يهمنا، في هذا المقال، ولذكرى محمود درويش العاشرة، أن ننظر إلى هذا الأخير من خارج دائرة الشعر التي عادة ما نحصره فيها؛ وذلك من خلال العودة لباحة الحوار التي لا يمكن أن نخطئها في سياق التعامل مع باحاته الموزّعة على الشعر (ابتداءً) والنثر والفكر والمقال والحوار والمداخلة. وهو ما يجعلنا بصدد بوارق ولمع وأفكار وآراء وردود... جديرة بالتأكيد على الانفتاح على تحولات المعرفة الإنسانية والكونية وأسئلة الوجود وبمرجعية "عربية" في المقام الأول كما سجل عليه صديقه الأكاديمي والناقد إدوارد سعيد في مقال نقدي مضغوط وثاقب خصّ به شعره تحت عنوان "تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية" (1994). وقد نشر النص، ومترجما، ضمن عدد خاص "محمود درويش المختلف الحقيقي" من مجلة "الشعراء" (الفلسطينية) (العدد 4- 5، ربيع وصيف 1999). وقد أعاد مترجمه صبحي حديدي نشره في جريدة "القدس العربي: 12/ 08/ 2008" (اللندنية) في إثر وفاة صديقه محمود درويش.
وكان محمود درويش قد أدلى برأيه، من خلال أوّل "شهادة ذاتية" في الشعر، منذ عام 1961 بمقال بعنوان "رأي في شعرنا" في مجلة "الجديد" الثقافية الأسبوعية (العدد 9) التي كان يصدرها الحزب الشيوعي في حيفا والتي كان يترأس تحريرها محمود درويش نفسه. "وبمراجعة ما جاء فيها [الشهادة] يمكن تأصيل الحداثة في مشروعه الشعري على قاعدة الحاجة إلى تجديد العلاقة بين الشاعر الفلسطيني، الذي بقي في وطنه، وبين كل ما هو أساسي في الثقافة العربية والثقافة العالمية" كما قال أنطوان شلحت في مقال مركز سعى فيه إلى دراسة المقالات التي نشرها درويش على مدار الستينيات في مجلة "الجديد". والمقال الأخير معنون بـ"على جبهة الصراع مع الثقافة الإسرائيلية محمود درويش ودلالات "الحاجة إلى الحوار"، ومنشور ضمن ملف مجلة "الشعراء" المشار إليه قبل قليل.
وهناك أكثر من شاعر ومفكر يضرب عن فكرة الحوار، وهو تحفظ له ما يبرره وإن من وجوه فقط. ويمكن أن نعترض على الفكرة نفسها، لكن من ناحية المحاوِر الذي يتطاول على الشعراء والكتاب والمفكرين متكئا على منطق "سؤال ــ جواب" في سياق الترويج أو الاستهلاك الثقافي الذي تدعمه ماكينيات الصحافة المنهكة. ومحمود درويش بدوره كان يتحاشي الحوارات الكثيرة. والحوار، في تصوره، يستحق من الجهد ما تستحقه الكتابة، وقد يجد أحيانا أن الكتابة أسهل من الحوار؛ بل إن الحوار "كتابة شفوية" لا تخلو من صعاب، ما يستلزم جهدا كبيرا. ولذلك فهو يلحّ على الصحفي الجيد والصحفي العارف، خصوصا إذا كان شاعرا أو كاتبا. وذلك كلّه حتى يتحقق "شرط الندية" بينه وبين محاوره، وحتى تتحقق بالتالي ــ وفي الحوار ذاته وبتوصيف محمود درويش نفسه ــ تلك "الرياضة الذهنية" التي هي قرينة "المنفعة المعرفية المتبادلة". وكما أن الحوار معه يظل متجدداً باستمرار، ويظل "أشبه بالرحلة إلى عالم ملتبس بين الواقع والتاريخ والحلم والجمال..." كما قال أحد محاوريه.
فالحوار، القائم على منطق الشراكة المعرفية والاستفزاز المعرفي، لا يخلو من كبير أهمية وبخاصة إذا كان المحاوَر بارعا ومتألقا كما في حال محمود درويش وزميله الراحل إدوارد سعيد الذي كان آسرا على هذا المستوى، بل وارتقى بالحوار ــ والمقال أيضا ــ إلى مصاف "الصناعة الثقافية الثقيلة " ذاتها في ارتكازها على التحليل لا الجدل الذي هو أسهل من التحليل كما يقول إدوارد سعيد نفسه. فالحوار جبهة لتعميق أسئلة الأدب والفكر، وذلك كلّه في المنظور الكاشف عن انجذاب الطرفين معا إلى الثقافة في إسهامها في التحويل المجتمعي الملموس.
وفي ضوء منطق الشراكة سالف الذكر لا يبدو غريبا أن نشدد على محاوِرين محددين بخصوص محمود درويش أمثال عباس بيضون ("الكرمل"، العدد 78، 2004) وعبده وازن ("الحياة" (في حلقات)، 12/ 2005) (وآلت إلى القسم الثاني من كتاب بعنوان "محمود درويش الغريب يقع على نفسه" صدر عام 2009) وحسن نجمي ("القدس العربي"، 26/ 02/ 2004)، وكذلك الناقد المتميز صبحي حديدي الذي يعدّ من أهمّ المتخصصين في شعر محمود درويش (حوار "القدس العربي" (وبالاشتراك)، 12/ 02/ 1993). وحوارات أخرى كحوار "بيت الشعر الفلسطيني" ("القدس العربي": 20/ 04/ 1999)، وحوار "أخبار الأدب" الذي أعادت نشره جريدة "الاتحاد الاشتراكي" (المغربية) (05/ 01/ 2003)، وحوار "القناة الثانية المغربية" ("القدس العربي": 23/ 03/ 2005). وأغلب محاوري درويش، من الأسماء السابقة، هم من المنحازين (وبالمعنى الموجب والمحمود للكلمة) لشعر محمود درويش وشخصه الجذاب والساحر أو "سرديته الكبرى" كما عبّر عنها الشاعر أمجد ناصر في مقال شيق بعنوان "محمود درويش... الحاضر في غيابه". وهذه الحوارات تكمل بعضها بعضا، إضافة إلى أنها كاشفة عن محمود درويش آخر... عن ناقد أدبي نابه ومفكر إنساني يقظ يعتقد في جدوى النسق والقلق والنقد وعدم المهادنة. وتلك ميزة الشاعر الذي يقرأ خارج الشعر أكثر مما يقرأ في الشعر؛ وهو ما أقرّ به محمود درويش نفسه، ولعل في هذا أحد مظاهر "قوة النص" لديه.
وفي الحق يصعب، وعلى درويش نفسه، وهو الذي أمضى قسطا كبيرا من حياته منفيا متجوّلا، حصر جميع الحوارات التي أجريت معه وبدءا من الحوار المعنون بـ"محمود درويش: حياتي وقضيتي وشعري" الذي كان قد أجراه معه، في موسكو، وقبل عقود، محمد دكروب. وقد صدر الحوار، ضمن عدد خاص "أدب المقاومة في فلسطين"، في مجلة "الطريق" (تشرين الثاني ــ كانون الأول، 1968). وأعاد محمود درويش نشره ضمن مجلة "الجديد" (العدد 3، آذار 1969). ويقول المحاور بأنه كان أوّل حديث ثقافي أجراه كاتب عربي مع محمود درويش خارج فلسطين (محمد دكروب: مقالة في تمهيد وفصلين وما يشبه الخاتمة/ موقع "كيكا").
وتكشف حوارات محمود درويش عن أفكار بخصوص القضية الفلسطينية التي أسهمت في شهرته وبخاصة لما أصرّ على مواصلة الحياة فيها مؤكدّا أن عمره أكبر من عمر إسرائيل الغاصبة لفلسطين. أفكار دالة على تصوّر مفكر إنساني نابه يسعى إلى الارتقاء بسؤال فلسطين الحارق واللاهب إلى مستوى الفكرة: فكرة فلسطين ومعيار فلسطين بدلا من فلسطين كعلاقة ومكان جزئي. هذا بالإضافة إلى اعتقاده في جدوى "الواجهة الثقافية" على مستوى التصدي للوحشية، ثم "إن التهويد العنيف لفلسطين ما كان من الممكن تنفيذه لولا تجنيد كل النخبة الثقافية، وليس وزارة الأديان وحدها، من أجل تنفيذه" كما يقول أنطوان شلحت. وكما تكشف حوارات محمود درويش عن تصوراته للشعر ومهامه، وذلك كلّه من خارج جبهة الشعر أو جبهة القصيدة في التباسها الزاعق بالقضية. فقد كان، منذ بداياته، شديد الوعي بعدم اختزال الشعر في منطق التصفيق والجماهيرية؛ بل إنه يستبعد تسمية الجماهير. ولذلك قال "لقد آن لشعرنا أن يتشابك مع سؤال الوجود والمأزق الإنساني، مع سؤال الدائم الإنساني الذي ليست له علاقة مباشرة بالاحتلال ولا بالتحرر ولا بالوطن، ولا بالمنفى ولا بالدولة ولا بالحكم الذاتي". وقد عكس محمود درويش هذا الاختيار الشعري من خلال جملة من العناوين التي أخذت في التوالي منذ مفتتح التسعينيات حتى وإن كان ذلك قد أدى إلى بعض الانخفاض في مبيعات أعماله.
المؤكّد أن حوارات محمود درويش كاشفة عن آراء أخرى ذات صلة بالحداثة والجمال والأخلاق... إلخ. ولعل الأهم أنه ارتقى بالحوار إلى مستوى "النص" الذي بموجبه يتكشف ذلك الناقد الأدبي المتناسق وذلك المفكر الإنساني العميق الذي يضيء منجزه الشعري والثقافي بالقدر نفسه الذي يضيء به محيط الشعر العربي وضفاف الثقافة العربية. النص الذي هو "حجة علينا"، والنص الذي يسارع بنا نحو الانتساب لأفقه المتجدد. وتلك هي "لعنة" محمود درويش الذي "ولد شاعرا" كما أقرّ له بذلك محبوه وخصومه في آن واحد. وتلك هي ذاكرته التي هي ليست للنسيان.
الضفة الثالثة