ترجمة:
تقديم: حيال شكل إرهابي يترصد حاليا المجتمع برمته، يكابد معنى التعاقد الديمقراطي نفسه مجازفة، هكذا يلاحظ الفيلسوف مارسيل غوشيه، متصديا لجواب سريع يستحضر فقط الهاجس الأمني، بجذبه الاهتمام ثانية نحو اقتفاء مسلك للأخوٌة التي تحرك مواطنينا ثم دعوته إلى إعادة تمحيص عميق للعلمانية.
مارسيل غوشيه المشرف على الدراسات في المدرسة العليا للأبحاث في العلوم الاجتماعية ورئيس تحرير مجلة: le débat صاحب إصدارات: فكّ السحر عن العالم (غاليمار1985)، ارتقاء الديمقراطية (غاليمار، ثلاثة أجزاء2007 -2010 )، ثم بَلِّغ، وتعلَّم (بالاشتراك مع كلود بلي ودومينيك أوتافي، ستوك، 2014 ). انصب اهتمامه منذ سنوات على تحولات الديمقراطية وكذا القفزات الفجائية التي يحدثها انبثاق الدين سواء في الغرب، أو كذا، باقي العالم.
س-كيف عشتم الأحداث الإرهابية التي حدثت يوم 13 نوفمبر؟
ج- مثل الجميع، بل إنها وقعت بالقرب من الحي الذي أقطنه. لقد، امتزج الذهول بالهلع. ثم يتضاعف استنكارنا ورعبنا أكثر، حينما نكتشف أن الأهداف المتوخاة تظل فضاءات تشعرنا بالألفة، بحيث لاتبدو حقا، ارتباط ببراءتها كفضاء مشترك، أنها تجلت كي تثير أي نوع من العقاب العمومي.
س-هل استعادت فيما بعد، مجريات الحياة وضعها الطبيعي؟
ج- نعم، لكن الحي تعرض لجرح نفسي. هكذا وُضعت أكاليل من الزهور وإضاءة شموع، أمام مختلف الأمكنة التي تعرضت للهجوم، وأيضا كتابة العديد من العبارات. يتوقف الأفراد، يستغرقهم الوجوم ثم يوثقون رسائل التضامن في كل مكان تقريبا. هناك هيمنة لأجواء الصدمة والتأثر.
س- لكنه مزاج بدا مختلفا، غداة اعتداءات يناير ضد جريدة شارلي إبدو ثم متجر ''l’hyper cacher''…
ج-شارلي جريدة أحاطت نفسها بجدل. فقد سبقت الاعتداءات حملة ضد إصدارها الرسوم الكاريكاتورية حول محمد، وما صاحب ذلك من تهديدات استشرفت خوفا من الأفظع. ثم يجسد العنف المعادي للسامية انفعالا كئيبا، متواترا للأسف. لم يكن هذه المرة، منتظرا تماما. قد لا نحب موسيقى الروك، لكنها لن تصير موضوع نزاع أو حقد.
س-هل اقتحم العنف الإرهابي، عتبة أخرى فيما يتعلق بطبيعته وكذا تمدده؟
ج- سيكون التكلم عن اجتياز عتبة، بمثابة افتراض لتنظيم واحد بعينه أحرز تقدما بخصوص الارتقاء بالوسائل التي وظفها. لكني أعتقد، إننا بصدد مجرمين مختلفين جدا عن نظرائهم خلال شهر يناير. هناك تغير للإرهاب الأصولي في بعده الجهادي. من أجل فهم ذلك، لا ينبغي فقط البقاء عند حدود السياق الفرنسي بل الرجوع إلى الواقعة الافتتاحية المتمثلة في حدث 11شتنبر 2001، الذي اقترفه تنظيم القاعدة بالولايات المتحدة الأمريكية، بحيث شكل حقا حربا ضد الغرب كما هو، مثلما أعلن عن ذلك. لكن هذا الحرب انصرفت جهة اعتداءات عكست غاية سياسية ورمزية محددة، من خلال برجي مركز التجارة العالمي ثم البنتاغون، أي ما يشكل قلب ''الإمبراطورية" الأمريكية. بكيفية ما، لازالت أحداث يناير الفرنسية، موصولة ثانية بذاك النموذج: أعلن الأخوان كواشي، انتسابهما لتنظيم القاعدة، قاما بتنفيذ عقوبة ضد جريدة ترمز لحرية التعبير على الطريقة الفرنسية، والتي ارتكبت "شتيمة" في موضوع النبي. أما أميدي كوليبالي، فقد هاجم تجمعا تضم تشكيلته حسب الهذيان المعتاد لمناهضي السامية، فاعلين ينتمون إلى الصهيونية العالمية. لقد كنّا سابقا في إطار استدلال سياسي، يوجه عداوته نحو الذين يعتبرون مالكين أو ممثلين للسلطة. بينما تتوافق اعتداءات 13 نوفمبر في فرنسا مع منطق آخر مغاير كليا: إننا لا نسدد نحو أهداف سياسية ورمزية، بل نبث الإرهاب في الأمكنة اللا- سياسية : ملعب لكرة القدم، قاعة موسيقية، حانات. لقد ولجنا عبر ذلك، عهدا إرهابيا جديدا، أقصد إرهاب القرب، بحيث يمكن لأي فضاء أن يصبح هدفا لهجوم ما، انعطافة الإرهاب ''السياسي'' أفسحت المجال للتهديدات والضحايا. من المفزع قول ذلك، لكن مع 130 قتيلا، فقد نجونا بأقل الخسائر الممكنة. هذا التحول الترميزي للإرهاب يجعل المجتمع نفسه فريسة. نلج دوامة "حرب اجتماعية"، عبر رسالته الواضحة بشراسة: «أنتم أعداؤنا مادمتم على وضعكم هذا». الرعب الذي يأسرنا أمام هذا الوجه الجديد للإرهاب، لا ينبغي له جعلنا ننسى وجود هدف ثان: تعبئة فئة من جماعة المسلمين ضد نمط الحياة الغربي، المنحط والملحد، حسب اعتقادهم. مع أن تلك الجماعة أقلية، فبوسعها حسب الإرهابيين، تحقيق الغلبة مادام أفراد المجتمعات الغربية يتسمون تحديدا بالضعف والجبن، أو مخنثين، الكلمة الوحيدة المختزلة لكل شيء لدى هؤلاء. إذا تحتم اختزال التحول الجاري ، أدلي إذن بما يلي: لقد جَسَّد بن لادن ومنافسيه المرحلة "اللينينية" فيما يتعلق بالإرهاب الإسلامي، لأنهم مارسوا السياسة الكبيرة. لكن بخصوص ما يجري حاليا، فأرادوا البقاء بالقرب أكثر من الميدان، ثم إشعال نار جمر الحرب الأهلية، كرافعة للامساك بزمام السلطة ليس فقط في الغرب، بل على الغرب.
س- هل نكتشف ثانية القطيعة التي تشيرون إليها، مع مواصفات المهاجمين؟
ج-في البداية، كان الجهاديون المنضوون خلف بن لادن مقاتلين متمرسين في أفغانستان، مع تكوين عسكري متطور. أما حاليا، فنحن إزاء مجموعة من الشباب ولدوا وترعرعوا داخل أوروبا، وتعلموا استعمال السلاح جراء أسفارهم القصيرة جدا أحيانا إلى سوريا. ترتبط راديكاليتهم بانحراف مزاج ، لا يقف فقط عند حدود الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية. تفسير ذلك، بمرجعية الفقر أو الهشاشة، ينم عن قصر النظر. فالبلجيكي عبد الحميد عبود، الرأس المدبر المفترض لتلك العمليات، سبق له الإقدام على ممارسة ما يحقق له النجاح في حياته، حينما قرر السير على نهج والده وامتهان تجارة الملابس. يشبه مساره مراحل الجواسيس، لأنه اقتفى مسلكا ينقسم إلى ثلاثة مراحل: القلق الهوياتي، الجنوح، ثم الانقلاب الديني. إنهم جنود جدد، برؤية أخرى للعالم مختلفة عن التي تبناها محترفو الحرب مع بن لادن. أيضا، صلاتهم مع التنظيم الذي أعلنوا انتسابهم إليه، تبدو جد عائمة. نعلم بأن الدولة الإسلامية، تمتلك خزانا مٌهِمَّا من المرشحين للعمل الإرهابي. لكن لها أيضا، ذكاء كبيرا فيما يخص المعطيات السوسيولوجية والسيكولوجية لمن تنتدبهم كي ينتقلوا إلى مرحلة الفعل. المشرفون على العملية يتخيرون من يتوجهون إليه، بحيث يفوضون. لم يتم تحضير العمليات وفق أبسط التفاصيل منذ الرقة أو الموصل. بل تُرك الأمر للإرهابيين كي ينظموا أنفسهم، واثقين في معرفتهم بمعطيات الميدان، ثم تأتي الرسالة على النحو التالي، هيا: «تدبروا أمركم!». هكذا، يحدث الانتقال من نموذج التخطيط اللينيني المتأتي من أعلى – كل شيء يحدده زعماء التنظيم، ويلزم إبداء أكبر قدر من الانضباط- إلى نموذج ثان يقوم على التسيير الذاتي، ويستند التنظيم على الأسفل.
س- هل من تساؤل، داخل التنظيمات الإرهابية حول طبيعة الأهداف المشروعة؟
ج- أنا لست متخصصا في تلك التنظيمات، مع ذلك أعتقد أننا نصادف معهم أسئلة وجدت سلفا لحظات الصراعات الاستعمارية :هل يلزمنا حصر الفعل الإرهابي عند مكونات قوى الدولة، أم يلزم رمي الجميع برشاش أعمى؟ هو سجال غير مؤسَّسِ، فالإرهاب إقرار مستمر بالجرم. اختيار الهدف يعين حدود امتداد هذا الإقرار. اليوم، حينما تمس هجمات هذا الشخص أو ذاك، يقال إننا نحن أهل الغرب، نتآمر على إهانة الدين الحقيقي. لا يتعلق الأمر فقط لديهم، بأصحاب الشتائم أو اليهود، بل يصير جميعنا مذنبا.
س- على أية حال أعلنت الدولة الإسلامية بأن هجماتها بمثابة رد على التدخل الفرنسي في سوريا…
ج-بلا ريب. لقد انتخبنا رئيسا، سيأمر بتوجيه ضربات إلى سوريا، إذن المسؤولية ملقاة على عاتقنا جميعا. لكن الغموض، يشغل حيزا بين حالة الإجرام السياسي ثم الاجتماعي. ليس فرنسا فقط مذنبة بما فعلته، لكن أيضا حسب ماهي عليه. سنقف مرة أخرى على استدلال من هذا القبيل، بين صفوف أقصى اليسار حينما تناول ثانية ببلاهة "تبريرا" مثل المشار إليه أعلاه. هي خاصية لدى الغرب لافتة للنظر، بأن هناك دائما أفراد يشعرون بالذنب نحو ماهم عليه، أو بشكل دقيق، قصد الإقرار بذنب جيرانهم.
س- لننتقل إلى نتائج الحادثة. هل سيؤدي الرعب إلى التئامنا بكيفية غير مسبوقة، من أجل إعادة التأكيد الجماعي على قيمنا الجمهورية؟ هل سنعاين إعادة تسييس للفضاء العمومي؟ حاليا، مجرد خروجك لتناول مشروب على رصيف، قد يجعلك عرضة لفعل جهادي.
ج-صار التنبؤ أكثر صعوبة من ذي قبل. لازلتُ بعد تحت وقع صدمة الانذهال وأنا أستعيد ما وقع بعد هجمات يناير2015 . يدعونا "فكر11 يناير" قائلا، هيا، أنعشوا ارتباطكم بالجمهورية. صحيح، خلال بضعة أسابيع، وقع ثانية كل شيء بكيفية سريعة جدا. لقد اختبرنا تجربة أن نتحمل ضربة تذكيرية موجعة. هل يكفي التنبيه في نهاية المطاف، باستيقاظ دائم لفكر المواطنة، والشعور بأن تكون فاعلا ضمن جماعة تتجاوزنا رغما عن خلافاتنا؟ أتمنى ذلك، طبعا، بحيث يفهم الأفراد تماما أن التهديد جد قوي سواء خارجيا أو داخليا، ويلزمنا الدفاع عن مبادئنا. لكن كم يستغرق من الوقت هذا الأثر؟ استعملتم عبارة "إعادة التسييس" :لا أعتقد بأنها ستكون دقيقة. لا يتعلق الأمر فقط بالمنتسبين المناصرين، بل انتماؤنا نفسه للحاضِرة من يوجد على المحكِّ. يقوم رباط قوي نسبيا يمسك بنا جميعا، ويحيل على ما نعنيه تحت إطار الكلمة الفضفاضة جدال "القيم". للتعبير عن ذلك بكيفية ثانية، يبدو لي أن الإطار الديمقراطي، يشكل موضوع توافق واسع جدا. الرباط الجماعي راسخ بما فيه الكفاية كي يعتبر الفاعلون هدرا للزمان مسألة التداول فيما يوحدهم. لنهتم بالشيء الوحيد الأكثر أهمية: انقساماتنا! لكن يلزمنا شيئا جامعا وهو ما يتعرض آنيا للتهديد. تمنح الديمقراطية مجالا للاتفاق حول الاختلافات. هذا الإطار ليس معطى، بل ينبغي التعهد به. يستدعي تداولا جماعيا، يسمح مثلا، بتعريف للتوازن الجيد بين الأمن الجماعي وكذا الحريات الفردية.
س – كجواب سريع ضد العدوان، اقترح فرانسوا هولاند، تحديدا على المستوى الداخلي، مراجعة دستورية تعيد تحديد دولة الطوارئ وكذا "ميثاق أمن". ما رأيكم؟
ج- أخشى أن تكون مجرد لعبة أدوار مفروضة تتوخى أساسا تمرير الرسالة التالية: السلطة في مستوى مواجهة الوضعية. يمثل حقيقة الميثاق المقترح من طرف فرانسوا هولاند، ميثاقا تليفزيونيا أملاه خبراء التواصل السياسي. ينبغي مثلما يقول المتحدثون: «مرافقة الانفعال الجماعي».
س- يحيل فلسفيا، مفهوم الميثاق على هوبز وروسو اللذين أعطيا تأويلين متقابلين، أحدهما ليبرالي وأمني، بينما الثاني مدني. ألا ينزع ميثاق هولاند بطريقة خطيرة نحو الجانب الأمني؟
ج- سيكون شرفا عظيما بالنسبة إلى هولاند ونحن نفترض معرفة لديه بفكر هوبز وروسو. إذا ظهر غدا خلف شاشة التلفاز كي يعلن أمامنا بضرورة الانحياز إلى هوبز ضد روسو، فسيمثل ذلك حقا موقفا رائعا وواقعة ذات أسلوب قوي تفاجئ كل العالم! سياق يجعلنا نراهن على أن ساركوزي سيحشر بالمطلق عند زاوية (قهقهات). عفوا، لنستعد جديتنا، لا، لم ندرك بعد هذا المستوى. مرة ثانية، إننا نسبح أكثر في خضم الاستعجال التواصلي أكثر من التأمل العميق. يقتضي السعي سبر أغوار مختلف المقترحات المطروحة، بما فيها تصورات اليمين المتطرف، دون خوف كبير من تلاحم الجميع. ولا ننسى الوضع السابق عن الانتخابات، المحيل على شكل مثلث الزوايا: تفوق هولاند على ساركوزي ولوبن، ثم إرباكهما، فماذا بوسعكما أن تقترحا ثانية؟ غير ذلك، نعم يبدو رئيسنا تماما تحت سطوة التحمس إلى ما هو أمني. لكن، نعلم جيدا أن التهديد لن يتم امتصاصه من خلال مضاعفة محترفي النظام العام. بل يفرض علينا واجب الأمانة، التأكيد على عدم وجود وسيلة بوسعها تحقيق معجزة، فيما يتعلق بحمايتنا من الشكل الإرهابي الجديد المتربص بنا. اللهم إذا تصورنا نموذج دولة بوليسية.
س-إذا سلمنا بمسالة تغليب كفة الميزان نحو جانب هوبز أو روسو، فما الفرق جوهريا بين الاختيارين؟
ج-بالنسبة إلى هوبز، يتداخل المسار الأفضل للحاضرة مع الأمن الفردي الذي لا يمكن ضمانه سوى من خلال امتلاك سلطة تقديرية، للدولة-الليفيثان léviathan ، التي يقبل كل أعضاء الجسم السياسي الخضوع لها. أما عند روسو، وإن لم يتغاضى حقا عن قضية الأمن، فقد اختلف منطقه كليا: لا تأخذ الحرية دلالتها سوى عبر مشاركة على قدم المساواة لكل الإرادات بخصوص مشروع مشترك. الشيء الذي يقتضي مجهودا معتبرا :مما يحتم على كل واحد الارتقاء فوق وضعيته الخاصة والتركيز فقط على مصلحة الحاضرة، ساعيا إلى بلورة مسعاه بفعالية. روسو، كالتالي: نضطلع بالحرية معا داخل الحاضرة، وليس حرية كل واحد مستقل بذاته. يتطابق هذا الطراز مع الرسم البياني لليبرالية، حيث الحرية هي ما يتبقى لكم، بعد إنجازكم لمختلف التزاماتكم نحو المجتمع. حسب خطاطة روسو، ففي إطار وجراء الاندماج في الجسم المدني- ليست الإرادة العامة، مجرد تجميع لإرادات خاصة - نعثر على الحرية.
س- نتيجة لذلك، تنبني الحرية عند روسو على صيغة للأخوّة؟
ج- بكيفية ما. من خلال عملية تقاسم مشتركة لحريتهم، وكذا هذه اللحمة المتوطَّدة بينهم ضمن تجربة الإرادة العامة، بحيث يصبح المواطنون إخوة.
س- أليس التماس روسو للأخوّة بمثابة الجواب المدني الذي يبحث عن نفسه اليوم عبر سلسلة مبادرات رمزية ومبهجة، كالذهاب الجماعي إلى المقهى، أو المسرح، إلخ؟
ج-ينطوي فعلا ذلك على ما أسميه ب :ميكرو- روسوية. وبقدر ابتعاد مؤسساتنا الحالية بكيفية لانهائية عن أفق روسو، كلما رنَّت اليوم روح فكره وسط المجتمع. ترنُّ تحديدا وفق هذا البحث عن جماعة تتأسس حول توافق يعيشه الأفراد. يتواصل هذا مبرزا ثانية إحدى مثلنا العليا القوية جدا. بل أعتبره أكثر شيء يفتقده أفراد اليوم. هكذا يبحثون عنه ويحزنون جراء عدم عثورهم عليه في الحاضرة. بالتالي، لا يتطلعون سوى لملاقاته، أثناء اللحظات التراجيدية، كالتي نعيشها حاليا. إنها فرصة لوحدة شعورية مدهشة، بين كائنات لايعرف بعضها البعض.
س – ماذا عن الجواب العسكري السريع؟ بالأمس، كنا نرتاب في بوتين، أما اليوم، فهو حليف لنا. بالأمس، ساهمنا من مسافة بعيدة مع التحالف في الضربات الجوية، أما حاليا فقد انتقلنا إلى الهجوم. هل حدث التفكير في منعرج كهذا؟
ج-بل موقف مرتجل تماما، كالباقي. بخصوص التقارب مع بوتين، نقول بأن الاعتداءات الإرهابية منحت الدبلوماسية الفرنسية فرصة غير منتظرة كي تخرج من العزلة التي آلت إليها. نحن الوحيدون الذين لازلنا ندعم موقفا مبدئيا، جد محترم في ذاته، لكن دون أي ارتباط بحقائق الميدان وموصولة بتحالفات، قليلا ما يعترف بها. وحده تحالف واسع جدا يمكنه أن يأتي بمخرج للمستنقع السوري. أما بخصوص الضربات الجوية…، فعملية إحصاء للقنابل التي أسقطتها الولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة، أظنها تجاوزت سبعة آلاف…لكن الدولة الإسلامية لازالت قائمة. أية فعالية إذن ؟.
س-في ذات الوقت، لايمكن لفرنسا عدم معاقبة تلك الأفعال….
ج-بالتأكيد، يلزمها ذلك. لكن يتعلق الأمر بتجنب الفخ الذي سقط فيه الأمريكيون بعد2001 سواء بالعراق أو أفغانستان. ينبغي حتما تحطيم قواعد الدولة الإسلامية، لكن مع افتراض بلوغ ذلك دون أن يؤدي السعي في المقابل إلى تكريس وضعية مفجعة أكثر، لأنه غير كاف أبدا من أجل معالجة مختلف القضايا. يجب على مراجعة سياساتنا الذهاب بعيدا جدا. بل يقتضي كل الموقف الغربي نحو باقي العالم، إعادة استقصاء جذرية. نطمح إلى تقديم الدرس، نوزع أقوالا جيدة، لكن ما إن يتعطل شيء ما، حتى نبادر إلى قذف القنابل … ألا يمكننا تصور تبني حالة أكثر تعقلا؟
س- من بين التدابير التي أعلنها رئيس الجمهورية، تعزيز مراقبة الإسلام الراديكالي، منذ لحظة تكوين الأئمة غاية محتوى الخطب. ألا يتشابك هذا مع إلغاء لحيادية الدولة دينيا، بمعنى العلمانية؟ مادامت ليست بالمقاييس المحايدة جدا؟
ج-نعم غير محايدة تماما !لكن ينبغي تحمِّلها بدل السماح بالاعتقاد أن العلمانية مثلما تُعرّف حاليا بوسعها العثور ثانية على حل للمشكلة، بحيث يقتضي الأمر إزاء الإسلام، إعادة التفكير فيها. لقد بلغتُ هذه الخلاصة بعد حيرة طويلة، مرورا بالتاريخي. نجعل من العلمانية مبدأ مقدسا، وكهواء الجزء الأعلى من الغلاف الجوي، تتسامى على التاريخ ، بينما حُددت أساسا ضمن سياق تاريخي معين جدا، ارتباطا بالمواجهة بين الجمهورية ثم الكنيسة الكاثوليكية، وكذا تطور تلك المواجهة. والحال أننا وجدنا أنفسنا نسلك طريقا معاكسة، بناء على حل سلمي وليبرالي لهذا النزاع، أمام دين مستورد يموقع ثانية بكيفية أخرى إشكالية الانطلاق. إذن: ضمان الحرية الدينية مع الدفاع الكلي عن مبادئ الجمهورية ضد المؤسسات الدينية التي تنازعها هذا الأمر. الاختلاف الكبير، أن أمكنة العبادة، كاثوليكية وأخرى، ماثلة هنا، بينما يُحرم المسلمون. يدعو الأمر، مساعدتهم على إقامتها. بالنسبة للباقي، وتبعا لتطور العالم الإسلامي، فالتفاهم السلمي مستحيل. يواجهنا تهديد انقلاب مناهض للديمقراطية مصدره الخارج الذي يلزمنا على مراقبة الشخص الديني وكذا خطابه وسلوكياته. أشياء لم تمتنع بخصوصها السلطات العمومية، خلال القرن التاسع عشر، في إطار المعاهدة البابوية لسنة 1801 ، قبل الفصل الذي حدث سنة 1905 !إلى حد تفضيل عدد مهم من الجمهوريين هذه الوضعية، على انفصال يجعلهم في ريبة من كنيسة أكثر حرية بدسائسها المناهضة للجمهورية.
س- لكن لن نذهب على أية حال كي نخلق علمانية مختصة بالإسلام؟
ج- خاصة بالإسلام، لا. لكن التكيف مع وضعية مستجدة خلقها الإسلام كما هو.
س- القوانين عامة. فكيف نهيئ علمانية من أجل عبادة واحدة دون مراعاة لفكرة التمييز؟ معيار مزدوج؟.
ج-لا يتعلق الأمر بمعيار مزدوج. لنكن واضحين : لا أمتدح قوانين استثنائية تهم المسلمين. سيكون ضلالا. بل يلزمنا إعادة تعريف القواعد العامة للعلمانية على ضوء المشاكل الخاصة التي يطرحها الدين الإسلامي. هذه القواعد مهيأة كي تنطبق على الديانات الأخرى بنفس القدر. فقط أن الإرهابيين المستلهمين للكاثوليكية واليهودية والبوذية، لا يمثلون حقيقة خطرا. نعرف بفطنة أن جزءا من الأئمة القادمين عندنا من الخارج يصدرون عن حركة أصولية تشكل تربة للفكر الجهادي، وندرك بأن مناهضة المساواة بين الرجل والمرأة يشكل حصان طروادة يعيد فتح نقاش سيذهب أبعد كثيرا. بخصوص كل هذه المحاور، يلزمنا تقييم الموقف من جديد. ينبغي تكوين الشخصية الكهنوتية في فرنسا، مع هاجس تنمية الوعي النقدي. وفق رؤية واضحة للرهان، يلزم معالجة المطالب التي تهم وضع النساء. فيما بعد، يعتبر كل شيء مسألة تسوية بين الانفتاح والانغلاق. لقد توخت العلمانية بداية القرن العشرين خلق الوئام بين الكاثوليكيين والجمهورية. حاليا، يلزم إعادة السلام إلى العلاقات بين المسلمين والجمهورية.
س-في النهاية، ماهو جوابكم على السؤال التالي : "هل سيغير الرعب الحَاضِرة؟".
ج-أجيب قائلا ينبغي له ذلك، لكني لست متيقنا هل سيفعل أم لا؟.
هامش: Philosophie magazine numéro 95 ;janvier 2016 ;pp :68 -72.