بلاغة الاستشراق/ الاستشراق البلاغي الفلسفي
انصبت مجمل محاولاتنا في الاقسام الثلاثة السابقة من دراستنا الموسومة "صيدلية دريدا الافلاطونية" على استحداث بعض القراءات والتأويلات لكثير من الاشكالات الفلسفية والابستمولوجية والانطولوجيا كتلك التي اثارها كتاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا " صيدلية افلاطون". لا سيما وان هذا الكتاب، اشتغل على اعقد قضايا الفكر الفلسفي عامة واللساني والبلاغي خاصة، ونعني بها هنا، قضية الكلام والكتابة، او اسبقية الكلام على الكتابة بوصف ان هذه الاخيرة تمثل ملحق ثانوي – حسب دريدا- للكلام. ومن خلال هذه الاشكالات المذكورة اعلاه، سعينا الى احداث جملة من المقاربات الفلسفية بينها وبين جدلية العلوم الانسانية والعلوم الطبيعية، او ابستمولوجيا العلوم الطبيعية وابستمولوجيا العلوم الثقافية، في محاولة منا ، الى اعادة اكتشاف اشكالية اللغة/ والكتابة والكلام، ليس بوصفها ايقونات شكلية /متعالية عن الوسائط الثقافية واللسانية فحسب، بل كونها تشكل صيرورة الوجود الانساني، وتعمل على تشكيل تاريخية افعاله المنسية والضائعة والمسكوت عنها جراء سيطرة البنية الاجتماعية /والايديولوجية، التي تحوت بدورها الى "بنية موضوعانية" مستقلة عن الافراد وعن قرارتهم وانطولوجيا وجودهم في العالم.
اما في هذا القسم، فأننا سوف نواصل سلسلة الاجراءت والمقاربات الفلسفية والتأويلية التي انطلقنا بها، والتي احتلت الحيز الاكبر في هذه الدراسة، واعني هنا العلاقة الاشكالية المعقدة والملتبسة دائما بين : لسانيات الفعل؛ والفعل اللساني واشكاله البلاغية والثقافية المتعددة. فمن خلال هذه الاشكالية تتكاثر بؤر ونقاط السيطرة والتحكم التي تشكل بنية الفعل الانساني من جهة؛ واعادة ابتكار ذاتيته المسلوبه من خلال تأسيس مجموعة من التصورات والهويات المحددة سلفاً والمفروضة على الكائن الانساني بوصفها تشكل حقيقة ذواتهم، على الرغم من انها تشير الى مجموعة من الرؤى والتمثلات – ماقبل الوجود الانساني- وقد لا تعبر عن ماهية وحقيقة الفعل الانساني؛ ولا تشكل الذات الصامتة التي فقدت الحقّ في استعمال صوتها وابتكار لغتها لتعبر من خلالهما عن ذاتيتها في الوجود والمغايرة.
من هنا، يأتي اختيارنا لمفهوم بلاغة الاستشراق/ والاستشراق البلاغي الفلسفي، ورب سائل يسأل : وما علاقة الاستشراق بكل ما أتينا على طرحه اعلاه؟ واذا كنا سوف نواصل عملنا في اعادة قراءة وتحليل تاريخ المحاروات الافلاطو-سقراطية اليونانية، فكيف يمكننا ان نجد علاقة بين مفهوم الاستشراق الذي يعنى بدارسة المجتمعات الشرقية واكتشاف انظمتها الثقافية والميتافزيقية والذهنية؛ وبين اشكالات الفلسفة اليونانية المختلفة تماما عن ثقافة الشرق وعوالمه اللاهوتية والتاريخية ؟
في الواقع، ان استعمالنا لمفهوم "الاستشراق" هو استعمال ميتافوري اكثر مما هو حرفي ودوغمائي. بمعنى آخر، ان الفكرة الاساسية التي دعتنا الى استعمال هذا المفهوم لا تكمن في التطابق مع هذا المفهوم من حيث المعنى الاصطلاحي واللغوي له، بل بهدف التأسيس "النظري والاشكالي" الجديد لهذا المفهوم. ويتركز هذا التأسيس على اكتشاف ظاهرة التسييس الفلسفي لمفهوم الذات في تاريخ الفلسفة اليونانية حيث يتحول الفلاسفة الى مستشرقيين وذلك عندما يقومون بإنتاج ابستيم ميتافيزيقي يتكون من سلسلة لا متناهية من التمثلات والتصورات التي يتم فرضها بطرق سلطوية وايديولوجية على الافراد والجماعات، بهدف تشكيل هوياتهم/ او إعادة صياغة هوياتهم وبما ينسجم ويتلاءم ويتطابق تماما مع ذلك النظام الاتساقي المتألف من مجموعة محكمة من التمثلات والتصورات المتعالية.
من الطرح اعلاه، يتضح لنا اننا امام زوج او ثنائية ميتافيزيقية جديدة وهي: الفيلسوف/ المستشرق. وهو ما يذكرنا بحكاية صيدلية دريدا الافلاطونية، حيث نلاحظ ان بنية الصراع بين الفلسفة الافلاطو- ارسطية والفلسفة السفسطائية قد شيدت على اسس استشراقية قبل ان تقوم على اسس فلسفية، او بمعنى اصح، على توظيف ماهو فلسفي/ نظري/ ميتافيزيقي لأغراض استشراقية، تهدف الى زعزعة ذاتية الآخر/السفسطائي للخطاب الفلسفي اليوناني، وتذويب اصالتها والتشكيك بمكونها الانطولوجي/البلاغي. نجد هنا، ان افلاطون وسقراط لا يعترفان بفكرة قيام فلسفة سفسطائية فما بالك اذن بوجودهم كافراد يتمثلون انفسهم وهوياتهم بمعزل عن الانساق التراتبية والميتافيزيقية الافلاطونية المغلقة، وهنا تحديداً، تكمن اشكالية ميتافيزيقيا الحضور، حيث يرى كل من افلاطون وسقراط ان «هناك اختلاف بين مفهوم الذات وبين ما ينبغي ان تتمثله بشكل صائب او غير صائب، او بين ان تصبح الذات نفسها في وجود مُتَمَثل being represented، ومصاغ في شخصيات، وضمن صوت معطى محدد، ومُشرَّع له.» David marshal, the figure of theater, Columbia, 1986, p.41.
يمكننا القول، ان مفهوم "الوجود المتَمَثل" سوف يشكل الدعامة الاساسية لمختلف مقارباتنا الفلسفية القادمة، فمن خلاله سوف نتعرف على اهم الاسس التي قامت عليها ميتافيزيقيا الحضور الافلاطو-ارسطية، والمتمثلة في مفهوم ((character. حيث يمكننا ان نتعرف على ماهية هذا المفهوم من خلال رؤية سقراط القائلة بأن معرفة الكلي/او المطلق هي قبل كل شيء معرفة للكاركتر، للشكل، لما هو جوهري/اساسي. Leo Strauss and joseph Cropsey, history of political philosophy ,Chicago ,1987,p5
مما سبق، يتضح ان مفهوم الكاركتر يشير الى كل ماهو اساسي وشكلي، وواقعي، وما يمثل جوهر وطبيعة الاشياء. وبطبيعة الحال، ان البحث في فلسفة المحاروات الافلاطو- سقراطية يكاد يتركز برمته في البحث عن مفهوم الكاركتر الذي يمثل ما هو شكلي/وكلي/ وجوهري لكل شيء في الوجود. وقد نجد ذلك بشكل واضح عندما نتحرى في بنية المنهج الدراماتيكي dramatic method في المحاورات الافلاطو- سقراطية التي ظلت تؤكد دائما على ما هو اساسي وشكلي ومجرد ومطلق في (الكاركتر) وهو العامل الرئيسي في تمييز الذات، ومن ثمة، في تصنيفها حسب فئات ومقولات معينة. ((فهل كاركتر شخص ما، هو شيء جوهري وفردي او دور بوصفه وجود مُشرَّع له، او تلك الصورة التي تمثل ذاتاً ما؟ وهل بمقدوره ان يكون جميع ذلك، واذا كان، هل يمكن للذات ان توجد بمعزل عن التمثل، قبل تشريعه؟ وماذا يمكن ان يكون الفرق بين التمثل في ذاته والتمثل الزائف، بين جوهر الذات وحالاتها في الدور التخييلي؟)) Ibid,p.41
ان جدلية الصراع بين التمثلات الصادقة للذات؛ وبين التمثلات الزائفه لها، تعبر، في واقع الامر، عن البنية الاساساتية التي شيدت عليها انظمة المحاورات الافلاطو-سقراطية. حيث نلاحظ ان اهم الثيمات الاساسية التي سعت الى تثبيتها فكرة المحاروة من خلال منهجها الدراماتيكي، هو عملية التمييز بين كاركتر الذات المتمَثل / المتصَور في النظام المعرفي لميتافيزيقا الحضور؛ وبين الكاركتر الاصلي /الطبيعي /الواقعي الذي يمثل ذات حقيقية True self ؛ ذات طبيعية Natural self تتمثل الكاركتر الواقعي Real character. وبالتالي، فأن منهج المحاورة هنا لم يتعامل مع تلك الذوات باعتبارها مساحات للاختلاف والمغايرة، وإنما بوصفها تشكل هي حضور في انفسها present. بمعنى آخر، ان المحاورة هنا ، لم تعكس فقط عمليات تمثل الذات واعادة ابتكارها فقط، وانما هي عملت ايضا على تشكيل ونسج بنية الخطاب الفلسفي برمته بحسب هذا المنهج، فأن ((المحاورة لم تقدم نزوعاً محدداً فقط، بل وبنية للفكر الفلسفي. فقد عرضت وجوداً مرآوياً looking-glass خاصاً يمكننا بواسطته اكتشاف انفسنا ورؤية ادق ملامحنا بوصفها موضوعة جيداً وبشكل يتناسب وفهمنا وادراكنا.)) Ibid,p.36
هنا، يجب ان نتوقف عند اهم مقولة في تاريخ الفلسفة الغربية، واعني بها هنا: "اعرف نفسك". فعلى ما يبدو ان هذه المقولة لم تأخذ كفايتها وحقها من الشرح والنقد والتأويل، فأغلب شراح الفلسفة تعامل معها من منطلقات دوغمائية /عقلانية خالصة، اي كعبارة تبشر بولادة الفرد والذات الحرة والمستقلة في تاريخ الفكر الفلسفي الغربي. في حين ان هذه المقولة تمثل الدخل الرئيسي والمفتاح الاساسي لاعادة اكتشاف التاريخ المنسي والمسكوت عنه في قصة الصراع بين التفلسف الافلاطو-السقراطي؛ والتفلسف السفسطائي. وربما اهم ما يمكننا ان نكتشفه بين ثنايا هذا الصراع، هو جذور الفكر الكولونيالي؛ وارهاصات بلاغة الاستشراق/والاستشراق البلاغي الفلسفي الذي برزت ملامحه في صيدلية افلاطون لدريدا، وان لم يكن كاتبها نفسه قد عمل على كشف اثريات علاقات السلطة/ والهيمنة الكامنة في بنية المحاورات، الا انه نجح في اعادة استنطاق جينالوجيا فلسفات الحقيقة والوجود بدء من الفلسفات القديمة حتى ميتافيزيقا الحضور الافلاطونية المتمثلة في محاورات فايدروس وطيماوس. ان بلاغة الاستشراق نُقشت على مدخل معبد دلفي، ((وسعت من خلالها الفلسفة الى ترسيخ مفهوم للذات، ولادراك وتمييز "ذلك الشيء" وجعله يقيناً. في الواقع، بفضل الفلسفة التي علّمتنا ان نعرف انفسنا، صار بامكاننا تحديد وتعيين اليقين نفسه، بدء من "اننا، في الواقع، لا نستطيع ان نضمن شيئاً، حتى نتأكد اولاً مما نكوُنه نحن انفسنا. ومن خلال ذلك فقط، يمكننا ان نعرف ما هو اليقيني والمضمون.)) Ibid, p.43
لكن وماذا عن الذات؟ وكيف يبدو حضورها في ظل سيطرة هذا المشهد الفلسفي المتطابق؟ان الذات، تبقى تمثل الواحد/النفسه. بمعنى آخر، انها تبقى محافظة على الكاركتر الاصلي original character ، وبالتالي، فأن واقع وجود الفعل/ الانجاز Act في ظل هذه السلسلة الدائرية ، يبقى غياباً. فمنذ اعلان مقولة "اعرف نفسك" والفعل هو مجرد تكرار ومضاعفة وانعكاس لكاركتر المعرفة الاصلية، واصبح معه الخطاب الفلسفي «يقدم مرآة يمكننا من خلالها ان نكتشف ازدواجية معينة للنفس، وتقسيم لانفسنا الى قسمين اثنين. انها تتيح لنا ان نكرر النظر الى انفسنا ونتعرف عليها مراراً. والمحاورة الفلسفية هي ذاتها تشكل مضاعفة لتلك الازدواجية وللتكرار: والانعكاس نفسه؛ التمثل نفسه؛ وسنِّ للفعل نفسه والتقسيم للذات نفسه، وكلها معاً هيئت لتأسيس هوية محددة.» Ibid, p.38
مما سبق، اتضح لنا ان تشكيل العلاقة بين المعرفة الذاتية وسياسة انتاج الكاركتر للذات/ والفعل/والنفس، بقيت مرهونة بنظامها اللساني/واللغوي الذي يمثل الحقيقة المطلقة والمتعالية دائما. وبالتالي، فأن مجمل هذه التشكيلات تبقى محدودة ضمن فضاء الشكل المحدد والمعين للاشياء. بمعنى، ان الذات التي نحاول البحث عنها بين طيات وتحولات جدلية الكتابة والكلام في بنية المحاورات الافلاطو-ارسطية، تمثل كاركتر ثانوي يمكن اعتباره مجرد انعكاس طبيعي / واقعي لكاركتر الحقيقة الاصلي/ التمركز الصوتي. وعليه، فأن كل ما يقوم به من افعال وممارسات فلسفية وقيمية اذا لم تتطابق مع ايديولوجيا التمركز الصوتي تصبح في نظر التمثل الصوتي المتعالي زائفة وليس لها ادنى قيمة واهمية. ان هذا الكاركتر باختصار هو "ذات سفسطائية" منتجة لكتابة وبلاغة فلسفية غريبة وشاذة؛ بلاغة متمردة على سلطة البلاغة الماورائية والميتافيزيقية التي تمثل الحقيقة والعقلانية والتطابق مع سلطة المركزية الصوتية وميتافزيقيا الحضور؛ انها بلاغة وقفت بالضد من بلاغة الاستشراق الافلاطو- سقراطي التي سعت جاهدة الى انتاج ونسج تمثلات كولونيالية تحط دائماً من شأن وقيمة آخر الخطاب الفلسفي/المغاير السفسطائي. ان قيمة ما فعله هذا الآخر المغاير في تاريخ الفلسفة، هي بالضبط كقيمة بروميثيوس سارق النار المقدسة من زيوس كبير الآلهة في الميثولوجيا اليونانية. هنا، نجد ان ما فعله السفسطائيون يكاد لا يختلف عما فعله بروميثيوس، فقد عملوا على قلب منطق الوجود المرآوي/ الميتافيزيقي looking-glass الذي ينبغي علينا من خلاله ان نعرف انفسنا وان نكتشف حقيقة وجودنا بواسطة تكرار اصولنا اللغوية واللسانية ومضاعفة بنية افعالنا واحكامنا القيمية المشرعة من خلف ظهورنا وبمعزل عن اعيننا في العالم- هذا يشير بالطبع الى نهاية لسانيات الفلسفة ولغتها الشكلية القائمة على اسس مثالية مطلقة-، وانتقلوا بنا الى منطق التلفظ الصوت الشفاهي Vocal - looking glass اي ان النظر الى انفسنا سوف لن يمر بعد ذلك من خلال الوجود المرآوي، وانما من خلال استعادة صوتنا من سلطة التمركز الصوتي الميتافيزيقية، وبالتالي، نحن الذين سوف نعيد تشكيل تمثلاتنا وكتابة اسمائنا ونستعيد اصواتنا.
من هنا، يمكننا ان نعد جدلية التفاعل الاشكالي بين الوجود المرآوي/ والوجود الصوتي، هي تمثل جدلية التفاعل بين الكتابة والكلام والذاكرة والفارماكون، حيث نظر افلاطون وسقراط الى فلسفة السفسطائيون بوصفها تمثل فلسفة الكتابة/والذاكرة، ((وعليه -حسب دريدا-، فأذا ما نحن صدّقنا الملك على الكلام فأن هذه الحياة للذاكرة هي ما يأتي فارماكون الكتابة ليُنيمه، وذلك بأن يجتذبها ويدفعها الى الخروج من ذاتها ، ويضعها في حالة رقادٍ داخل الأثر او النُصب. واثقة في دوام دمغاتها واستقلالها، ترقد الذاكرة، ولن تظل، وهي لا تحرص على ان تظل، ممددة وحاضرة بأقرب ما يكون من حقيقة الموجودات. انها ، وقد" حجرِّت" على ايدي حرّاسها ، ومن قبل علاماتها الخاصة، و"الدمغات"، او "القوالب " المكلفة بحراسة المعرفة، وصيانتها ، ستدع نفسها تبتلع من لدن" ليتيه/الهه النسيان" وتغزى باللامعرفة والنسيان. ينبغي ان لا نفصل هنا بين الذاكرة والحقيقة. ان حركة الحقيقة المتجلية ، لهي، بكاملها، انتشار للذاكرة. الذاكرة الحية، الذاكرة بصفتها الحياة النفسية في حدود كونها الى ذاتها تتقدم. وان قوى "ليتيه" لتضاعف في آن معا مجالات الموت والـــلا-حقيقة والــلا-معرفة. من هنا فالكتابة، على الاقل باعتبارها "تطبع الارواح بالنسيان"، انما تدفع بنا ناحية الجامد(غير الحيّ) والــلا-معرفة. لكن لا يمكن القول ان جوهرها يخلط ببساطة، وفي الحاضر، بينها وبين الموت والــلا-حقيقة. ذلك ان الكتابة لا تتمتع بجوهر او قيمة خاصة، ايجابية كانت ام سلبية. انها انما تخاض بالشّبَه. تحاكي ،في قالبها، الذاكرة، والمعرفة، والحقيقة، الخ. لذا يَمْثل الكتاب امام الآله، لا كمتعلّمين sophoi)) وانما ، وفي الحقيقة، كمتعلّمين مزعومين او مدّعين ذلك.
وهذا هو تعريف السفسطائي بحسب افلاطون، ذلك ان هذه المحاكمة للكتابة انما تدين في المقام الاول السفسطائية؛ وانه ليمكن ان ندرجها ضمن المحاكمة التي لا نهاية لها التي يقيمها افلاطون، باسم الفلسفة، للسفسطائيين. وان ذلك الذي يستند الى الكتابة ، ويتبجّح بالقدرات والمعارف التي تضمنها له، ذلك المتصنّع الذي يميط تاموس اللثام عنه، ليتمتع بجميع ملامح السفسطائي: "مقلد العارفين"... وهذا الذي نقدر ان ندعوه بـ" الحاكم بأمر الكتابة" انما يتمتع بشبه الشقيق مع السفسطائي هيبياس كما نراه في محاورة "الهيباس الصغرى": متباهيا بمعرفة كل شيء وبالقيام بكل شيء.)) دريدا، صيدلية افلاطون، تر. كاظم جهاد، صص. 59-61
هكذا تكون الكتابة ، بمثابة المدخل الرسمي لتقويض الفكر السفسطائي الذي رأى فيه افلاطون وسقراط، بمثابةالتهديد المباشر لمنطق الذاكرة الاكثر حيوية وديمومة وابدية ويقينية من منطق الاستذكار السفسطائي الذي بدا وكأنه لا يمت الى الفكر الفلسفي بأي صلة. هنا، تبدو القضية ابعد من الذاكرة/ والاستذكار، ولا يمكن التعامل معها ضمن هذه الحدود الضيقة فتبعدنا عن المقاصد "الانقلابية للسفسطائية" التي من اهمها هو تفكيك ايديولوجيا/وميتافيزيقيا الحضور الافلاطو-سقراطي. واللافت ان دريدا نفسه، لم يقدم اي قراءة تأويلية ونقدية وتحليلية للصراع الدائر بين الذاكرة/ والاستذكار، مكتفيا بوصف الكتابة بأعتبارها تكرار آلي للدال نفسه.
فعلى سبيل المثال، لم يحلل دريدا كفاية اتهام سقراط وافلاطون للسفسطائية بالاسترزاق من الفلسفة وتعاليمها وتعليمها: «وعليه فالسفسطائي يبيع علامات العلم وشاراته: لا الذاكرة نفسها، وانما، فحسب، الآثار، سجلات الجرد، والارشيفات، والقبسات، والصور، والقصص، والقوائم ، والملحوظات، والنّسخ، والتقاويم، والمراجع، واشجار الانساب. لا الذاكرة، بل المذكّرات. وبذلك يستجيب الى طلب الأثرياء من الناس، وهنا ينال القدر الاكبر من التصفيق. وبعدما يعترف بأن المعجبين به من الشبان لايقوون على الاستماع اليه وهو يتحدث عن الجانب الانبل من علمه "الهيباس الكبرى" يجد السفسطائي ان عليه ان يسرّ الى سقراط بكل شيء:
"سقراط: قل لي بنفسك ما هي الموضوعات التي يستمعون اليك فيها بأستمتاع ويصفقون لك ، فأنا لا اخمّنها.
هيباس: اشجار الانساب ياسقراط، انساب الابطال والرجال، حكايات البناء القديم للمدن؛ وكل ما يتعلق بالقديم بعامة؛ هكذا بحيث كان عليَّ، بباعث منهم، ان ادرس واتفحص جميع هذه المسائل.
سقراط: من حسن حظك يا هيبياس انهم لا فضول لديهم لمعرفة الحكام البلدييّن منذ سولون، اذا سيكون مجهدا لك ان تضعها في رأسك بكاملها.
هيبياس: لماذا يا سقراط؟ يكفي ان اسمع مرة واحدة خمسين اسما متتابعا حتى احفظها.
سقراط: هذا صحيح ؛ نسيت ان تقنيات الذاكرة هي ميدانك..."» المصدر نفسه، صص. 60-61
لكن كيف اجاب دريدا على هذه المحاورة؟ للاسف ان اجابته لم تخرج عن النسق الافلاطوني الكلي للوجود واللغة والبلاغة: (( يتظاهر السفسطائي في الحقيقة بمعرفة كل شيء؛ وما تنوع معرفته (السفسطائي..) بأكثر من مظهر. وفي حدود كون الكتابة تتقدم بالعون للاستذكار، لا للذاكرة الحية، فأنها هي الاخرى غريبة على العلم الحق وعلى التذكر في حركته النفسية المحض، وكذلك على الحقيقة في سيرورة الإحضار( او سيرورة احضارها هي)، وعلى الجدل. هذا كله تقدر الكتابة ان تحاكيه وليس اكثر.)) المصدر نفسه، ص. 62
الكتابة اذن، اصبحت هنا تمثل ذلك الشيء الغريب والغير معتاد لتعاليم الفلسفة الحقة، وانظمتها المتعالية، التي لا تقبل التعدد والتقسيم والتحريف والتغير والتبدل. بأختصار ان الكتابة بالمفهوم الافلاطو-سقراطي، اصبحت تهدد اصالة الذاكرة الميتافيزيقية، وهذا ما رفضه افلاطون فهو لا يقبل بالبدائل الانسانوية لهذه الذاكرة فهذا هو الكفر بعينه عنده: «وهكذا ، ففي الحالتين، ولدى كلا الطرفين، يُرتاب من الكتابة ويُنْصح باليقظة المدرَّبة للذاكرة. وعليه، فليس ما يدينه افلاطون في السفسطائية هو الرجوع الى الذاكرة، وانما ، في هذا الرجوع، إحلال منشّطات الذاكرة محلّ الذاكرة الحية، الرِّمامة محل العضو نفسه، والانحراف المتمثل في استبدال العضو بشيء، اي، هنا، وضع الحفظ الآليّ والسلبيّ "عن ظهر قلب" محل الانعاش الفعال المتجدد للمعرفة واعادة انتاجها الحاضرة.» المصدر نفسه، ص 64. لم يوضح لنا دريدا، معنى" الانعاش الفعال المتجدد للمعرفة واعادة انتاجها"؟ وعن اي معرفة تحدث دريدا؟ هل المعرفة بشكلها العام؟ هل المعرفة الافلاطونية؟ ثم في اي مواضع نجد الانعاش الفعال للمعرفة؟ واذا كانت المعرفة التي تحدث عنها دريدا تتمثل بالفلسفة الافلاطونية والسقراطية المطلقة، فكيف يمكننا هنا ان نجمع بين المعرفة الميتافيزيقية وشروط انتاجها التاريخية؟
ان اشكالية انتاج المعرفة وانعاشها في المنظومة الفلسفية الافلاطونية، تعتبر المدخل الاساسي لاعادة اكتشاف بنية المنطق الافلاطوني وتحولاته في الفكر واللغة والبلاغة، وكيف ساهم في انتاج اشكال مختلفة من الكاركترات او كاركترات ابستمولوجية epistemological characteristics ستمثل فيما بعد (الاسس؛ المبادئ الاولية؛ الفكر الاساساتي للمتعاليات؛ الاصول الحقيقية للاشياء). هنا، نحن لا نبحث في شكل من اشكال المعرفة التاريخية – كتلك التي ذكرها دريدا اعلاه- بل على العكس من ذلك، نحن نبحث عن "جينالوجيا النظام البطريكي الميتافيزيقي و ابوية الاشياء وانبعاثها وتشكلها في نظام الوجود الافلاطوني، الذي يمكن التعبير عنه بالحضور presence ((اي عندما يفهم الواقع او مبدأ الواقعية بوصفها تعبر عن مجمل الوجود الكلي الغير متناه((. Tiffany Tsantsoulas: Plato Exits the Pharmacy: An Answer to the Derridean Critique of the Phaedrus and Timaeus, Ottawa, Canada, 2014, p. 19
ان النص اعلاه، يجعلنا قريبون من مشروع الابستمولوجيا الافلاطونية Platonist epistemology وهو بطبيعة الحال، يكاد ان يختصر لنا بنية المحاورات التي جئنا على ذكرها اعلاه، والتي سعى فيها الى تزييف المشروع المعرفي/الانطولوجي للسفسطائية – حسب رؤية الابستمولوجية الافلاطو-سقراطية– بأعتباره مشروع تأسس على الكتابة /وليس على التذكر الاصيل للمعرفة الخالدة والابدية التي لا يمكن ان تسري عليها قوانيين التغير والتبدل كما هو الحال عليه في تقنيات الكتابة التي هي مجرد استذكار ناقص للاشياء. وعليه فأن الاعتراض على الكتابة لا يمكن فهمه بطريقة حرفية، فمن جهة، كان اهتمام السفسطائيين بعلامات العلم وشاراته؛ لا الذاكرة نفسها، وانما فحسب الآثار؛ الارشيفات؛ الصور؛ والقصص؛ والقبسات؛الخ... إنما يمثل تهديدا مباشرا لمشروع الابستمولوجيا الافلاطونية، ومن جهة اخرى، لم يكن النقد الافلاطو-سقراطي لاهتمات السفسطائيين موجها لحقيقة هذه الاهتمامات فحسب، بل كان يسعى الى توجيه ضربة استباقية ضده للحيلولة دون قيام مشروع ابستمولوجيا نسبية سفسطائية جديدة، تسعى الى الانعتاق من كولونيالية الحقيقة واستعمارية المعرفة المطلقة. وبالتالي، فأن هذا المشروع يهدد نظرية المثل لافلاطونية المتأسسة على تذكر المثل المرآوية/وليس الاستذكار على طريقة السفسطائيين، فالتذكر يعني الكمال المعرفي ؛ والاطلاق القيمي، لانه ((يجب ان تكون هناك افكار ابدية اذا كنا نعتقد بنظرية التذكر وكي نهدم اي نظريات نسبية في المعرفة. من اهم الطروحات الافلاطونية في الاخلاق، تتمثل في ان الفضيلة هي معرفة، وتستلزم الافكار ايضا. واذا كانت الفضيلة هي معرفة، والمعرفة لا يمكن ان تتكون إلا بموجودات منعزلة وثابتة وابدية، اذن لا تكون الفضيلة ممكنة إلا اذا كانت الافكار موجودة.)) Ibid. p.4
من هنا، فأنه عندما قوض دريدا مفهوم الكتابة، فهو ظل يتعامل مع هذا التقويض بشكل حرفي، وفي نهاية المطاف، لم يخرج عن التأويل الافلاطوني لها، عندما اعتبر الكتابة: «ليست الاداة الافضل لموضوع الاقناع في الحكمة لانها- اي الكتابة- خارجية ولها القدرة على الاستمرار من دون حضور لاصلها.» Ibid. p.68. لهذا، يمكننا القول ان ثنائية الفيلسوف/السفسطائي اصبحت تشكل المدخل الاساسي لقراءة اثريات تكفير واقصاء بلاغة الفكر المغاير والمختلف عن بنية الحكمة المتعالية والحقيقية المطلقة، ومن ثمة، «فأن اسطورة الاله توت تسرد حكاية فتح الفجوة بين الفيلسوف والسفسطائي او بين اولئك الذين يطلبون الحكمة وبين اولئك الذين يطلبون مؤثرات الحكمة فقط.» Ibid. p.65
جينالوجيا التكفير الفلسفي للكتابة والكتاب
يتضح أن طبيعة البحث والتحري مختلفة جدا، بين من يبحث في بلاغة الحكمة المجردة والمتعالية؛ وبين من يبحث في بلاغة حكمة البراكسيس الثقافي سواء تلك الموجودة في سجلات الدعاوى القضائية او المتضمنة في ارشيف المدن والتاريخ كما مرّ معنا في مهن واعمال السفسطائية. وعلى ما يبدو، ان مفهوم بلاغة الحكمة المتعالية/المطلقة في الخطاب الافلاطو-سقراطي اصبحت تمثل استراتيجية لاجهاض اي محاولة لتغيير مسارات البلاغة واللغة لئلا تسقط مملكة البلاغة الميتافيزيقية التي تشكل تمثلات الاشياء والوجود الانساني. لهذا فأن نقد الكتابة لم يكن يمثل، في واقع الامر، سوى محاولة ردع وتصدي لاي تحولات قد تحصل داخل بنية اللغة والبلاغة (ضد انسنة البلاغة) من الميتافيزيقيات الى الانسانيات والعلوم الاجتماعية. وبطبيعة الحال، لن يكون غريباً، ان ((النقد السقراطي للكتابة والكتاب يستهدف اولا "اللوغوغراف" وهو بصريح العبارة، وفي البدء ، " الكاتب العمومي" الذي يهيئ للمترافعين خطابات يتلونها في المحاكم دفاعا عن انفسهم. كان سقراط يتهم هؤلاء الكتاب بالغش: ينشؤون خطابات في قضايا لم يعيشوها بانفسهم، ويصدرون خطابا لن يقرؤوه او يدعموه هم انفسهم. ومن نقد هؤلاء يتوسع الى نقد الكتاب او اصحاب القلم بعامة، والخطابيين والسفسطائيين. يرى انهم ، جميعا،وسواء بسواء، يقيمون خطابات تداعب وتغوي روح الكائن، تقتاده الى الجوانب السفلى من الوجود، الى العالم الحسي، وتمنعه من تأمل المعقول او المثال، هذا التأمل الذي ينبغي ان تكون الروح الانسانية حققته في حياتها السابقة. او ينبغي ان تحققه في حياته الحالية. وبه، اي بتأمل المعقول، وحده، تثبت الروح قربها من الآلهة او بالعكس انحطاطها الى مرتبة الحيوان. كما كان يتهمهم (اي الكتاب والخطابيين والخطباء والسفسطائيين) بالــلا-جدية، بالعبث، واللعب : يشبه نشاط الفيلسوف – المعلم بعمل الزارع اللبيب، يبذر في النفوس بذورا يتعهدها بالعناية لآجال طويلة، على حين يشبه نشاط الكتاب والخطباء والسفسطائيين بالممارسة اللاعبة الخرقاء.)). صيدلية افلاطون، ص 6
يمكننا ان نشخص جملة من الملاحظات حول النص المذكور اعلاه. فمن الواضح ان سقراط كان يسعى الى تقويض مفهوم الفيلسوف/ الكاتب على شاكلة الخطاب السفسطائي، حيث ان وظيفة الكاتب عنده لا تختلف هنا عن وظيفة الفيلسوف، فكلاهما يؤسس لما يعرف بـ" اعادة الطبع Re-coping " لنصوص ما قبل العالم او النصوص الخاصة private texts. وبطبيعة الحال فأن مجمل هذه النصوص سواء المكتوب منها من قبل الكاتب او الفيلسوف لم تكتب من اجل الجمهور، او بلاغة للجمهور، وانما من اجل استمرار منطق الرؤية vision-logic ((الذي يطلق عليه ايضا بـ" الجدلي ؛ الهرموني؛ الابداع الصنعي؛ المنظور – الهرموني ...ان مصطلح "منطق الرؤية"، ظهر، على اية حال، بينما العقل الشكلي كان يمأسس العلاقات، منطق الرؤية مأسس شبكات هذه العلاقات.)) ken Wilber, the collected works, Shambhala, 1999, p86.
ان اشكالية منطق الرؤية التي نود توضيحها هنا، تتعلق بسيطرة هذا المنطق على الكتابة وتحويلها الى مجرد انعكاس له، وهو ما يعود بنا، في المحصلة النهائية، الى طروحات سقراط في نقد الكتابة لدى السفسطائيين، والتي رأى فيها انها تبعد الذات الانسانية عن نعمة الوجود الهرموني مع الحقيقة المطلقة من جهة؛ ومع المثل الافلاطونية من جهة أخرى.
من هنا، فأن اشكالية تكفير السفسطائية عند سقراط، ينبغي لها ان تقرأ من خلال اعادة النظر بفلسفة سقراط التي اعتمدها في تأويل السفسطائية، خاصة وان هذه الفلسفة كانت معيارية الى حد كبير. وبالتالي، لا ينبغي لنا الاعتماد على قراءة دريدا وحدها، بل يجب ان نعتمد على منجزات العلوم الانسانية والثقافية والدراسات التأويلية، لكي نكشف عن ظاهريات التكفير المستبطنة في المحاورات الافلاطو- سقراطية، وليتسنى لنا ايضا فهم ثيمة الكاتب التي طالما جرى نسيانها وتجاهلها من قبل دريدا، مما جعل من مفهوم نقد الكتابة يتحرك بمعزل عن الآطر الثقافية والتاريخية، وكأن التفكيك عند دريدا لم ينفصل بعد من سيطرة ابستمولوجيا العلوم الطبيعية وقوانينها الموضوعانية.
وبالعودة الى نقد سقراط للسفسطائيين، فهو اعتبر ان تغيير موضوع الفلسفة : من التمركز الصوتي/والميتافيزيقي الى الانفتاح على مواضيع الثقافة والمجتمع والتاريخ عند السفسطائيين، يعد كفرا وتكفيرا في الفلسفة، ويستوجب بالضرورة تكفير السفسطائية، وتكفير مفهوم الكاتب/المثقف الجديد الذي تم تدشينه من قبلهم. وذلك لان فلسفة سقراط غير معنية بالممارسات الثقافية والانسانية، الطبيعية والعادية، وهذا ناتج عن سيطرة لغة تأويل معيارية، تعتبر كل فلسفة تبحث في بنية الوجود الانساني التاريخي، هي فلسفة خرجت عن شريعة الحق الميتافيزيقي الآوحد ((فعند دراسة الناس للناس، فهم في الواقع يدرسون التاريخ، وليس الاشياء المادية اوالعمليات الطبيعية للموضوعات التي يمكن مشاهدتها، لكن التاريخ المتمركز في بنية هذه الموضوعات.)) Timothy W. Crusius, timothy w.crusius, philosophical hermeneutics,usa,1991,p. 4.
لهذا، فأن فلسفة التأويل المعيارية التي رافقت عمليات تشكيل آليات تكفير الفكر السفسطائي، لم تتجاوز افق ايديولوجيا التمركز الصوتي وميتافيزيقيا الحضور، لطالما بقيت الهرمينوطيقيا الطبيعية مجرد انعكاس لعمليات التأويل بذاتها، بمعنى ان علم التأويل عند سقراط هو منهج لاستقرار تأويل النص يرمي للمحافظة على منطق الاسس الابستيمية المنسجم واعادة انتاج المعرفة والايديولوجيا والثقافة بطرق هرمية/ مسيسة.
من هنا، يجب التمييز اذن بين منطق الرؤية vison-logic كما تمثل في الخطاب الافلاطو- سقراطي؛ وبين البراكسيس المنطقي logical-praxis كما تشكل في الخطاب السفسطائي. فالمنطق الأول ، يتركز جل اهتمامه في تأسيس انطولوجيا الاتساق الزمكاني، لثبات التمثلات stable representations لموضوع واحد/ وزمن واحد. Cf. change blindness and visual memory, ed. Daniel J. Simons, Psychology Press, 2000, p.17. وهذا ما يشكل لولادة تمثل واقعي virtual represent كما ظهر في الخطاب الافلاطو-سقراطي، ومن اهم خصائصه، انه ((تمثل كامل للمشهد، ويتطلب، بالتالي، ثبات محتوى العين/ النظر لدى الافراد ليكون هرمونيا ويمر عبر حاجز بصري عالي القدرة.)) Ibid. p.18
نلاحظ ان مفهوم "التمثل الواقعي" يجعل من فكرة تمثل العالم البصري، هي مجرد تذكر للعالم الاصلي الماورائي، ((فلا يتم تخزين اي شيء حول العالم البصري داخليا. واساساً، يعمل العالم كمخزن للذاكرة)) Ibid. p.10. وعليه، فأن "وظيفة التمثل الواقعي" لا تختلف عن وظيفة التذكر في فعل الكتابة، لان التذكر لا يبعد الانسان عن الاصل؛ وعن المنطلق الاساسي لولادة اللغة وتشكيل الكلمات الاولى، على اعتبار ان الكتابة لا تحيل الا على دلالات مكررة وغير حيّة وبعيدة عن جوهر الحقيقة الكلية والمطلقة. ومن ثمة، فأن التمثل كالحضور لا يتمثل الموضوع بل proto-objects اي الموضوعات الاولية/الاساساتية حيث شُيدت بطريقة متسقة ابعد عن الفضاء والزمان، وكأشكال من الذاكرة الايقونية.
هنا، نحن نعود الى التشكيلات الوضعية/والمعيارية للتأويلات الافلاطو-سقراطية، خاصة لطبيعة اللغة والخطاب والبلاغة. وفي هذا السياق، نجد كيف ((ان النزعة التجريبية للكلام المجازي والميتافوري تتمثل الواقع المادي بالضبط مثل الصورة التي سبق ادراج اشكالها البلاغية)) w.j.t.mitchell,iconology,image,text,ideology,Chicago,1986,p.21. ولهذا، فأن واقع التأويلات الافلاطو- سقراطية تقع بين النزعة التفسيرية والنزعة التمثلية والتجريبية، مما ادى الى سيطرة خصائص اسلوبية او كاركتر اسلوبي/توصيف اسلوبي لاشكال واقعية للخطاب الفلسفي التقليدي. وهذا يشير، بطبيعة الحال، الى ان منطق اللسانيات الهرمونية هو الذي ظل يتحكم بعمليات تشكيل القراءات لمفهوم الكتابة والكلام، وبالتالي الى استدعاء نبذ وتكفير السفسطائية، التي لم تنهج منهج اللسانيات الهرمونية، بل دشنت "لسانيات منظورية" تتجاوز مفهوم ميتافيزيقيا الحضور الثقافي – الموضوعاني، انها لسانيات انتروبولوجية جديدة تتعارض مع المفاهيم الانطو- افلاطو- سقراطية لابستيم التمثل الانطولوجي المغلق.
السفسطائية: من التكفير الاونطي الى الانطولوجيا الهرمينوطيقية
ان مجمل ما تم طرحه وتحليله في اعلاه، كان يهدف الى اعادة تأويل وتحليل اشكالية الكتابة كما طرحها دريدا في كتابة ( صيدلية افلاطون). وكما مرّ بنا سابقا، رأينا كيف ان تأويلات دريدا لثيمة الكتابة تكاد لم تختلف عن التأويلات الافلاطو- سقراطية لنقد السفسطائية، وبالتالي، فأن شكل المقاربات المسيطرة على تلك التحليلات والتأويلات، ظلت توجه النقد لعقم الكتابة وعدم حيويتها وافتقارها الى الحقيقة المطلقة الى جانب تكرارها لنفسها ولنظامها اللغوي الثابت. الامر الذي جعل هذه المقاربات تتحول الى تأويلات طبيعية/موضوعانية تجرد الكتابة من نظامها العلائقي/والاشكالي، خاصة مع مفهوم "الكاتب" الذي ظل مغيبا عند دريدا ومن قبله افلاطون وسقراط، وهذا يعني من وجهة نظر الابستمولوجيا التقليدية، ان هناك نزعة تجريبية خفية هيمنت على عملية تقويض الكتابة من جهة؛ وساهمت في تقويض الخطاب السفسطائي من جهة أخرى. حيث نلاحظ ان التراث الافلاطو-سقراطي، لم يوجه نقده مباشرة الى الكتابة، وانما الى شكل من اشكال الُكتاب الجدد الذين ظهروا في الفلسفة اليونانية ونعني بهم "السفسطائيون" الذي شكل ظهورهم صدمة حداثوية ضد كافة البرادايمات الافلاطو- سقراطية. ويمكننا ان نعد هذا الظهور بمثابة "المحرك الذي يحرك ولا يتحرك في الكتابة" فمع السفسطائية تم اعادة تأسيس مفهوم الكتابة من جديد، فلم تعد محافظة على مجموعة من الكاركترات /الوصفية الكامنة فيها؛ وكأنها قوانين وضعية ثابتة لايمكن لها ان تتغير او تتحول، بل ان الكتابة لم تعد مع السفسطائيين منفصلة عن الوجود وعن الكائن الذي يستعملها، وارتبطت بنهاية الحقيقة المطلقة وتشكيل النسبية الثقافية. وذلك لانها بدأت تتحرر رويدا رويدا من منطق الرؤية؛ لتتحول الى البراكسيس المنطقي. بمعنى آخر، ان الكتابة لا تكرر نماذج مثالية؛ واصول ميتافيزيقية؛ ومركزية صوتية، بل انها اصبحت تمثل ما يعرف بـ" de-idealizing science وهو العلم الذي لا يمكن ان يمأسس لمفهوم الحقيقة النهائية؛ والاساسية؛ والضرورية. وبهذا فهذا العلم يقف بالضد تماما من ايديولوجيا تمثلات الابستيم من جانب؛ والابستيم الطبيعي من جانب آخر. وهذا يعود لكونه ((يوفر صورة اونطية ontic pictureللادراك الانساني؛ ويساهم، كذلك، في فهم مشروع العلماء الطبيعيين بوصفه تركيب لنظريات "تعمل على شرح ظاهرة العلم في ذاتها،وبشكل قريب من طريقة النظريات العلمية التي تشرح ظواهرنا الطبيعية)) j.e mcgurire and Barbara tuchanska : science unfettered, a philosophical study in sociohistorical ontology,Ohio,2000,p 20.
من هنا، فأن ظاهرة الكتابة لا يمكن لها ان تكون مستقلة ومتمركزة حول التفسيرات النظرية والثقافوية المنغلقة على ذاتها. وهذا هو تحديدا ما يعنيه مفهوم الكتابة في ادبيات الفكر السفسطائي، حيث الكتابة عندهم بلا اوضاع اونطية قارة ontic status. وبهذا تكون الكتابة بالمفهوم السفسطائي، بمعزل عن الصور الاونطية التي تكرر الوجود الموضوعاني والوصف الكلي. وعليه فأن الكتابة عند السفسطائيين لا تستند على الدائرة الاونطي-انطولوجية ontic-ontology circle التي تسجن عقولنا في نماذج تجريدية وشكلية ووصفية، حالها في ذلك حال الكتابة عند دريدا التي اعتبرها امكانية لتكرار ذات الشيء. لكن منطق تكرار ذات الشيء، يختلف تماما عما هو عليه عند السفسطائية، فالتكرار لا يتحدد بمداخل لسانية ومثالية، بل انه يمثل تكرار لعمليات انتاج مستمرة للقيم والحقيقة المطلقة، وهذا بدوره يكرر ايضا للموضوعانية المطلقة، وبالتالي، فأن القيم تتحول الى حضور، بل القيم هنا تصبح قوة. بمعنى آخر، ان نقد الموضوعانية في الخطاب السفسطائي لا يؤسس لأي نزعة تجريبية او علموية ضيقة، كما مر بنا مع التأويلات الافلاطو- سقراطية ودريدا، بل على العكس، فحتى مفهوم ((الموضوعانية objectivity لم يعد يدل على شيء نستدل عليه من خلال المعطيات الخارجية: هي شيء نفعله وينبغي فرضه مسبقاً. هي شيء نسلم به او نفترضه للوهلة الاولى عندما نتعامل مع مزاعم الناس حول وقائع العالم- بما في ذلك الوقائع الخاصة بنا.)) Michele marsonet,the primacy of practical reason, new York, 1996, p61.
لهذا، لايمكننا ان نتكلم عن الكتابة عند السفسطائيين دون ان نعيد قراءتها وتأويلها لمفاهيم النسبية ونقد الحقيقة المطلقة التي اصبحت جميعها تشكل "اوضاع ابستيمية epistemic status" موضوعانية ليست تجريبية ولا مثالية ولا حتى مجرد تمثلات ميتافيزيقية، انها تتجسد في بنية وجودنا الثقافي والتاريخي. من هنا، فأن الموضوعانية اصبحث تمثل بنية اللسانيات الاونطية لذاتها، التي تجهز المتكلم بمعان معيارية ثابته ومطلقه.
من هنا، يمكننا ان نعد واقع تكفير السفسطائيين من قبل الخطاب الافلاطو- سقراطي، هو واقع تأويلي / ايديولوجي قبل كل شيء، فالتأويل بدأ مع خروج ملة السفسطائيين على شريعة الوجود الاونطي الذي هو اساس الاسس لكل وجود انساني وايديولوجي. لان السفسطائية لم تتعامل مع الكتابة من باب ثنائية الكتابة/الكلام، بل انها تعاملت من باب ان الكتابة تمثل المدخل اللساني والبلاغي لتقويض منطق تكرار ذات القيم نفسها. وعليه، فأنها سوف تقطع مع مفهوم الاونطي /الموضوعاني/الابستيمي لتفكر بمنطق الانطولوجيا الهرمينوطيقية، التي (( لاتفترض في الطبيعة ان تكون مطلقة واساس كامن لما يوجد هناك)) j.e mcgurire and Barbara tuchanska,p 26.. ان الانطولوجيا الهرمينوطيقية لا تجهزنا بتمثلات وتأويلات معيارية واشكال ادراكية طبيعية ثابتة، بل على العكس ((انها توفر اداة لاجراء المهمة الاساسية في تحليل المظاهر السوسيو-تاريخية للمطلق الواسع المتضمن في جميع الاشكال الادراكية للانسان المتموضعة. فليس هناك شكل من التجربة الانسانية او الفعل يأخذ مكانا كجزء من التوسط الرمزي.)) Ibid., p. 27
وعليه، فأن عملية تحليل الظواهر السوسيو-تاريخية هنا تختلف عن انتاج المعرفة التي ذكرها دريدا بطريقة مثالية في ثيمة الكتابة. وبطبيعة الحال ان مفهوم المظاهر السوسيو-تاريخية للمطلق لا ينفصل عن تحليل مفهوم الحقيقة المطلقة؛ والميتافيزيقية في الخطاب السفسطائي، وهذا ما يجعلنا نستبدل مفهوم النسبية عندهم "بالانطولوجيا الديناميكية" التي تتخطى مفهوم انطولوجيا الجوهر/المثال عند افلاطون. ومع هذا المفهوم، لا تؤسس السفسطائية فلسفتها على فكرة الاصل كما مر معنا في تحليلنا للمفاهيم الافلاطو-سقراطية للكتابة والوجود واللغة، وانما على مفهوم الجينالوجيا الذي يكون فيه التغير والتحول التأريخي في الزمان، وليس في الاشكال والتمثلات التي احتكرها الفلاسفة لصناعة وابتكار صور بلاغية تختزل الوجود الانساني وتسيطر عليه وتعمل على اعادة تشكيله بما يتناسب وتحولات الايديولوجيا في التاريخ واللغة والثقافة.
ربما هذا ما يجعلنا نعيد النظر بمفهوم الاستشراق البلاغي/ وبلاغة الاسشراق، التي هي في الاصل تعبر عن اشكالات الوجود والثقافة واللغة. فالسفسطائية تعبر عن فلسفة خوارج البلاغة والكلام؛ التي لا تسيطر عليها بلاغات كولونيالية/متعالية. لذلك فأن ((احدى اهم سمات الخطاب السفسطائي هي تدشينه للممارسة والتفكير في تلك الاشكال الكلامية /البلاغية التي لطالما نبذتها الانطولوجيا الافلاطو- ارسطية ورمت بها في لجة العدم، لانه وفقا لهذا الانطولوجيا لما كانت للكلمات جوهرا فأن للكلمات معنى ...وهذا ما يلخص هذا الرسوخ الضروري للغة في هذه الانطولوجيا (وضروري كذلك ضمن الاطار الارسطي وذلك تحت طائلة عدم الانزلاق في الاقيسة الفاسدة والثرثرة السفسطائية). مع السفسطائي اصبح الكلام وجودا- في – العالم فطبع بذلك التفكير الفلسفي بما ندعوه في القرن العشرين بالمنعرج اللساني linguistic turn. لقد رفض السفسطائي ان يكون اللوغوس انكشافا للوجود بوصفه être مؤكدين على ان هذا اللوغوس هو بالنسبة للروح كالعلاج pharmakon الذي يمكن ان يتحول الى سم عندما يكون هناك اختلاف في كمية الجرعات واوقات تناوله. فالكلام اذن حينما يتنقل بين اطراف المدينة فهو يحدث تأثيرا مثلما هو حاصل في قاعة المحكمة.)) Barbara Cassin : L’Effet Sophistique, Gallimard, 1995, pp. 66-67
يتضح اذن، ان السفسطائي الذي بحثنا فيه هنا، ليس هو السفسطائي الذي جسدته محاورات افلاطون، فهذا السفسطائي هو اشبه بأبتكار افلاطوني، انه شبيه بأبتكار الخطاب الاستشراقي لمجموعة من التمثلات التي يفرضها بالقوة والقهر لوضع اشكال ثقافية نهائية وموضوعانية لمجموعة انسانية ما او لفئة فكرية او مدرسة فلسفية. ولهذا، فأن انشغالات السفسطائي في اللغة وتفكيك القيم هي في الاصل محاولات لتجاوز الصور النمطية والتنميطية كتلك التي قام بترسيخها من قبل افلاطون لهذا الخطاب، لا سيما في ((مجمل محاوراته التي اكدت على الشكل التقليدي للسفسطائي. فالسفسطائي يخرج من دائرة الاعتبار على جميع المستويات، سواء كان: انطولوجيّاً حيث لا نجد اي انشغال للسفسطائي بالوجود. وانما نجده يلوذ بالانشغال بما هو عدم وعرضي؛ او كان منطقياً حيث لا يبحث السفسطائي لا عن الحقيقة ولا الصرامة الديالكتيكية، وانما يبحث فقط عن الرأي والانسجام الظاهري، وعن الاقناع.)) Barbara Cassin : Qui a peur de la sophistique ? Contre l’ethical correctness, un art. dans Le débat, n. 72, novembre-décembre, 1992, Gallimard, p. 55
يتبع.
*باحث من العراق مختص في الدراسات الثقافية وما بعدها