«أنا العائدُ أقف ضائعا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعر بالرغبة في البكاء». هذه الصّرخة لبطل رواية "نهر يستحمّ في بحيرة" ليحيى يخلف لا تزال الأنين الطّالع من أعماق كلّ المقاتلين والأبطال الذين جاء بهم "اتّفاق أوسلو" إلى وطن طالما حلموا به، ورسموا له الصّور الجميلة، وقاتلوا واستشهدوا وصمَدوا كي يعودوا إليه ليبنوا «وطنا حرّا كريما مستقلّا».
لكنّ القناعة الثوريّة الواعية التي آمن بها يحيى يخلف، وبرزت جَليّة في رواية "راكب الرّيح"، بأنّ الحقّ لا يموت، وحتى تصلَ إليه وتناله عليك أنْ تكونَ حكيما، وإنْ لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإنْ واجهتَ المستحيل فلا تيْأسْ وغَيِّرْ من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوّة تهوّرا يوصِل للدّمار، ففكّرْ بإعمال فكرك في اتّباع الحكمة والتّروّي. فقد علّمنا تاريخُ الشّعوب أنْ "لا ظالم باقٍ، ولا دولة خالدة". هذه القناعة الثوريّة لم تستطع محوَ الأنين الطّالع من الأعماق، وأن تُبعد عن فكر المقاتل القديم في رواية يحيى يخلف الأخيرة "اليد الدّافئة" صورةَ الخيول الهَرمة التي شاخت ولم تعُد صالحة حتى للبيع فأُطْلِقَ سراحها وتُركَت تهيم على وجهها في أرجاء مُخيّم اليرموك بعد أنْ أنهتْ خدماتها.(اليد الدّافئة ص14 و 21).
أهميّة هذه الرواية "اليد الدّافئة" أنّها جاءت بعد رواية "راكب الرّيح" التي تميّز بها يحيى يخلف بلغته وخياله واستخدامه للأساطير والتّاريخ والتّلاعب بالزّمن وبطرحه للفكر الثوري الواعي العقلانيّ الذي يجب أنْ يُحدّد مسار النّضال الفلسطيني. ويثبت يحيى يخلف في روايته هذه "اليد الدّافئة" قُدرته الإبداعية والتّجديديّة وإمساكه باللغة الجميلة السّلسة الرّاقية. فهو تَحَرّر من لغة "راكب الرّيح" الرومانسيّة، وتحرّر من التاريخ ورجالاته. وعرف كيف يستفيد من التراث والأساطير واستخراج القصص الجميلة من قصص "ألف ليلة وليلة" واستعارة شخصية "علي بابا" وقصصه الجميلة التي كان يسحر بها السّامعين ويشدّهم إليه. واستحضار شخصية "جؤذر" ليكون قرينا للأرض التي وصفها أبو خالد بأنّها مثل "مهر البراري، من السّهل استئناسها وترويضها".(ص214)
"اليد الدّافئة" وشكاوى المناضلين القدماء
يتناول الكاتب في روايته هذه الجوانب الإنسانيّة في شخصيّاته، ويصوّر الألم النّاتج عن المعاناة التي مرّت بها وتعيشها، خاصّة تلك الشخصيّات التي تعوّدت وكبرت على التّضحية والعطاء والنضال، يُخاطب أحمد أبو خالد نفسَه بألم: "ها أنتَ تُصبحُ متفرّجا، وتنضمّ إلى مقاعد المتفرّجين، كأنّك صرتَ نسيًّا مَنْسيًّا. كنتَ تصنعُ أقدارَك، فصارت الأقدارُ تُحدّد مصيرَك. تعودُ إلى البيت لتُجالسَ الجدران، والطّاولات، والكراسي. تعود إلى عزلة ومنفى. تتذكّرُ حياةً حافلة عشتَها لا حزنًا ولا مسرّة، عشتَ الزّمنَ الجميلَ، والأزمان الوغدة، عشتَ تحت سقف الانتماء والسّجايا أيّام الكفاح عندما كان رفاقُ الدّرب يتسابقون على التّضحية وإنكار الذّات، وعشتَ زمنَ التّسابق على الوظائف والمناصب"(ص41-42)
وبألم صارخ يتساءل: "ماذا بقي من رجل نثر ياسمين روحه في مشوار العمر؟ لماذا لا تُجيد الرّياحُ القراءةَ؟ لماذا لا ترحل الزّعامات وأشباهها؟ لماذا يقتلون الجياد عندما تهرم؟ لماذا يحمل ديوجين فانوسَه في نهار شديد العتمة؟ لماذا لا تدور الأرضُ، ولا تُشرق الشّمس، ولا تمضي الحياة؟" (ص42-43)
وأحمد أبو خالد أحد شخصيّات الرواية من المناضلين القدماء الذين عاشوا على سفوح وذرى جبل الشيخ. وهو الكاتب والإعلامي الشهير، عمل في التّعبئة المعنويّة عندما كان في التّوجيه السّياسي والمعنوي، وشارك في تغطية معارك جنوب لبنان ومعركة بيروت، وكان ينشر المقالات في المواقع الإعلاميّة الإلكترونيّة. وقد اختار التّقاعد المبكّر بعد أنْ أدركه السّأم. وخلال أشهر قليلة وجد نفسَه وحيدا لا أحدَ يهتمّ به أو يسأل عنه بعد أنْ ماتت زوجتُه، وتركته ابنتُه وسافرتْ مع زوجها إلى دولة الإمارات.
وهو ليس الوحيد الذي وجد نفسَه مهملا لا يُهتَمّ به، فمثله المئات الذين عرفتهم الجبال والوديان والسّفوح وساحات المعارك، ووجدوا أنفسهم بعد اتّفاق أوسلو والعَودة إلى الوطن والخروج إلى التقاعد كخيول مخيّم اليرموك التي انتهت مهمّتها، وأُطلق سراحها، وتُركت وشأنها تندب حظّها، وتعيش داخل حلقات ضيّقة صنعتها لنفسها لا تُفكّر في كسرها والخروج منها. فمثل هؤلاء الرجال، وأحمد أبو خالد واحد منه، يُثيرون اهتمامَه وقلقه "تقلقني نهايات أولئك الرّجال الذين أعطوا سنوات عمرهم للثورة ووصلوا إلى سنّ التّقاعد، ويشعرون بالإحباط بسبب الإقصاء والتّهميش"(ص250).
عالم أحمد أبو خالد انحصر في قضائه الساعات الطويلة وحيدا في بيته يتنقل بين المطبخ والشرفة ومراقبة الشارع والجارة التي تقضي ليلها تخيط على الماكينة. وكثيرا ما كان ينظر إلى صورة زوجته "جميلة" المعلّقة أمامه على الجدار ويناجيها ويشكو لها كآبة المَشهد وسوءَ المنقلب، لقد ماتت جميلة ولمّا تصل إلى التاسعة والأربعين من عمرها إثْرَ ذبحة قلبية أصابتها فجأة. وأصبح البيت بالنسبة له "جزيرة معزولة ومنفى، فالبيت لم يعد وطنا، والوطن الجميل حوّله الاحتلال إلى أسلاك شائكة، وحواجز عسكريّة، واستباحة، وإذلال، وإهدار كرامة". (ص56)
رواية سمعان الناصري وصوفي
أوقات الوحدة التي يعيشها أحمد أبو خالد كانت قاتلة له، وحواراته المتقاربة مع زوجته جميلة التي فارقته منذ سنوات كانت تزيده ألما وشعورا بالوحدة، حتى جاءته تلك المحادثة الهاتفيّة من صديق أيام النضال "سمعان الناصري" الذي غادر الوطن ويعيش في ألمانيا بعيدا عن كل الهموم. هذه المحادثة دفعته ليوقظ رغبة نائمة في كتابة رواية عن صديقه سمعان. وهو يشرح لصديقه الدوافع للكتابة "أكتب عنك لأنّني وجدتُ في حكايتك ما يُمكنُ أنْ أجدَ في كتابته متعة، فغربتك الخارجيّة هي غربتي الدّاخليّة، وكلانا وقف طويلا على رصيف الثورة، ولكنّك كنتَ أكثر جسارة حين دخلتَ في مغامرة جسورة، ولم تعبأ بالرّبح أو الخسارة".(78)
وبرواية سمعان نجد الكاتب يسير بالرواية في مسارين متوازيين: الرواية الرئيسيّة وفي داخلها يكتب رواية سمعان الناصري مستقلة بذاتها ولكنها مكمّلة لها حيث أنّ "غربة سمعان الخارجيّة هي غربة أبو خالد الدّاخلية" كما قال، وتلقي الضوء على بعض الجوانب الغامضة، وتتلاقى معها في بعض المشاهد، خاصة الأسطورية، المستوحاة من قصص "ألف ليلة وليلة".
إخراج أحمد أبو خالد من وحدته وشعوره بالفَراغ القاتل
ولم يكتف يحيى يخلف بأنْ شغَل أبو خالد بقصّة صديقه سمعان، وإنّما خلق له العالمَ الواسعَ الحاضن الدافئ، وأعادَه ليُشارك في صنع الواقع وبلورته لما هو أفضل، وأنّ المعارك لا تكون فقط في ساحات القتال وإنّما في الانطلاق نحو النّاس العاديّين لتوعيتهم ومشاركتهم في حياتهم وهمومهم اليوميّة، ونحو العالم الواسع لكَسب تأييد الشعوب الأخرى.
وحتى ينجح أدخل بطل روايته في مسارَين متلازمَين:
الأول: يرسمه ويدفع إليه أبو الخير مرافق أبو خالد وسائقه من أيام الكفاح المسلّح، فقد ظل إلى جانبه ويقوم بخدمته ويوفّر له كل احتياجاته، ولكنه كان دائما الشّادّ به جهة حبّ الوطن والأرض، وباعثا فيه الأمل أنّ المستقبل سيكون أفضل والأجيال الطالعة ستُغيّر المعادلة؛ وتعرف كيف تُحقق النّصر وتفوز بالحريّة والاستقلال بعد دَحْر المحتلّ.
وكان يعرف كيف يُثير اهتمامَه بالأخبار والقصص الغريبة التي ينقلها إليه، ويشده لانتظار المزيد، "الجراد هاجم الأغوار، وبدأ يأكل الأخضر واليابس ووصل إلى سفوح الأغوار القريبة من منطقة الباذان، يعني وصل أرضك، وأخلى اليهود الحاجز، وهربوا من المكان، يعني احتلّ الجراد الأرض، وجلا عنها اليهود". وفي الزيارة التالية اعتذر أبو الخير عمّا قاله عن الجراد ولكنّه أصرّ على أنّ اليهود تركوا الحاجز العسكري إلى مكان آخر، وأصبح بإمكان أبو خالد الذهاب إلى أرضه والعناية بها. وبعدها جاءه أبو الخير بقصّة غريبة عن جؤذر الذي ينام في حضن الشجرة الكبيرة في أرض أبو خالد، وأنّ جؤذر قال لأبي الخير: قل لمعلّمك: ازرع هذه الأرض ودلّلها. نظّفها من الشّوائب". (ص 106-107) وكان اختفاء أبو الخير، ثم عودته بعد ثلاثة أشهر يحمل خسّة قدّمها لأبو خالد قائلا: كُلْها وجرّب مَذاقها. إنّها من الأرض التي تحبّها، الأرض التي كان سمادُها عرقَ أجدادك. هذه الخسّة من أرضك وأنا الذي زرعتُها بمساعدة الشبيبة الفَتحاوية وطلبة جامعات وبعض المتضامنين الأجانب وجئت لأدعوك للاطّلاع على ما فعلناه. غدا آتيك باكرا ومعي سيارة جيب أصطحبك هناك، إلى الأرض"(ص154).
الثاني: قام به الدكتور نادر، صديق أبو خالد الوحيد الذي بقي له من الماضي الجميل، فقد استطاع بعد محاولات عديدة أنْ يُخرجَه من عزلته البيتيّة والنفسيّة، وأن يُدخله في جوّ الصّداقات واللقاءات والأفكار والمشاريع، وأنْ يحرّك عواطفه ويجعله يلتفت إلى المرأة التي يُمكنُها أنْ تقلبَ حياتَه رأسا على عقب. كانت تلك المرأة هي نرمين، امرأة في الأربعين من عمرها، ناشطة في مجال حقوق الإنسان، لها صداقات كثيرة، وضيوفها من المتضامنين الأجانب الذين يُشاركون في التّظاهرات المناهضة للاستيطان والجدار. استطاعت أن تجذب انتباهه أوّل مرّة التقاها في المقهى برائحة عطرها المميّزة. ثم بالتقائها في مظاهرة لمناصرة الأسرى في السجون حيث كانت تهتف وتتكلّم وتفرض وجودَها على الجميع. وكانت عيادتها له في المستشفى وتمنياتها له بالصّحة والعمر المديد السّهم الأخير الذي نفذ إلى قلبه فشعر بأنّها اليد الدّافئة التي طالما حلم بها بعد موت زوجته. ونجحت نرمين أن تُخرجه من عزلته البيتيّة وتأخذه إلى المقاهي والمطاعم وإلى بيتها وتُعرّفه على أفراد أسرتها، وتُشركه في كلّ المناسبات التي تكون، وعرضت عليه عملا يُدرّ عليه دخلا في مكتبها.
هذان المساران المتلازمان أخرجا أبو خالد من وحدته، وشغلاه عن الانتباه لصورة زوجته "جميلة" المعلّقة على الجدار، فلم يعد يناجيها ويشكو لها وحدته وإهمال الآخرين له، وإذا ما صدف وانتبه لوجودها يرى الدّمع ينساب من عينيها ويسمع كلمات عتابها.
شخصيّات إيجابيّة واعية
شخصيّات الرواية عاديّة متحرّرة غير مُقيّدة الواحدة بالأخرى، كلّها تتحرّك وتعمل، ولكنّها لم تُبرمج لما تعمل ولم تُشرك غيرَها معها. فالعمل الفردي يصبّ في النهاية في المصلحة الجماعيّة. العمل الجَماعي برز في مشاركة طلاب الجامعات والشبيبة الفتحاوية في استصلاح الأرض وبعثها من جديد، وفي المواجهات مع جند المحتل على نقاط التّماس.
لم تقتصر شخصيّات الرّواية على نماذج عربية إنّما نجد شخصيّات من شعوب أخرى انخرطت في العمل لمناصرة الشعب الفلسطيني في نضاله. مثل صوفي الصّومالية صديقة سمعان النّاصري وهياتارو الفتاة اليابانيّة. والمناضلون الأجانب الذي يشاركون الفلسطينيين في مواجهة جند الاحتلال.
ما ينتبه إليه قارئ رواية "اليد الدافئة" أّنّ شخصيات الرواية نماذج شبابيّة لا تلتفت للماضي وتبكي عليه، وإنّما تعمل من أجل بناء مستقبل جديد، وبذلك ينبّهنا الكاتب إلى التّحوّل الزّمني والفكري، هي شخصيّات إيجابية واعية تعرف كيف تختار طريقَها وتعمل لتحقيق هدفها، وتنتمي إلى فئات مختلفة من الشعب ما عدا الطبقة الغنية والمقرّبة من السلطة. فأبو الخير وأبو عمر من فقراء الشعب، وجدوا مكانهم مع الشباب والشابات وطلبة الجامعات والشبيبة الفتحاوية التي ساهمت في التّصدي لجند الاحتلال، وتعمل لاستصلاح الأرض وإنقاذ جثامين الشهداء في المقابر الرّقمية.
وتثيرنا الشخصيات بتنوعها وتميّزها فنجد المجموعات الكثيرة من المتطوّعين الأجانب الذين جاءوا من بلادهم ليقفوا مع الشعب الفلسطيني ومناصرته في قضيته لنيل الحريّة والاستقلال. والأكثر إثارة الشخصيّات النسائية الواعية المواجهة مثل شخصيّة "جميلة" زوجة أحمد أبو خالد التي رافقته في كل حياته النضاليّة، وانتقلت معه من بلد إلى آخر بحكم عمله النّضالي، وكانت المساعدة له والمشجّعة والدّافعة، ولكنها ماتت وهي في التاسعة والأربعين من عمرها تاركة في حياته فراغا كبيرا صعُب عليه التّغلّب عليه. ومثل "نرمين" التي وقع أبو خالد في حبّها ولازمته في كل تحرّكاته، والمرأة التي تسهر حتى ساعة متأخّرة من الليل تعمل على ماكينة الخياطة، هذه المرأة التي فقدت زوجَها وبعد ذلك ابنَها، وتعمل جاهدة لإخْراجه من مقبرة الأرقام لتدفنه كما يليق بشهيد قتله جند المحتل. و"ياتارو" صديقة شقيق نرمين الفتاة اليابانية التي قدمت لتكشف عن مقابر الأرقام التي أقامها المحتل الإسرائيلي للشهداء من المقاتلين الفلسطينيين، و"صوفي" صديقة سمعان الفتاة الصّومالية التي أرغمتها الحرب الأهلية في بلادها على الهرب نحو أوروبا حيث التقاها سمعان في مركز إيواء في ألمانيا واعتنى بها ورافقها حتى توطّدت الصّداقة بينهما وعاشا معا. ساعدته حتى أصبح فنانا معروفا تُعرَض رسوماته في صالونات مختلفة. رفضت عرضَه للزّواج وفضّلت أن تعيش معه كعاشقة وحبيبة. لكنّ سمعان بعدما اشتهر وأصبح صاحبَ ثروة كبيرة خان صوفي مع العديد من الفتيات ممّا دفع صوفي لتبحث لها عن حياة أخرى فدخلت دورات رقص الباليه، وسافرت إلى القاهرة وتعلّمت الرّقص الشرقي، ثمّ عادت إلى برلين وافتتحت ناديا شرقيّا سمّته "نادي علي بابا" وسحرت زوّار النادي برقصها الرّائع في الوقت الذي أضاع فيه سمعان ثروته على الفتيات وعاد يستجدي صوفي لتشغله عندها بشخصية علي بابا الحكواتي فنجح نجاحا باهرا (ص113).
ما فاجأت به صوفي هو قدومها إلى البلاد مع مجموعة متضامنة مع نضال الشعب الفلسطيني، لكن السلطات الإسرائيليّة منعتهم من الدخول للبلاد بحجّة أنّهم ينتمون إلى حركة المقاطعة الدولية BDS التي تعمل على عزل إسرائيل سياسيّا واقتصاديا وأكاديميّا. ومثلهما كان المئات من الشباب والشابات الأجانب الذين كانوا يشاركون الشعب الفلسطيني في مواجهته لجند الاحتلال في مختلف الأماكن.
اللغة الجميلة السلسة الرّاقية
لغة الرواية كانت قريبة من اللغة التي يتحدّت بها المثقفون بسلاستها وبساطتها وجمالياتها وانسيابها الجميل. لكن الكاتب كان ينساق وراء إيقاعيّات الحروف وتناغم الحركات وجماليّة خواتم الكلمات فيكتب اللغة الجميلة الأخّاذة كما في وصفه لصوفي صديقة سمعان الناصري وهي تتلوّى على إيقاع الموسيقى "رقصت على إيقاعات أذهلت جمهورَها الغربي، رقصت برشاقة وخفّة، رقصت كموجة تُقبل بعنف وتتراجع بخفّة، تهجم كنمرة، وتتراجع كغزالة، تدور كزوبعة، وتعتدل كنسمة. تهتزّ بالأذرع والسّيقان، وتُطلق غواية بعيني عاشقة وشفَتي حبيبة".(ص 83).
عشق الأرض وأنْسَنَتها
كما في معظم رواياته يظلّ الكاتب يحيى يخلف عاشقا للأرض، تتغلغل فيه ويذوب فيها فيمتزجان ليكون الانصهار الكلّي بين الأم وابنها، العاشق والمعشوق، الربّ والمتعبّد الصوفيّ. وإذا ما انشغل الابن عن الالتفات لأمّه، سارعت لتنبّهه، فجؤذر قرين الأرض قال لأبو الخير "قل لمعلّمك: ازرع هذه الأرض، ودلّلها. نظّفها من الشوائب"(ص106). وعندما ذهب أبو خالد للأرض وبدأ "يتعربش ويزحف، ويُمسك بأطراف الصّخر، وجذور النباتات الشوكيّة، وكان وهو يبذل جهدا فوق طاقته يمضي قدما في الصّعود، وإذ اقترب من النهاية، صارت أغصان شجرة بلوط تتدلّى نحوه، تُساعده كما لو أنّها تمدّ له أذرعَها لتنتشله."(ص211)
فهذه الأشجار كما يقول أبو الخير "كائنات حيّة، تنمو وتتنفّس وتتغذّى وتتشمّس، ومثل الصّبايا تنشر أسرار جمالها". وهذه شجرة السنديان التي نسمّيها شجرة البلوط تنحني وتكسر جذعها إذا تسلّقها ولد، تنكسر في لحظة خطر لكي لا ينكسر الولد!، وانظر إلى ساقها العالية والأوراق التي تكسوها، مثل قامة سيّدة تزيّنت وتعطّرت وسوّت شعرها كأنّها ذاهبة إلى سهرة".(ص217) وتلك شجرة الصنوبر سيّدة عالية المقام، تلبس لباسها المحتشم وتتدثّر بعطر ذي رائحة ساحرة." وعندما يكون الهواء شماليّا، تُرسل زهور هذه الأشجار للشهداء تحيّة وسلاما". (ص220). ويتحدّث أبو الخير عن جؤذر قرين الأرض فهو مثل السندباد، يغيب عن بلده في مغامرات جسورة ويواجه العواصف والغيلان والرياح والسّحرة والكائنات الغريبة، لكنّه يعود مثل فجر عنيد. ينهض من قلب الرّماد كطائر الفينيق".(ص226)
"رأيتُ جؤذر في المنام، وقال لي إنّه سيخرج من ساقها لينام عند جذورها، وقد فعل، نام عند جذورها ليُقاسمها الغذاء، قال نّه سينام طويلا ويستيقظ بعد زمن لم يُحدّده ، ومنذ ذلك اليوم، بدأت الشجرة تضمحلّن ربّما لتوفّر الغذاء الذي يُمكّن جذورَها من إطْعامه".(227-228). لقد انتزعَ أبو الخير جؤذرَ من رواية الاستشراق، وزرعه فكرة، وشجرة، وجذورا، وبراعم، ونوّرا، وزهورا، وأجراسَ ميلاد، وآذان فجر، وتراثا حضاريّا".(ص229)
مَقابر الأرْقام
كانت الكاتبة رجاء بكريّة قد خصّصت رواية كاملة هي "عَيْن خَفْشَة" (الأهلية 2017) لكَشف التّستّر عن المقابر الرّقمية التي تحتوي على جثامين المقاتلين الفلسطينيين الذين استشهدوا في المواجهات المختلفة مع جند الاحتلال. لكن الكاتب يحيى يخلف في روايته هذه يكشف لنا أنّ هذه المقابر الرّقمية المهينة لكرامة الشهداء وذويهم والشعب الفلسطيني كلّه، كانت مركز اهتمام الشباب الذين أثاروا القضيّة وعملوا على إنقاذ الجثامين من البلى والذّوبان وانتهاكات الطبيعة والطير والحيوان زيادة على انتهاكات المحتل. وبألم يشكو الإهمال الذي حظيت به هذه المقابر من قبل المسؤولين "إنّهم منسيّون، غير مشمولين بموضوع المفاوضات، وغير مشمولين بقضايا تبادل الأسرى، وغير مشمولين بزيارة الأهل، وغير مشمولين بمقاومة الاعتقال الإداري، فهم معتقلون إداريّون للأبد. لا بُدّ من التّذكير بهم، ومعرفة أسمائهم، وإعادة دفنهم بشكل لائق يحترم كرامة الإنسان. يجب أن يكونوا قضيّة نعمل على إيجاد حلّ لها، تماما مثل اهتمامنا بقضايا الأسرى".(ص195)
ويقول: "مقابر الأرقام: كآبة مشهد، وسوء منقلب. مقابر الأرقام: تعذيب للروح. وغصّة في القلوب. مقابر الأرقام معتقلات. إنّهم يسلبون كرامة رفات الإنسان. مقابر الأرقام: محرقة تحت لهب شمس الأغوار، وصقيع ينخر العظم في شتاء الجبال. وعندما تمطر وتجري السّيول تجرف العظام. تُلقي بها على قارعة الدروب والمسارب، فتنوشها الذئاب والكلاب وبنات آوى، تقرقطها أنياب الوحوش الضارية". ويقول: " أولئك ليسوا أرقاما، لكلّ واحد منهم قصّة، لكلّ واحد منهم قلب يخفق بالحنين، وينبض بالحبّ. لكل واحد أسرة، وزوجة أو حبيبة، لكل واحد أمّ وأب وإخوة وأخوات"، ويصرخ بوجع: "يا لفظاعة التّوحّش! يا لبشاعة الاحتلال!" (ص191-192)
خاتمة الكلام
في "اليد الدّافئة" أثبت الكاتب يحيى يخلف أنّ الإنسان الفلسطيني مهما اشتدّ عليه الزمن، وضاقت به الحياة، وتقلّصت أمامه منافذُ الخروج، ينجح في الانبعاث من جديد والانطلاق نحو تحقيق الهدف الأسمى الذي يسعى إليه. هكذا نجح كل من أبو الخير والدكتور نادر ومعهما باقي الشخصيّات في خَلق واقع نضالي جديد وجد فيه أحمد أبو خالد مكانَه للعمل والمشاركة. وكان للمرأة الدّور الأساسيّ في النّجاح وفي سحب أبو خالد من قَبضة الماضي وتعلّقه بصورة زوجته جميلة التي ماتت ليحيا الحاضر ويجد الحبّ عند نرمين المرأة المناضلة التي حضنته وسارت معه الشّوط الكامل.
وإذا ظلّ الحلم الكبير بزوال الاحتلال ونيل الشعب حرّيته واستقلاله وإقامة الدولة الفلسطينيّة حلما بعيدَ المنال، فإنّ التّعاطف الشعبي العالمي مع الشعب الفلسطيني، وتحرّك الفئات الشبابيّة والطلابيّة في مختلف أنحاء الوطن، ومشاركة كلّ الفئات الجماهيريّة والنّسائيّة بشكل خاص في النضال ومواجهة المحتل لن يبقي الحلم حلما، والأمل لن يظلّ بعيد الرّجاء وستظلّ كلمات أبو الخير لأحمد أبو خالد "الأرض كائن حيّ، واليهود لن يجرّوا الأرض من مكانها، كلّ الغزاة لم يجرّوا الأرض من مكانها، والأرض للسواعد التي تُحرّرها".(ص152-153)هي الهادية وهي الباعثة جذوة النضال والمقاومة.
*يحيى يخلف: اليد الدّافئة. رواية. الدار المصرية اللبنانية 2017