-1-
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما أطل ثامر الكراي من الشرفة كعادته ليستنشق هواء الصباح. لكنه فوجئ بهدير الجرافات وهي تمهد في حركة عصبية المساحات التي تحيط بمنزله الفخم. تملكه غضب شديد لما علم فيما بعد بأن الأمر يتعلق بأشغال لإقامة مبان جديدة في ذلك المكان. أقام الكراي منزله الفخم هذا على أرض ليست ملكا له. وكل سكان حي الربوة يعرفون القصة الكاملة التي تناقلوها أب عن جد.
شيد حي الربوة منكوبوا وادي الحمار الموجود في الناحية الأخرى من المدينة، والذي أقام المعدمون على ضفافه أكواخا متداعية للسقوط. كان يكفي أن تهطل الأمطار لمدة ساعة فقط، حتى تجر تلك البيوت نحو الوادي وتحطمها بما فيها من أغراض وحيوانات.
كان المنكوبون يتقدمون الجرافات، ويرفعون الأتربة والأوساخ بأيديهم السمراء والمشققة، والأمل يحدوهم في أن يروا يوما ما بيوتا لهم بالآجر والاسمنت، لا قصب فيها ولا طين ولا تعب. نزل الكراي من منزله صحبة رجلين من خدمه، وهو يدفع ببطنه المترهلة أمامه ويزمجر، ثم أمر بإيقاف الأشغال على الفور. لكن المعدمون وقفوا جميعا كالجدار المنيع ضد أوامر صاحب البيت الفخم بكل الوسائل: بالإقناع حينا، وبالتوسل أحيانا، وبالتهديد باللجوء إلى القانون أحيانا أخرى...
كان يكفي أن يجري الكراي مكالمة هاتفية واحدة حتى تسكت في التو محركات الجرافات، وينسحب المنكوبون منكسفي الخاطر إلى حيث لا يعلمون. بعد يوم واحد من حادثة الانسحاب، جمع عمران سكان وادي الحمار وخطب فيهم:
- نحن الذين أضنانا البؤس والحرمان، ونحن من شردنا الغرباء ثم أرهقنا أبناء جلدتنا، ونحن الذين نكبتنا مياه الوادي. وهاهم أصحاب الملك والوفرة يمنعوننا الآن حتى من الحياة. أخطأتم حينما انسحبتم البارحة، فهل نعود إلى وادينا، ونقيم مزيد من الأكواخ الخربة؟ هل نترك بيوتنا وأبنائنا لقمة شهية لمياه وادي الحمار الغاضبة؟
قال حمدان محذرا في نبرة الواثق في نفسه:
- أصاب عمران والله... ولكن لم نخطأ نحن أيضا عندما انسحبنا. صاحب البيت الفخم عنيد وعتيد، ولا أقول لكم غير الحق: نحن لا نقوى على مجابهته أبدا.
بدأ الهمس يقطع صمت المنكوبين، ليتحول بسرعة إلى ضوضاء وصخب، فكان الجميع يتحدث إلى الجميع، ولا أحد يحاول الإنصات أوفهم ما يقول الآخر، حتى عم الهرج المكان، ولم يفلح صراخ عمران في تهدئة الحاضرين، كما لم يفلح الجميع في اتخاذ قرار واضح بخصوص مواصلة بناء حي الربوة. في الأثناء، كان الكراي يراقب المنكوبين من شرفة بيته، وهو جالس على أريكة وثيرة وفارهة. كان يرتشف كوب شاي بالبندق والنعناع، محاطا ببعض خدمه الذين جلبهم من إفريقيا. عندما رأى الاجتماع ينفض، وعلم بعجزهم عن مواجهته، قال لخدمه مقهقها في انتشاء كبير: «ذباب يواجه الأسود!! انتهى كل شيء الآن"
الأرض التي يسكنها الكراي، والتي قرر المنكوبون أن يقيموا فيها مساكنهم، تمسح نحو هكتارين اثنين. كانت على ملك يتيمين غرق أبوهما في بئر عندما كان يسقي منها أشجاره التي غطت كامل وجه هذه الضيعة. وكل سكان حي الربوة يعرفون أن الكراي كان يشارك والد اليتيمين في ضيعته، وذلك بإعانته بقسط زهيد من المال، مقابل أخذ نصف المحصول من الثمار في آخر الموسم. بعد غرق صاحب الضيعة، وضع الكراي يده على هذه الأرض، ثم أرسل اليتيمين إلى الصومال لتعلم تقنيات زراعة الموز، حسب قوله. لم يعد الولدان من إفريقيا إلى يوم الناس هذا، وصار الكراي هو المالك الحقيقي لهذه الضيعة.
ترك الكراي، أو ما يعرف بصاحب البيت الفخم، الأشجار تموت الواحدة تلوى الأخرى، وتتحول الضيعة إلى أرض جرداء قاحلة، ثم بدأت تكتنفها شيئا فشيئا الأشجار والأعشاب البرية. اقتطع منها نصف هكتار، وبنا فيه بيته الفاخر، ثم ترك البقية مرتعا لحيوانات الغابة.
فاجأ حمدان الجميع عندما طلب منهم أن يتركوا له أمر صاحب البيت الفخم، فهو قادر على التصدي له، حسب زعمه، وجعله ينسحب من طريقهم ويتركهم وشأنهم. ذات صباح عندما كان الكراي ينزل من بيته ويتجه إلى سيارته، محفوفا بنفر من الرجال الذين كانوا يحملون له بعض الحقائب، ركض حمدان نحوه. وعندما لم تعد تفصله عنه إلا أمتار قليلة، نزع مظلته وانحنى أمامه قليلا وهو يقول متملقا:
- صباح الخير والفل سيدي. هل تريد مساعدة؟
- ما اسمك؟
- حمدان...، حمدان للسهر على راحتكم سيدي.
- هل كنت معهم في الاجتماع؟
- نعم. وقلت لهم ألا يغضبوا سيدي.
- هاهاها...هاهاها... انصرف. لو مسكتك مرة أخرى هنا، لأريتك النجوم في عز النهار، يا ابن...
فتل حمدان شاربيه مرتعشا وهو يتأمل الكراي في ارتباك. وفجأة دار بسرعة إلى الوراء، ثم أطلق ساقيه للريح.
كان عمران يتتبع أخبار صاحب البيت الفخم ويسأل الصغار والكبار عن كل تحركاته، حتى بلغه خبر سفره إلى منتجع الهواء في الساحل الشرقي. نقل عن الكراي أنه قال بعدما فشل اجتماع المنكوبين: «إلى الاستمتاع الآن... ضباح الثعالب لا يزعجني». لكن رغم انتشار الخبر بين منكوبي الوادي كانتشار النار في الهشيم، لم يكن بوسع أحد المجازفة بوضع آجر واحد لبناء بيته في حي الربوة. كانوا بقدر إصرارهم على إنهاء معاناتهم، حريصون أيضا على حماية أنفسهم من مكر الكراي وغطرسته.
أعد عمران العدة في سرية تامة، وانتظر حلول أول ليلة مقمرة على الربوة. وما أن غط الجميع في نوم عميق، حتى شرعت سواعد الرجال في الحفر ووضع أسس أول بيت بالحي. كان عمران يقود فريقه بحزم وإصرار شديدين كقائد عسكري محنك، واضعا نصب عينيه الانتهاء من بناء بيته مع ظهور أول خيط من خيوط الفجر.
عندما كان صاحب البيت الفخم يستحم في حوضه مستمتعا بالماء الدافئ تحت شمس المنتجع الذهبية، بلغه خبر على غاية من السوء: «أقيم أول بيت في الربوة». قليلون هم الأشخاص الذين يستطيعون مقاومة الأخبار الصادمة التي تأخذهم على حين غرة، فيتصرفون بهدوء، ويستطيعون التحكم في أعصابهم. من هؤلاء أحد الرؤساء العرب الذي أجاب بهدوء تام عندما أخبر بخلعه من السلطة: «أنا متعود على الصدمات». صاحب البيت الفخم لم يكن من طينة هؤلاء، لأن الخبر نزل عليه نزول الصاعقة، فجن جنونه، وعوى، وزمجر وولول، وارتمى في سيارته بزي السباحة، وأعطى أوامره للعودة إلى بيته في الحال.
وفي نفس ذلك الصباح، بينما كانت سيارة صاحب البيت الفخم تسير بسرعة جنونية نحو الربوة، كان موكب البؤساء يتقدم بخطى حثيثة ليحتفل بالحدث السعيد. فكان الرجال يدقون الطبول، ويعزفون على المزامير، والنسوة يملأن المكان بالزغاريد والأهازيج، والفتيات يرقصن بحماس مفرط، والأطفال يرفعون كوانين البخور.
كانت السيارة تطوي المسافات طيا حتى كأنها تطير، بينما كان الكراي ملق على الكرسي الخلفي، وقد حجبت النور عن عينيه نظارات سوداء كبيرة غطت نصف وجهه تقريبا. بدا كأنه كتلة لحم ضخمة تنتظر التشريح، لا يبدي أي حركة، عدى حركة التنفس البطيء. لكن خياله كان أسرع من سيارته، ينتقل من المنتجع إلى الربوة، ومن الربوة إلى وادي الحمار، ومن هناك إلى اجتماع المنكوبين... قال متسائلا في حنق كأنما يحاور نفسه:
- من هذا الأحمق الذي يتجرأ على الكراي؟
كان لا يسمع إلا هدير محرك السيارة وهي تلتهم المسافات. ثم أضاف مجيبا نفسه:
- يمكن أن يكون ذلك الحمار الذي رأيته وأنا في الطريق إلى المنتجع... ما اسمه؟
قال مرافقه الذي يجلس بجانب السائق بصوت مرتعش:
- حمدان، سيدي. اسمه حمدان.
رفع الكراي كتلته اللحمية قليلا من على الكرسي وقال متوعدا:
- سأعاقبهم قردا قردا، وسألقي بهم في وادي الحمار كلبا كلبا.
كان يتقدم موكب البؤساء عمران وهو يسير مترنحا، كأنه يعدل خطواته على إيقاع الطبول ونغمات المزامير. عندما وصلوا إلى البيت الجديد، قفز بسرعة القط ومهارته إلى السطح، ونزع الشاشية، وأخذ يلوح بها إلى الجموع الغفيرة المحتفلة. وشرع الجميع في الرقص، عجائزهم قبل شبابهم، والبهجة تعلوا الجميع. بعد قليل أشار إليهم عمران بيده، فتوقفت الطبول والمزامير، وكف الرقص، واشرأبت الأعناق إلى سطح البيت الجديد تنتظر ما سيقوله عمران. كان حمدان يقف في الخلف، في مكان منزو قليلا، فناداه صوت: «تعالى نستمع إلى عمران»، لكنه رفض برأسه.
لم يتحدث عمران كثيرا، بل كان مختصرا وواضحا جدا في كلامه. بدأ كلامه بجملة صريحة ومقتضبة، لكنها هزت كيان الجموع المحتشدة:
- اليوم نعلن على بركة الله انطلاق بناء مساكن حي الربوة. حدودنا المدينة جنوبا، وجبال عمار شمالا...
بعد هذه العبارات، لم يعد يسمع شيء من كلام عمران، باستثناء صراخ متقطع، وحركات يديه المستغيثة، لأن الحشود هاجت وماجت، وتعالت قرعات الطبول من جديد، وشرع الجميع في الرقص بدون استثناء، إلا حمدان الذي انزوى قليلا ثم جلس القرفصاء، وشردت عيناه نحو موكب المحتفلين.
في ذات المساء بلغ سكان وادي الحمار خبر غمرهم بسعادة لا توصف: «سيارة الكراي انقلبت في الطريق، على بعد كيلومترين اثنين من حيهم. وصاحب البيت الفخم يرقد الآن في المستشفى، لا أحد يعلم شيئا عن صحته». زاد هذا الأمر في حماس سكان وادي الحمار، وجعلهم يشعرون بشيء من النخوة والانتصار.أما المترددون والخائفون من بطشه، فقد قوى عزيمتهم ورفع من همتهم، مما جعل حركة تعمير حي الربوة تتضاعف بسرعة عجيبة. فكنت ترى في كل يوم انتصاب جدران جديدة، مع غياب تام لسلطة صاحب البيت الفخم، باستثناء ظهور بعض رجاله من حين لآخر وهم يرقبون على خوف حركة أهل الحي من الشرفة.
أصبح عمران رجل الحي الأول الذي يرجع إليه الناس في كل أمر، وصارت كلمته مسموعة ومطاعة من قبل الجميع. كان دائم الحركة في الحي الجديد، لا يبخل على أحد بمد يد المساعدة بالفكرة حينا، وبالساعد أحيانا أخرى. كما كان يتجول داخل الحي منبها الجميع إلى احترام حدود البيوت وطرقات الحي ومداخله. خصص بعض قطع من الحي سماها "مرافق عمومية"، مثل مكان لمدرسة صغيرة، وآخر لمكتبة، ومكان ثالث لمسجد... حتى الترفيه لم يغب عن باله، فقد أفرد مكانا جميلا لمنتزه الحي، قريب من بيت الكراي.
كانت أخبار صحة الكراي تتتالى على الحي، كلها سيئة جدا، ولكنها سارة ومريحة لسكان حي الربوة. قيل أنه في حالة لا يحسد عليها: كسر في العمود الفقري، وكسر في الرقبة، وآخر في الأطراف الأربعة... كان الجميع يترقب خبر وفاته بين الحين والآخر. لكن حي الربوة كان يزداد كل يوم تعميرا وتوسعا، وكما هو معلوم، أول بيت أقيم هناك هو بيت عمران الأدهم، وآخره هو بيت حمدان. اتضحت الآن معالم هذا الربض الجديد، وبدأ الناس يشعرون بالأمن أو يكادون من مكر الكراي وغطرسته، وشرعوا في تزيين شوارعهم بغرس الأشجار المثمرة أمام منازلهم. غير أنهم كانوا يفتقدون إلى المرافق الحياتية الأساسية كالكهرباء، والماء الصالح للشراب، وقنوات الصرف الصحي، والطرقات المعبدة. مع هذا، كانت الغبطة تعلو وجوههم، والفرحة بحياتهم الجديدة لا تفارق محياهم. فلا رياح الخريف تهدد مساكنهم، ولا أمطار الشتاء ووادي الحمار تنغصان حياتهم، ولا كراي يرعبهم باستمرار.
-2-
لم تمض ستة أشهر على الحادث الذي تعرض له الكراي ودخوله الى المستشفى، حتى ظهر بغتة ذات مساء في شرفة بيته متكأ على عصا، وهو يتفحص حي الربوة بيتا بيتا. احتار الناس في أمرهم بعدما اعتبروه في عداد الموتى، وبدؤوا يطمئنون على بلدتهم الناشئة. حتى أن الكثير شكك في صحة الخبر، وقال أنه مجرد إشاعة يطلقها حراسه لإرباك عملية البناء والتشييد.
وأخير صار الخبر يقينا عندما رأى الجميع صاحب البيت الفخم يقود سيارته بنفسه في سرعة عجيبة، وعنقه مشرئبة نحو الحي الجديد. بلغهم بعد ذلك عن طريق بعض خدمه أنه «يمهلهم أسبوعا واحدا لإزالة ما بنوا، والعودة إلى جحورهم القديمة، وإلا قام هو بهدمها على رؤوسهم». كان أول من حمل فأسه لتنفيذ تهديد الكراي هو حمدان الذي شرع في إزالة بيته. لكن ريحانة زوجته دفعته بقوة جانبا، وافتكت منه الفأس غاضبة والشرر يتطاير من عينيها وهي تصرخ: «لقد التهمك الذعر من الكراي». عندما سمع عمران خبر عودة صاحب البيت الفخم وتهديده للسكان، أرسل قهقهة طويلة لم يضحكها من قبل أبدا، ثم مضى دون تعليق آخر.
رغم السعادة التي تراها على محيا سكان حي الربوة جميعا لانتقالهم من وادي الحمار التعيس إلى بلدتهم الجديدة، إلا أن الفقر والمشقة لا يزالان يطاردان حياتهم اليومية. فهم يتكبدون كل يوم الأتعاب لجلب الماء على ظهورهم من عيون جبال عمار المجاورة. منازلهم تماما مثل شوارعهم، يخيم عليها الظلام باكرا، لأنها بلا نور كهربائي. في فصلي الصيف والخريف تصير طرقاتهم خانقة بسبب الغبار، وفي الشتاء تغرق في الوحل لأنها غير معبدة. أبنائهم يقطعون كل يوم عدة أميال للوصول إلى أقرب مدرسة منهم، مما يؤثر على نتائجهم، ويدفع البعض منهم إلى مغادرة الدراسة باكرا.
في الناحية المقابلة لحي الربوة، ينتصب البيت الفخم للكراي كأنه قصر ملك روماني. مساحته ألف متر مغطاة، مع أربعة آلاف متر مخصصة لحديقة فسيحة وجميلة. به مسبح أنيق ومزخرف بالفسيفساء الزرقاء، ويحيط به فضاء كبير من العشب. عندما يشعل الأضواء في الليل، يخاله الناظر كوكبا متلألئا وسط غابة شاسعة.
تجمع بعض سكان الحي وقرروا الذهاب إلى العمدة ليكلموه عن المرافق التي يحتاجونها، من كهرباء وماء وتعبيد الشوارع. استقبلهم السيد محفوظ بحفاوة في مكتبه. كان يظن أنهم جاؤوا يهنئونه بنجاح ابنه في الباكالوريا، ويقدمون له الهدايا. وعندما علم بالغرض الحقيقي من زيارتهم، اكفهر، ورفض مواصلة الحديث معهم. لكنهم أصروا على عدم المغادرة إلا إذا استمع إليهم وقضي حاجتهم. في النهاية، رفض العمدة طلبهم لعدم امتلاكهم وثيقة تثبت ملكيتهم لهذه المساكن. ثم أردف قائلا:
- ليس فقط لا يسمح لكم القانون بإدخال الماء والكهرباء إلى بيوتكم، بل لو علمت السلطة بما فعلتموه، لوضعتكم جميعا في السجن. انصرفوا الآن، ولا تخبروا أحدا أنكم قابلتم العمدة في هذا الشأن.
نظر الجميع إلى بعضهم في حيرة من أمرهم، وهم أحدهم بسؤال العمدة، لكن حمدان جذبه بقوة من كم قميصه هامسا:
- ألا تفهم؟ هيا بنا إلى البيت قبل أن يلحقوا بنا.
في ذات المساء، اجتمع بهم عمران، الذي لم يذهب معهم إلى العمدة، في ساحة الحي، وهي فضاء فسيح وبسيط. شحذ عزائمهم التي كانت محبطة بما سمعوه من السيد محفوظ في الصباح، وبين لهم أن العمدة يتصرف بضغط من الكراي، ولا يمكنه أن يقول غير ما يأمره به ما سماه بذلك المتغطرس. من الغد قاد فريقا منهم إلى رئيس البلدية. كان هذا الأخير كهلا في الخمسين من عمره، أنيقا ونحيفا. عندما قابلهم، صافحهم بحرارة الواحد تلو الآخر بابتسامة عريضة، حانيا قامته قليلا كما يفعل اليابانيون. بادر هو بالحديث، مثنيا على سعة اطلاعه على خرائط العالم وبلدانه ومدنه، وحتى قراه وأوديته. حسب ما يعلم الجميع، رئيس البلدية هذا لم يخرج من مدينته ولو مرة واحدة في حياته، لكنه كان يفخر شديد الفخر بأنه أستاذ جغرافيا. أطنب في الحديث عن أدغال إفريقيا وغابات الأمازون وكازينوهات لوس أنجلس... حتى قاطعه عمران قائلا:
- سيدي نحن لم نأت لا من إفريقيا ولا من البرازيل.
أفصح عن ابتسامة صفراء، ثم تابع قائلا:
- من منكم يسمع بنهر الايبرو؟ ثم أجاب هو:
- طبعا لا أحد. هو نهر في شبه الجزيرة الأيبيرية، وهو أطول نهر من بين تلك الأنهار التي تصب في البحر الأبيض المتوسط.
أطرق برهة مفكرا، ثم قال مستدركا:
- طبعا بعد نهر النيل...
غير أن عمران ترجاه بأن يستمع هو إليهم، لأنهم قصدوه لأمر هام. توقف فجأة وهو يتصفح وجوههم كأنه يعتذر عن الإطالة، ثم سألهم بابتسامة متزلفة:
- قولوا لي الآن، لماذا جئتموني؟
- قال عمران بصوته الجهير:
- نحن سكان حي الربوة، نريد أن تكون بيوتنا مثل بيوتكم، بها النور الكهربائي والماء الصالح للشراب، وتكون شوارعنا مثل شوارعكم أيضا، معبدة ومضاءة ليلا.
التفت الرئيس إلى الموظف الذي يقف بجانبه وسأله: «أين يوجد حي الربوة؟». أطرق الموظف رأسه خجلا، لكن عمران بادره قائلا:
- هل تسمع سيدي بوادي الحمار؟
- طبعا. وكيف لا أعرفه؟
- نحن الذين جرف الوادي كل ما لدينا من أغراض وحيوانات، وحتى الأبناء، ثم ابتلع المساكن بطوبها وقشها وقصبها.
فعوى رئيس البلدية متذكرا:
- آه... تذكرت. أنتم الذين تعرفون باسم المنكوبين. وماذا صنعتم الآن؟
- لم نفعل شيئا سيدي، فقط قمنا ببناء حيا جديدا.
ما إن سمع رئيس البلدية هذا الخبر حتى قفز من مقعده الفخم وهو يصرخ:
- حيا جديدا؟ أين؟... ومتى؟... وكيف ذلك؟
صمت الجميع. لكن الموظف المصاحب أخذ يشرح له الأمر همسا بكلمات بسيطة، بينما كان هو يتابعه بانتباه، موافقا برأسه حينا، ومقطبا جبينه حينا آخر. ولما فرغ من حديثه، قال الرئيس معترضا عليهم:
- الحق أقول لكم، أنتم بنيتم بيوتا في أرض ليست لكم، فكيف يحق أن أعطيكم رخصا لما لا تملكون؟ وبناء على ذلك...
فقاطعه عمران بن الأدهم:
- سيدي الرئيس، صحيح أن أرض الربوة ليست أرضنا، لكنها ليست أرضا أحد آخر. المالكان الحقيقيان هما يتيمان، قيل أن الكراي بعثهما إلى إفريقيا، أو ربما باعهما بثمن زهيد، واستحوذ على أرضهم. لم نسمع على اليتيمين أي خبر منذ أكثر من عقدين. ربما ماتوا أو تجنسوا... من يدري؟
أطرق رئيس البلدية برهة من الزمن وهو يضع رأسه بين يديه، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه:
- ما دخلي أنا؟ كيف يمكنني أن أساعدكم؟ القانون فوق البلدية ورئيسها، وفوق وادي الحمار وحي الربوة.
نظر حمدان إلى فوق، فوقعت عيناه على ثريا ضخمة وفاخرة تدلت فوق رؤوسهم فحجبت عنهم كل سقف المكتب تقريبا، ثم دنى من عمران وأسر إليه في أذنه قائلا:
- لا تجادله. الرؤساء يكرهون الجدال. وكما قال هو، القانون معه وليس معنا.
لكن عمران جذبه بقوة ودفعه بعنف، فتدحرج كالكرة إلى الوراء حتى سقط على الحائط.
وفجأة تبسم الرئيس، ولانت عباراته كأنه تفطن إلى حل يخرجه مما فيه، وقال:
- تعرفون أني أحرص الناس على راحتكم وراحة كل السكان الذين يتبعون بلديتي. لذلك سوف أراسل الوالي في شأنكم، لأن القرار الأخير بيده، وهو الوحيد الذي يستطيع تأويل القانون، أو بعبارة أخرى التحايل على القانون. سأقترح على السلطات البحث في شأن اليتيمين في إفريقيا. فان عثرت عليهما، فالأرض أرضهم، وعلى الكراي وسكان حي الربوة أن يرحلوا جميعا من هناك، وان لم تعثر عليهما، فالقرار للسلطات.
وبعد ذلك وقف رئيس البلدي وهم بالخروج، لكن حمدان فاجأ الجميع عندما صرخ من آخر القاعة:
- تمهل سيدي، لن ننصرف حتى نكتب ما كنت تقول، ونمضي عليه جميعا، وتضع عليه حضرتك خاتم البلدية، ثم ترسله إلى السلطات.
تهللت وجوه كل الحاضرين فرحا، وصفقوا جميعا ضاحكين تعبيرا على الموافقة، ومندهشين من هذا الموقف النادر لحمدان. كان رئيس البلدية يضحك أيضا. وما هي إلا دقائق حتى أنجزوا ما طلبه حمدان.
بداية من تلك اللحظة عاش سكان حي الربوة على أمل الاعتراف الرسمي بهم كمواطنين ينتمون إلى تلك البلاد، ويملكون مساكن بذلك الحي.
- 3 -
لم يكن لوادي الحمار أثر قبل قدوم الغرباء. كان الأجداد يحيون الأرض ويربون المواشي عندما سلبوهم كل ما كانوا يملكون بتعلة عدم امتلاك وثيقة الملكية مرة، وحاجة الغرباء لمد السكك الحديدية مرة أخرى، وغيرها من الحجج. قضوا وقتا طويلا يرتحلون من مرعى إلى آخر، حتى استقر بهم المقام في ما سمي فيما بعد بوادي الحمار. لم يكن هناك وادي ولا حمار، بل كانت أرض منخفضة حيث ضربوا خيامهم في السفوح، وواصلوا تربية الماشية. أما بخصوص هذه التسمية فقد قيل أنه كان هناك قبر داخل قبة صغيرة يأتونه بعض الناس لزيارته والدعاء فيه، ظنا منهم أنه ضريح لولي صالح. غير أنهم اكتشفوا في النهاية أنه قبر دفن فيه حمار.
عند خروج الغرباء من البلاد، قررت الدولة فتح متنفس صغير لسد جبال عمار حتى لا يفيض على المدينة فيدمرها. لذلك تكون مجرى صغير يشق المنخفض الذي يسكن فيه هؤلاء البؤساء. وبمرور الزمن بدأ السيلان المتواصل للمياه يحدث خندقا صغيرا، صار فيما بعد وادي يسيل كامل السنة. بدأ عدد السكان يكبر بكبر الوادي، حتى أصبحت ضفتيه مقاما لعدد كبير من العائلات والمواشي.
في فصل الشتاء لا ينفك السد يدفع بكميات هائلة من المياه إلى الوادي، مما جعله يفيض عديد المرات في السنة، فيدمر بيوتهم ومواشيهم، وحتى أرواح البعض منهم. لا يزال عمران يذكر بحزن ذلك اليوم المشئوم الذي أخذ فيه الوادي كل ما كان يملك: ابنه الوحيد وأغنامه وجزء كبير من بيته، ولم ينجو من الكارثة غير هو وصفية.
لم تتوقف الأشغال في حي الربوة بالرغم من تهديدات الكراي ووعيده، وبالرغم من أن ملف اليتيمين لم يقع حله بعد. في ساحة الحي قال عمران بن الأدهم أنه يعتزم الشروع في تشييد المدرسة وفرض إجبارية التعليم على كل أطفال الحي. وأوضح أن ربع هؤلاء لا يذهب إلى المدرسة بسبب بعد المدينة عنهم، وبسبب فيضان وادي الحمار المستمر كامل فصل الشتاء. وافقه الجميع تقريبا باستثناء حمدان، وريحانة، وعبد الصمد الذي اشتغل لمدة وجيزة كمؤذن لإحدى مساجد المدينة. اعترض هذا الأخير بشدة وقال في نوع من الحنق:
- كلنا نحب العلم والمدرسة، ولكن عبادة الله سبحانه مقدمة على كل الأعمال الأخرى. لنبدأ أولا ببناء المسجد: فيه نصلي نحن وأبنائنا، وفيه نجتمع ونتدارس مشاكل حينا، وفيه نعلم أبنائنا القرآن وحتى القراءة والكتابة. بعد المسجد نبني المدرسة، وليس العكس.
تكلمت ريحانة زوجة حمدان وطلبت البدء بتهيئة المنتزه، وقالت أن الناس هناك قتلهم الضجر والملل، وصار الدهر أثقل من زمن وادي الحمار. كان حمدان في آخر الحاضرين ينفي برأسه كل ما قيل، ثم انتصب واقفا وهو يصرخ:
- مخطأ عمران...، أما عبد الصمد فعليه أن يصمت إلى الأبد.
ثم التفت إلى زوجته ريحانة وأشار إليها بأصبعه ساخرا: «هذه... من أعطاها حق الحديث مع الرجال؟». همت ريحانة بالكلام، لكن عبد الصمد راح يزعق: «أستغفر الله، واللعنة على من خاصم دين الله»، ثم توجه إلى حمدان وطلب منه التوبة عما قال. في ذلك الحين رفعت ريحانة صوتها بالقهقهة لترد على سخرية زوجها حمدان قائلة:
- ليس كل الذكور رجال، وليست كل الإناث نساء. والرجولة فعل لا جنس.
صفق حمدان يديه متعجبا مما أسماء "جهل الجاهلين". أما عبد الصمد فقام، وهم بمغادرة الاجتماع وهو يحوقل ويقول بأنه سوف لن يحضر اجتماعا آخر تتكلم فيه النساء، ويتطاول فيه الحمقى على دين الله. لكن صوت عمران دوى كالصاعقة وأمر الجميع بالأدب واللياقة عند الحديث، ثم طلب منهم رفع اليد لمن يوافق على بناء المدرسة أولا. ارتفعت الأيدي في الهواء بكثافة ولم يبق إلا عبد الصمد مطرقا ويداه مكتوفتان.
بعد الاجتماع تحدث حمدان مع عمران عن كيفية مواصلة تعمير الحي وتجنب مكائد الكراي ومؤامراته. وفي ختام حديثه قال أنه سيتكفل بالأمر وسيلقن صاحب البيت الفخم درسا لن ينساه أبدأ، لكن عمران لم يكن يثق بكلامه، لذلك ربت على كتفيه، وتركه ومضى.
كان أهل الحي يترقبون بفارغ الصبر جواب السلطات عن طلبهم المتمثل في الكشف عن ملكية هذه الأرض. عمت البهجة الناس عندما أعلمهم العمدة أن طلبهم قبل، ووقع بعث الملف إلى الصومال للبحث عن اليتيمين. حفزهم هذا الخبر على مواصلة البناء وتهيئة الحي، فما أن انتهوا من بناء المدرسة حتى شرعوا في بناء المسجد، وما هي إلا أسابيع قلائل حتى انتهوا منه ومروا إلى تبليط الساحة العامة، وتزيينها، وغرس أشجار التوت حولها. لكن عيون صاحب البيت الفخم كانت ترصد باستمرار حركة البناء، وعندما تأكد الكراي أن الأمر بدأ يخرج عن السيطرة، وأن أمر اليتيمين قد يكشف، عزم على بدأ الهجوم. أرسل جرافة إلى وسط الحي في ساعة مبكرة من الليل، وقبل أن ينادي عبد الصمد من فوق سطح المسجد إلى صلاة الفجر، كانت الساحة قد جرفت تماما، وأحدثت فيها حفرة شاسعة وعميقة، قبل أن تنسحب في اتجاه جبال عمار، والناس يغطون في النوم.
في الصباح صعق الناس برؤية خراب ساحتهم الجميلة التي انتهوا على التو من إعدادها، ودعا حمدان إلى الانتقام من صاحب الفعلة، ومكثت ريحانة تبكي وسط الركام مع بعض الفتية حتى أذان الظهر. في نفس اليوم ذهبت مجموعة من الرجال إلى رئيس البلدية لغرضين: رفع شكوى ضد صاحب البيت الفخم، والحصول على جواب السلطة المتعلق بأرضهم. لكن ظنهم خاب عندما أعلمهم رئيس البلدية بأن الكراي تصرف كمالك حقيقي للأرض، والقانون معه لأنهم أقاموا ساحة في أرضه. ثم أضاف بأنه سوف يقاضيه عندما يأتي رد السلطة إن أثبت عدم ملكيتها. زاد هذا الكلام حنق الناس وسخطهم على ما أسموه "أصحاب الفساد"، لكن عمران أوصاهم بعدم المغامرة وإتباع القانون. رغم ما أبداه من رباطة الجأش، كان عمران في الحقيقة أكثرهم توترا، مما جعله يهجر عادة العزف على قيثارته كل مساء تحت شجرة التوت لمدة طويلة. كان الجميع يعلم تعلقه بهواية العزف على هذه الآلة التي تعلمها أثناء اتصالاته منذ سنين بعائلة غجرية، كان يشتري منها بعض الأعشاب الطبية.
انتظر الكراي ردة فعل أهل الحي بعد تخريب ساحاتهم، فأمر خدمه بتشديد الحراسة على كامل البيت، خوفا من انتقام بعض المغامرين. ولما تأكد بأن خوفه هذا كان مجرد وهم، اقتنع بأن سكان حي الربوة لا يقدرون على مقاومته، بدأ يفكر بالمزيد من أهانتهم، وذلك بمضاعفة تدمير حيهم. كل مخططات صاحب البيت الفخم تنفذ في جنح الظلام، لذلك هاجم رجاله ليلة الجمعة القنطرة الخشبية التي تربط حيهم بالمدينة، والتي تمر فوق وادي الحمار، وألقوا كل أعمدتها في الوادي الذي جرى بها بعيدا. في الصباح تفاجأ الناس بالأمر، وصار الذهاب إلى المدينة يتطلب ثلاثة أضعاف الوقت العادي، لأنه عليهم أن يسلكوا طريق جبال عمار الطويلة والوعرة لبلوغها. كادت إحدى النسوة الحاملات أن تهلك عندما جاءها المخاض لطول المسافة، كما توقفت عربة جلب الأدوية عن الذهاب إلى الحي، مما تسبب في انتشار بعض الأوبئة لدي الصغار خاصة.
رأى الجميع أن تصرفات الكراي التخريبية صارت لا تطاق، وأنه يتوجب ردعه قبل أن يحول حياتهم إلى جحيم. لكنهم لم يلجئوا إلى العنف مقابل دناءته، بل قرروا ضبط النفس، وإرسال مجموعة منهم تحذره من عواقب مواصلة الاعتداء على حيهم. عندما لمحهم أحد الحراس يتقدمون من بعيد نحو البيت، أعلم سيده الذي أقام جدارا من البشر ليحول دون وصولهم. ولما كانوا على بعد بضع أمتار من السور، نادى عمران بصوته الشديد والمرتفع:
- أين سيدكم؟
لم يجبه أحد. فتقدم خطوتين وهو ينظر إلى الشرفة، وصرخ:
- نادوا سيدكم.
بعد برهة من الزمن، أجابه أحدهم فزعا، وبلغة عربية غير متقنة:
- لا "تتكدم" خطوة أخرى... "كف" مكانك.
- لم نأت للخصام. قل له جئنا نريد السلام، فليخرج إلينا لنقول له شيئا واحدا.
خيم الصمت من جديد، فكرر طلبه وقال أنهم لن يغادروا المكان حتى يخرج إليهم. دخل أحد الحراس البيت، ثم ظهر بعد لحظات يتبعه صاحب البيت الفخم. أطل هذا الأخير يتهادى بجسمه الضخم، فتأمله الجميع عن قرب بفضول كبير. لاحظ أحدهم أن ضخامة رأسه لا تتناسب مع صغر عينيه. كما شاهدوا جميعا كيف أن بطنه ترامت أطرافها وأثقلت ركبتيه مما جعله يترنح عند السير. كان يبدو عليه الخوف من خلال نظراته إليهم، لذلك تسمر في مكانه ولم ينبس بكلمة، فقال له عمران:
- لا تغتر بمالك وجاهك، فأنت شخص واحد في النهاية، بينما نحن شعب بأكمله.
–ظل صامتا قليلا، ثم تقدم خطوة وقال:
- ماذا تريدون؟
- نريد أن تتركنا في سلام، وتكف عن تخريب حينا.
صمت ولم يرد، فأضاف عمران:
- حطمت ساحتنا، ثم دمرت قنطرتنا، وصبرنا قد نفد. إن لم تتنحَ عن طريقنا، فسنضطر إلى مقاومتك.
رجع خطوة إلى الوراء، ثم قال متهكما:
- عودوا إلى وادي حماركم، فليس لكم مكان في أرضي.
ثم دار فجأة إلى الخلف، واختفى داخل البيت. وقبل أن ينصرفوا قال حمدان مهددا:
- سترى مني ما تكره يا كراي... سترى.
في اليوم الموالي قرر عمران تقديم شكوى إلى السلطات ضد صاحب البيت الفخم، فبدأ بالعمدة الذي لم يبدي اهتماما كبيرا بالموضوع، واعتبر أن ما حصل هو مجرد خلافات عادية تقع بين الجيران. على عكس العمدة، رحب به رئيس البلدية ودعاه، بعدما استمع إلى شكواه، إلى تناول كأس شاي في مكتبه. قال له سوف ينادي الكراي، وسوف يوبخه، ويطلب منه عدم إزعاجكم من جديد، حتى يتضح أمر قطعة الأرض هذه. لم يرق هذا الموقف لعمران الذي اعتبره مساندة ضمنية للكراي، فاحتج على ذلك، وهم بالمغادرة حانقا. لكن رئيس البلدية أخذ يهدئه، ويعده بحل المشكل في أقرب وقت. ثم صمت هنيهة وهو يجول ببصره في أنحاء المكتب كأنه يبحث عن شيء ما لإرضائه. وفجأة تهللت أسارير وجهه، ومسك عمران من يده وسار به إلى الممر وهمس في أذنه:
- سنكرمك.
لم يفهم عمران ما كان يقصده، فنظر بحيرة في عينيه، وكأنه يطلب منه توضيحا.
- سنضيفك إلى قائمة حجيج هذه السنة.
قال ذلك وهو يمسح العرق المتصبب من جبينه.
لم يخطر ببال عمران أن يأتيه عرض مثل هذا من قبل، ولم يفكر في الذهاب إلى الحج قبل ذلك. بقي ينظر في عيني رئيس البلدية مشدوها، ظنا منه أنه يمزح. لكن المسئول باغته بتقبيله مرتين وهو يقول:
- مبروك يا حاج، جهز نفسك لزيارة بيت الله. ستتكفل البلدية بكل شيء.
كما أعلمه أن الجنيد، حارس البلدية، سوف يرافقهم ليكون في خدمتهم في رحلتهم تلك.
ودون أن يفكر كثيرا سأله مذهولا:
- ولم أنا فقط من دون بقية سكان الحي؟
نظر رئيس البلدية إلى الساعة مرتبكا، ثم بحث في جيوب بدلته الأربعة عن شيء ما، ثم غمغم قائلا:
- الحي! سكان الحي..! أنت هو الحي، وإكرامك هو إكرام لكل سكانه.
قال عمران أنه لم يتذكر كيف خرج من مكتب الرئيس وكيف وصل إلى بيته. كان يشعر بأحاسيس متناقضة: فرح وندم، غضب وارتياح، شوق وخوف. عندما وصل إلى الحي لم يكلم أحدا، ولم يخبر حتى صفية، بل اندس في فراشه ونام. قبل الفجر رأى حلما جعله يستيقظ في سكينة تامة واشتياق عظيم لمكة والمدينة. رأى نفسه يسير حافيا في لباس أخضر، وعلى كتفه قيثارته، وهو يتجه نحو مآذن عديدة تردد كلها بصوت عذب عبارة "الله أكبر". وفجأة وجد نفسه يهرول ويقول "لبيك اللهم لبيك".
في تلك المدة لم يفكر عمران في شيء عدا رحلة الحج. نسي الكراي، والساحة المخربة، والقنطرة المهدمة، وحركة تهيئة الحي، وحمدان، وريحانة، والعمدة. كان يجلس تحت شجرة التوت التي غرسها أمام بيته لساعات طويلة يفكر في الحج، وفي كيفية قضاء شهرا كاملا هناك. جاءه ذات صباح عبد الصمد المؤذن، وهنأه على الشرف الذي ناله قائلا:
- مبروك يا عمران... ابشر بزيارة قبر سيدنا الرسول.
- بارك الله فيك يا صديقي، والعاقبة لك إن شاء الله. قل لي يا عبد الصمد، كيف يقضي الحاج شهرا كاملا هناك؟ ماذا يفعل طيلة اليوم؟
- يعبد ربه. يصلي، ويستغفر، ويقرأ القرآن، ويذكر الله...
- وماذا يفعل بقية اليوم بعد أن يقوم بهذا... لمدة ثلاثين يوما تقريبا؟
- أستغفر الله. هي فرصة المؤمن ليتزود بالتقوى، ويعود بلا ذنوب كما ولدته أمه.
- هل حقا تمحى كل الذنوب؟
- كلها.
- هل تمحى ذنوب الكراي الذي اغتصب الأرض، وفعل بنا ما فعل لمجرد أن يحج؟
- قلت لك أن الله يغفر الذنوب جميعا.
بعد تلك المحادثة قال عبد الصمد أن حال عمران لم يكن يشبه حال من يستعد للحج بقلب راض ونفس ذليلة. كان كثير السؤال ولا يزال يهتم بالكراي أكثر من اهتمامه بذكر الله.
أعدت له زوجته صفية كل ما يحتاجه من طعام: كيس بسيسة قمح وعدس وحمص، وكيس زبيب أسود، وآنية فيها كمية من لحم الماعز المجفف، وأخرى فيها تمر دقلة النور والباجو والكنتيشي، وزيت الزيتون. لكن عمران كان يفكر في شيء آخر: كيف يحمل معه قيثارته؟ قالت له صفية أنه عليه أن ينسى هذا الأمر، لأن الحج لذكر الله فقط، وسوف لن يسمح له بإدخال هذه الآلة إلى الأماكن المقدسة. كان يحز في نفس عمران هذا الكلام، ولا يرى سببا لمنعه من اصطحاب آلته. وفكر: «عندما يقول الله أن أنكر الأصوات لصوت الحمير، ألا يريد أن يدلنا بذلك على أن هناك أعذب الأصوات أيضا، مثل القيثارة؟».
ذات يوم حلت سيارة البلدية بلونها الأزرق الداكن بالحي في ساعة مبكرة، وتوقفت أما بيت عمران. نزل منها الجنيد وشخص آخر، وتحادثا قليلا مع صفية أمام الباب ثم تبعاها إلى الداخل. في الناحية المقابلة للبيت كان يقف عبد الصمد وريحانة وحمدان ينتظرون خروج عمران لتوديعه. أعجب حمدان بالزي الذي كان يرتديه الجنيد: إزار أبيض يلف به الجزء الأسفل من بدنه، ورداء أبيض أيضا يغطي بقية جسده، باستثناء كتفه الأيمن الذي تركه عاريا. كان الجنيد يسعل سعالا شديدا يجعله يتوقف من حينا لآخر وهو يئن. التفت حمدان إلى عبد الصمد يسأله:
- لم ارتدى هذا اللباس ونحن في بداية فصل الشتاء؟
بين له عبد الصمد أن هذا لباس الحج، وأن المناخ في مكة والمدينة حار في أغلب أيام السنة، وأنه حتى لو مرض فهو في سبيل الله.
كان الجميع يترقب بشوق لحظة خروج عمران الذي لزم البيت منذ أكثر من أسبوع استعدادا للسفر. في تلك اللحظة خرج عامل البلدية وهو يحمل فوق ظهره كيسا كبيرا ألقاه بسرعة في السيارة ثم عاد إلى البيت. أما صفية فلم تكف عن الدخول والخروج باكية، وكانت بين الحين والآخر ترفع عينيها إلى السماء وتقول كلمات لا تصل إلى مسامع المودعين في الناحية المقابلة. لم تتمالك ريحانة نفسها فهرولت إليها، وحضنتها وهي تشهق باكية وتقول: «أدعو الله أن يجعل لنا كعبة في حي الربوة، يا صفية، فنحج إليها دون عناء».
- شاهد المودعون خروج عمران يتبعه الجنيد وعامل البلدية وصفية. أحدث ظهوره صدمة لدى المودعين، وخاصة عبد الصمد. كان يرتدي بدلة رمادية، وقميصا أزرقَ فاتحا، وربطة عنق قرمزية، ويغطي رأسه بشاشية اصطنبولي حمراء. ركض نحوه حمدان، وعانقه وهو يهمس مقهقها: «ما كل هذه الأناقة يا عمران!؟». لكن عبد الصمد تقدم إليه مذعورا من ذاك اللباس، وصاح في وجهه: «عد واحرم يا عمران... ما هذا؟». لكن عمران صافحه بحرارة قائلا: «ما زلت في حي الربوة، ولن أرتدي الأبيض إلا إذا خرجت منه». ثم دار نحو ريحانة التي كانت تمسك بيد صفية وتسند رأسها إلى صدرها، وطلب منها أن تحافظ على تلك المرأة، يقصد صفية، وتضعها في بؤبؤ العين. وافقت برأسها والدموع تسيل على خديها.
بعد أن ارتحل عمران إلى الحج، أراد حمدان أن يتقرب من صاحب البيت الفخم، لعله يصيب منه ما يبدل فقره ويسد حاجته، وربما يتمكن بعد ذلك من إقناعه بعدم التعرض لحي الربوة بسوء، ويدعهم يعيشون في سلام. في إحدى الأيام أخرج مكنسة وذهب إلى بيت هذا الأخير، وعند وصوله، تسلل على حين غفلة من الحراس، وشرع يكنس الساحة وينظفها بجد وإخلاص. عندما تفطنوا له، قبضوا عليه، وهموا بمعاقبته وحمله إلى الشرطة. لكن أحد مرافقي الكراي قال: «دعوه... ما الذي ستجنونه بذلك؟ ستصبح ساحتنا أنظف، ومقابل ذلك لن نعطيه مليما واحد، ولا حتى نشكره عليه، لأنه فعل ذلك من تلقاء نفسه». كان في نية الكناس المسكين كسب احترام جاره الثري بصنيعه هذا، لكنهم ضحكوا جميعا قائلين: «أكنس أكنس في بيتنا، فلن تزداد إلا وضاعة في أعيننا». ثم حملوه بعد ذلك إلى الكراي الذي ضغط على أذنه حتى أدماها وهو يقول: «الكلاب لا تتقن غير اللعق». ثم أخذ يسأله عن أخبار الحي، وعن المرافق التي بنوها والتي ينوون بنائها، كما ألح عليه في معرفة أخبار عمران، وعن علاقته ببقية سكان الحي. لكن الخبر الذي جعل وجه الكراي يتهلل ابتهاجا هو غياب عمران عن الحي بسبب ذهابه إلى الحج. بعدما سمع هذا الأمر، أطلق أذنه، وأمر بإعطائه قطعة شوكلاتة، ثم أخرجوه من الباب الخلفي.
بعد يومين من الحدث، دخلت جرافتان إلى الحي على الساعة السابعة صباحا ، تتبعهما سيارة الكراي الفخمة، مع سيارتين أخريين للمرافقة. اتجهوا جميعا صوب المدرسة، ولما وصلوا، نزل شخصان، وقاما بطرد بعض الأطفال الذين جاؤوا مبكرين للدراسة، ثم تقدمت الجرافات نحو المبنى. أول من تدخلت لصدها هي ريحانة التي جاءت تندب وتصيح، ثم ألقت بجسدها على باب المدرسة وقالت: «مزقوا جسدي أولا، ثم مروا إلى الجدران». قام الشخصان بسحبها من ثيابها على الأرض، وذهبا بها بعيدا. أطل الكراي من نافذة سيارته، وأعطى إشارة البدء بيده، فخر جزء من الجدار الأمامي، بينما كان الأطفال الذين طاردوهم، ينهالون على الجرافات والسيارات بوابل من الحجارة مغتاظين. كانت ريحانة تصرخ بين يدي الحارسين وهي تقول:«ويل للكراي من يوم الغضب... ويل للكراي من يوم العجب».
بعد أن دمرت الجرافتان مدخل المدرسة وأحد الأقسام، أشار عليهم الكراي بالانسحاب، فانطلق هو كالبرق ومن ورائه السيارات المرافقة، فالجارفتان، وخلف الجميع حجارة الأطفال وصراخهم وعويلهم. ذهبت ريحانة تخبر أهل الحي بيتا بيتا بما وقع، وتطلب منهم ما أسمته «بمحو العار». في المساء اجتمع كل الناس تقريبا أمام المدرسة، إلا حمدان، قيل أنه مصاب بالحمى ولا يستطيع الحضور. بعد وقت قصير أجمعوا على انتظار عودة عمران من الحج بعد أسبوعين، ليقرروا ما يرونه صالحا.
- 4 -
أخفى عمران قيثارته في بعض الخرق، ثم دسها في علبة ورقية لكي لا يظهر شكلها الذي يمكن أن يجلب انتباه أعوان المطار، فيحجزونها قبل الدخول إلى الأماكن المقدسة. كانت قائمة الأنشطة التي يقوم بها أيام الحج تختلف كثيرا عن أنشطة بقية الحجاج. كانوا يقضون وقتهم بين الذهاب إلى الحرم للصلاة، والعودة إلى الفندق للأكل والنوم، وقراءة القرآن، والذهاب للتسوق من حين لآخر. لاحظ عمران أن أغلب من معه من الحجيج قد أحسوا ببعض الضجر لرتابة يومهم، حتى أن الكثير كان ينتظر موعد العودة بفارغ الصبر، بعد ذلك الشوق العارم لزيارة أرض الحرمين.
كان البعض منهم يغبط عمران على تعدد أنشطته هناك، مما جعله مرحا ونشطا دائما، رغم اعتقادهم أن أغلب ما يقوم به لا يليق بالحج وبتلك الأماكن الطاهرة. روى الجنيد أن عمران كان يبدأ يومه مثلهم بصلاة الفجر في المسجد، ثم يعود مثلهم إلى الفندق. ولكن بينما هم يتناولون الطعام ثم ينامون، يرتدي هو زيا رياضيا ويقوم بالتمارين الرياضية لأكثر من ساعة في إحدى قاعات الفندق. بعد ذلك يتناول فطوره، ثم يخرج أحد الكتب التي جلبها معه، ويشرع في القراءة لمدة ساعة أخرى تقريبا. بعد القراءة، يفتح التلفاز ليشاهد بعض البرامج الإخبارية والثقافية والفنية، قبل أن يستسلم إلى النوم على غرار زملائه من الحجيج.
عند آذان الظهر يقصد المسجد مع بقية رفاقه, ويجلس بعد الصلاة هناك بعض الوقت يتدبر ما تيسر من القرآن، ثم يعود إلى الفندق لتناول الغداء. ويبدأ بعد ذلك بعزف بعض الأغاني الشرقية والتونسية المعروفة، وبعض ما جادت به قريحته من أبيات شعرية. كان يقوم بهذا في غرفته بكل حذر بعد غلق الباب جيدا، أمام نفر قليل جدا من الحجاج الذين يحبون الفن والطرب، مثل الجنيد. لقد أمتعهم ذات يوم بأغنية من تأليفه تتحدث عن بعض أحداث ماضيه، مثل أغنية "الجنوب" التي قال فيها:
درسنا مذ سنين خريطة الشعوب
فتاق بنا الحنين للشعب في الجنوب
صعدنا للشمال فحدنا المغيب
وأذن بلال يعلن الغروب
فامتطينا الصعاب وسرنا في الدروب
نحمل للشباب عزاء القلوب
سلمنا الذئاب بطاقة الرسوب.
بعد أن يصلي العصر في الحرم، يذهب والجنيد للتنزه والتسوق والتعرف على الناس من مختلف الجنسيات. كان يربط صداقات كثيرة مع الحجيج الوافدين من كل بقاع العالم، من صينيين وأوروبيين وأمريكيين وأفارقة وفرس وهنود... كان يتحدث معهم بصعوبة عبر الإشارة حينا، واللغة الانجليزية أحيانا، من خلال رفيقه الجنيد الذي كان يتقنها إلى حد ما. عند عودته بعد صلاة المغرب والعشاء كان يمتع رفاقه في الفندق بما سمع من تلك الأجناس من حكم وأخبار وتجارب...
لم يكن عمران راضيا على شهر كامل تقريبا يقضيه الحاج هناك يصلي ويقرأ القرآن فقط. كان يريد الاستفادة بشتى الطرق من كل ذلك الوقت، ومن كل تلك الجنسيات والأعراق التي تجتمع في مكان واحد. كان كثيرا ما يردد: «إذا أردت أن ترى كل العالم في آن واحد، فزر مكة والمدينة». طلب ذات يوم مقابلة أحد المسئولين على مناسك الحج ليعرض عليه أفكارا جديدة حول ما سماها "الأنشطة المدنية للحج". وعندما رفضوا السماح له بمقابلة أي مسئول، سلمهم قائمة في بعض الأنشطة التي كان يراها هامة، مثل تكوين نوادي التعارف بين الجنسيات، ونوادي الرياضة، ونوادي الطبخ، ونوادي اللباس، وغيرها.
قال الجنيد أنه نسي ذات يوم قيثارته فوق الفراش، وذهب لمقابلة حاج صيني من منطقة سنجان التي يقطنها شعب الاويغور، ليتعلم شيئا من اليوغا. وفي غيابه دخلت منظفة هندية الغرفة، وعندما شاهدت القيثارة، صرخت بأعلى صوتها مبسملة، ثم ركضت في الممر وهي تزعق: «هاهي فوق السرير ممدة كالأفعى... أعوذ بالله... رأيتها ممدة فوق السرير». عندما رجع عمران في المساء ناداه المسئول عن الفندق وطلب منه أن يجيب كتابيا على بعض الأسئلة المتعلقة جميعها بالقيثارة: من جاء بها، وماذا يفعل بها؟ ومتى دخلت الفندق؟ ومن ساعد على ذلك؟ إلى آخره. لما رفض عمران الإجابة، هدده بأن يرفع القضية إلى السلطات العليا بتهمة "تدنيس الحرم والاحتفاظ بالممنوع". ترك عمران ورقة الأسئلة والقيثارة عند مسئول الفندق وخرج غاضبا. عندما شعر هذا المسئول بإصرار عمران على موقفه، وخشي أن يحرض الحجاج على الاحتجاج وربما على أعمال أخرى خطيرة، جرى وراءه وسلمه قيثارته طالبا منه إخفائها ودفنها في غرفته حتى يعود إلى بلده.
كان الناس في يوم عرفة يدعون الله لكي يغفر لهم ويدخلهم الجنة في الآخرة، وكان الجنيد يرفع يديه إلى أعلى حتى يسقط الرداء من على كتفيه باكيا وهو يقول: «اللهم اغفر لي ولرئيس البلدية ولجميع المسئولين». التفت إليه عمران دون أن يكف لسانه عن الذكر وقال له:
- هلا استغفرت للوالي أيضا.
لم يجبه الجنيد، بل أخذ يدعو سرا متمتما، لكن دون تركيز كبير، إذ بينما كان لسانه يلهج بذكر الله، كانت عيناه تتابع بذهول تدافع مجموعة من العمال البنغاليين وهم ينظفون ساحات الحرم بمكانسهم. فألح عليه عمران قائلا:
- لم تجبني. قلت لك ادع إلى الوالي أيضا.
صمت الجنيد برهة ثم أجاب على مضض:
- ليس لدى الوالي ما يوجب الاستغفار. لكني قضيت أكثر من ساعتين أستغفر للعمدة، انه بحاجة شديدة إلى ذلك المسكين.
كما كان عمران يتذرع أيضا لربه ويدعوه بصوت عال ليدخله الجنتين قائلا: «اللهم لا تحرمنا من جنة حي الربوة و جنة النعيم».
-5-
بعد عودته من الحج، جمع عمران الناس وبدؤوا بترميم جدران المدرسة المهدمة، ثم مروا إلى الساحة فنظفوها وأعادوا تهيئتها. في اليوم الموالى اجتمعوا فيها وتدارسوا كيفية الرد على أعمال الكراي التخريبية لحيهم. قال أحدهم:
- يجب تأديب الكراي.
رد آخر:
- علينا مواصلة البناء دون الالتفات إلى تجاوزاته.
قال حمدان:
- لم لا نتفاوض معه، ونعطيه بعض المال سنويا مقابل أن يتركنا نعيش في سلام؟
أجابت ريحانة متهكمة:
- قلت لك أصمت... الذين يكنسون بيت الكراي لا يحق لهم الكلام.
لم يفهم أحد قصدها إلا حمدان، لذلك لم ينبس ببنت شفة.
قال السيد جمال الدين المعلم:
- يجب محاصرة قلعة الفساد وطرد الكراي منها.
تكلم كثير من الناس مبدين رأيهم في ما يجب فعله، لكن كانت الآراء متضاربة إلى حد كبير، الشيء الذي يمكن أن يحدث تصدعا وربما نزاعا بين أبناء الحي الواحد، حسب رأي عمران. لذلك تدخل واقترح عليهم العودة إلى رئيس البلدية للاستفسار عن الملف الذي سلموه إياه بخصوص اليتيمين. قال أنهم سوف يقررون الخطوة الموالية بعد ذلك.
ذهل الجميع لما أراهم رئيس البلدية الوثيقة التي قال أنه تلقاها من السلطات. تثبت الوثيقة ملكية الأرض للكراي، وعليه قرر رئيس البلدية أن الأرض تبقى لمالكها الأول، يتصرف فيها كيفما يريد: إن يشأ يتركهم يعيشون على أرضه، وان يشأ يطردهم منها. ما أن انتهي من تلاوة الوثيقة حتى صرخ عمران في وجهه قائلا: «الأرض لمن يبنيها، والأرض لمن يعمرها». ثم تلاه ضجيج وصخب، وانسحب عمران من هناك وتبعه الناس وهم يزبدون ويرعدون.
بعد خبر الوثيقة شعر عمران أن الوهن وخيبة الأمل بدآ يدبان في بعض الناس، حتى أن حمدان زار وادي الحمار، ومكث بعض الوقت يبحث عن مكان مناسب لإعادة بناء كوخه هناك. ذات مساء عندما كان عمران يعزف على قيثارته تحت شجرة التوت، جاءته ريحانة وتحدثت معه عن موضوع الوثيقة. قالت له:
- من كتب الوثيقة؟
فرد عمران جازما:
- السلطات.
- وكيف نعرف ذلك؟
- بالختم والإمضاء الموجودان في الأسفل.
- هل رأى أحد منكم الختم والإمضاء؟
سكت عمران مفكرا، ثم أجاب مترددا:
- لا أحد... أعتقد أنه لا أحدا رأى ذلك.
فاستنتجت ريحانة منتشية:
- هذه الوثيقة ليست من السلطات، بل من اختلاق رئيس البلدية والكراي.
ألقى عمران القيثارة جانيا واستوي واقفا، ولسان حاله يقول: «كيف تنطلي علي مثل هذه الحيلة؟»، ثم توجه إلى ريحانة قائلا:
- ذكية،... حقا ذكية أنت يا امرأة.
وعلى الفور تركها ومضى إلى الساحة للتشاور. أشار عليه أحدهم أن يذهبوا مباشرة إلى الوالي ويتثبتوا من أمر الوثيقة. وفعلا بلغهم خبر سار عندما وصلوا إلى الولاية. لقد نفى الوالي ورود أي وثيقة إلى حد تلك الساعة بخصوص اليتيمين، فعلق عمران مبتهجا: «صدقت ريحانة وكذب رئيس البلدية».
لم ينقطع عمران عن التفكير في كيفية تحرير الأرض من الكراي واثبات زيف ملكيته لها. وفجأة قفزت إلى ذاكرته عبارة قالتها ريحانة في إحدى المناسبات، ولكنها مرت دون أن يعيرها أحد اهتماما: «حمدان يكنس بيت الكراي!!». وفي جنح الظلام استدعى حمدان إلى بيته وسأله:
- لماذا ذهبت إلى بيت الكراي؟
- لكي أحرقها عليه.
- وما الذي جرى؟
- قبضوا علي وحملوني إلى سيدهم.
- وكيف تصرف معك الكراي؟
- لا شيء... قال أنه سيقتلني لو عدت مرة أخرى.
- هل سألك عن شيء؟
- لا شيء.
- هل طلب منك شيء؟
- لم يطلب مني شيئا.
- هل وعدك أو أعطاك شيئا؟
نفى حمدان برأسه، ثم أضاف:
- فقط أعطاني قطعة من الشوكولاتة.
فسأله عمران وهو يجذبه من ناصيته:
- ما هذه الزرقة التي في أذنك؟
صمت حمدان وأطرق رأسه، فأضاف عمران:
- لو تصدقني القول سيكون لك شأن عظيم بعد تحرير الحي.
فرفع حمدان رأسه وهو يتفحص أعين عمران:
- تعطيني بطاقة مناضل؟
- أكثر.
- رخصة دكان مواد غذائية؟
- أكثر بكثير.
- رخصة مقهى؟
- أكثر... نائب العمدة... ستكون نائب العمدة... ونضع حارسان أمام مكتبك و...
تهلل وجه حمدان، وأخذ يجول ببصره داخل الغرفة غير مصدق هذا العرض. وعلى الفور سأله عمران:
- كيف أطلقوا سراحك؟ من الباب الرئيسي أم الخلفي؟
- أخرجوني من الباب الخلفي. في البداية أمرهم الكراي بأن يدفنوني حيا في إحدى حجرات بيته، فحزنت حزنا شديدا. وأول ما فكرت فيه هو أن ريحانة ستتناول الشاي تلك الليلة وحيدة، وأنها ستبكيني ليلة، أو ربما ليلتين. لكن الكراي تراجع بعد ذلك وبش في وجهي، وأعطاني الشوكولاتة، ثم قال لي:
-أنت صديق لنا. إذا احتجتك يوما ما فسوف أناديك.
- صف لي ما شاهدت وهم يمرون بك من هناك إلى الشارع.
- أنزلوني من الطابق الأول، ثم قادوني في ممر محاذي للبناية...
- ماذا رأيت هناك؟ هل حدثك الحراس عن شيء؟
سكت حمدان، ثم أخذ يحدق في السقف كأنه يريد استحضار شيئا ما، وفجأة تذكر، فصاح قائلا:
- آه... وأنا أمر حذو الحائط سمعت صراخا خافتا، أوما يشبه الصراخ. كأنه يصدر من سرداب يوجد هناك... وبدا كأن شخصا أو عدة أشخاصا يتوسلون بأصوات منقطعة قائلين: «ارحمونا... أخرجونا من هنا».
عند ذلك فزع عمران وارتعدت فرائسه، وعمت قشعريرة كامل بدنه، فضغط على ذراع حمدان مشيرا عليه بأن يصمت. ثم نهض, وأحكم غلق النوافذ، وعاد يواصل الاستماع إليه. لكن حمدان قال أنهم ألقوه بعد ذلك في الشارع.
-6-
في اليوم الموالي، قاد عمران وفدا إلى الوالي وأعلمه بأن أمرا خطيرا للغاية يجري في ما أسماه "بقلعة الفساد". في البداية لم يبد المسئول اهتماما كبيرا بهذا الموضوع، معتبرا ذلك جزءا من الخلافات والنزاعات التي تحدث باستمرار في حي الربوة. لكن عندما أخبره بأن للكراي سجنا خاصا به، يحتجز فيه بشرا لا يدري لماذا، وكم عددهم، ومن الذي سمح له بذلك, تغيرت ملامح وجه الوالي ودعاه للجلوس. بعد محادثة طويلة، أمره والوفد الذي معه بالعودة إلى حيهم، وأمرهم بعدم الحديث مع أحد عن ذلك الموضوع. قبل أن يصل الوفد إلى الحي، كان عدد هائل من سيارات الشرطة تحاصر بيت الكراي، وتسد كل المنافذ المؤدية له، وكانت فرقة الخيالة ومعها الكلاب المدربة تجوب محيط البيت.
صعق عمران بهذا المشهد وبسرعة تحرك الوالي، لكنه اندفع بدوره ومعه رجاله ليضعوا حزاما أمنيا آخر وراء الشرطة. أما ريحانة فكانت تملأ المكان بالزغاريد التي بلغت أطراف الحي، مما جمع حولها عددا كبيرا من النساء والأطفال. في شرفة البيت كان هناك عدد قليل من حراس الكراي وقفوا ينظرون إلى الحشود غير مصدقي أعينهم، حتى أن أحدهم أخذ يلوح إليهم بيديه، ظنا منه أنهم جاؤوا ليسلموا على سيده. من خلف تلك الحشود، كان يقف حمدان وحيدا واضعا يديه وراء ظهره، لا يتحرك كالصخرة.
أخذ قائد الشرطة مكبر الصوت ونادى متوجها نحو البيت المحاصر:
- سلم نفسك إلى الشرطة... وإلا اقتحمنا البيت... سلم نفسك.
اقترب حمدان قليلا من نفر من الناس وسألهم في حيرة:
- ترى هل يخرج إليهم؟
لم يجبه أحد. كان الجميع ينتظر خروج الكراي بين الفينة والأخرى رافعا يديه إلى أعلى، وقد تدلى بطنه على ركبتيه، وخاصة عندما شاهدوا الدخول والخروج المكثف لحراس البيت. لكن ذلك لم يحصل رغم مضي ساعة ونصف على بدء الحصار. فعاود قائد الشرطة النداء:
- نمهلك ساعة أخرى، وبعدها سوف نخرجك بالقوة... أفضل لك أن تأتي بنفسك ونسلمك للعدالة. إن كنت مذنبا تحاكم بالعدل، وان كنت بريئا يطلق سراحك.
بعدها دخل جميع الحراس إلى البيت ولم يبق إلا حارس واحد في سطح البيت، وبيده سيفا أو ما يشبه السيف.
لم يبق أحد من سكان الحي لم يحضر حصار بيت الكراي، برغم شدة برد شهر فبراير. أسر بأكملها ضربت خياما وأقامت هناك، ومن بين هؤلاء كانت خيمة ريحانة تعج بالداخلين والخارجين، كل يتناول شيئا مما طبخته لهم من الفول المسلوق، وحساء الحمص، والدجاج المشوي على الفحم، والشاي بالنعناع... كانت هي بنفسها تحمل الأطباق إلى الرجال والشباب الذين كانوا يحاصرون البيت، وتقول لهم بلهجة مرحة:
- لا تدعوه يفلت هذه المرة. وأنا لا أدعكم بدون أكل وشاي.
اقترب منها حمدان وطلب كأس شاي، فناولته إياه وهي تحثه على التقدم إلى الصفوف الأولى وتردد بافتخار: «هذا يوم العجب... هذا يوم الغضب يا كراي!»
مالت الشمس إلى الغروب، وخشي الجميع أن يفلت الكراي مع قدوم الليل، فتوجه عمران إلى قائد الشرطة وحثه على اقتحام البيت لأن هذا الشخص، حسب قوله، «لا يعترف بالقانون، وربما يفعل ما لا يحمد عقباه إن تأخرتم أكثر في القبض عليه». تشاور قائد الشرطة مع معاونيه، وتخاطب هاتفيا مع الوالي، ثم انتظر قليلا. ساعة قبل الغروب، نادى عمران وأعلمه بأنهم سوف يفكون الحصار، ويتركوا دعوة رسمية للكراي لكي يحضر في اليوم الموالي لدى الشرطة، ويدلي بما لديه من تصريحات حول ما اتهم به. ثم أضاف قائد الشرطة:
- يمكن لهذا المواطن أن يقاضينا إذا اقتحمنا بيته ليلا وأزعجناه، والحال أننا لا نملك إلى حد الآن حجة تدينه.
رفض عمران هذا الكلام بشدة، وتوجه إلى الحشود الغاضبة قائلا:
- إن تنسحب الشرطة فنحن لن ننسحب، وسنأخذ حقنا بأيدينا.
تعالى الصراخ، وعم السخط المكان، وأصر الجميع على اقتحام البيت بالشرطة أو بدونها. صعدت ريحانة فوق طاولة وهي محاطة بعدد كبير من النساء وتوجهت إلى الجميع قائلة:
- مكانكم... لقد انتظرنا كثيرا هذا الزمن الجميل... حاصروا البيت، وحاصروا كل من رفض محاصرة البيت, انتهى الكلام.
ناداها حمدان من خلف الحشد بصوت عال:
- ريحانة... ريحانة تأدبي قليلا!!.
خيم الظلام على الحي، ولم يعد يرى غير ضوء الشموع يشع من الخيام، أو أضواء بيت الكراي الساطعة التي أنارت كل ما حولها. في ساعة متأخرة من الليل هاجمت الشرطة البيت مدفوعة من الخلف بولولة النساء وزغاريدها وصخب الرجال وصداحهم. عندما شاهد حمدان بدء الاقتحام، ركض كالثور الهائج وسار في المقدمة وهي يصرخ:
- اخرجوا الجرذ لقد حان وقته.
لم يجدوا أي مقاومة ، وحتى الحراس الأفارقة ألقوا عصيهم وسيوفهم، وانظموا إلى المقتحمين وهم يعوون بلغة عربية مهلهلة: «نهن تهبنا كمان.. والله تهبنا».
فتشوا المكان غرفة غرفة، وركنا ركنا، بعدما التحم سكان الحي بالشرطة التي طلبت في النهاية من الجميع مغادرة البيت، ولم يبق معهم إلا عمران وبعض الرجال وريحانة التي أصرت على مواصلة البحث عن الكراي. دخلت قاعة الجلوس الفخمة بكراسيها المطلية بماء الذهب، وكان أول ما شاهدت لوحة عظيمة تغطي نصف الحائط، كتب عليها بالخط الكوفي الجميل: «إن ينصركم الله فلا غالب لكم»، فوضعت كرسي وصعدت لتهشمها على الأرض، لكن عبد الصمد مسكها من ذراعها وهو يصرخ: «توقفي... إنها كلمة حق أريد بها باطلا». ثم اندفع الاثنان إلى غرفة أخرى حيث عثروا على أكوام من الكتب، البعض منها فوق طاولات والبعض الآخر مكدسة على الأرض. أخذ عبد الصمد كتابا أنيقا وقرأ العنوان: "تقنيات السحر من الألف إلى الياء"، فألقاه أرضا، ثم تصفح مجلدا قديما بعنوان: "لغة الجن والبحث عن كنوز الأرض"، لكن أحد ضباط الشرطة أمرهما بالمغادرة فورا.
من خيامهم رأى الناس الشرطة تخرج محملة بأكياس وأغراض متعددة، وأشباح يبدو أنها بشرية يدفعون بها إلى داخل السيارات. إلى حد تلك الساعة لم يبلغهم أي شيء عن الكراي ومصيره، إلى أن غادرت الشرطة المكان فجرا ومعهم عمران وأصحابه، ثم أحكمت غلق كل أبواب البيت. تبعه الجميع الشرطة، وعادوا إلى بيوتهم في شعور يمزج بين فرحة الانتصار والشوق إلى معرفة ما ستئول إليه الأمور من ناحية، والخشية من أن يحرك الكراي أعوانه فتحفظ القضية إلى الأبد، ويعود أكثر غطرسة وعنفا من ذي قبل، من ناحية أخرى.
في صباح اليوم الموالي، زارهم العمدة قبل أن يرجع عمران وأصحابه، وعبر عن أسفه لما حدث في اليوم السابق، كما شكك في إمكانية إدانة الكراي قضائيا، لأنه، حسب قوله، «لديه وثيقة تثبت ملكية الأرض». لكنه وعدهم بالتدخل لديه لإيجاد حلا يرضي الجميع بخصوص مساكنهم. كانت علامات الابتهاج تعلو وجه حمدان الذي اقترح هو بدوره البقاء في بيوتهم مقابل أجرا رمزي يدفعونه «لصاحب البيت والأرض»، حسب تعبيره. لكن ريحانة طلبت من العمدة بعنف مغادرة الحي فورا، واعتبرته ناطقا رسميا باسم الكراي ليس إلا، فهاج عليه الحاضرون أيضا واطردوه بوابل من السب والشتم.
انتظر الناس عودة عمران وأصحابه بفارغ الصبر، بعد أن شرعوا في إعداد منصة ليخطب فيها الخطباء. حوالي العاشرة صباحا حضر الجميع إلى الساحة التي ازدانت بأعلام البلد وبلافتات كتبت عليها شعارات الانتصار والتهنئة. عندما حل ركب عمران وأصحابه، تعالت الأصوات بالغناء والتصفير والزغاريد، وشرعت الفتيات في الرقص، رغم أنهم لا يعلمون شيئا بعد عن مصير الكراي وما تقرر في شأنه. صعد عمران المنصة وأشار بيده إلى الحشود، فتوقف كل شيء عن الحركة.
أول ما أخبرهم به هو أن الكراي لم يقبض عليه، لأنه فر ليلا عبر نفق هيأه لهذا الغرض منذ زمان. نزل هذا الخبر على الحاضرين نزول الصاعقة، لكنه بشرهم بأن هروبه من وجه العدالة يمثل أكبر إدانة له. ثم أخبرهم بما هو أهم من ذلك بكثير:
- كما توقعنا، عثر في بيت الهارب على سجن سري، وضع فيه شخصين مقيدين منذ أكثر من عقدين من الزمان. بعد البحث في هويتها تبين بوضوح أنهما صاحبا هذه الأرض: أحمد وصابر اليتيمان.
ما أن ذكر هذا الأمر حتى اهتزت الساحة بأكملها، كأن زلزالا ضخما ضرب الكرة الأرضية. قفزت ريحانة إلى المنصة وأخذت ترقص كالمجنونة، وزغاريدها تبلغ أقصى الحي وتصل سكان المدينة، حيث يقطن عمها الذي تعرف على صوتها وصرخ في من حوله: «ابنة أخي ريحانة تزغرد... أمر جلل وقع عندهم بلا ريب». كما صعد حمدان المنصة أيضا وأشار بيده لكي يستمع إليه الناس، لكن لم يلتفت إليه أحد، لأن كثافة الغناء والزغاريد بلغت درجة لا تطاق. عندما نزل عمران من المنصة تحلق حوله الرجال والنساء يريدون معرفة المزيد من التفاصيل والأخبار السعيدة.
في اليوم الموالي، كان أول من استأنف بناء بيته بعد توقف دام أشهر هو حمدان الذي كان يشتغل وهو يغني: «لولا سواعد الرجال لما زالت الجبال». لكنه عبر عن خوفه من أن يتمسك أحمد وصابر بأرضهما ويطرداهم منها. كما كان كثير من الناس يشاركون حمدان هذا الخوف، لذلك امتنعوا عن مواصلة البناء. لكن عمران كان يطمئنهم، مؤكدا أن الفارق شاسع بين أخلاق الكراي وأخلاق اليتيمين.
علم بعد ذلك أن أحمد وصابر وقع نقلهما إلى أحد المصحات للفحص والتداوي من عديد الأمراض التي سببها لهما سنوات الحبس الطويلة. كانا منهكين جدا، وقد عانى جسديهما من علل كثيرة مثل سوء التغذية، والعجز الكلوي، وضعف السمع والبصر، وعسر الهضم، والبطء في الكلام، وغيره. منذ أول يوم وصلا فيه المصحة قالا لريحانة ومن زارهما معها بأنهما يتبرعان بهذه الأرض لسكان الحي، ولن يكون لهما إلا بيت فقط كبقية الناس، ويفعلان ذلك «ترحما على أنفس والديهما»، حسب قولهما. لكنهما طالبا بالقصاص في ساحة الحي ممن ظلمهم.
- 7 -
بلغ عمران من الكبر عتيا، ولم يرزق بولد بعد أن جرف الوادي ابنه في ذلك اليوم الكئيب، وتاقت نفسه إلى من يشد عضده في شيخوخته ويكون له خير خلف، رغم علمه بأن ذلك يمثل ضربا من المستحيل، وقد هرمت صفية أيضا. ذات مساء، عندما كان يعزف على قيثارته تحت شجرة التوت، توقف فجأة وأخذ يفكر: «الموسيقى صوت جميل، وجمالها شأن كوني، لأنه يطرب كل الكائنات: الطفل في حديقة الحي، والشاب وهو يكدح، والعجوز في أيام وحدته. حتى الأغنام تمتعها الموسيقى في مرعاها، والنبات يتأثر بعذوبة أصواتها، والجنين ينشرح في بطن أمه، ». هنا خفق قلبه، وأحس برهبة كبيرة تغمره، ودمعة تسيل من عينه، فتشق لحيته البيضاء، وتستقر بين خيوط قيثارته، فجأر بالدعاء لكي يرزق الفتى.
قالت صفية لعمران وهي تضحك بعدما وضعت ابنها:
- لولا دعائك والحشائش التي جلبتها من الغجر، لما رأينا لحظة السعادة هذه. هيا اختر لفتاك اسما يليق به.
- نسميه نعيم. نعيم على بركة الله.
استبشر حي الربوة بهذا المولود الجديد، لأنه كما قال عبد الصمد: «هذا الشبل من ذاك الأسد». وأول من زار العائلة هي ريحانة التي وصلت زغاريدها قبلها بكثير، وهي محملة بالهدايا للمولود الجديد: أدوات حمام، وطقم ملابس، وظرف مزين فيه بعض المال لصفية. في المساء جاء عبد الصمد أيضا، وعند دخول البيت علا صوته بالتكبير وبالصلاة على النبي. سأل عمران عن الصبي حتى يقبله، فأجابه ضاحكا:
- انه ذهب إلى ساحة الحي ليخطب في الناس.
رد عبد الصمد متحمسا:
- أنا متأكد أنه سيذهب إلى المسجد مبكرا، حتى قبل أن يبدأ الحبو.
كانت صفية تبتسم وهي تضع الصبي في حضنها، فاقترب منه عبد الصمد ومسح على شعيرات رأسه وهو يقرأ: «وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا». فعلق عمران بهزل:
- فقط والدته!
كانت صفية تضحك ملأ شدقيها دون أن تكف عن مسح أطراف الصبي بزيت الزيتون، وهي تردد:«ووالده أيضا... ووالده عمران».
- التفت عبد الصمد إلى عمران وسأله:
- ماذا سيصبح عندما يكبر؟
- قل لي متى يكبر، وسأقول لك ماذا سيصبح.
- سترى كيف سيكبر بسرعة مذهلة. ابن العجائز يكبر تماما مثل ابن القصص والروايات.
حدد عمران يوما للاجتماع العظيم لأهل حي الربوة في الساحة العامة لتدارس مستقبل حيهم وكيفية جعله مكانا يحلو فيه العيش. وقال أن أول خطوات التعمير يجب أن تبدأ بتكوين مجلس الحي الذي سيقود هذه الأعمال. وقبل أن يعلم أبناء الحي بذلك، بلغ الخبر إلى الوالي على وجه السرعة، ولا أحدا يعرف كيف تم الأمر. سرعان ما أرسل هذا الأخير العمدة إلى حي الربوة وقال لهم بوضوح: «منا الرئاسة ومنكم المستشارين. إن أبيتم فلنا كل شيء ولا شيء لكم».
فهم عمران الرسالة جيدا، واجتمع الناس في اليوم المتفق عليه بعدما وضعوا المنصة في الوسط والأعلام تزين المكان. صعد عمران أولا وقال للحاضرين أنهم ما كانوا ليحلموا بذلك اليوم، لولا إصرارهم واجتهادهم ووحدتهم. ثم أضاف:
- صار الآن مصير الحي بأيدينا، فلنشمر على السواعد بدون حسابات آنية وأنانية. على المجلس الذي سيتولى شؤون الحي أن لا ينظر إلى الوراء، وأن لا ينظر إلى تحت، وأن ينظر فقط إلى السماء، وفي وجوه المنكوبين.
قبل أن ينهي حديثه، صعد فجأة كهل أنيق، يرتدي ربطة عنق صفراء، وبدلة رمادية، وعلى مقدمة رأسه نظارات شمسية سوداء. لم يكن يعرفه أحد، ولا يعرف هو أحد. وقف بجانب عمران للحظات دون كلام ، ثم انحنى قليلا وهمس في أذنه. بعد ذلك فتش في جيوبه وأخرج ورقة مطوية عديد المرات وسلمها له. ودون أن يترك الوقت الكافي لأن يقرأها عمران، توجه إلى الحاضرين وقال في نبرة خافتة ومرتعشة:
- أنا منصور، مبعوث السيد الوالي. جئت...
ثم انقطع صوته، لأنه عاد يفتش من جديد عن شيء في جيوبه، إلى أن أخرج ورقة أخرى صفراء اللون مثل ربطة عنقه، وشرع يقرأ ما فيها:
- قلت أنا منصور، مبعوث السيد الوالي. جئت لأسهر على راحة وأمن حيكم. اختاروا من يمثلكم في مجلس الحي، وسأكون في خدمتكم.
ثم طوى الورقة عدة مرات وأعادها إلى جيبه.
كان الصمت يخيم على الجميع من شدة الصدمة. لا أحد يعرف ما الذي كان يحصل، ومن هذا الرجل الذي نصب عليهم، وما دخل الوالي في مجلسهم... إلى أن تكلم عمران مرة أخرى، وأوضح لهم أن الذي سيضع الخطط والبرامج للحي هم سكانه، والذي سوف ينفذ هذه البرامج هم رجاله ونسائه وشبابه، وهم الذين سيحاسبون من يقصر أو يفسد. ثم ختم كلامه قائلا:
- اختاروا أربعة أشخاص بمحض إرادتكم، وما السيد منصور إلا خامسهم، لا صوت له فوق صوتكم.
فتحرك السيد منصور قليلا متبرما.
بعد ذلك بدأ الناس يتشاورون ويقترحون أسماء الأشخاص، منهم من يتردد، ومنهم من يرفض، ومنهم من يرجئ الأمر إلى وقت لاحق، بينما كان حمدان يجوب الساحة طولا وعرضا، يركض ركضا كتيس هائج وهو يطلب ترشيحه إلى عضوية المجلس. أما ريحانة فكانت تعد الشاي بالنعناع والحلويات، وتترقب لحظة الإعلان عن تكوين المجلس. قبل منتصف النهار، صعد السيد منصور وأخرج ورقة من الجيب الداخلي للقميص، ووضع نظارته الشمسية، رغم أن الطقس كان مغيما وكثيف السحب، وشرع في قراءة أسماء أعضاء مجلس حي الربوة. تنحنح مرتين ثم سرد الأسماء:
- عبد الصمد المؤذن، وعمران بن الأدهم، وريحانة العامرية، والسيد جمال الدين المعلم، والعبد المتواضع الذي أمامكم.
لم يكد ينتهي من كلامه حتى قفز حمدان إلى المنصة، مولولا وصاخبا على عدم إدراج اسمه بين الأعضاء. لكن عمران أخذه بعيدا وتحدث معه قليلا، ثم عاد الاثنان يحملان كوبي شاي من عند ريحانة.
لم يمض أسبوع على تكوين مجلس الحي، حتى وصلت الشاحنات محملة بأعمدة الكهرباء، وأخرى بقنوات تزويد البيوت بالماء الصالح للشراب. تواصلت الأشغال لمدة ستة أشهر بدون انقطاع، صار بعدها حي الربوة مختلفا تماما عما كان عليه، يخاله الزائر حيا عصريا بإحدى المدن الكبرى. بدأت تنتشر المحلات التجارية الفخمة، وورشات الصناعة، بعد أن عبدت الشوارع والطرقات التي صار ليلها مضاء بفوانيس ضخمة. كنت ترى علامات الاستبشار والرضا تعلو محيا الناس أينما حللت.
وشاهد عمران كيف أن ابنه نعيم حبا، ونما، واستند على الحائط ومشى... ثم التحق بمدرسة الحي، ومنها بجامعة المدينة. عندما علم حمدان بتخصصه في دراسة الفلسفة قال لعبد الصمد بأنه سوف لن يأتيه إلى المسجد أبد. فسأله هذا الأخير:
- لم تقول هذا؟
- سوف يصبح الولد زنديقا. يقال من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق.
أحس عبد الصمد بالشفقة على نعيم، ودعا الله في نفسه بأن لا يطيل له عمرا حتى لا يشهد ذلك اليوم. وعندما قابله ذات مساء أمام المكتبة، احتج عليه قائلا:
- هل اندثرت كل الاختصاصات في الجامعة حتى لا تدرس إلا الفلسفة؟
- ولم تكره الفلسفة سيد عبد الصمد؟
- ألا تعرف أن الفلسفة يمكن أن تفسد على المؤمن أيمانه؟
- لا. وكيف ذلك؟
- تدخله في دوامة من الشك المتواصل حول الله والدين والوجود، وهو ما يتعارض مع مبدأ الاطمئنان لله والتسليم لرسوله.
- أنا أعتقد أن الله لا يريدنا مطمئنين، بل واعين قبل ذلك، والوعي يسبقه البحث والشك...
منذ صغره كان نعيم ذكيا ونشيطا، وكان يجمع حوله العديد من الأصدقاء ليقومون بصيد العصافير أيام العطل. مع تقدمهم في السن صار يقودهم إلى جبال عمار لصيد الأرانب والحجل والحمام وغيرها من الطيور بالبندقية. وطدت جولات الصيد هذه العلاقات بينهم، ووفرت لهم فرصة التحادث في مواضيع مختلفة عند الاستراحة في ظل الأشجار. كان لنعيم أسلوب شيق في الحديث يشد كل من يستمع إليه، وخاصة بعد التحاقه بالجامعة وبداية دراسته للفلسفة. كان يحدثهم عن كبار فلاسفة اليونان ويطنب في الحديث عن سقراط وأفلاطون وأرسطو. ذات يوم اقترح أحدهم تكوين نادي ثقافي في الحي يجمعهم باستمرار ليعمقوا ثقافتهم حول مختلف القضايا. لاقت الفكرة ترحيبا من أغلب الأصدقاء، فعمدوا إلى إصلاح بيت مهجور في طرف الحي، كان يقضي فيه حمدان أكثر وقته للنوم وما كان يسميه "قتل الوقت". في بضع أسابيع تمت تهيئة النادي الذي رفعوا فوقه لافته خضراء كتب عليها باللون الأحمر: "قاعة التفكير الحر".
ذات مساء مر من هناك عبد الصمد، فاحتار عندما قرأ اللافتة. وقف أمامها وقتا غير محدد يتأمل ما فيها، دون أن يفهم الخدمة التي يقدمها هذا المحل. ابتعد عنها خطوات، ثم عاد ليرمقها من قريب، وهو يحك رأسه من تحت القبعة بأصابعه. في ذلك المساء سأل حمدان عن هذا الأمر، فأخبره بأنه كان يراقبه منذ أن بدؤوا بترميمه. فسأله متلهفا:
- قل لي حمدان، من هم مرتاديه؟
- أبناء خليفة الفحام، وآخرون من الناحية الغربية.
- معهم عمران بن الأدهم؟
- لا، كلهم شباب. آه معهم أيضا نعيم.
عندما سمع هذا الاسم فزع عبد الصمد وسأله:
- قلت نعيم؟... نعيم بن عمران بن الأدهم؟
فأكد له ذلك حمدان برأسه.
عندها انصرف عبد الصمد دون أن يبدي أي تعليق.
دون تكليف من أحد، واصل حمدان مراقبة "قاعة التفكير الحر" من خلال المقهى الصغير المقابل. كان الشباب يجتمعون كل يوم سبت بعد الظهر ليناقشوا في كل مرة موضوعا فكريا ما، فقرر حمدان أن يعرف بالضبط عما يتحدثون، وذلك بالحضور معهم. وصل متأخرا بعض الشيء، فوجد عددا لا بأس به من الشباب مجتمعين حول طاولة. صافحهم الواحد تلو الآخر وهو يدقق النظر في وجوههم، ثم جذب كرسي دون استئذان وجلس في آخر القاعة. كان يعتقد أنهم سوف يتحدثون عن أيام الكراي الخوالي، أو عن العمدة ومساعدته لهذا الأخير أيام سطوته، أو عن رخص المحلات التي ستعطى والتي يجب أن يكون لهم نصيب منها... لكنه فوجئ بكلام غريب لم يعتده من قبل، ولم يفهم إلا القليل منه. أحس بالضجر وخرج بعد نصف ساعة من دخوله دون أن يودعهم.
في اليوم الموالي ذهب ليصلي الظهر في المسجد، وبعد الصلاة جذب عبد الصمد من كم قميصه وأخذه إلى ناحية وهو يقول ضاحكا:
- حمدان كله آذان... لا شيء يخفى عليه.
- كم عددهم؟
- نحو عشرة شباب... لا يهتمون بشيء... يحترفون الحديث الأجوف.
- عما يتحدثون؟
- عن أشياء لا معنى لها: خزعبلات مثل العقلنة أو العلقنة، والنقد، والإصلاح الديني...
عند سماع هذه العبارة الأخيرة عوى عبد الصمد:
- إصلاح الدين؟ هذا هراء. كنت دائما أخشى على حينا من هذا اليوم المشئوم. اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأحفظ لنا ديننا من كل إصلاح وتحريف.
وعلى الفور سأله حمدان:
- سيد عبد الصمد، هل يصلح الله دنيانا من غير إصلاح ديننا؟
نظر إليه عبد الصمد بمزيد من الانزعاج، ثم أخذ يفرك بأصابعه لحيته، دون أن تتوقف أصابع يده اليمنى عن مداعبة حبات المسبحة التي تدلت إلى جانبه. تأمله برهة صامتا، ثم تركه ومضى.
عند عودته إلى البيت أخذ عبد الصمد يفكر في شأن هذه الدعوة الجديدة التي أطلقت من "قاعة التفكير الحر". وقال في نفسه أنه إن لم يقع التصدي لها باكرا فستكون لها عواقب وخيمة للغاية على الدين وعلى كامل الحي. لذلك قرر الطلب من عمران إحداث صلاة الجمعة في الحي حتى يحفظ للناس معتقداتهم، ويريح هؤلاء الذين يتكبدون الأتعاب كل أسبوع للصلاة في مساجد المدينة.
صار عبد الصمد يعتلي المنبر كل جمعة فيحمس الناس للتعلق بدين الله ويدعوهم للحذر مما سماها "بالدعوات الهدامة"، فتكونت بمرور الوقت مجموعة من الشباب المتدين، يرومون إرضاء الله في كل أعمالهم والتمسك بأقوال السلف. فبدأ ينتشر شيئا فشيئا اللباس العربي القديم مثل الطاقية والقميص والإزار والرداء، مع الاهتمام بإطالة اللحية، وغير ذلك، عند الذكور. كما ظهر اللباس النسوي، مثل الملاءة والعباءة السوداء والبرقع والخمار والنقاب...
في المقابل، كان أعضاء "غرفة الفكر الحر" يعملون كخلية النحل بلا كلل، فيقدمون المحاضرات لشباب الحي، ويديرون الحوارات حول الفلسفة والتاريخ ونقد التراث وتحليل ما توصل إليه الغربيون من نظريات في علم الاجتماع وعلم النفس والانتروبولوجيا وعلم اللغة وغيرها. حتى أنهم قاموا باستدعاء بعض الأساتذة الجامعيين لإلقاء المحاضرات في ناديهم. كما شجعوا الشباب على المطالعة واقتناء الكتب. فكان من نتائج ذلك العمل الدءوب بداية ظهور جيل جديد من الشباب يدعوا علنا إلى الإصلاح الديني ونقد الموروث.
ذات يوم اتصل العمدة بحمدان وطلب منه زيارته في مكتبه بالمدينة، وهناك أخبره بأمر خطير:
- الكراي يبلغك السلام، ويقول لك أن لا تنسى العهد الذي بينكما.
ارتعدت مفاصل حمدان، وظن أنه في حلم لا غير. فرك عينيه جيدا، ثم التفت يمنة ويسرة، وسأل العمدة بعد أن تأكد أنه لا يزال في اليقظة:
- أين هو الآن؟
- لا أدري. لكنه موجود في مكان ما لا يعرفه إلا نفر قليل.
فسأل مضطربا:
- ما ذا يريد مني؟
- أن تكون معه إذا احتاجك، إذ أنت من أقرب أصدقائه الآن.
فتل حمدان شاربيه مليا، ثم تنحنح وقال:
- وهل للقط الهرم أصدقاء؟ كنت أعتقد في شبابي أن الإنسان لا يساوي شيئا بدون أصدقائه. والآن وقد نبش الشيب رأسي، صرت أرى أن الأصدقاء كلمة جوفاء، توجد رسما وتغيب معنى. هل صادفت في حياتك شيئا اسمه العنقاء أو الغول أو الخل الوفي؟ أسماء بدون مسميات.
باغته العمدة بسؤال ماكر:
- إذا ليس لك أصدقاء الآن؟
- الناس في نظري لا يعدوا أن يكونوا إما أهلا أو أقارب أو جيران أو حرفاء أو زملاء... أصدقاء، لا أعرف.
- أما الكراي... فشيء آخر. لا يمكنك إلا أن تكون صديقه برغم كل شيء.
- والمقابل؟
- ما تطلبه أنت، كل ما تريد.
تذكر حمدان آنذاك وعد عمران الذي أخلفه بجعله نائب العمدة قبل هروب الكراي، فقال في نوع من البرودة:
- دع الأمر لأوانه... عندها سنرى.
- 8 -
بدأ الخلاف يتصاعد بين شباب المسجد وشباب الغرفة عبر النقاش الحاد الذي لم يكن مباشرا بينهما، بل كان من خلال خطب الجمعة وندوات ومحاضرات شباب الفكر الحر. ذات مرة قال زيد بن خليفة في إحدى ندوات الغرفة أنه يجب استغلال المسجد في الصباح للتعليم والمهارات اليدوية للأطفال، وفي المساء للصلاة وذكر الله. كان حمدان حاضرا في تلك المحاضرة، فحمل هذا التصريح على جناح السرعة إلى شباب المسجد، وحذف منه بعض الكلمات، وأضاف أخرى بحيث حرك الغضب والحمية الدينية عند هؤلاء. صار الخبر على النحو التالي: « يجب استغلال المسجد للتعليم والمهارات اليدوية للأطفال، ومن يريد الصلاة فليصلي في بيته». في اليوم الموالي وجدوا مكتوبا على طول الجدار الأمامي لغرفة الفكر الحر ما يلي: «يا زنادقة ارحلوا عنا». قال عبد الصمد في خطبة الجمعة أن الدين والمسجد خطوط حمراء لا يجب تجاوزها، ودعا من أسماهم "بالمتنصلين" إلى التوبة والاستغفار.
بعد هذه الحادثة بأسابيع، تقابل حمدان مع أحد مرافقي الكراي في إحدى مقاهي المدينة بتنسيق من العمدة. سلمه مبلغا ضخما من المال: مائتي دينار، وأمره بأن لا يدخر وسعا في إشعال فتيل الحرب بين الفريقين. ذات يوم قال زيد بن خليفة في المقهى أن شباب المسجد مخدرين بالدين، ويتركون خيرات الدنيا أملا في خيرات أخرى قد تأتي وقد لا تأتي. عندما علم شباب المسجد بهذا الكلام، اغتاظوا وقرروا أن يضعوا حدا لنشاط غرفة الفكر الحر. اتصلوا بالسيد منصور، رئيس مجلس الحي وطالبوه بالإغلاق الفوري لما أسموه "وكر الزندقة والإلحاد"، ثم هددوا بأخذ زمام الأمر بأيديهم إن استمرت هذه الجماعة في نشاطها. لم يعترض السيد منصور على مطلبهم بحل هذه الغرفة، ولكنه لم يبدي حماسا لتنفيذ ذلك على عجل كما يريدون هم. بعد صلاة الجمعة واثر خروج عبد الصمد من المسجد، وقف حمدان قبل أن يغادر الناس وخطب فيهم قائلا:
- الدين لنا، والأرض لنا، ومن اعتدى علينا، حق علينا معاداته. لقد بلغكم ما قالوا عن هويتنا، فوالله لا دين لمن لا غيرة له في صدره. أيهان ديننا ونحن في أرضنا؟
مسكه أحد الكهول من ذراعه وسأله بفظاظة:
- متى كنت تدافع أنت عن الدين والأرض؟ كف عن بث الشحناء بين الأشقاء.
تجمهر عدد من الشباب في اليوم الوالي أمام بيت السيد منصور وطالبوا بغلق غرفة الفكر الحر أو الرحيل الفوري، وسط ضوضاء كبيرة وتهديد ووعيد. في ذات المساء اتصل حمدان سرا بزيد بن خليفة وقال له بأنهم «يعدون إلى اجتثاثكم، وليس غلق ناديكم فحسب. عليكم برأس الأفعى، عبد الصمد المؤذن».
سمع كل سكان حي الربوة بالخلاف المتصاعد بين شباب الفريقين، فتحرك عمران فزعا، وسارع بالحديث مع عبد الصمد ونعيم. وجدهما حريصين على رأب الصدع بين شباب المسجد وشباب الفكر الحر، لأن ذلك حسب قول نعيم «ضمانة لسلامة حيهم الناشئ». لكن عمران لم يكتف بتفهم الرجلين، بل طلب بإعادة الاعتبار إلى الساحة، وبين لهما أنها رمز وحدتهم، لذلك اتفق معهما على عقد حوار فكري بين الطرفين في الساحة، بدلا من "النقاش عبر الوسائط"، حسب تعبيره.
بالرغم من الرفض الذي وجدته دعوة الحوار المباشر بين الفريقين من بعض المنتمين إليهما، فقد استبشر كثير من الشباب ومن سكان الحي بهذا الأمر، وعبروا عن استعدادهم لدعمه. فوضعت المنصة من جديد، ورفرفت الأعلام وحدد يوم الحوار، وأقبل الناس على الساحة بعد غياب دام عدة أشهر. حضر شباب الفريقين وجلسوا متقابلين فوق المنصة, وعلى وجوههم بعض التوتر والقلق. أما عمران فقد وضع كرسيه قبالة الفريقين دون أن يكف عن تحية القادمين إلى الساحة بابتسامته العريضة. كما كان ينتقل بين الفريقين من حين لآخر وهو يرتب جيدا بداية الحوار. من بعيد شوهدت ريحانة تتقدم نحو الساحة في جمهرة من النساء اللاتي كن يحملن أطباق الشاي وباقات النعناع، وهي تملأ الأجواء بالزغاريد حتى وصلت. لكن حمدان لم ير له أثر، وعندما سئلت عنه ريحانة قالت أنه لا يزال نائما.
كان عمران يؤخر بداية الحوار حتى يشهده أكبر عدد ممكن من سكان الحي، ولما رأى الساحة لم تعد تتسع للمزيد، انتصب واقفا، وقال متوجها للشباب وللجمهور:
- هذا هو حي الربوة يا سادة... نختلف، ولكن لا نتنازع، نغضب عن بعضنا، ولكن لا نتسابب، بل نجتمع ونتحاور. إن اتفقنا فهو مرامنا، وان اختلفنا فهو قدرنا، فليحترم بعضنا بعضا، وليكن حينا أكبر من أفكارنا. على بركة الله نفتتح المؤتمر الأول لحي الربوة.
فوجئ الشباب بعبارة "المؤتمر"، وتهامسوا فيما بينهم، حتى عده البعض منهم محاولة من عمران لتحويل وجهة الحوار. أول من بدأ الحديث من شباب الفكر الحر هو نعيم الذي رحب بفكرة الحوار وقال أن عبارة المؤتمر التي استخدمها والده فاجأتهم، لكنه اعتبرها فكرة جميلة لأنها سوف تكون بادرة خير تجمع سنويا كل سكان حي الربوة للتفكير في حماية أرضهم وتطوير حياتهم. فقاطعنه بعض النسوة بالزغاريد. ثم تكلم عبد الصمد الذي أيد الحوار بشدة، ولكنه عاب على الفريق الآخر دعوته إلى تغيير الدين وإصلاحه، لأن الإسلام دين الله و«لا يحتاج لا إلى تحسين ولا إلى إصلاح»، حسب قوله. فاعترض عليه نعيم قائلا:
- الإصلاح الذي ندعوا إليه يخص فهم الناس للدين، وليس نصوص الدين نفسها، لأن القرآن ثابت كنص، ومتغير كفهم.
أجابه عبد الصمد بنبرة وثوقية:
- للدين فهم واحد ووحيد وصحيح وهو فهم السلف، لأنهم أقرب منا إلى فترة الوحي وأقدر منا على فهم اللغة العربية.
عندها تدخل عمران وأثنى على البداية الجيدة للحوار، لكنه طلب من المتحاورين مواصلة النقاش إما في غرفة الفكر الحر أو في المسجد، لأنه سيتناول مواضيع متخصصة ربما لا تعني كل الحاضرين. كما اقترح أن يفضي الحوار إلى كتابة ميثاق للتعايش بين جميع أبناء حي الربوة يعلق في نصب بالساحة.
واصل الفريقان حوارهما في الغرفة حينا وفي المسجد أحيانا على امتداد عدة أشهر، وكان النقاش يحتدم مرة ويلين مرة أخرى، وخاصة عند تناول مواضيع تخص الدين والحرية. في إحدى الحوارات قال زيد بن خليفة أنه «لا حرية لأعداء الحرية»، ويقصد الطرف الآخر من الشباب، فرد عليه مروان العاطر أن «المسلم غير حر، وحريته في التقيد بمبادئ الدين، ومن قال بالحرية فقد اختار جهة الكفر». لكن تدخل عبد الصمد وخفف من عصبية مروان، بينما طلب نعيم من زيد الاعتذار والتراجع عن قوله هذا عن الحرية.. طالب شباب الفكر الحر نظرائهم من شباب المسجد باتخاذ مقرا آخر غير بيت الله، معتبرين أن الدين والمسجد للجميع، لا يجب احتكارهما من أي طرف. كما طلبوا منهم تغيير اسمهم، وفصله عن المسجد على غرار شباب غرفة الفكر الحر.
قضوا وقتا طويلا بعد ذلك في مناقشة الميثاق الذي اتفقوا على إعداده في المؤتمر الأول بالساحة. وعندما بلغوا الصياغة النهائية لهذا الميثاق، طلبوا أن يحضر معهم أعضاء مجلس الحي قبل تعليقه في الساحة.
في موكب بهيج حضر الناس ليشهدوا إعلاء أول ميثاق لحيهم بعد أشهر من الحوارات الساخنة بين شباب الفكر الحر وشباب الأصالة، الاسم الجديد لشباب المسجد. أعدوا له نصبا فخما في مدخل الساحة، وكتبوا حروفه بماء الذهب عند أحد خطاطي المدينة. كانت عباراته مقتضبة ولكنها دقيقة وصارمة: «الحرية هي جوهر الدين، وهي كلمة الله العليا التي أمر الناس أن يحفظوها ويدافعوا عنها. حي الربوة للجميع، والتفكير حر، والتعبير عنه مضمون».
رأى الحاضرون كيف تعانق ممثلي الشباب: زيد بن خليفة ومروان العاطر، من ناحية، وعبد الصمد ومنعم من ناحية أخرى، تحت ظل نصب الميثاق الجديد. كما شاهدوا كيف رفرف علم البلد عاليا فوق الجميع. ووقف خلفهم عمران فاتحا ذراعيه كالنسر وهو يبتسم ليضم إليه الشباب المتعانق ويقول: «لا خوف بعد اليوم على حي الربوة»، وسط تصفيق آلاف الجموع المحتشدة وزغاريد ريحانة وأخواتها التي تصم الآذان.
- 9 -
لم يمض وقت طويل على الاحتفال بيوم الميثاق حتى أرسل الوالي مكتوبا على عجل، يبدأ بعبارة "أكيد جدا"، يأمر فيه مجلس الحي للحضور عنده. أدخل هذا المكتوب على الحي نوعا من الاضطراب الممزوج بشيء من التفاؤل. قالت ريحانة أن الأمر يتعلق ربما بإلقاء القبض على الكراي، وحذرت من إبرام أي عقد صلح معه أو العفو عنه. لم يوافق حمدان رأي زوجته، لأنه كان يرى أن «العفو من شيم الكرام، وخاصة أن عجرفة الكراي وكبرياءه قد كسرتا بدون رجعة». بالرغم من أن آراء حمدان لم تكن تلقى آذانا صاغية في عمومها، فهذه المرة بدأت تجد صدى عند بعض شخصيات الحي المعتبرة، مثل عبد الصمد الذي علق بآية واحدة عندما بلغة رأي حمدان: «فأعفوا و اصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم».
بقدر ما كان ينتشر خبر مكتوب الوالي، كان يحمى وطيس النقاش حول موضوع العفو ونسيان الماضي، حتى صار حديث كل أبناء الحي تقريبا. لكن عمران قال أنه من الأفضل تأجيل الخوض في هذا الحديث حتى يلتقوا الوالي ويعرفوا سبب الدعوة.
في اليوم الموالي، قصد أعضاء المجلس الأربع الولاية منذ ساعات الفجر الأولى. أما ريحانة فلم تذهب معهم لأن حمدان اشترط الذهاب معهم لكي يسمح لها بذلك. قال لها: «إن شئت الذهاب فاحمليني معكم، لأني لا أثق بالولاة». انتظر الناس عودتهم بكل شوق، لكنهم لم يرجعوا حتى منتصف النهار. بدأ حينئذ حمدان يتجول في الحي ناشرا الفزع بين الناس، بقوله أن الوالي حبسهم بسبب الموافقة على الميثاق، لأنه يخالف الدستور. كما بدأ آخرون يشاطرونه نفس التخوف، معتبرين أن إعلان الميثاق أخاف السلطة، لأنه يمهد لإعلان الانفصال عن البلد. قبل غروب شمس ذلك اليوم، قام نعيم بمخاطبة والده عبر الهاتف الجوال، لكنه وجده مغلقا، فأصابه هلع شديد وفكر في عديد الاحتمالات، أسوأها سجنهم من قبل الوالي. نفس الشيء قام به أحد شباب الأصالة مع عبد الصمد، فأجابه الصوت الرخو: «عذرا هاتف مخاطبكم مغلق في الوقت الحالي».
كان نوم نعيم في تلك الليلة أشبه بكابوس: كل مآسي الدنيا عاشها في تلك السويعات من مطاردة، وسقوط، وركض وحيدا في الفلاة، وسباع، ورياح، وبحر هائج... أما صفية لم يكحل النوم أجفانها من شدة الصدمة، بل ظلت واجمة خلف الباب تنتظر الصباح. اتصلوا في اليوم الموالي بالعمدة الذي نفي علمه بالأمر، فاتصلوا برئيس البلدية الذي قال أنه لا علم له بذلك، لكنه وعدهم بمخاطبة الوالي لاستكشاف الأمر. بعد وقت قليل، أكد لهم أن لا وجود لهم في الولاية، وأن الوالي نفى استدعائه لأعضاء مجلس حي الربوة.
كان الجميع يشك في أقوال الوالي ويعتبرها مراوغة خبيثة منه. خلال ذلك الأسبوع، كتبت جريدة "الأنباء" اليومية عنوانا بالخطوط العريضة وفي صفحتها الأولى ما يلي: «الإرعاب يضرب في حي الربوة ويختطف أربعة أعضاء مجلسه». أدخل هذا الخبر الاضطراب بين سكان الحي الذين بدؤوا بتصديق إمكانية اختطافهم من قبل المرعبين. اتصلت القناة الثالثة بريحانة باعتبارها العضو الوحيد لمجلس الحي الذي نجا من الاختطاف، وأجرت معها مقابلة حول الموضوع. ريحانة أكدت خبر هذا الاختطاف، وانتقدت بشدة تقاعس الحكومة عن ملاحقة المرعبين، مبينة أن الاعتداء على مجالس الأحياء هو اعتداء على الدولة كلها.
تحت ضغط الإعلام، بدأت الشرطة تتحرك بأمر من الوالي. وبالتنسيق بين مختلف فروع المخابرات المحلية والمركزية وضعت خطة لإلقاء القبض على الجناة الذين لا يزالون مجهولي الهوية والدوافع. سمعت كل مدن البلاد ومقاطعاتها بالخبر، حتى صار شأنا وطنيا بامتياز. أصبح اسم حي الربوة على كل الألسنة، وموضوع حوارات في المنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية. كما صارت ريحانة الناطق الرسمي باسم الحي، ووجها معروفا جدا في وسائل الإعلام. لذلك، استغلت مكانتها الجديدة هذه وبدأت بالضغط في اتجاهين اثنين: تحرير رفاقها من أعضاء المجلس، وجعل حي الربوة قبلة للمستثمرين والسياح.
طلبت ريحانة رسميا من الوالي وباسم المجلس ضم بيت الكراي إلى منتزه الحي، وجعله مركزا ثقافيا ورياضيا متعدد الاختصاصات. كما حل سريعا مستثمرا من مدينة القصرين وشرع في تهيئة وادي الحمار، وجعله صالحا لتسيير السفن السياحية فيه، كما قام رجل أعمال آخر من طنجة ببناء سلسلة من الحدائق والمطاعم والمحلات التجارية على جانبيه، ثم غير اسمه القديم ليصبح "بوابة الرفاهة". وجاء مستثمرون آخرون من داكار واليمن وأم درمان وعنابة وأقاموا مصانع ضخمة على امتداد الجهة الشمالية لجبال عمار الغنية بمختلف أنواع الحجارة لصنع الفسيفساء.
في بضع سنوات، تغير وجه حي الربوة من مجرد ربض بسيط بجانب وادي الحمار، إلى حي راق، ومزدهر، انتشرت فيه البنايات الشاهقة، والمطاعم الفاخرة، والحدائق الجميلة، وتكونت بجانبه منطقة صناعية متطورة. لم يعد هناك شخص واحد عاطل عن العمل، حتى حمدان أصبح موظفا في شركة معروفة لتصدير الحجارة المصقولة والفسيفساء.
مع كل هذا الرخاء الاقتصادي الذي كان يعيشه الناس، إلا أن مسحة من الحزن كانت تعلو وجوه الكثير منهم، خاصة كبار الحي، على اختفاء سيد الحي الأول عمران ورفاقه الثلاثة: عبد الصمد، والسيد منصور، والسيد جمال الدين المعلم منذ حوالي سبع سنوات. خرجت صفية زوجة عمران من بيتها والتحقت بالمركز الثقافي والرياضي المتعدد الاختصاصات لتشتغل فيه كموظفة مسئولة عن قسم التغذية. كانت تردد أنها لا تقبل الصدقات من أحد، بل تريد أن تأكل من كد يمينها.
ذات مساء أعلنت عدة قنوات تلفزية أنه وقع القبض على العصابة التي اختطفت أعضاء مجلس حي الربوة، دون أن تتوفر لديها مزيد من المعلومات. اتصلت ريحانة ومعها نعيم في الحال بالسلطات التي أكدت الخبر. عاش الحي ليلة عرس لم يشهدها من قبل، لأن الناس لم يناموا كامل الليل، بل خرجوا إلى الشوارع المضيئة جدا وملئوا الساحة والحدائق وهم يتبادلون التهاني، ويوزعون المشروبات احتفاء بذلك الخبر السعيد. في اليوم الموالي قامت الشرطة بندوة صحفية كشفت فيها عن كل تفاصيل الحادثة. قالت أن الكراي الملاحق قضائيا هو من اختطف أعضاء المجلس، ووضعهم في سرداب ليدفنهم أحياء، مثلما فعل مع اليتيمين. كما أوضحت أن الكراي قتل خلال تبادل لإطلاق النار، وأنها نقلت المحررين إلى المصحة لتلقي الفحوصات اللازمة قبل إعادتهم إلى ذويهم.
عندما جاءت بهم سيارة البلدية وهي محروسة بشاحنتي الشرطة، هب الناس من كل حدب وصوب لاستقبال أبطالهم. ذهبوا بهم إلى الساحة، بعدما وضعوا المنصة، وهناك شاهد الناس أول ظهور لأعضاء المجلس الأربعة المحررين، كانوا جميعا يرفعون علامات النصر والفرحة تعلو محياهم. لكن كان يبدو عليهم الإنهاك الشديد، كما غزى الشيب رؤوسهم، وخاصة عمران الذي تعرف الناس عليه بصعوبة من خلال نبرة صوته وهو يشكرهم. أول من عانقهم طويلا على المنصة هم أهليهم، فكان نعيم يمسك برأس والده بيديه ويقبل جبينه وهو يبكي من الفرح، بينما كانت صفية تدور حولهم وتخبط بيديها على ركبتيها دون أن يتمكن أحد من فهم ما كانت تقول. ثم شاهد الجميع كيف تصعد ريحانة وزغاريدها تملأ الساحة وتصل إلى المدينة، فتقول زوجة عمها: «لا بد أن يكون ركب المحررين قد وصل». استمع الناس لها بإنصات عندما تكلمت وقالت أن حي الربوة ولد مرتين، مرة عندما فر الكراي، والأخرى عند تحرير أبطالنا منه. وبحركة سريعة قفز حمدان إلى جانبها وأخذ يصرخ:
- لنبني تماثيل للمحررين حتى لا تنساهم الأجيال القادمة... لنبني التماثيل.
فردت ريحانة بأن التماثيل للأموات وليست للأحياء، وأكدت أنها تخشى من تحويلها إلى أصنام.
أغلب من حضر حفل استقبال المحررين هم الكهول والشيوخ، أما الشباب فلم يكد يرى لهم أثر. كانوا كعادتهم يلهون في حدائق بوابة الرفاهة ويستمتعون بالأكلات الإفريقية والشرقية لمطاعمها، بينما ذهب آخرون كعادتهم إلى المركز الثقافي والرياضي متعدد الاختصاصات لممارسة رياضاتهم المفضلة، وتناول مختلف العصائر والمشروبات. ربما من أجل هؤلاء طلب حمدان إنشاء التماثيل لكي لا ينسوا تاريخهم.
في ذات المساء تقابل نعيم وعبد الصمد والسيد جمال الدين المعلم ومروان العاطر، وأصدقاء آخرون في المقهى الكبير لبوابة الرفاهة للاحتفال على طريقتهم بعودة المحررين. كان المقهى مضاء بمصابيح فخمة مصنوعة في حلب، ترسل أنوارا مختلفة الألوان والأشكال، يحسبها الناظر فسيفساء من النجوم الساطعة في ليالي الصيف الزاهية. وكانت فرق الموسيقى العربية منها والإفريقية وحتى الغربية تتوالى على الركح تقدم للحاضرين آخر إبداعاتها، بينما كان الندل يجهزون أشهى الأكلات العالمية من سمك مشوي ودجاج مفوح على الطريقة الكافية، ولحم الأرانب بزيت الزيتون والليمون. كما نصبت طاولات دائرية نضد عليها عددا لا يحصى من العصائر والمشروبات والفواكه.
كان الجميع يتناول العشاء في بهجة لا توصف وهم يتجاذبون أطراف الحديث. قال عبد الصمد:
- ما تقولون يا شباب عن حي الربوة بعد كل هذه المسيرة الطويلة من مشقة وعناء وخوف وشوق وبناء؟
قال مروان العاطر:
- الآن لم أعد أخشى على حينا من شيء باستثناء خطر عودة البعض إلى تهديد هويتنا.
تكلم السيد جمال الدين المعلم بهدوئه المعتاد وهو يرتشف كوب الشاي بالنعناع:
- صار حي الربوة الآن من أرقى أحياء البلد، يقصده الزائرون من عدن شرقا إلى نواكشوط غربا، للعمل حينا، وللراحة والاستمتاع حينا آخر. لكني أخاف عليه من شيء واحد: رفض البعض الشديد لمكاسب العصر وحماية تراث الآباء المتهرئ.
أجابه مروان بعصبية ظاهرة :
- في الحقيقة هو صراع بلا نهاية. إما نحن وإما أنتم، والبقاء للأقوى بالطبع.
توقف نعيم عن تناول عصير الرمان ورد بأسلوبه الفصيح والمؤثر:
- معادلة " إما نحن وإما أنتم" هي معادلة بالية وصدئة. "نحن وأنتم معا"،هي المعادلة الطبيعية.
أيده السيد جمال الدين برأسه وهو يقول:
- نعم... الدين لله، والوطن للجميع.
لكن نعيم اعترض على ذلك قائلا:
- هذه العبارة متكئة على جنبها، فلنجلسها معتدلة لتصبح "الله والدين لمن يشاء، والوطن للجميع".
لم يعترض أحد على هذا الرأي، بل قام الجميع لاستقبال ريحانة التي دخلت المقهى تتوكأ على عصاها وهي تزغرد بأعلى صوتها حتى أخرست كل الآلات الموسيقية. أحاط بها الشباب في انتشاء وساروا بها إلى الركح حيث غنى كل الحاضرون بصوت عذب جميل: "الله والدين لمن يشاء، والوطن للجميع".