهري منحته لضجيج الشارع}.

وعن الطفلة سارة:{ يطالعه وجهها, تنام عليه ابتسامة عذبة}

وعندما يخبر "غصوب" "رقية" بأنه اختار لها "صابر" كي يكون رجلها بدلا منه، تقول له:

{ الحب الذي علقت في عنقه حجرًا كي تلقي به في البحر}.

{ أخبره أن الشمس جلست في مكانها}

{ وفي كل يوم تتزاحم الذكريات, تخزنها بحرص}.

حيث تحول الوجه والابتسامة والحب والشمس والذكريات إلي كائنات مادية تُلمس، وتتحرك.

وجمل تحمل مخزون الثقافة الشعبية، والذي من شأنه أن يمد جذور الشخصية في أرض الواقع، ويبرر الكثير من أفعالها وخصائصها. مثلما يتحدث صابر عن طفولته { بيده برتقالة, يلتهم فصوصها بهدوء, خوفًا من ذلك الشيطان القابع في بطن الواحد, ينتظر كل ما يأكل}.

توليفة من الجماليات والرؤي، استطاع بها مصطفي البلكي، أن يصنع ممرات تتخفي فيها الفتنة، الفتنة المعنوية، والفتنة الإبداعية، الموضوعة أمام الأفراد في حياتهم العادية، وأمام الحكام الذين فتنتهم السلطة، وتحملها من ليس بيدهم أصبحوا مهزومين. فكانت "ممرات الفتنة" التي لابد تفتن كل قارئ لها.

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - مصطفي البلكي – سيرة الناطوري – مجموعة النيل العربية – 2014 .

[2] مصطفي البلكي – ممرات الفتنة - سلسلة إبداعات قصصية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ط1 2018.

[3] - كاتب هذه السطور – الرواية في أكتوبر 73 – كتاب الهلال - العدد 799- أكتوبر 2017.