ينطلق الباحث التونسي في تناوله النقدي من أن الذاكرة في سرد واسيني الأعرج ليست فردية، بل هي ذاكرة الراوي والمجتمع. وبما أنّ المجتمع ليس كلا متجانسا، فالذاكرة فيه تتشظى بين الأطروحات المتعددة. ويخلص إلى أن الكتابة عند الأعرج، وعند الراوي فضاء لتشعنق الرّوح الحالمة بوطن أجمل.

ذاكرة الراوي وحكمة الرواية

قراءة في «ذاكرة الماء» لواسيني الأعرج

رضا الأبيض

 

تمهيد:
ليست الذاكرة في الرواية فردية. هي ذاكرة الراوي. وهي ذاكرة المجتمع أيضا، غير أنّ المجتمع ليس كتلة واحدة منسجمة، وإنما هو طبقات ورؤى وأصوات متنافرة ومتصارعة بقدر ما تتلاقى أحيانا تتقاتل أحيانا أخرى. وليست الحرب على الحياة وعلى المدن وعلى رموز البراءة والخير سوى حرب على الذاكرة. لذلك نجد الرواية تنخرط في الدفاع عن الذاكرة وعن الحياة. إن الرواية منذ البدء كانت خطابا يقاوم والمسخ والنسيانَ والموت، باستعادة "الزمن الجميل" وترميم ما انهار وتلاشى.

ومن الأدلة على ديمقراطية الخطاب الروائي أنه يعطي الإرهابيَّ والشرير فرصة للكلام. ولكن من حكمته أنه يستشرف المستقبل ويسرد ما سيحدث غدا، فيحذر وينبه. فالرواية تعلمنا إنه لا وطن بلا ذاكرة، وإن قلم الرصاص سلاح الخييرين والأبرياء الأقوى. تلك هي أطروحة "ذاكرة الماء" للأديب الجزائري واسيني الأعرج التي كتبها في عشرية الموت الأسود.

1- الذاكرة
1-1: ذاكرة جيل ووطن:

تعرف المعاجمُ اللغوية الذاكرة باعتبارها الحافظة. أمّا اصطلاحًا فللذاكرة تعريفاتٌ عديدة بتعدّد المقارباتِ. يعرفها معجمُ علم النفس باعتبارها سيرورة للماضي تتخذ مرجعيةً لها المعطياتِ السير ذاتية autobiographiques واكتسابَ المعارف العامة، وتُعرّف باعتبارها قوة من قوى العقل أو النفس وقدرةً على الاحتفاظ بالتجاربِ السابقة واستعادتها. وهي سيرورة حفظٍ واستحضار تؤثر على السلوك. إنها نشاط عقليٌّ ومعرفيٌّ. ويعرّفها "المعجم الثقافي في اللغة الفرنسيّة" باعتبارها ظاهرةً اجتماعية، لأنّ الفردَ يكتسبُ ذكرياته وسط المجتمع. فالذكرياتُ هي ذكريات التجاربِ والاجتماعية sociabilité المشتركةِ بين كثيرين والتي لا معنى لها إلا وسط جماعة ما(1).

فالذاكرة، من وجهة نظر المقاربة الاجتماعية، ليست ذاكرتِي وحدي، إذْ هناك ذكرياتٌ كثيرة أشترك فيها مع الآخرين الأقارب والأصدقاء والزملاء وجيلي. ولكل مجموعة ذاكرتُها الجماعية، وذكرياتُها التي تتداخلُ في ما بينها كما تتداخل القصصُ، ويكمِّل بعضُها بعضًا وقد يقع تبادلها.. وأنا لا أتذكّر عوضًا عن الآخرين ولكنَّ الآخرين قد يتذكّرون ما أتذكرّه. ولمّا كان الفردُ ينشا ويتكوّنُ عن طريق العلاقاتِ مع الآخرين فإنّ ذاكرتَه ليست بُرجًا عاجيا منيعًا وإنّما هي مدرجة في هذه الشبكة وفي هذا النسيج من العلاقات. بهذا المعنى الدقيقِ يمكن أن نتكلم عن الذاكرة الجماعيّة، أيْ تلك التي ينظمها المجتمعُ مثلما يذهب إلى ذلك عالمُ الاجتماع الفرنسي موريس هالباك Maurice Halbwachs (ت.1945)، فالفردُ يشكّل ذاكرته وهو في علاقة بالجماعةِ. ولذلك فإنّ الذاكرة مشتركة تعبّر عن الهوية وعن خصوصيةِ اندراجِ جماعة مَا في التاريخ.

ولا شكّ أنّ للمحيط المادي والبشريِّ دورا في تشكيل الذاكرة الجماعية. ويولي هالباك للأزماتِ والمحن دورًا هامّا في تشكيل الذاكرة الجماعية. فالأزماتُ تحدثُ تغييرًا في العلاقات وفي علاقات الناسِ بالمكان أي في ذاكرتِهم. ولا يكفي أنْ يعيد الفردُ ترميمَ قطعٍ من صورة حدثٍ وقعَ لتكون له ذكرياتٌ، بل يجبُ أن تكون إعادةُ الترميم والبناءِ هذه وفقَ معطيات ومعاييرَ مشتركةٍ مركوزة في العقول(2). إنّ المسارَ الذي يُثبت الذكرياتِ في الذاكرة يحتاجُ حسب هالباك إلى تفاعل مع قيم المجموعةِ.

والمكانُ أيضا ذاكرة فهو يُطبَعُ ثقافيا وجماعيًّا بممارساتٍ ورموز. فللأمكنة رائحتها ومذاقاتها. وهي خزان للأفكارِ وشاهدٌ على التاريخ وعلى التحولات. ومثلما تكون عامرة قد تصير أطلالا دارسةً وخرابًا. لقد زار الرّاوي في "ذاكرة الماء" قبر عمه جلول ثم بحثَ في السوق عمّا تبقَّى من محلِ عمّه حمّاد الزعيمي فلم يجدْ غير الخراب. يقولُ: "أحاول عبثا أن أستعيد تفاصيلَ المكان الضائعة. كان الخرابُ هو الحقيقة الوحيدة المرئية [...] هؤلاء الناس كنّست حتى آثارهم. تاريخهم نفسه امّحى" (ص131).

وفي المدينة القديمة كانت تستيقظ فيه طفولتُه فتبدّد بعض حزنِه الآن وخوفه من الآتي. وفي المدينة الجديدة يشعرُ بأنَّ الناسَ يستميتون على الحياة، طقطقات أحذية وعطور نسائية وعرق ومازوت وقهقهات... إنّه النبض الذي يلتقطه بكل حواسه فيشعر بأنه ليس في حاجة إلى مسدّس (ص260) يدافع به عن نفسه وعن معنى الحياة. فمِن نبضِ الشّوارع والمطاعم ولعب الأولاد في الأحياء يستمد وقودَ رحلته.

لقد تجلّى النبضُ في الحركة التي لا تخفتُ إلاّ لتعود من جديد، وفي الملفوظات الدّالة على العناد والتحدي. كأن تقول نادية وقد جلست قبالته: "نساوْا. ما عرفوش باللي راهم مع بنيْت بابْ الوادي. والله نحط لهم سعدهم في يديهم. نكاية فيهم وفي أسيادهم سنعيش ونضحك.." (ص269).

في كتاب: الذاكرة التاريخ والنسيان يلاحظ بول ريكور Paul Ricœur ضرورة الانتباه إلى دور الوسيط الذي تلعبه ذاكرة الأقارب les proches.

في رواية "ذاكرة الماء" لم تكن الذاكرة ذاكرة الراوي فحسب، بل أيضا أقاربه: أمّه وعمّته وعمّه.. وذاكرة رفاقه وأصدقائه والناس الطيبين والمصرين على الحياة والفرح. هي ذاكرة جيل ووطن.

يقول المؤلف في تقديم الرواية: "وهل للماء ذاكرة؟ هو ذاكرتي أو بعضا منها. ذاكرة جيلي الذي ينقرض الآن داخل البشاعة والسرعة المذهلة والصمت المطبق" (ص9).

ولقد سمحت ذاكرة الاقارب للرّاوي برسم صورة كاملة عن الأحداث التي وقعت قبل ولادته، والتي حدثت وهو صغير أو غائب.

يقول ريكور: "بين قطبي الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، أليس هناك من مستوى متوسط للمرجعية حيث تتم بالفعل عمليات التبادل بين الذاكرة الحية للأشخاص الأفراد، وبين الذاكرة العامة للجماعات التي ننتمي إليها؟ إن هذا المستوى هو مستوى العلاقة بالأقربين الذي يحق لنا أن ننسب إليهم ذاكرة من نوع متميز"(3).

ويضيف ريكور أنّ حدثيْن هامين يثيران اهتمامَ أقاربي هما ميلادي الذي يفلتُ مني وموتي الذي يقطع طريق مشاريعي. إنّ الأقربين هم الذين يحتفلون بميلادي ويأسفون لموتي.

يتشكل المحكي في "ذاكرة الماء" من عناصر من السيرة الذاتية (الراوي روائي) (ص251) استشهد والده في الثورة التحريرية، التحق بجامعة وهران (ص261) وأستاذ جامعي، يعيش بين الجزائر وفرنسا، صديقه الشاعر يوسف السبتي، سافر إلى دمشق، عاش في بدايات المحنة في الجزائر ثم غادرها سنة 94 إلى السربون. يستدعيها المؤلف من تجربته الخاصة في الحياة.

وفي الرواية من الأحداث ما يعمّق فكرة أن الذاكرة جمعيّة بالمعنى الذي ذكره ريكور. فالأم تحتفلُ بولادة الراوي، ولا تأبه لتحذير العرافة. وأحبة الرّاوي خائفون على حياته. يقول: "لم أعد أتذكر شيئا مهما سوى ما قالته العرافة لأمي منذ أكثر من أربعين سنة وقبل شهرين من ميلادي [..] اسمعي يا لالة مولاتي [..] سيكون صبيا جميلا يعشق حروف الله والكلمات وتربة الأولياء الصالحين وسميه باسمهم حتى لا يسرقوه منك مبكرا، تصدقي كثيرا وإلا سيموت بالحديد" (ص13).

وكانت عمتُه (في فرنسا) التي لم تنسها السنونُ شيئا من ذاكرته تحكي له حكايات كثيرةً وتحذره من العودة إلى الجزائر وتقول له "بلادنا واعرة ما تستعرفش بيك إلا عندما تحرقها وتنساها"، ثم تضيف أنها هي لم تقدر على نسيانها وأنها تريد أن تدفن في ترابها (ص140). وليست هذه الدعوة في الواقع سوى إقرار بحق الراوي في الحياة والوجود.

في "ذاكرة الماء" لا يبكي الضحايا غير أحبائهم. يقول الراوي: "ثم فجأة رصاصات. وبعدها لا شيء. انطفأ يوسف. بكاه الذين يحبونه فقط" (ص143).

إن الرّاوي وأحباءه ينتظرون الموت، كلّ يوم هو بالنسبة إليهم آخر يوم (ص207). فيحتمي بعضُهم ببعض حبّا وانشغالا ووصايا وشحذ همم.

إن الأقربين، كما يقول ريكور، هم الذين يقرون بوجودي.وأقرّ أنا بوجودهم. وإنَّ ما أنتظره منهم هو أن يوافقوا على ما أقرّ به: إني أستطيع أن أتكلم وأن أعمل وأن أسرد وأن أحمل نفسي مسؤولية أعمالي. ويستشهد بول ريكور بمقطع من اعترافات القديس أغوستن من الكتاب العاشر من "الاعترافات" جاء فيه: "إني أنتظر هذا التصرف من النفس الشقيقة، وليس من النفس الغريبة، ليس من أبناء عنصر آخر تفوّه فمهم بالباطل، ويمينهم هو يمين التعسف. النفس الشقيقة التي حين توافقني تفرح بي وحين تخالفني تحزن عليّ، وسواء أوافقتني أو خالفتني تحبني. ولمثل هؤلاء أكشف عن ذاتي"(4).

الأقربون هم رسلُ المحبة. والمحبّة هي الاقرارُ بحق الآخر المختلفِ في الوجود. فمريمُ كانت تخاف على حياته. كانت ممزقة بين خوفها عليه وبين ألاّ تقيّد حركته. عانت محاولة التوفيق بين أن تدافع على حريته وأن تدافع على حقها فيه. كانت لا تكتب ولا تحب إلا الرسائل التي تكون من القلب (ص179) أحبته بجنون وتمنت أن تقدر على ألاّ تحبه أكثر (ص187). وكانت ريما ترافقه رحلاته. لريما أيضا ذاكرة، تكتبها في يومياتها "سلطان الرماد". يوميات وصفها يوسف بـ"حديقة الشهداء" قبل ان يصير أحد متساكنيها. ولقد لعبت ريما دورًا هاما في إيقاظ ذاكرة الراوي وتنشيطها من خلال بعض طلباتها وأسئلتها. طلبت منه في عيد ميلادها أن يأخذها إلى المدينة القديمة (ص149)، وكانت كثيرا ما تسأله عن الذين فارقوا الحياة من الأقرباء والأصدقاء.

- وينو مكان عمّي حماد الزعيمي الطراق (ص131).

ويقول: "ثم تسألني ريما مرة أخرى.

- وين عمر الدنجورو؟ عيسى لعور؟ موسى القوال؟..." (ص132)

وتوصي ريما يوسفا "رد بالك على روحك" (ص136). ويخاطبه عمّه إسماعيل: "يا وليدي". وكان إسماعيل هذا يعلق على حائط صالته صور الذين أحبوا أوطانهم: بومدين وأتاتورك. وكان لا يخفي إيمانه بضرورة اندلاع ثورة جديدة تعيد الوطن إلى أهله (ص64). وعرفه عمه رزقي رغم تنكره، وأجابه مستنكرا حينما سأله "عرفتني؟": "كيفاش ما نعرفش لحباب" (ص166). هؤلاء الأحبة وحدهم يبكون موتاهم قبل أن يتحولوا " إلى ذاكرة تموت شيئا فشيئا داخل زحمة الأخبار اليوميّة" (ص217).

1-2: الحربُ على الذاكرة:
في مقابل الأحبة والأصدقاء يقف الغرباءُ. والغرباءُ هم الذين نشروا الظلمة واليأس والبشاعة والموت في الجزائر ذات عشرية فاجعة. هم الذين حاولوا استئصال الذاكرة وطمس العيون. ولكن الذاكرة أبت إلاّ ان تظلّ حية ومقاومة. ذاكرة الكاتب شخصا من لحم ودم، وذاكرة شخصياته الطيبة التي كانت مرايا له (أمه ومريم وريما والعمة والعم جلول ويوسف سبتي وعزيز وفاطمة والطاهر جاووت..).

ليس للغرباء ذاكرة. لهم شعاراتهم ورموزهم، ولكن دون تاريخ ولا ذاكرة. إنكشارية جدد وأدوات عطب لذاكرة الناس والأمكنة.. وخطابات جوفاء يتوارى وراءها كلّ جميل (ص167) وشعارات تعلن "الجهاد" ضدّ العلمانيين والشيوعيين والكفار (ص211).

يصفهم الراوي بـ"قدرة غبية لا ذاكرة لها" (ص53) قدرة غبية (شرطة، رجال سياسة، أصوليون..) لا ذاكرة لها تخوض حربًا على الذاكرة. على التاريخ النضالي أيام التحرير، وعلى الحاضر. هم غرباء لأنهم مخادعون أو خائنون أو قتلة.. يمثلُهم سجانٌ قاس خان رفاقه، ويحاضر في حقوق الإنسان، تصفه ريم: "يصلي الفجر ويزنى الظهر ويسرق في العصر وفي العشاء يستغفر ربه ويصير وديعا بين فخذي زوجته، ولا يشعر مطلقا بأي حرج ولا بأي تناقض أبدا يمشي وفي داخله شخصان" (ص33). ويمثلهم موظفٌ في مؤسسة مدنية يتحول إلى شرطي أخلاق، وضباطٌ وطنيون "يتقاسمون غنائم الحرب الفائتة" (ص42) وقتلة جهلة لا يقرؤون وأصوليون يزرعون البلاد خرابا وموتا ومافيات مالية متحالفة معهم تتجاهل أنّ "هؤلاء القتلة عندما يصلون سيأكلون الأخضر واليابس" (ص62).

قوىً وجهاتٌ وإنْ اختلفت إلاّ أنها تشتركُ جميعُها في الخوف من المثقف وفي الحربِ على الذاكرة تزييفا ومحوًا، الذاكرةِ بما هي تجذّرٌ في تربة البلاد وبما هي لحظاتُ عشق وفرح طفوليّ، عشقٍ جسده الرجال والنساءُ أيام الكفاح التحريريّ، وفرحٍ طفوليّ بالحياة وبالتربة جسّده الراوي "لزهر الحمصي" الذي أصرّ على ألا يموت إلا في وطنه.

في حقبة تغوّل هذه القوى والمافياتِ صارت الحياةُ مشروعَ موتٍ مؤجل ينتظر الناس في كل زاوية (ص173). ولكن لزهر الحمصي يقول مخاطبا ابنته وقد وقف على قبر عمته:

"تعرفين يا ريما، ينتابني اليوم إحساس غريب. أشعر برغبة كبيرة لأكل كل هذه الأتربة حتى لا أشتاق إليها أبدا. أحتاج إليها وهي تسرق مني يوميا. بي شوق كبير لفعل ما كان يفعله أجدادي الأوائل. جدي القديم عندما غادر أندلسه التي نبت فيها، يقول الرواة، أنه لم يحمل في جيبه إلا حفنة تراب، عندما فاجأه الموتُ طلى بها كل جسده ثم قال بأعلى صوته أمام الذين كانوا يحيطون باحتضاره - طز في الموت..ها أنذا ألبس وطني" (ص106).

على الفن والتاريخ والعشقِ الطفوليّ والصوفي للأشياء يخوض الغرباءُ الحربَ، فينهبونُ خيراتِ الوطن ويغيّرون ملامحَه، ويزيفون التاريخَ ويشوّهون المدينة (ص158) ويعطبون ذاكرتها. يقول: عندما نزلوا من الجبل نزلوا حالفين على الكنائس والتماثيل والحانات والمسارح والأوبرات وكل ما يجعل من المدينة مدينة. لقد خسرنا موعدا استثنائيا مع مدن كانت جاهزة لكننا فعلنا كل شيء لتدميرها وتزييفها بشكل أفقدها توازنها لتتحول في النهاية إلى وحش" (ص301).

شرعُوا في إشاعة الخوف وحصدِ أرواح العشاق عشاق الكلمة من الكتاب والمثقفن والفنانين (سبتي، جاووت..) لـ"يحوّلوا الذاكرةَ إلى رماد" (ص107) وأغرقوا البلاد في الخراب والفراغ: سلع مهربة ومسارح مقفلة ونقاشات تافهة ومدينة تتحول إلى قبو (ص166) ومناف يهرب إليه الفارون بأحلامهم وخيباتهم (ص184). ويكاد الراوي يلحق بهذه الطائفة المثقفين الحمقى الذي يطيلون عمر الميتافيزيقا، الماضويين من "التقدميين" (ص255). كان نقده لهم قاسيا، ولكنّه لم يطردهم من دائرة الأحبة والرفاق، بل لعله صار بينهم أحيانا كمسيح يحمل أوزارَهم.

إنّ الذاكرة هي ذاكرة المؤلفِ وجيله وهي ذاكرة المدينة والوطنِ والمثقف الحرّ سواء كتب بالعربية أو بغيرها من اللغات، هي ذاكرتنا "نحن" وقد كان الراوي كثيرا ما تكلم بضمير الجمع يذوتها المؤلف روائيا، ويختار لنصه من العناوين ما يتضمن في جزء منها العبارة صريحة: "ذاكرة"، ولكنها في العنوانِ ترد مضافا إلى الماء تركيبا وصورة شعرية تتسعُ بها دائرة المعنى فيتعدّد ويسمح لغير المؤلف بالمشاركة فيه، أعني القارئ الذي لا شكّ سيدفعه التركيب إلى أن يتساءل كطفل في الصف الابتدائي: هل للماء ذاكرة؟

في "ذاكرة الماء" كثيرا ما يأخذ الماءُ في محكي الرّاوي ومن يشاركُه المعاناة، شكلَ البحر.

فعلى أطرافِ البحر يسكنُ الراوي، وعلى سطح البحرِ ترتسم أحواله وأحوالُ ريما فيفرح لفرحهما ويضطرب لاضطرابهما. لذلك حين سمعت نبأ اغتيال يوسف قالت: البحر اليوم مهوّل، أنا نخاف بزّاف كيف نشوفو هكذا (ص135).

والبحرُ بالنسبة للراوي كائن حي يصرخ ويستكين (ص160) و"لا يخون" (ص149)، كائن طيب على قدر من الجمال والدهشة يستدعي العزلة والشعر. ولكنه أيضا مالح يهدّد المدينة برطوبته.. وبالبحر تقترن الذاكرة والرغبة في الكلام (ص146)، فالبحر يستدعي الذكريات ويحرض على الاستحضار (ص152).

إن راوي "ذاكرة البحر" يشبه البحرَ ويتشبه به. وفي حالات الخوف والفراغ لا يبقى غير البحر حبلاً سرّيا يربطه بالحياة (ص172). إنه ذاكرة، ولكنه أيضا يساهم بملوحته في القضاء عليها.. لذلك كان لا بدّ من الكتابة. فبالكتابة وحدها تستعاد الذاكرة ويرمّمُ ما تهدم منها بسبب عطب طارئ قد يطول.

ولقد كانت ليوسف الشاعر كلمات في البحر استعادها الراوي في لحظات اليأس، فيها دعوة صريحة إلى أن نحمي البحر فنهرب به أو نعشقه، فإذا لم نقدر على ذلك فلننتحر.

إنه يختزل الذاكرة والوطن والمرأة والشعر وكلّ التفاصيل الجميلة.

من يحمي البحر والذاكرة والمستقبل؟ أليس الهائم به؟ يسأل الراوي صديقته إيماش مستنكرا: "وهل نحن أغبياء لهذه الدرجة لنترك كل شيء يمرّ أمام أعيننا بدون أن نجد وسيلة صغيرة لحمايته" (ص305) ووسيلة الكاتب الكتابة. ولكن الكتابة مشي باتجاه النهاية التراجيدية. ذلك ما استشرفه يوسف السبتي.

1-3: الكتابة من أجل ترميم الذاكرة:
في معركة الذاكرة ضدّ النسيان والعطبِ والمسخِ مسخ الوعي والأمكنة.. تلعبُ الكتابة دورًا مهمّا في المحافظة على الذاكرة حيّة وعلى عناصر المقاومة فيها. الذاكرة ليس بما هي ماض ولّى، بل بما هي فاعلية وقيم محفزة على الفعل وعلى الحياة. الجزء الإيجابيّ منها، ذلك الذي أشار إليه واسيني الأعرج في كلام له خارج الرواية(5).

حين يقع المسخ والمحوُ يصبح الكاتبُ أمينا على النسخة الأصلية منها. فهو الأقدرُ على حفظها وعلى إعادة كتابتها. إنها إحدى خصائصه. لقد صار الكاتب أمينا على الحياة منذ تجرأ على فتح نقاش واسع في الساحة العامة حول القيم في سياق قضية دريفوس الشهيرة(6).

يتمتع الكاتب بالوعي وبالجرأة حدّ المجازفة بالحياة. هو ضمير المجتمع والإنسانية، كما يقول جون بول سارتر. فماذا لو كان هذا المثقفُ/ الكاتب روائيا؟ أليس القصّ تعبيرا عن رغبة الإنسان في تفادي الموت ؟ ألم يقل رولان بارت: يوجد السرد حيث توجد الحياة ذاتها(7). والأمم، أليست، كما يقول إدوار سعيد، "سرديات ومرويات"(8).

بالشعر وبالحكايات والنكت الساخرة (ص،139، ص209، ص272) وبالعشق وبالبيرة الرخيصة في المنافي (ص182) أو في ما بقي من مطاعم الوطن (ص271).. واجه جيلٌ من المبدعين والمثقفين موتهم ذبحا همجيا أو بالرصاص البارد.

تعلق الراوي بقصاصاته وكتبه وأوراقِه ولم يدّخرْ شيئا سواها خلال ثلاثين سنة رافقها ورافقته وكتبَها وكتبته. كتبَها مالحة ليس ملوحة البحر التي تهدّدُ المدينة العتيقة، بل ملوحة الحقيقة التي تهدّد عروشَ أولئك الذين صارُوا "يشبهون الملوك". تخيفهم الكتابة فيحرضون على قتل أصحاب أقلام الرصاص بالرصاص. وكتبته فصلّبت عودَه رغم المحنة والموت المزروع في كل ناحية.

لقد حرّرت الكتابة بإحساس وبعقلٍ ذاكرتُه من الصمتِ الذي تُدفع اليه (ص172) فلم يتنازل عن التجربة. خاض تجربتين قاسيتين تجربة الحياة، وتجربةَ الكتابة، تجربتين تشتركان في الحضور الطاغي لتيمة الفقد الذي بدا كأن لا مهرب منه يستسلمُ إليه المرءُ دون مقاومة، والفقد الذي يكون بفعل الذبح.. وفي كلا الحالتين كانت الخسارة و كان الاندفاعٌ نحو مجاهل النسيانِ.

ما العمل؟ لا منج غير الكتابة، غير الحرف وسيلة لتجاوز محنة الجنون العاري. فـ"الكتابة علامات تبقى وما سواها يذهب مع الريح" (ص176).

إنّ الكتابة التي تكون الحياة ثمنَها تصارعُ، ككاتبها، لتبقى حية في مزابل من الأوراق والصفحات التافهة التي تخلق محاضن للعنف والتزييف. هي مغامرة، كما تقول ريم في رسالتها للراوي، "ضد المستحيلات" (ص181)، والمستحيل في هذا السياق أن تصبح حرفة الطيبين من الناس دفن أحبائهم في انتظار رصاصة العبث و"الموت الأحمق". الحقد الذي سرق من الفلسطينيين وطنهم ودمّر أحلام العراقيين وهو الآن (في 1992 زمن الشروع في الكتابة) يغتال أشواق الجزائريين (ص181). والكتابة تجربة عشق، لا مكان للخائنين فيها. وهي وسيلة لتحقيق التوافق مع النفس (ص278). الكتابة تفضح الخيانة وتوثق سيرة الذين يذبحون واقفين (ص188). إنها فعل اصرار على الحياة واستعادة للعقل المغيّب. ليست متنفسا بقدر ما هي موقفٌ. محاولة لتأجيل الموت، بل لقتله.

لقد اختار الراوي الكتابة ليتدثر من العراء، العراء من حبيبة/ زوجة بعيدة في فصول قاسية، ومن مدينة تنطفئ روحها شيئا فشيئا، مدينة بلا مسارح ولا كتب، ينخرها الخواء وتتراكم فيها المزابل.. ولكي لا يحدث "الانتحار الجماعي"، ويحافظ على الحدّ الغريزي للمقاومة.

ورغم أن فعلَ الكتابة يجتاحُه أحيانا السؤال عن جدواه، ليس من الأغبياء الذين لا يقرؤون بل من الكتاب والمبدعين أنفسهم. يقول الراوي في حوار مع أحمد الناشر: أردت أن أسأل عن روايتي ولكن الأمر بدا لي سخيفا في ظل هذه الوضعية وبدون معنى. ما معنى رواية في ظل الموت والرصاص والخوف؟" ثم سرعان ما يضيف مستدركا و"لكنّها نصّي لغتي تعبي خوفي يومي" (ص254). فإن الكتابة تظلّ قدرَ الكتاب (ص272) والمبدعين الذين سيتحسّرون كثيرًا إذا بقيت كلماتهم حبيسة الصدور.

2- حكمة الرواية:
2-1: الاستشرافُ:

يفترض وصفُ الرواية بالحكمة، الكلامَ على المعرفة في الرّواية. والمعرفةُ في الرواية هي معرفة إبداعيّة لأنها مندرجة ضمن سياق تخييلي تؤسسها جمالية المحتمل وليس منطق التحقق الفعلي. هي معرفة مسرّدة خاضعة لمقتضياتِ السّرد والتخييل.

في "ذاكرة الماء" لا يشخّصُ الراوي الواقع فحسب، بل يقدم "دروسا" في التاريخ وفي منهجية قراءة التاريخ. إن فهم التاريخ شرط لفهم ما يحدث وما سيحدث. وإن إعادة كتابة "التاريخ المنسي" شرط للتوازن والاستمرار (ص170) وقد يتحول الخطاب إلى كلام فلسفيّ قوامه الشك والسؤال.

تتساءل ريم في رسالتها إلى زوجها/ الراوي: "ما معنى الحبّ؟ الكراهية؟ النضال؟ الخلود؟ المقاومة؟ الكتابة؟ العدالة؟ الشيء المؤكد في مغامرة الإنسان هو الموت" (ص183).

ورغم أنَّ المعرفة ملتبسة بالتخييل، فإنها تقوم بدورٍ هام في تأسيسِ الوعي بالعالم وبالإنسانِ. من هذه الناحية تعضّد الرواية المعارفَ الإنسانية وتضيف إليها جديدا. ترمّم الرواية العالم(9)، وتعلمنا شيئا ما عنه(10) عمّا حُجب منه، وعن مآلاته.

إنّ للرواية أيضا وظيفة استكشافية، فهي لا تكتفي بالاخبار عن الظاهر من الأحداث ولا بالكشف عمّا خلف البصر على حد عبارة فورستر(11) أي عن المتواري عن الإدراكِ أو اللامفكّر فيه الذي تلتقطه حاسة الروائيِّ المرهفة فتظهره وتدفع في اتجاه التفكير فيه. يقول يوسف، الذي وصفه الراوي بأنه حكيم، مشخصا ما خلف البصر:

"- لا. لا. افهمني أحس أن القتلة معنا. يشربون معنا القهوة. يبكون معنا ويعرفون حكاياتنا الصغيرة. ما يؤذيني أكثر أن يمشوا في جنازاتنا" (ص137).

بالمعرفة والوعيِ الثاقب لفنانٍ مرهف الاحساسِ يكشف يوسفُ لأصدقائه عمّا يخفى عن الأبصار والقراءات السطحية للأحداث. وبنفس الوعي يستشرف ما سيقع. فيضيف " ينتابني الشعور بأننا مقدمون على فاجعة بدون حدود " (ص137). ما هي هذه الفاجعة؟ وهل ستحدث فعلا؟

في مجرى التطور التراجيدي للأحداث سيتحول هذا الحكيم المفجوع إلى ضحية. سيُغتال في سياق الحرب على الكلمة وعلى الذاكرة والحكمة. الفنانُ ذاكرة أمّته، ورسولها (بالمعنى الجبراني الرومنطيي). فهل ثمة فاجعة أكبر من أن يغتال الرسل؟

والراوي أيضا كانَ حكيمًا، يعرف أسرارَ الاحداث وما يخفى منها.

يقول في سياق وصفه مشهد اغتيال صديقه الشاعر يوسف: "أنا متأكد أن القتلة لم يقرؤوا حرفا واحدا مما كان يكتبه لكنّ الذي سرب اسمه كان يعرفه جيدا فالقراءة تضيق مساحات التعصب ومدعاة للحب والتأمل" (ص140).

إنّ مهمة الرواية أيضًا أنْ تحوّل المستحيلَ إلى "ممكن قابل للتصديق"(12) كما يذهبُ إلى ذلك واسيني الأعرج أي أن تعلمنا الإرادة وحب الحياة. ذلك ما عبّر عنه راوي "ذاكرة الماء" الذي يرى أن القدرة على المقاومة والاستمرارية تحتاج إلى إيمان بمثل عال " وهذا المثل العالي علينا أن نخلقه، أن نتخيله لنستطيع الدفاع عنه وإلا سندخل حربا نحن مهزومون فيها من الداخل" (ص144).

والمستحيلُ الذي يجب أن يصير ممكنا هو أن نسخر من الموت. تلك بعض من حكمة الرواية. تعلّمُنا كيف أنَّ التغلبَ على الموت يكونُ أيضا بالسخرية منه.

ومن وظائف الرواية بما هي خطابٌ حامل للمعرفة، الاستشرافُ والتوقعُ. والاستشرافُ لغة النظر إلى شيء ما من موضع مرتفع (انظر لسان العرب ).وهو إدراك للغائب واللاحق.

يتصل التوقع الذي زمنه المستقبل بفعلي التأمل (الحاضر) والتذكر (الماضي) الذين لا يمثلان غاية في حدّ ذاتها بقدر ما أنَّ قيمتهما في علاقتهما بالمستقبلِ.

والتوقعُ في "ذاكرة الماء" ليس خطابا صريحا. إنه الحملُ على الاعتقاد في أنّ المستقبل سيكون على نحو ما.

والذي يقويِّ ذلك الاعتقادَ في ذهن المتلقي مهارةُ الرّاوي في وصف الماضي والحاضر وفي الكشفِ عن شبكة العلاقات المعقدة والعناصرِ الغامضة والمتخفية. فإذا تجمعت القرائنُ والأدلة صار تكوين صورةٍ عن المستقبل أمرًا يسيرًا.

فالرّاوي يصوّرُ لنا نفسَه موضوعَ إحدى تدوينات ابنته في كراسِ مذكراتها (ص192). فنتساءلُ: هل يتوقّعُ موته ؟ هل يُعدّنا إلى ذلك ؟ هل ستتحق نبوءة العرافة؟ هل سيموت كجده لابسا تراب وطنه؟ لم لا وكلّ الحكاية صراع مع الموت الزاحف نحو عتبة البيت؟

ويتدخل الرّاوي في حوار بين عمه اسماعيل وعبد ربه الذي همّشته الدولة فاقتنعَ بفكرة أنّ "الدولة الاسلامية هي الحل" خاصة بعدَ أنْ أعطته البلدية في عهد الاسلاميين مسْكنا. يقولُ الرّاوي معاتبا عبد ربه المستعد لحرق البلاد إذا اختار الاسلاميون حرقها:

"- تتحدث عن حرق بلتد مثل الذي يتحدث عن حطبة يابسة. النار التي ستأكل البلاد ستأكل الجميع، وأول ضحاياها من يوقدها" (ص66).

وفي حوارٍ بين رئيس البلدية الجديدِ ومديرة المتحف، يقول حانقا:

"- نهاركم جي، وحق ربي كلكم ياكلكم الموس والتعلاق" (ص157).

ويصفُ الراوي المدينة القديمة فيقول إنها "خسرت ماضيها وحاضرها" (ص162).

يضمر القول موقفا أو حكما على المدن التي خسرت ماضيها وحاضرها. لا شك أنها ستخسر مستقبلها أيضا. فهل ستخسره؟

وفي سياق حوارٍ بينه وبين عمّه رزقي يقولُ: "قالوا خلطها تصفا.. والله ما تصفاه يا عمي الرزقي كل ما في هذه البلاد الآن يقود نحو الخراب الحتمي والكلّي قتلوا كل شيء.واللي بقى راهم يكملوا عليه اليوم لتصير بلادنا قفرا ورمالا ميتة" (ص168)، وفي حواره مع سائق التاكسي يكشف عن مرجعيات الأخير ومشاريع الجماعة التي يمثلها. إنه يضعُ المرويَّ له أمام وضع لا مفر فيه من الاختيار. إما الاستسلام أو المقاومة. والرّاوي لا يخفي أنّ في المدينة رغمَ الخراب "شيء من المقاومة" (ص163).

تنمو الأحداثُ في الرواية متوترة تأزمًا وانفراجا وقتيّا. مسار متصدّع كثيرة شقوقُه يأخذنا تدرجيّا نحو اتساعِ دائرة القتل والخوف والخواء والكوابس، فتقيّدُ الحركة، ويصيرُ الناسُ أكثر عزلة. يخرجُ الرّاوي إلى الأسواق مقنّعًا لكيْ لا يتعرف عليه القتلة (ص154).. ويستمرُ في توديع رفاقه الواحدِ تلو الآخر، وفي لحظاتِ الشعور بالعجز يفكرُ في الانتحارِ. يفكر الرّاوي في الانتحار سبيلاً إلى تحرير نفسِه من وضع العجز والشعور بالخواء، ولتحرير ريمَا التي تعلقت به تعلقا دفعها إلى التضحية بفرحها الطفولي وكراريسها الملونة الزاهية لتنخرط في كتابة مذكرات الموتِ والرماد (ص175)، ويفكّرُ في مغادرة الجامعة والبلاد (ص220). لقد صار يشعرُ بالموت نهارا، وتداهمه كوابيسُ الموتِ ليلا، بل صار مقتولاً في أحلام الآخرين (ص221)، يضع أقنعة يتخفى وراءها فتمنحه حرية الحركة ومزيدا من الوقت قبل أن يلتقي بالموت.

إنَّ بنية الرواية الحدثية تنتظم وفق خط تصاعديّ. وإذا كان يوسف الشاعر قد عبر عنه احساسا، قال: "ينتابني الشعور بأننا مقدمون على فاجعة بدون حدود" (ص137)، فإن ريم تقرّ ذلك. تقول ريم في رسالتها إلى الراوي تعاتبه عتاب محب: "وها أنت تنسحب مخلفا وراءك إنهاكات وجروحات من الصعب ترتيبها في سن الأربعين سن الخوف وبداية الانحدار نحو النهايات الفجائعية. لقد انسحب كل الذين كنّا نحبهم وانطفأت كلّ العيون الطيبة. لقد بدأت رحلة اليأس الكبير بكل مخاوفها" (ص182).

إنَّ الرواي وأحبتَه في صراعٍ مع "القدر" الذي يلاحقهم هنا وهناكَ. يبدُو البعيدُ منهم (ريم في باريس)، في الظاهر على الأقل، أكثر حماية، لذلك يلح على الآخرين بالبقاء هناك في باريس، لكنّ الرواي عنيدٌ، يختار المشي محاذيا الموت.

"في كل خطوة نخطوها، نتقرب مفاجآت الوجوه الغامضة التي تغلق الطرقات وتسدّ كلّ الممرات، متنكرة في أزياء عسكرية للجيش الوطني أو في ألبسة الدرك الخضراء. أتساءل في صمت وتلقائية وخوف ضامر كيف ستواجه الموقف ؟ وراء أي سيناريو ستختبئ؟" (ص208). وفي نهاية القسم الأول من الرواية يقولُ: إن يوما آخر نحو الموت قد بدأ. وفي إحدى رسائله إلى زوجته البعيدة يسألها "هل سيسعفني الموت لأراك ثانية مثلما أشتهي؟" (ص227)، ويتوقع أنّ "هذا الهمّ سيطول كثيرا كثيرا حتى يأكل الأخضر واليابس" (ص231).

ولقد وجدت فكرة الأكل تجسيدها في مشهد اغتصابِ نوّارة وذبح يوسف (ص296-297).

كلّما تقدّم الرّاوي في اتجاه فكرة مغادرة الوطن أو الانتحار يأسًا إلاّ وكانت الكتابة والسعادة الداخلية حائلا دون ذلك. سعادة لا يعرفها إلاّ مجنون "حاب يقتل روحه". جنون لا يفهمه الآخرون يمنحه القدرةَ على المشي، وإن وحيدا، بين الفراغ والرماد.

وتجدُ الفكرة تجسيدها في نهاية الرواية عندما يواجه الرّاوي الموتَ حقيقة لا إمكانية هذيانات وكوابيس ووقع صراخ وموت يعشش في الدماغ موت ليس كالموت.

إنّ بطل " ذاكرة الماء" بقدر المأساة والحزنِ الذين يطوقانه كان يتحدىّ. يعي أنّه ينحدر نحو الموتِ (ص249) فلم يرض بالقناع وخاف أن يصبح وجهه الجديد (مثلما حدث لأحد أبطال مسرحية مارسال مارسوا). كان يرغبُ في أن يلتقي بالموت وجها لوجه. القناع لا يمنح غير حرية كاذبة. لذلك تمسك بكتابة لا أقنعة فيها اختارها بشكل إراديٍّ على خلاف القناع الذي فرض عليه. لم يخترق القناعُ الجوهرَ بينما ظل هو "يخترق الموتَ بمزيد من المغامرة ضد الموت" (ص252).

لقد كان بطلا رومنسيا وتراجيديا وملحميا.. نبيا يموت كل يوم ألف مرّة ويظل حيا يتألم للسقوط (الضحايا، الصمت واليأس حدّ التواطؤ) ويسْخر من الموت بأنواعه ومن غباء القتلة. لعب بالنار لعبة بقدر ما كانت مشوقة خلقت في القارئِ حالة من الرّعب من القلق. ليس خوفا على الراوي، بل يقينا بأنّ حصون القارئ ذاتِه لم تعد محميّة فالكارثةُ كما تستشرفها الرّواية لا تترك أحدا في وضع المتفرج المحايدِ. لا منطقة وسطى بين الحياة والموت.

ولذلك فإنّ وظيفة "الاستشراف السردي" في "ذاكرة الماء" لست سردَ ما سيحدثُ فحسب، بقدر مَا هي دعوة لنعيش الذاكرةَ والحكاياتِ الجميلةَ والصداقاتِ بعشقٍ وعمقٍ قبل اندثارها.

وليست الغاية من السرد الاستشرافي التخويفَ من هول ما سيحدث فحسب وإنمّا أيضا التخويف من هول أن نلاقي، نحن القراء، الموتَ عراة.

وإذا كانت الغايةُ من الكتابة أن يحقق الكاتب وجودَه قبل أنْ يموت (في بلاد لا تسمع بمثقفيها إلا بعد أن يموتوا)، فإنّ الغاية من اللمحات الاستشرافية أن ينقذَ الكاتبُ/ الراوي قارئَه/ المرويَّ له. للقارئ أن يصدق توقعات النص أو تكذيبها وفقا لثقافته وموقفه، ولكن لا نصّ بلا توقعات. وتوقع ّ ذاكرة الماء " أن المحنة شديدة عامة ما لم يواجه جنون رصاص الموت بجنون عشق الحياة.

2-2: الحوارية:
من مظاهر حكمةِ الرّواية أيضًا أن تكون فضاءً يثأرُ من الإقصاءِ والتهميش ومن الموت بأن يكون ديمقراطيا. في كتاب " فن الرواية " ذكر كونديرا خبرا عن الروائي تولستوي. قال إنّ "آنا كارنينا" كانت امرأة غير ودّية وإنّ نهايتها المأساوية مبرّرة ومستحقّة، لكنّ النسخة النهائية من الرّواية كانت مختلفة .. ولكني لا أعتقد أن تولستوي غيّر في الأثناء أفكاره الأخلاقيّة. أودّ أن أقول أنه أثناء الكتابة كان يستمع إلى صوت آخر مختلف عن قناعاته الأخلاقيّة الشخصية.

حسب كونديرا يبدو أن تولستوي كان يرى أنَّ الأفكارَ الأخلاقيّة في العمل الفنيّ تقلّلُ من جودته. وذهبَ لوي بول Louis Pauwels إلى أنّ رواية "أنا كارنينا" هي عملُ تولستوي الأكثر تناغما، ويفسّر ذلك بغيابِ القناعات الأخلاقيّة. "لقد خضع العملُ على المستوى الانسانيِّ للحقيقة المرنة للعقول والقلوب والأجساد دون تصدع نظري ودون تدخل ودون حكم قيمة". إنّها الحقيقة التي تتفوّق على المشاعر الطيبة التي تجعلُ الروائيين مزوّرين faussaires. إنّ الحقيقة إذنْ لا تجد مصدرها في الأخلاق الشخصية للمؤلف. بل تأتي من صوتٍ آخر. تلك هي بعض وجوه حكمة الرواية. ألا تكون الحقيقة فيها، الحقيقة الروائية، أسقاطا لحقائق المؤلف وقناعاته. فالمؤلف حسب كونديرا ليس الناطق الشخصي باسم الشخصيات، بل إنّه ليس الناطق الرسميّ لأفكارِه الخاصة.

تقودنا هذه الفكرة إلى أطروحة باختين في دراسته "شعرية دوستويفسكي" والتي تقوم على فكرة "تعدّدية الأصوات"(13)، وإلى ما يتصل بمصطلح التعدّدِ من مصطلحات أخرى كالتشتيت fragmentation واللامركزية décentrement والحوارية.

هل كانت رواية "ذاكرة الماء" رواية الأصواتِ المتعدّدة خاصة وأنها نبتت في واقع تهيمن عليه إيديلوجية اللاتسامح (ص170)، أم أنّها (رغم عنوان قسْمها الثاني: "الخطوة والأصوات") صمتت، بل أقصت قصدًا صوتا من الأصوات التي تشكل قوة اجتماعية وإيديولوجية خارج الرواية أي في الواقع الذي تروم الرواية مواجهته وإعادة بنائه؟

إنّ الناظرَ في "ذاكرة الماء" يلاحظ أنها نهضت على قيمة التعدّدِ أو الحوارية لتواصل مسار القطع مع تاريخ من الكتابة الروائية المثقلة بالحضور الطاغي لفكرة التماثل أو التطابق و لنزوع اللغة إلى التعالِي الذي ينتزعها من سياقها الاجتماعيِّ المتعدّد بطبيعته.

إنَّ مقاربة "ذاكرة الماء" من هذه الزاوية مفض إلى الاقرار بأنها نصّ روائيّ تشرّب لغات مختلفةً وأصواتا متصادمة، وظف في تشكيله واسيني الأعرج التداخل الأجناسيّ وتنوّع صيغ الخطاب وتعدّد مستويات اللغة بالتقاطه اللهجات والرطانات التي تتفاعلُ في رحم المجتمع (لهجات القرويين، لغات المهمشين والمسؤولين، لغات الشتم، والشعر، والجرائد ونشرات الأخبار ولغة الطب والمنشورات السياسية والشعارات على الحيطان).

إنّ في حوار الشخصيات بالإضافة إلى اللهجة العامية جملا وعبارات بالفرنسية. وبقدر ما كان الملفوظُ يعلو أحيا إلى مصاف الشعر غموضا وإيحاء بقدر ما يتحول أحيانا إلى خطاب شعريته من درجة صفر تاريخي (ص 160 و161). ذلك ما جعل لغة الخطاب في ذاكرة الماء لغاتٍ ومستويات، ضمنها المؤلفُ على لسان شخصياته نثرًا شعريًّا (الرسائل بينه وبين مريم) ومقاطعَ من الشّعر (ص214) وألوانا من لغات القاعِ الاجتماعي الساخر والمتهتك والذي لا يعترف بقواعد النحو والأخلاق الرسمية.

لقد خففت تقنية توظيفِ الرسائلِ من وطأة منظور "الرؤية مع" la vision avec وساهمت في تحقّق "التعدّد". ولمّا كان طرفَا الترسّل عاشقين وكاتبين مفجوعين في وطنهما ويكتويان بالبعد. كانت رسائلهما فضاءً للبوح وللحلم الذي استدعى لغة شعرية منزاحة عن المألوف من الكلام (بالمعنى الذي نجده عند جون كوهين)(14). ولم تكن اللغة الشعرية في "ذاكرة الماء" أداة في الكتابة فحسبُ، بل صارت أيضا موضوعا للبحث والتفكير. (في رسالة الراوي إلى مريم ص228). وبذلك شرعت أبوابَ المروي على "الميتا لغوي" الذي مثّل مستوى آخر من مستويات التعدّد.

ولتحقيق التعدّد وظف الكاتب التناصّ فكانت الرواية محفلاً لنصوصٍ عديدة كالشعاراتِ الدعائية وصفحات من الجرائد والكتب (ص247-248). ولكن هلْ حيّدَ هذا التنوّعُ والتعدّد يقين الكاتب ووعيه؟ وهل حدّ من سلطة ذاكرته بما يجعل الرواية فضاء ديمقراطيا وبديلا فنيّا لواقع ينحرفُ في اتجاه الانغلاق وإقصاءِ المختلف والموت المجانيّ بالسّيف أو الرصاصِ؟

يقودنا هذا السؤالُ إلى آخرَ حول أطروحة التعدّد أو حوارية الخطابِ الروائيّ. فهل يعني التعدّد في أشكال الوعي ألاّ يكون للكاتب موقفا؟ هل نفهم من التعدّد الصوتي أنّ الرواية البوليفونيّة ليست لها إيديولوجيا؟

في الواقع ثمة تأويلان، على الأقل، لأطروحة باختين التي لا اختلافَ حول دورها التجاوزيِّ لانغلاق المقاربات الشكلانيّة. أمّا الأوّل فهو القول بأنّ النص متعدّد الأصوات لا يملك إيديولوجيا خاصّة. هو نصّ لا موضوع إيديولوجي له بقدر ما هو جهاز تُعرض فيه الإيديولوجيات وتستنفذ ذاتها في تصادمها. هذا التأويل بنيويّ يتلاءم مع فكرة " موت المؤلف" أي حياده، ويعتبر وظيفة الرواية تشخيص الإيديولوجيات المتصارعة في الواقع الخارجي.

وأمّا التأويل الثاني فإنّه لا يرَى أنّ باختين قتل المؤلفَ، فالمؤلفُ هو من يستدعي أشكالَ الوعي وينظّمها في نسيج الرواية. إنّ الحوارية إذن لا تغيّب المؤلف ولا تقصيه بل تغيّب الرؤية المفردة للعالم وتعرض "الحقيقة" من منظورات مختلفة بما يجعلها نسبية وغير ناجزة.

بناءً على هذا التأويل تصبح المفاضلة بين الشكل البوليفوني والشكل المونولوجي مجحفة. ففي الشكلين مثلما يمكن أن يتحقّق التعدّد يمكن أن تهيمن الرؤية المفردة للعالم. فالواحدُ قد يتضمن المتعدّدَ ويعبّرُ عنه كما أنّ المتعدّد قد يكون مزيفا سرعان ما يرتدّ واحدا أحدا. لا يتخطّى التعدّد الشكليّ (التناص، التعدّد اللغوي، كثرة الشخصيات..) إلى الإيديولوجيا الكليّة للنصّ.

ونحن إذا ما نظرنا في "ذاكرة الماء" وجدنا أنها بقدر ما كانت نصا احتفى بالتعدّد كانت سلطة السرد والرؤية المهيمنة فيه للرّاوي الذي شكّله المؤلف من عناصر سير ذاتية والذي اختار أنْ يفرغ حكايته في شكل يشبه اليومياتِ.

كيف يمكنُ التوفيق بين التعدّد من جهة والحضور الطاغي لصوت/ رؤية الراوي؟ كيفَ يمكن التوفيق بين كتابة رواية واعتماد أسلوب كتابة اليوميات (الحميمية، افتقاد التماسك..)؟ وهل حقّقت "ذاكرة الماء" "توازنا" بين الأصوات/ الرؤى، أم أنّ الكاتب استغل وظيفته التنسيقيّة ليهيمن على عالم الرواية ويوجّهه توجيها قد يهدّد جماليتها؟

إنَّ رواية "ذاكرة الماء" رواية تذويت. والتذويتُ خاصة عامة تسم النصوصَ الرّوائية الجديدة وهو أنْ يربط الكاتبُ النص بالحياة والتجربة الشخصيتين ويجعل صوت الذات الكاتبة حاضرا بين أصوات الرواية. إن التذويتَ لا يعني التعبيرَ بكيفية مباشرة وجهيرة عن المشاعر والأراء الخاصة فذلك يتنافى مع مقتضيات الفن الروائي، ولا يعني هيمنة الصوت الواحد. إن تذويت الكتابة، كما يقول محمد برادة "يتمثل في إفساح المجال أمام كلّ شخصية وكلّ صوت داخل الرواية ليعبّر عن نفسه من خلال مقومات وتضاريس ذاتية تحقّق الاختلاف والتمايز وتتملك من الداخل التجربة المعبّر عنها"(15) على هذا النحو يصير التذويت تذويتا للمنظور الموضوعي.

في الواقع ثمة خصوصية تاريخيّة وسياسية لا يمكن بأية حالٍ من الأحوال أنْ نتغافل عنها ونحنُ نقرأ "ذاكرة الماء". فواسيني الأعرج كتبَ هذه الرواية في الفترة الممتدّة من 1993 إلى 1995. يقول في نصّ التقديم المصاحب " كُتبَ (النص) داخل اليأس والظلمة بالجزائر ومدن أخرى على مدار سنتين من الخوف والفجيعة بدءا من شتاء 1993 أي منذ ذلك اليوم الممطر جدا العالق في الحلق كغصّة الموت والذي لم تستطع الذاكرة لا هضمه ولا محوه بين دهاليزها ورمادها، وأنهي بالجزائر في سنة 1995 ذات يوم شتوي عاصف.." (ص9).

في هذا المصاحب النصّي paratexte، وفي المصاحبِ الذي قبله (التصدير) ضبط المؤلفُ محدّدات تشير إلى سياقات الكتابة والغاية منها، وهي محدّدات، كما نجد عادة في أغلب العتبات، تنهض بوظيفة حماية النصّ من "سوء القراءة والتأويل". إنها تدعو إلى أن نقرأه في ضوئها.

في هذين المصاحبين ثلاث محدّدات تتعلّق بالكاتب وزمن الكتابة ورهانها.

أ- الكاتب: يشعرُ بالفراغ ويخاف الفقدانَ والموت. الذاكرة ذاكرته وذاكرة جيله. هو جمع، إذن، بصيغة المفرد سيكون صوته معادلا فنيّا لذات أكبر وأوسع هي ذات الجيل والوطن يشخصّ محنته ويعبّر عنها. "لا شيء في هذا الأفق، لا شيء [..] رماد هذه الأرض التي صارت تتضاءل [..] الخوف من رصاصة [..] هو ذاكرتي أو بعضا منها، ذاكرة جيلي الذي ينقرض الآن داخل البشاعة".

ب- زمن الكتابة: من سنة 93 إلى 1995، وهي فترة تندرجُ ضمن ما اصطلح عليه "عشرية الموت" أو "العشرية السوداء" التي بدأت سنة 91 عندما دخلت الجزائر في مواجهاتٍ دموية عنيفة بين أجهزة وقوى وفصائل متعدّدة على خلفية أزمة سياسية تمثلت في إيقاف المسار الانتخابي. تؤكد دراسات كثيرة على أن كثيرا من الأحداث في هذه الفترة مازال يلفها الغموض، غير أنّ المؤكد أيضا أن العنف في هذه الفترة عرف تحولا نوعيا إذ بالإضافة إلى الأشكال المألوفة كالشغب والمظاهرات عرفت الجزائر ظاهرة الخطف والتفجير والاغتيال ثم الإبادات الجماعية (مجزة بني طلحة وسيدي رايس وبني مسوس..)(16).

ج- رهان الكتابة: مثلما أنّ المؤلفَ مهدّدٌ من رصاصة عمياء إنْ لم يتوخّ الحيْطة، فإنّ الكتابة في أتون المعركة مهدّدة بأن تخسرَ شرطها أيْ فنّيتها وجمالها فتموت وتنتهي بنهاية الحدثِ. إنّ المؤلف واع، من خلال المصاحب النصيِّ، بذلك. فكثيرة هي النصوصُ التي أرادت أن تكتب الراهن واللحظة لكنها سقطت في امتحان الفنّ. ولعل ذلك ما دعا بعض النقاد إلى وسم كثير من روايات المحنة بـ"الأدب الاستعجالي".

في هذه النصوص العتباتِ (التصدير، التقديم) يعلنُ المؤلفُ صراحة أنه ليس محايدًا. فالكتابة بالنسبة إليه انحياز للحياة ودفاع عن الحق فيها وهي دفاع عن الذاكرة ضد المحو والنسيان. إن الكتابة عند الأعرج رهان وجودي وسلاح ضد الموت. ذلك هو أيضا حالُ راوي "ذاكرة الماء" الذي لم يكن يجيد "ذبح دجاجة" (ص74) والذي تخلى عن بندقيته " دون تردّد " للدولة. لقد تخلى عن سلاحه فصار في العراء إلاّ من الوعي ومن الثقافة والكتابة. قال يقنع مريم بصواب قراره التخلي عن بندقيته استجابة لنداء وزارة الداخلية: "نحن مثقفون ولسنا قتلة" (ص76).

في المعركة حول الذاكرة والوطن والحرية. يتواجه طرفان، يملك أحدهما قلم الرصاص ويملك الثاني الرصاصَ الفعليّ. للراوي قلمه ولريما قلم، وقتل يوسف وفي يده قلم الرصاص، ولقد كرّر الراوي الإشارةَ إلى ذلك فذكر القلم في أكثر من موضع. من ذلك ما نقرأه في إحدى قصاصات الجرائد التي قال إنها يحتفظ بها " اغتيل البارحة في بيته الفنان والشاعر والإنسان يوسف. لقد وجد مقطعا على فراشه وفي يده قلم رصاص يبدو أنه كان وسيلته الوحيدة للمقاومة.." (ص134)، وذُكر القلم في مقطع من نشرة الأخبار جاء فيه: "وجد بيته مبعثرا ورأسه مفصولا عن جسده تنام داخله العديد من رصاصات مسدس آلي وفي كفه قلم رصاص" (ص136).

قطبان يتشكل الأول من الفنانين والطيبين من الناس يحبون تراب بلادهم ويمارسون الفن والثقافة شعرا ومسرحا وكتابة صحافية، ويتشكّل الثاني من طائفة منَ المنافقين والمغفلين والمتعصّبين ومن يحميهم من حاملي الجينات الانكشارية.

ولقد عبّر عن هذا التعارض/ هذه المواجهة عنوانُ القسم الأوّل من الرّواية: الوردة والسيف.

لقد وردت "الوردة" ومشتقاتها في الرواية في مواضع مختلفة ودلت على معانيَ مباشرة وأخرى رمزية بعيدة. فالوردة كانت رمزَ الحب (ص96)، وياسينُ كان يتدحرج في يدي والده (الراوي) "مثل وردة بريّة" و"ألبسة ريما وردية جميلة" (ص154) والراوي وضع على قبر يوسف وردة (ص299). ويقترنُ الورد في الرواية بالعقل والبحر والذاكرة (ص99) وبالبساطة والطيبة وبالشعر. إنّه رمزُ الحياة ومقاومة الموت.

على النقيض من ذلك يقفُ السيفُ وعناصر هي مرادفات له مثل الرّماد والجنازة والرصاص والسكين والدم. فهل يمكن للمؤلفِ في معركة "إمّا حياة وإما موت" أنْ يكون محايدا؟ أليس أنْ تطلب منه ذلك يعني ان تدعوه إلى أن يكتب أدب الترف؟

ولكنَّ المؤلفَ ليس هو الرّاوي وإن نهل في تشكيله من تجربته وحياته. هذا معلومٌ. فما هي المسافة التي يجب أنْ يتركها المؤلف بينه وبين أحبّ الشخصيات إلى نفسه؟ وهل لجم المؤلف اندفاع راويه بما يسمح للشخصيات/ الأصوات الأخرى خاصة من الذين يخالفونه الرأي أن يسهموا في بناء العالم المتخيل للرواية؟

2-3: الحوار: الرصاص يغتال الكلام
تتجاذب العالمَ المسرودَ في "ذاكرة الماء" أصوات كثيرة تساهم كلها في تشكيله:

الرّاوي ذو الحضور الطاغي ومريم في حالات حضورها (الحوار) وغيابها (الرسائل، ص95، ص179-187). وريما ابنته (حوارات، نصوصها) وعمّه و أمه ويوسف وعزيز وزوليخا والطبيبة إيماش. شخصياتُ تشارك في الحوار المباشر، ويشاركها الرّاوي وينقل عنها ويحكي بلسانها شبكة من الأصوات تشكل المحكيّ وهي تشترك في رؤية تكاد تكون واحدة وجامعة قوامها الطيبة والحب والخوف.

ويتشكلُ مروي الرّواية في جزءٍ منه من أصوات الآخرين، أعداءِ الذاكرة والحياة. تنوّع حضورهم بما هم صوت أو رؤية بين الملصقات الحائطية وصفحات الكتبِ والحوارات المباشرة وإن كانت قليلة وأحيانا موجزة يقطعها الصمت إذ أن كل طرف من المتحاورين يرغب في أن ينهي الحوارَ سريعا. من الشواهد على ذلك:

- في الحوار الذي جرى بين ريم والحارس الذي منعها من دخول المقبرة لأنها عورة تقول: "كان يريد أن يعطيني درسا في تربية الأطفال لكني لم أعطه فرصة للكلام [..] تفاديت النقاش معه" (ص128).

- في الحوار بين رئيس البلدية الجديد ومديرة المتحف التي اتهمها بأنها زانية.

- شوفي يا حرمة. ما نطولش معاك الكلام أحدثك بشكل سلمي.. أخرجي ودعينا نغلق بيت الأصنام هذا" (ص156).

- يقول الراوي إن النقاش مع صديق قديم رضع من جبهة التحرير واشترى الفيلات بالدينار الرمزي ثم انكفأ فجأة داخل الأطروحات الاسلامية يحمد الله على عودته إلى الطريق المستقيم.. صارت تتحول إلى "مضيعة للوقت" (ص279).

وفي مواضع اخرى من الرّواية، وإنْ كانت نادرةً، طالت المحاورةُ (هي في الحقيقة مساجلة) بين ممثلي القطبين/ الاتجاهين. حدث ذلك في التاكسي التي استقلها الراوي ليحضر الجنازة (ص279-289). ولقد كانت سمات هذه المساجلة التقطع والرغبة في الانهاء منها بسرعة، والتمويه والانفعال.

نفى الراوي عن هذا الحوار أن يكون فعلا حوارا واعتبره "دورة مغلقة لا تنفتح إلاّ لتنغلق على نفسها من جديد" (ص286). كشفت هذه المساجلة عن عمق الهوة بين الطرفين (المرجعيات، القيم، المشاريع..)، فكانت حوارا شكليا غيرَ منتج، وانتهت إلى نزول الراوي من التاكسي قبل وصوله المقبرة حيث سيدفن يوسف.

لقد جمعت صدفة في فضاء التاكسي عقلين: نقدي مرجعيته كونية القيم ومشروعه بناء دولة مدنية. وآخر منغلق مرجعيته فتاوى التكفير ومشروعه بناء دولة المتدينين.وعلى النقيض من هذه المساجلة كانت حوارات الراوي مع أحبته وأصدقائه إن اختلف المتحاورون في التشخيص او التفسير.

هل حققت "ذاكرة الماء" شرط كتبتها؟ هل تحقق فيها التوازن الذي يراه "باختين" ضروريا لكتابة رواية تعدّدية؟ وهل استقلت الشخصيات في عالم الرواية لتبني مساراتها " الطبيعية" أم أنها نحتت لتكون أقنعة لأفكار ناجزة وإن كانت متعارضة ؟ هل كيف منطق الرواية العناصر السير ذاتية أم أنّ هذه العناصر فرضت منطقها؟

إنّ على القراءة أن تُنطق صوامتَ النصّ. ولا يتأتّى لها ذلك إلاّ إذا كانت واعية بالقوى الاجتماعية والسّياسية التي تشكلّ الواقع، سياق الكتابة. ذلك ما أشار إليه الناقد إبراهيم رازان، الذي لاحظ في كتابه "خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة" أنّ الرواية العربية المعاصرة غيّبت "العقل الديني" بوصفه أداة تعبئة إيجابية، وقدّمت التيارات الدينية باعتبارها قوة تخلّف وشدّ إلى الوراء(17). فـ"ذاكرة الماء" وإن فضحت العقلَ المتديّن إلاّ أنه كان بالنسبة إليها أحدَ عناصر الشبكة المعقدة التي تقاطعت فيها مصالح مافيات كثيرة سياسية ومالية ودينية (ص201).. مافيات لا يمكن أن تكون إلا قوى تخلف وتعبئة للتخريب الاقتصادي والثقافي. إن العقل المتديّن بالنسبة إلى راوي "ذاكرة الماء" ليس غير "بعبع" يخرجه سماسرة الوطن للجمِ طلبات جيل جديد في الحرية والعدالة والمساواة (ص264). لقد فضحت "العقل" الانتهازيّ والذكوريّ والأصوليّ.. العقول التي لا تختلف في شيء عن "ارهاب القتلة" (ص274). صنعت "الارهاب" وأدارته للانتقام من الدولة وتقاسم النفوذ الاقتصادي (ص294).

ذلك، في تقديرنا، ما دعا الأعرجَ إلى أنْ يحتفظ بيقينه/ إيديولوجيته، فلا يكتفى بالتنسيق بين الأسَاليبِ واللغات وصهرها بشكل متناغم داخل نسيج الرواية أي أنْ يظلّ محايدا على مسافة من شخصيات روايته (كما دعا إلى ذلك باختين)، بل مارسَ حقه (الذي أقره نقاد أمثال بيار زيما) في توجيه المعنى وترجيح إيديولوجيا على أخرى ضمن التصورات الموجودة في النص.

لم يقص الصوتَ المختلفَ، لكنه انحاز إلى راويه كلّ الانحياز وإلى مريم وريما ونادية وفاطمة ويوسف وإلى عمّه.. وإلى كلّ الطيبين والحالمين الذين لم تلوثهم جرثومة الانكشارية الحاقدة على العقل (التعصب) والجسد (الذكورية) والدولة (الفساد). فأنْ تكون محايدًا في مثل هذه السياقات يعني أن تكتب ببلاغة بذيئة ولغةٍ خشبية.

والكتابةُ عند الأعرج، وعند راوي روايته، فضاءٌ لتشعنق الرّوحِ الحالمة بوطن أجمل، كتابة لا تخاف أن يكون ثمنها الحياة نفسها. غير أنّ الراوي بدا لنا شخصية ناجزة من البداية رغم حالات القلق واليأس الطارئة ظلت ثابة على قناعاتها لا تتزحزح.

لقد كانت الكتابة بالنسبة إلى الرّاوي، لزهر الحمصي، والتمسكُ بالبقاء على خط النار تجربتين بمذاقٍ واحدٍ هو عدم التواطؤ في الجريمة صمتا أو هروبا. لقد اختارَ أن يموتُ واقفا وفي يده قلم الرصاص.

وليس اقصاءُ من وصفتهم ريما في يومياتها بالغربان صوتا في الرّواية والاكتفاء بتشخيص أثرهم في الناس والأمكنة سوى اختيار فنيٍّ مقصود منسجم مع الموقف الرافضِ للتواطؤ مع المجرم في معركة "عدّ الأيام" التي تجعلنا نموت قبل أن نموت.

(جامعة قابس. تونس)

ridhalab69@gmail.com

* * *

المصدر

- الأعرج (واسيني): ذاكرة الماء (1997)، ورد للطباعة والنشر، ط4، سوريا، 2008.

الهوامش

(1) Dictionnaire culturel de la langue française sous la direction d’Alain Rey, T3, Le robert, 2005, p522.

(2) Maurice Halbwachs, la mémoire collective, éd Puf, 1950, p13.

(3) Entre les deux pôles de la mémoire individuelle et de la mémoire collective, n’existe-t-il pas un plan intermédiaire de référence où s’opèrent concrètement les échanges entre la mémoire vive des personnes individuelles et la mémoire publique des communautés auxquelles nous appartenons? Ce plan est celui de la relation aux proches, à qui nous sommes en droit d’attribuer une mémoire d’un genre distinct. Paul RICŒUR, La mémoire, l’histoire, l’oubli, Paris, éditions du Seuil, 2000, p. 161.

(4) بول ريكور الذاكرة التاريخ النسيان، تر جورج زيناتي دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2009، ص207

(5) يقول الأعرج في مقتطف من حوار: " الذاكرة ثقيلة ومعقدة جداً. الإنسان الذي يعيش فقط على ذاكرته إنسان ميت. تحولت الذاكرة في العالم العربي إلى استعارة لتبرير الهزيمة. الذاكرة إذا لم تتحول إلى فاعلية فهي قاتلة وخطيرة. ليس كل ما تحمـــله الذاكرة مهماً، بل قد يكون مدمراً وقاسياً ورحعياً. ومع ذلك نحن غير منفصلين عنها وعن تراكماتها. المشكلة عندنا هي أن الرقابة الاجتماعية قاتلة. هل نستطيع أن نقول كل ما يتعلق بهذه الذاكرة ؟ لنعد إلى الذاكرة الفردية أو الجمعية. الفردية تحتاج إلى نوع من التخطي الدائـــم والجمعية تحتاج إلى آلة نقد قاسية تعيد ترتيب الأشـــياء. ذاكرتنا العربية مليئة باللحظات الجميلة، ولكنها أيضاً محشوة بالتخلف المدقع. ويبقى السؤال: ماذا نريد أن نفعل بأنفسنا؟ لهذا، فأمر الذاكرة مرتبـــط بالضرورة بنا وبإراداتنا إلى حد كبير، وقدراتنا على التخلص من أثقل ما يؤرقنا، ويجرنا إلى الخلف. " جريدة الحياة، مارس 2014.

(6) عبد السلام حيمر: في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين، من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، ط1، 2009.

(7) رولان بارت، السرد والحياة، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط،ط1، 1992، ص9.

(8) إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، تر كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، ط1، 1997، ص58.

(9) ميلان كونديرا: الستارة، تر معن عاقل، ورد للطباعة، دمشق، ط1، 2006، ص 72.

(10) كولن ولسن: فن الرواية، تر محمد درويش، دار المأمون ودار الحرية، بغداد 1986، ص98.

(11) إ. م. فورستر: أركان الرواية، تر موسى عاصي، طرابلس ط1، 1994، ص38.

(12) http://www1.youm7.com

(13) يقول باختين: " إنّ كثرة الأصوات وأشكال الوعي المستقلة وغير الممتزجة ببعضها وتعدّدية الأصوات الأصلية للشخصيات الكاملة القيمة، كل ذلك يعتبر بحق الخاصية الأساسية لروايات دوستويفسكي"

ميخائيل باختين: شعرية دوستويفسكي، تر جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، 1986، ص10

(14) Jean COHEN, Structure du langage poétique, Paris, Flammarion, 1966.

(15) محمد برادة: الرواية العربية ورهان التجديد، منشورات دبي الثقافية، ماي 2011، ص67.

(16) انظر: بوشنافة شمسة وآدم قبي: إدارة النظام السياسي للعنف في الجزائر 88-2000 (دراسة قدمت في الملتقى الدولي المنعقد ببسكرة، سنة 2003) http://www.univ-ouargla.dz

(17) انظر: إبراهيم رزان: خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة، دار الشروق عمان، 2003.

المراجع

- الأعرج ( واسيني )، حوار، جريدة الحياة، مارس 2014

- باختين (ميخائيل): شعرية دوستويفسكي، تر جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، 1986، ص10

- بارت ( رولان ): السرد والحياة، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط1، 1992

- برادة (محمد): الرواية العربية ورهان التجديد، منشورات دبي الثقافية، ماي 2011.

بوشنافة (شمسة) وقبي (آدم): إدارة النظام السياسي للعنف في الجزائر 88-2000 (دراسة قدمت في الملتقى الدولي المنعقد ببسكرة، سنة 2003) www.univ-ouargla.dz

- حيمر (عبد السلام): في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين، من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، ط1، 2009

- رازان (إبراهيم): خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة، دار الشروق عمان، 2003.

- ريكور (بول): الذاكرة التاريخ النسيان، تر جورج زيناتي دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2009.

- سعيد (إدوارد): الثقافة والإمبريالية، تر كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، ط1، 1997.

- فورستر (إ. م ): أركان الرواية، تر موسى عاصي، طرابلس ط1، 1994.

- كونديرا (ميلان): الستارة، تر معن عاقل، ورد للطباعة، دمشق، ط1، 2006.

- ولسن (كولن): فن الرواية، تر محمد درويش، دار المأمون ودار الحرية، بغداد 1986.

- Halbwachs, Maurice. La mémoire collective, Puf, 1950.

- Ricœur Paul, La mémoire, l’histoire, l’oubli, éd Seuil, 2000.

- Cohen Jean. Structure du langage poétique, Flammarion 1966.

- Dictionnaire culturel de la langue française sous la direction d’Alain Rey, T3, Le robert, 2005, http://www1.youm7.com.