نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية زوال يوم الأربعاء 15 ماي 2018، بقاعة الندوات عبد الواحد خيري، لقاءً تقديميا للترجمة العربية التي أنجزها إدريس الجاي عن النص الألماني لرحلة الألماني غيرهارد غولفس، "إقامتي الأولى في المغرب"(1861م)، والصادرة مؤخرا عن منشورات مختبر السرديات .
وشارك في هذا اللقاء الذي عرف حضور صاحب الترجمة إدريس الجاي، ثلاثة متدخلين، وهم: رضوان الضاوي، ياسر العراقي، خالد لزعر. وقد سير أشغاله بوشعيب الساوري الذي أشاد في تقديمه للقاء بأهمية النص الرحلي المترجم في إغناء حقول بحثية مختلفة، كما نوه بدور مختبر السرديات بكلية الآداب بنمسيك الدار البيضاء في إضاءة الكثير من عتمات الثقافة المغربية، وطرحه للموضوعات والقضايا والنصوص الجديدة والجادة.
وقدم الورقة الأولى رضوان ضاوي الذي مهد لمداخلته بالتعريف بصاحب الرحلة غيرهارد غولفس (Gerhard Rohlfs) المزداد في 14 أبريل من سنة 1831 في منطقة بريمن، والمتوفي سنة 1896. والذي يُعتبر واحداً من أشهر الرحّالة الألمان المتنكرين في إفريقيا وفي العالم، حيث قدم نفسه دائماً بصفة طبيب فتمّ تعيينه طبيب بلاط سلطان المغرب، ومكنته علاقاته بالقيام رحلات عديدة داخل وخارج المغرب، وقد لاقت رحلاته إلى إفريقيا والمغرب إعجاباً دولياً.
وفيما يخص سياق الرحلة ومسارها، فقد أكد المتدخل أن الرحّالة الألماني غيرهارد غولفس انطلق سنة 1861 نحو طنجة للوصول إلى داخل المغرب، وقادته الرحلة إلى وزان حيث استضافه مولاي عبد السلام. وكان الرحالة وقتها شابا في الثلاثين من عمره، قليل المال، ومتنكرا في صفة مسلم التي كان يتوجّب عليه دائماً إظهارها. وعمل غولفس على وصف المدن التي مرّا بها وهي: طنجة والقصر الكبير ووزان وفاس، كما ذكر علاقاته بالأوروبيين الذين حذّروه من مخاطر هذه الرحلة، وعلاقاته مع أهمّ رجلين في المغرب وهما: القنصل البريطاني هاي وشريف وزان مولاي عبد السلام. القنصل البريطاني مدّ يد العون لرولفس في رحلته إلى فاس
وقد تحّدث عنه غولفس بصفته متسامحاً ومتنوّراً يحب المسيحيين. وكان الرحالة قد حصل من الحكومة البريطانية على رسائل توصيات مهمة تساعده في رحلته في المغرب. كما كتب غولفس عن اليهود في فاس قائلاً إنهم جاءوا من فلسطين ومن إسبانيا ويعيشون في المغرب بتعاسة.
كما بين الباحث أن الترجمة قد أعادت النص إلى أصله، وهو الدور الجيد الذي أتقنه المترجم والحكواتي المغربي المقيم في برلين؛ إدريس الجاي، الذي أعاد الثقافة المغربية في سياقها الأصلي باللغة العربية، وفق منهجية محكمة في التعامل مع نص الرحلة، تتفادى كثرة التعليق على وفرة المفاهيم الخاطئة التي أوردها المؤلف عن عمد أو عن جهل، تاركا التعليق للقارئ والمختص حتى لا يفسد متعة القراءة.
وخلص المتدخل إلى أن المترجم فتح بهذا العمل انتظارات متعددة موضوعاتية وشكلية. فإذا ما اتجهنا إلى الجانب الموضوعاتي نجد هذه الكتابات تستدعي نموذجاً إبداعياً مألوفاً لدى القارئ العربي هو "الرحلة إلى الآخر"، وبالتالي هي نصوص تستدرج القارئ إلى مناخ مألوف لديه. أما شكلاً، فمن النادر أن نجد من القراء العرب من درس هذه النصوص المكتوبة باللغة الألمانية، أولاً، لأنها مكتوبة باللغة الألمانية، ثانياً، لأنها نصوص نادرة وغير متوفرة إلا في مكتبات الجامعات الألمانية، وأخيراً، لأن القارئ العربي اكتفى إمّا بإعادة إنتاج ما قاله بعض النقاد العرب عن النصوص الألمانية مثل ادوارد سعيد وغيره، أو أنه اكتفى بالاطلاع على بعضها من خلال بعض الترجمات الفرنسية النادرة لهذه النصوص الألمانية. هنا وفر المترجم على القارئ الجهد والوقت وقدم له مادة إثنوغرافية مهمة محتفى بها في ألمانيا وفي العالم العربي.
وقدم المتدخل الثاني، ياسر العراقي، بدوره قراءته لنفس النص الرحلي المترجم "إقامتي الأولى في المغرب السفر جنوب الأطلس"، التي جاء صاحبها غولفس لاكتشاف المغرب المجهول 1861؛ وذلك بعد سقوط الأندلس بفترة طويلة، وضعف الخلافة العثمانية واحتلال الجزائر من طرف الفرنسيين والقرصنة البحرية بالضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وبعيد الحرب الإسبانية سنة 1860 في تطوان على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان الملقب بمحمد الرابع.
وركز الباحث في ورقته على العديد من المحاور منها؛ ملاحظات عبد الهادي التازي حول البحث في تاريخ المغرب الدبلوماسي المكتوب باللغات الأجنبية، وبيوغرافيا غولفس، ومراحل إنتاج صورة المغرب عند سمير بوزويتة، وتكريس غولفس صورة الغرب حول المغرب، وأسباب تخلف المغرب حسب تقرير غولفس، والأطماع الاستعمارية الصريحة لغولفس بأكادير، والرحالة الألمان وإرثهم الرحلي بالخزانة الوطنية.
وانطلق الباحث من ملاحظات عبد الهادي التازي المرتبطة حول معالجة تاريخ الدبلوماسية المغربية الموزع بين الدول التي كانت لها صلة بالمغرب سواء في إفريقيا أو أوروبا أو آسيا أو أمريكا، وفي تقارير السفراء والقناصل والوكلاء الأجانب الذين كانوا على مقربة من المغرب. لينتقل لبيوغرافيا غولفس الذي جاء إلى المغرب
لتقديم خدمته للجيش السلطاني كطبيب متمرس؛ رغم أنه لم يتمم دراسته بكلية الطب، بناءً على مقال قرأه في جريدة؛ مضمونه أن دار المخزن تعتزم القيام بإصلاح شمولي للجيش والإدارة المغربية على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان مباشرة بعد خروجه منهزما أمام الجيش الإسباني بتطوان سنة 1860، وتضمن المقال دعوة لكل الأوروبيين الذين يريدون المساهمة في الإصلاح بالانضمام إلى هذا المشروع والالتحاق بهذا الركب، من هنا التحق غولفس بطنجة شهر أبريل 1861 على متن باخرة قادما من الجزائر حيث كان يشتغل فيها ضمن عناصر الفيلق الأجنبي الفرنسي ( Die fremden Legion /Fridolin Zender) كصيدلاني لمدة ست سنوات اضطلع خلالها على جل أو معظم التقارير الفرنسية حول المغرب. وقد كان سفره إلى المغرب فاتحة خير عليه حيث مكنه تقريره حول إقامته الأولى الذي كان على نفقته الشخصية من تقلد مهام استكشافية أخرى تحت لواء جمعية الجغرافيين Pettermanns Mitteilungen. لقد توج على إثرها بعدة ميداليات، وحضي بدعم العديد من جمعيات الجغرافيين من انجلترا وفرنسا وألمانيا للقيام برحلة ثانية إلى المغرب بعد أن باءت محاولة اغتياله جنوب الأطلس بالفشل سنة 1863م.
وبين ياسر العراقي أن غولفس كان يتجول في المغرب تحت عباءة الإسلام بتزكية من شريف دار الضمانة الحاج عبد السلام، وبرسالة توصية من القنصل العام الإنجليزي دروم اوند هاي المقيم بطنجة حينئذ، وكذلك لكونه طبيبا سلطانيا كان يعالج حريم السلطان، كل هذا تحت اسم مصطفى الاسم الذي وهبه إياه شريف وزان.
كما أنه لم يبالغ ـ حسب رأيه ـ في وصف المغرب المتوحش الطيب (le bon sauvage) تكريسا لهذه الصورة التي أريد لها أن تتداول في أدب الرحلة الأوروبي بصفة عامة والألماني منه بصفة خاصة.
وانتهى الباحث أن لغولفس مشروعا متكاملا، كتب له أن يرى النور بعد أكثر من 150 سنة من كتابته، بلغتنا التي نفهما جيدا، ولربما احتجنا لأكثر من ذلك بكثير لأخذ ملاحظاته بعين الاعتبار، ودراسة ما يمكن دراسته منها بكل موضوعية بعيدا عن كل التعصبات،
وكانت المدخلة الأخير لخالد لزعر الذي سبق أن قدم ترجمة فرنسية للكتاب نشرت سنة 2016. والذي قدم خلاصة مهمة عن نص الرحلة وكاتبه الذي اشغل به مدة طويلة تصل لأكثر من عقد ونصف، من هنا اعتبر أن غيرهارد غولفس أحسن رحالة زار المغرب من حيث البحث والتمحيص والتحقيق والتدقيق، وأن نصه من أصعب النصوص بالنظر لطبيعة الموضوعات التي تناولها خصوصا في الفصل الثاني المتعلق بالطبيعة والأرض والمناخ الذي يحتوي عبارات تقنية من صلب المتخصص في مجاله. كما وسم غولفس بكونه داهية استطاع الوصول إلى حريم السلطان، رغم أنه لم يكمل دراسته في الطب؛ وجاسوسا مرتزقا حاول الاحتيال على شريف وازان؛ كما كان مستعدا لبيع خدماته للأجانب، ومساندة الإسبان والتمهيد لدخولهم للمغرب. كما لم يكن لقد غولفس رحالة عاديا فقد قرأ كل ما كتب عن المغرب.
واعتبر الباحث أن غولفس قد قدم نصا خطير ومهما؛ يحتوي الكثير من المعطيات الإثنوغرافية، والتاريخية، والسوسيولوجية؛ وغيرها. التي من شأنها أن تغني البحث في ثقافة المغرب وخصوصياته، وتمدنا بمعرفة نادرة
عن المغرب في هذه الظرفية التاريخية الصعبة رغم أن الرحالة لم يكن يتقن اللغة العربية، ما عدا عبارة لا إله إلا الله التي كان يعتبرها الرحالة فاتحة للكثير من الأبواب في المغرب.
كما أشاد لزعر بأهمية الترجمة التي اعتبرها قنطرة بين الثقافات والحضارات، ووسيلة مهمة لفهم تاريخنا كمغاربة؛ ومنه الديبلوماسية المغربية في القرن 19م التي لم تدرس جيدا لحد الآن، حيث التلاعب بالأجانب لخلق الموازنة، والوضع الصعب الذي عاشه المغرب قبل 1912 بكثير. وتهافت الألمان بدورهم على المغرب.
وقبل إعطاء الكلمة لإدريس الجاي مترجم رحلة غولفس، تم فتح النقاش مع الحضور، كما أدلى مدير مختبر السرديات والخطابات الثقافية شعيب حليفي بكلمة ترحيبية بالحضور، أشاد بعدها بأهمية النص الرحلي المترجم وما يحفل به من معرفة متنوعة تفتح أعيننا، وتمكننا من رصد تقاطعات الثقافتين المغربية والألمانية، هذه الأخيرة التي تزخر بالكثير عن المغرب وثقافته وتاريخ مقاومته، والتي غابت طويلا عن المغاربة بسبب هيمنة الثقافتين الفرنسية والإسبانية على انشغالات الباحثين.
وكانت الكلمة الأخيرة لإدريس الجاي؛ مترجم رحلة "إقامتي الأولى في المغرب (السفر جنوب الأطلس) (1961م)، والذي تحدث عن مساره في ترجمة نص الرحلة الذي كان نادرا في تسعينيات القرن الماضي، وعثر عليه عند بائع تحف، فاتصل بالسفارة المغربية في ألمانيا التي رفضت بدورها اقتناء الكتاب. كما تطرق إلى تقصير المغاربة في إيصال ثقافتهم للآخر، وتصحيح صورتهم لديه، منبها أن الثقافة الألمانية تهتم بالأدباء والعمران المغربي.
ودعا الجاي إلى الاهتمام بالكتابات الرحلية على اختلاف موضوعاتها، وعدم الاكتفاء بتلك التي تمجد المغرب والمغاربة؛ بل أيضا الكتابات التي تذمهم، والعمل على الاستفادة منها، مؤكدا أن رحلة غولفس على سبيل التمثيل؛ تقدم مادة ثرية عن مغرب القرن التاسع عشر، وميكانيزمات المخزن، وصورة الباشوات السيئة. مغرب القرن 19 المتخلف المضحوك عليه على حد تعبيره. رغم ما اعتور نص الرحلة من عدم اتقان الرحالة للغة العربية، وبعض التناقضات في وصفه للمغاربة بالشرف تارة والاحتيال تارة أخرى. والملومات غير الدقيقة.