أهم ما في الكتاب ان الكاتبة تتناول فيه بعض القضايا التي قد لا يجرؤ كتّاب آخرون على تناولها وخصوصا حول ماذا كانت ستكون مواقف سعيد إزاء القضايا السياسية والفكرية المطروحة حالياً وبعد سنوات من وفاته. وترى أن ادوارد سعيد لم يكن يناضل لاستعادة دولة فلسطين فقط بل لاستعادة العدالة الإنسانية في العالم وللشعب الفلسطيني بشكل خاص.

دومينيك اده في «ادوارد سعيد، رواية فكره»

سمير ناصيف

 

عموماً، يصعب على أي ناقد تقييم التراث الفكري والمواقف الإنسانية لشخصية فكرية كبيرة تركت أثراً إنسانياً واجتماعياً وثقافيا ضخماً. فكيف والأمر يتعلق بامرأة عاشت حياة عاطفية عميقة مع هذا الإنسان المفكر الكبير وشاركته أحاسيسه ومواقفه في شتى الأمور وتحاورت معه بشكل متواصل في سنوات حياته الأخيرة؟
هذا ما نجده في كتاب صدر مؤخراً بالفرنسية بعنوان «ادوارد سعيد، رواية فكره» للكاتبة اللبنانية الفرنسية دومينيك اده، التي بدأ سعيد علاقة عاطفية معها في أواخر سبعينيات القرن الماضي واستمرت بشكل متقطع حتى وفاته، رغم استمرار ارتباطه بزوجته وعلاقته بها كزوجة وبولديه.
أهم ما في الكتاب ان الكاتبة تتناول فيه بعض القضايا التي قد لا يجرؤ كتّاب آخرون على تناولها وخصوصا حول ماذا كانت ستكون مواقف سعيد إزاء القضايا السياسية والفكرية المطروحة حالياً وبعد سنوات من وفاته وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية التي كرس ادوارد نفسه لها منذ عام 1967 وبعد نكسة حرب الأيام الستة.

خلاصة استنتاجاتها وردت في الصفحة (131) حيث تقول ان ادوارد سعيد لم يكن يناضل لاستعادة دولة فلسطين فقط بل لاستعادة العدالة الإنسانية في العالم وللشعب الفلسطيني بشكل خاص. وبالتالي كان معارضاً لاتفاقيات أوسلو التي وقعتها القيادة الفلسطينية مع إسرائيل عام 1993 والتي أعطت تمثيل الفلسطينيين لمنظمة التحرير بدلا من إعطائها للشعب الفلسطيني. وبالتالي فإن الشعب الفلسطيني والشعوب المسحوقة في العالم في حاجة إلى فكره الآن أكثر من أي وقت مضى في ظل هيمنة قيادات متطرفة على أمريكا وإسرائيل وعودة إحياء الامبريالية السياسية والفكرية في العالم.
وتشير المؤلفة في الصفحة (135) إلى أنه لو كان ادوارد ما زال حياً، لاستمر في هجومه على عنصرية الغرب وقياداته ضد الإسلام والمسلمين وضد وضع مسلمي العالم والشعب الفلسطيني في خانة متدنية وتبرير ممارسة العنف ضدهما بما يسمى «الإسلاموفوبيا».
بالنسبة إلى دومينيك اده، فإنها تعتبر ان سعيد ما زال حياً، وقد تريثت في إصدار الكتاب لأنها ترفض فكرة وفاته بسبب مرض السرطان، الذي تعاني بدورها منه، أي انها شاركته الحب والحوار الفكري والمعاناة من المرض ومواجهة الحياة والموت حتى لحظاته الأخيرة.
في الصفحة (183) من الكتاب تقول دومينيك ان ادوارد نادى وناضل من أجل الدولة الموحدة في فلسطين منذ تسعينيات القرن الماضي ونبذ ممارسات إسرائيل لتعميق الانقسام لدى الفلسطينيين وآمن بقيام دولة واحدة لشعبين لدى سكانها جميعاً الحقوق المتساوية، ومن دون خصوصية لأي جهة، وان طرحه هذا ربما يصعب تحقيقه في ظل الأوضاع الحالية للمنطقة وخوف الجهات من بعضها ولكنه قد يكون الحل للغد وفي السنوات المقبلة.
وعلى الصعيد الشخصي تقول، ان ادوارد أتى من عائلة اختلفت فيها شخصية والده عن شخصية والدته. فكان والده رجل أعمال أمريكيا من أصل فلسطيني اهتم بشؤون أعماله بالدرجة الأولى، وكان فخوراً بجنسيته الأمريكية فيما كانت والدته هيلدا مهتمة بجذورها الفلسطينية وبالأدب والفكر ومثلت بالنسبة لادوارد الشخصية الأساسية في حياته كما ورد في كتابه «خارج المكان» وهي التي أثّرت عليه عائليا وفكريا وكان يستشيرها في شتى الأمور.
وتعتقد المؤلفة ان شخصية والده وديع (الذي يحمل اسماً أمريكياً آخر هو وليم) كانت انضباطية سلطوية ربما لكونه خدم في الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الأولى وان علاقته بابنه كانت تقليدية إذ ولد ادوارد ووالده في الأربعين من عمره. وترى الكاتبة ارتباطا بين نقد سعيد للهيمنة والسلطوية للغرب على العرب والشعوب المسحوقة الأخرى وبين علاقته بوالده. ويشاركها هذا الرأي مفكرون آخرون، حسب قولها.
وتضيف في دعم هذا الموقف في الصفحة (78) من الكتاب ان ادوارد كان يشعر بالامتنان لأن والده دعمه ماديا وأتاح له الالتحاق بأفضل جامعات أمريكا ولكنه يلومه في الوقت عينه لأنه أبعده عن جذوره العربية والفلسطينية نتيجة لعيش العائلة المستمر في الخارج وخصوصا في بلد كأمريكا المؤيدة لإسرائيل. وكان سعيد آسفاً لأنه لم يحتك بمواطنيه الفلسطينيين في السنوات الأولى من حياته لأنه كان يعيش «خارج المكان» (حسب عنوان روايته عن سيرته الشخصية).
وترى اده ان ثورته الفكرية والوطنية ربما شملت (قد يكون عن لا وعي) ثورة على والده والحياة التي فرضها العيش في الخارج عليه. وهذا ما قد يراه آخرون مبالغة في التحليل.
وتشير في الصفحة (65) ان عودة ادوارد إلى جذوره العربية والفلسطينية انطلقت عام 1967 بعد طلاقه من زوجته الأولى الأجنبية مير جانوس، وانطلاق وهزيمة حرب الأيام الستة في 5 حزيران/يونيو آنذاك وانه قرر تكريس نفسه للدفاع عن القضية الفلسطينية ومهاجمة ثقافة وسياسات الغرب المجحفة بحق مواطنيه العرب منذ ذلك الحين.
لا يروي الكتاب أي مواقف للكاتبة إزاء علاقة ادوارد بزوجته مريم قرطاس وولديه وديع ونجلا الذين ظلوا إلى جانبه واستمرت علاقته العائلية بهم حتى وفاته وخلال علاقته العاطفية معها. ولكنها تقول في الصفحة (32) من الكتاب ان ادوارد سألها ذات مرة: «لماذا ليس لدينا الحق في حب امرأتين في وقت واحد؟». وتوضح ان خلفيات سعيد العائلية أورثته ازدواجية على الصعيد الشخصي وشعوراً بالذنب وعدم الرضى عن نفسه برغم إنجازاته الفكرية الكبيرة. وهذا رأيها الخاص أيضا.
وأشارت إلى انه لم يكن يتقبل النقد القوي لفكره حتى من أقرب الناس فكرياً إليه فقد غضب من صديقه إقبال احمد، الذي قال في مقالة له في صحيفة «هيرالد تريبيون» انه يصعب ان تغير مواقف سعيد من القضية الفلسطينية مجرى الأمور (ص 41).
كما جُرح ادوارد عندما انتقد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم كتابه «الاستشراق» مباشرة بعد صدوره برغم ان ادوارد كان يؤيد مواقف العظم عموما ودعوته للنقد الذاتي عند العرب (ص 104) وكان العظم رأى ان سعيد وقع في الفخ الذي نصبه المستشرقون بتقسيم الحضارات بين الشرق والغرب داعيا إلى التفريق بين الاستشراق «الأكاديمي» والاستشراق «المؤسساتي» وان سعيد يستخدم المفاهيم نفسها التي ينتقدها وينتقد وجودها حيث ان استخدامه لمفهومي الحضارة الغربية والشرقية قد يقود إلى مفهوم «صراع الحضارات» من منطلق مخالف لما يسعى إليه سعيد.
كما انزعج ادوارد من نقد وجهه إليه المفكر الفرنسي البارز مكسيم رودنسون إزاء تعميم سعيد في نقده المستشرقين والاستشراق وفي وقت تواجد فيه مستشرقون في دول غير امبريالية التوجه قدموا نتاجاً مفيداً لدراسات الإسلام والشرق الأوسط.
ولكن اده تؤكد أنها ساهمت هي وعدد كبير من المثقفين في فرنسا والغرب في مواجهة حملة منحازة وقوية ضد كتاب ادوارد «الاستشراق» لدى صدوره عام 1980علماً ان علاقتها العاطفية بادوارد بدأت عام 1979 حسب قولها.
وتشير في الصفحة (108) من الكتاب إلى أنه من المؤسف عدم وجود وثائق مكتوبة حول حوارات بين ادوارد سعيد وصادق جلال العظم حول مفهومي الشرق والغرب وحول طبيعة الاستشراق لأهمية مثل هذه الحوارات.
وتؤكد ان بعض مثقفي فرنسا المؤيدين لإسرائيل وضعوا حاجزاً غير مرئي ضد كتاب ادوارد سعيد «الاستشراق» بسبب أفكاره المناهضة للامبريالية الثقافية ولسلاسته وانعكاساته على الصراعات في المنطقة. ولكن بعد وفاته وشعورهم انه أصبح أقل خطراً على منهجهم الفكري المنحاز طالبوا بترجمة كتاباته.
أما علاقة سعيد بالمفكر والسياسي اللبناني شارل مالك، فتقول اده انها كانت شبيهة ببعض علاقاته الأخرى، أي انها مزدوجة الحدين، فقد تأثر بمالك إيجابياً لدى دفاع الأخيرة عن قضية فلسطين عندما كان ممثلاً للبنان في الأمم المتحدة في أواخر الأربعينيات، ولدى مساهمته في وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد ذلك ولكنه اختلف مع مالك جذريا في السبعينيات عندما انتسب إلى «الجبهة اللبنانية» وهي مجموعة سياسية اتخذت مواقف معادية للمقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت عام 1975.
وتؤكد ان ادوارد كان يستشير والدته في علاقاته العاطفية الحميمة بالإضافة إلى احترام آرائها في الشؤون السياسية لأنها كانت ملتزمة القضية الفلسطينية بقوة.
وتتساءل في الصفحة (104) من الكتاب عن كيف كان ادوارد سيقارب ويتخذ المواقف بالنسبة إلى الحرب السورية التي انطلقت عام 2011 لو كان حياً؟ وبالنسبة للإرهاب عموما وانتخاب دونالد ترامب رئيساً لأمريكا وتقول انها ستحتفظ لنفسها بما تعتقده إزاء هذا الموضوع وإنها تعمل حاليا على كتاب حول دوافع سعيد للكتابة. ولعل من المفيد قراءة مواقفها في هذا المجال.
وبدا من مقارناتها لفكر ادوارد سعيد مع توجهات وأفكار كبار المفكرين الذين تناولهم في كتاباته وأثروا عليه أنها ضالعة في الدراسة والتعمق في هذا التراث الفكري. وبعض مقارناتها لفكر سعيد مع المفكر البولندي الأصل جوزيف كونراد تظهر ثقافتها العارمة والواسعة ومعرفتها الوثيقة بالحضارة والثقافة الأوروبيتين.
وفي الصفحات الأخيرة تتناول اده صداقة ادوارد العميقة مع الموسيقي الإسرائيلي دانيال بارنبويم وانشاءهما مؤسسة لتشجيع الشباب العربي والإسرائيلي لتذوق الموسيقى وتنظيم مناسبات مشتركة في هذا المجال.
وتقول ان بارنبويم شجب بشدة تعامل إسرائيل كدولة مع عرب فلسطين واتهم قادة هذه الدولة بالعنصرية في هذا التعامل ووصف تباطؤ القيادة الإسرائيلية في تطبيق قرارات اتفاقيات أوسلو بانه شكل من أشكال «تقاسم مولود ميت» (ص 197).
وتتناول علاقة ادوارد وبارنبويم ومحبتهما للموسيقى ومشاركتهما في مشروعهما الموسيقي الاجتماعي الذي انتقده البعض ورأوا فيه «تطبيعاً عبر الموسيقى».

Dominique Eddé; «Edward Said – Le Roman de sa Pensee»
La Fabrique Edition, Paris 2017
227 pages.

 

جريدة القدس العربي