بعد سبعة أعوام من الأحداث التي عرفت باسم «الربيع العربي» قل أن نجد من تناوله وسط اللغط الصحافي والشعارية المتعسفة، بمسافة العالم والمتقصي الحذر مثل الباحث الأكاديمي وعالم الاجتماع المغربي أحمد شراك في كتابه «سوسيولوجيا الربيع العربي». طوال خمسة أقسام، يتناول الباحث مجموع الخطابات والمفهومات والأسئلة الشائكة التي أعقبت «الربيع العربي» من منظور المقاربة السوسيولوجية بالمعنى التركيبي الذي تنفتح فيه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما في ذلك الأدب والفلسفة، بقدر ما تمارس النقد والتأويل بمنأى عن السجال أو إصدار أحكام القيمة الجاهزة أو المغرضة لسبب أو لآخر لا يمت بصلة للبحث الأكاديمي.
لا بد من الإشارة إلى أن الكتاب بدأ من مجرد مقالة بعدما اندلعت الاحتجاجات في تونس، غير أن ما كان يجري لم يكن عاديا فقد تحول إلى ثورة في ظرف وجيز، لتتحول المقالة إلى مشروع كتاب يبني إشكالاته وطروحاته ويهندس بناءه العام قياسا إلى المجريات والأحداث التي تلاحقت بسرعة ولم تتوقف عند حد، متجاوبا مع ما كانت المطابع تلفظه من مقالات وأبحاث وإصدارات عربية وأجنبية، وما كان يرافقها من سجالات ومواقف ومواقف مضادة تبعا لرغبات الفاعلين واختلاف طموحاتهم وبرامج أحلامهم. وهذا ما جعل الباحث يمارس كثيرا من الحذر تجاه المتغيرات ويبحث عن الثوابت أو عن البنيات العميقة التي عادة ما يصعب الكشف عنها أمام تطورات متسارعة ومتباينة. من هنا، خطورة الكتاب وجدته وطرافته في آن؛ فالقارئ يجد نفسه وسط علامات سيميولوجية كثيفة ومتقاطعة كانت تنتجها ميادين «الربيع العربي»، ومغمورا بأفعال الحراك المختلفة وتموجاته الهادرة وأصواته الصارخة من طرف كافة الفاعلين على صعيدي الفكر والميدان؛ بمن فيهم الذين يئسوا واستغرقهم الواقع المحبط حتى زمانه.
لهذا، نجد أن الرؤية العامة التي يصدر عنها الباحث، لم تكن تخلو من حيرة حقيقية في ما هو مقدم عليه من أهوال البحث ومشكلاته العويصة لطابعه السوسيولوجي المركب، إلا أنه خاض البحث ومضى فيه بلا هوادة، وقد كانت المقاصد التداولية التي يبتغيها من ورائه تتلخص في ثلاثة؛ هي: أن يعرض للمفاهيم الرائجة التي تراكمت بشكل منقطع النظير؛ أن يبني مفاهيم جديدة تكون كإطارٍ نظري للتفسير؛ أن يحصر مجموع الموتيفات والعناصر الداخلية (الاستبداد، فقدان الثقة، الوعي الراقد..) والخارجية (نظرية المؤامرة، العوامل الإقليمية، الإعلام الرقمي..) التي يفترض أنها تسببت في الأحداث حتى يفهم ما جرى ويجري.
ينبني الكتاب على مدارٍ إشكالي بين مختلف أقسامه وفصوله؛ هو ما ينعته الكاتب بـ»التأسيساتية» التي تشكل اللحمة الوصفية والتوصيفية للاحتجاجات المليونية العربية وقد أدت إلى انهيار رموز الاستبداد أو أتت بإصلاحات في هذا النظام السياسي أو ذاك. ولهذا يقدم البحث أجوبة على روح هذه التأسيساتية في مختلف أبعادها وتجلياتها طوال أقسامه الخمسة. ففي القسم الأول يبحث الكاتب مضمرات التأسيساتية وإشاراتها المبطنة على مستوى المفهوم والتوصيف (هل هي ثورات؟ أم انقلابات؟ أم انتفاضات؟ أم رجات؟) التي لا تخلو من جدل والتباس على مستويات لغوية، ومجالية، وسياسية وتداولية، صادرة عن دراسات وأبحاث ومواقف لباحثين عرب وأجانب. توقف عند هذه المستويات بحذر وقابل بينها، وعرض المفاهيم والتسميات والتوصيفات داخل محفل «المقاربة الباردة» كما يسميه، واصفا هذه الثورات التي حدثت في تونس ومصر بالتأسيساتية التي تدخلت في حدوثها العوامل الداخلية والخارجية بمنأى عن القول بنظرية المؤامرة أو عن «بلاغة السهل».
في القسم الثاني يبرز الكاتب معالم هذه التأسيساتية من خلال تفكيك أهم الخطابات التي انبثقت في خضم الحراك الجماهيري، سواء على مستوى ملفوظاته أو مكوناته أو على مستوى أجناسه وأنواعه، من منظور قراءة تشخيصية وتأويلية تكشف دسائس أسئلة الخطاب وبنياته انطلاقا من متن زاخر أنتجته الجماهير الغاضبة، بقدر ما تبرز المنحى الإبداعي لهذا الخطاب الاحتجاجي الذي لم تألفه الثورات في التاريخ الإنساني، مع ما يدخل تحته من أفعال وإرادات واستعمالات تداولية. وفي هذا السياق، يحلل حوامل خطاب الثورات؛ مثل: الحوامل التكنولوجية (من مواقع وشبكات اجتماعية وإعلام بصري ورقمي)، والحوامل الذاتية (ما يشمل كل الأشياء المناسبة والمتحركة من لافتات وشعارات وجدران)، والحوامل الجسدية (من حناجر وجسد وعري اجتماعي). مثلما يحلل محتذيات هذا الخطاب إن على المستوى السياسي (الرحيل، السقوط، الرغبة والإرادة، التغيير والإصلاح)، أو القيمي (الكرامة، الحرية، الوحدة، المساواة، العدالة)، أو الاقتصادي والاجتماعي الذي يتمركز في شعار محاربة الفساد، أو الحقوقي (رفض التعذيب والاعتقال التعسفي والاغتيال، إلغاء عقوبة الإعدام..)، وملفوظاته التي أسست لقاموس لغوي جديد على صعيد التواصل والتداول، يتناغم مع الوقائع والتطورات الميدانية، منها ما له صلة بالخصوصية التداولية لهذا القطر أو ذاك (ما مفاكينش، الشبيحة، الفلول..)، أو ما له صلة بالاستعمال القومي حيث هاجرت هذه الملفوظات إلى كل الثورات أو مجملها (البلطجية، ارحل، الدولة المدنية).
كما قارب خطاب الغرافيتيا الذي ميز الثورات على صعيد اللفظ واللغة، أو على صعيد الأيقونات والرسوم والبورتريهات، وهو ما جعله ينتزع شرعية جماهيرية علنية لم تكن له من قبل في العالم العربي. وقد قسم الباحث هذه الغرافيتيا إلى: إلكترونية وإسمنتية أو أصلية، فإذا كانت الأولى مقترنة بحامل الجدار الافتراضي الذي تحققه الشبكات الاجتماعي وعلى رأسها فيسبوك، فإن الثانية ارتبطت بحامل الجدار الإسمنتي (الجدران، الأرض، جذوع الأشجار، الأعمدة الكهربائية، الأبواب الحديدية، الناقلات المختلفة..). ورغم اختلاف الحوامل بينهما، فإن منطق الخطاب واحد يتمثل في التحريض على الفعل والعصيان والإخبار والتعبئة والحشد، مما يثبت جدواها وأهميتها كـ»أداة حرب» وإلا لما كانت تتعرض من طرف السلطة للمحو والتشطيب والإتلاف. ولاسيما إذا علمنا أن الغرافيتيا ارتبط بها خطابان أساسيان داخل قاموس الثورة التأسيساتية، هما: الشذرية والسخرية. يتأسس التشذير (الذري والتزمني) غالبا على الخطاب الجُمُعاتي وينبني على لغة تقتات من التراث وتتناص مع القرآن، إلى حد يجعله ينحاز أحيانا إلى الخطابات الإيديو- دينية، فيما تتأسس السخرية على مظهرين كبيرين: السخرية اللفظية (الشعارات، الهتافات، النكت)، والصورية التي تتجسد في الرسم على الجسد وخطاب الصورة الشخصية للرؤساء على نحو كاريكاتوري (مبارك، القذافي، زين العابدين، عبد الله صالح).
في القسم الثالث يبحث الكاتب في دور المثقف داخل الحراك، وفي مدى إمكان الحديث عن هندسة جديدة لإواليات العلاقة بين الداخل والخارج وبين الثقافة/ الثقافات المحلية والثقافة الكونية. ففي مقابل أطروحة البداية وأطروحة النهاية التي تتعلق بدور المثقف في المجتمع، يدافع عن أطروحة اللانهاية التي تقوم على أساس النقد والميتا نقد للواقع السياسي والاجتماعي؛ فهي أطروحة تنطلق من الوظيفة الميتا – نقدية التي يضطلع بها المثقف بتجرد ونزاهة بعيدا عن الولاء للسلطة. ولئن كان المثقفون قبل الثورات قد انقسموا إلى فريقين عريضين: فريق مساند لأنظمة الاستبداد، وفريق معارض لها، إلا أنه أثناء الثورات انحسر دورهم، أو بالأحرى دور المثقف «الكلاسيكي» وظهر بدلا منه المثقف المشاكس أو ـ بعبارته ـ «المثقف التأسيساتي»، الخبير والرقمي والمدون الذي يستعمل تكنولوجيا الاتصال من أجل تثوير الواقع، ويوجهه نضال عملي احتجاجي ينتقل من «القوة».. من الافتراض إلى «الفعل» الميداني. إنه مثقف غير متخندق في اتجاه ما، بل هو هامش وميتا- ثوري، نزيه ولا مزيف.
وانطلاقا من منظور سوسيولوجيا التغير، يؤكد الباحث على براديغم جديد قعدت له هذه الثورات التأسيساتية، وهو التنوع اللغوي والثقافي، حيث أن كل اللغات عبرت عن نفسها بحرية وعمق، ومنحت لحقول الفكر والثقافة، ولخطاب الهوية بالنتيجة، أفقا خصيبا ومختلفا ينأى بنفسه عن الدوغمائية والوثوقية، مثلما أثرت في السياسي الذي أعاد النظر في خطابه القيمي بخصوص المشاركة السياسية ودمقرطة الثقافة والمساواة بين المواطنين. وقد ساهمت الفنون بدورها، من مسرح وراب وسينما وتشكيل، في قيام الثورات وإحداث التغيير المنشود. وظل الشعر في طليعة هذه الفنون، باعتباره فنا حيا وممتدا في الوجدان العربي، ومثل بيت أبي القاسم الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة) النسغ العابر لأشعار الثورة. غير أن هذا الشعر «الثوري» لم يقتصر على القصائد العمودية كما يذهب الباحث إلى ذلك، بل حتى قصائد التفعيلة، وقصائد النثر بدرجة أقل، كان لها حضور نوعي وخاص بالنظر إلى لغتها وشكلها الفني.
من الثقافة إلى المثاقفة، يتم إلقاء الضوء على علاقات التفاعل الرقمي بين الأنا والآخر، انطلاقا من شروط معقدة تتمثل في العولمة والهيمنة الإمبريالية ونظرية المؤامرة. يدافع الباحث عن «أطروحة» المثاقفة الفاعلة ويشيد بالإبداعية العربية التي نهض بها الشباب العربي في امتلاكه لتكنولوجيا رقمية أحسن تدبيرها في «الاحتجاج الافتراضي» أو «الثورة الافتراضية»، وفي مدى حنكتهم واستفادتهم من كل الفنون والثقافات في الحشد والتعبئة، وتآزرهم بالشكل الذي نقل الافتراضي إلى الميداني.
ينكب الكاتب في القسم الرابع، وهو أعقد الفصول وأغناها لراهنيته وحساسيته السياسية، على كشف ملامح بناء الدولة الجديدة في أرض الثورات (تونس، مصر..) من خلال تحديد ترسانة المفاهيم، وفي مقدمتها مفهوم الدولة (الإسلامية، المدنية، الديمقراطية، الوطنية..)، ثم يسعى بعد ذلك إلى الإجابة عن آفاق «الدستورانية» حسب هذه التجربة أو تلك، سواء تعلق الأمر بالدستورانية في ثوبها الثوري، ولاسيما في البلدان التي شهدت ثورات مثل تونس، أو بالدستورانية الإصلاحية، التعديل لبنود ومواد دستورية مثل الدستور المغربي أو الأردني. لكن السؤال الإشكالي الذي انتهى إليه الباحث، هو: «هل الدستورانية والانتخابية هي الطريقة الفضلى للديمقراطية، أم أن الديمقراطية مسار لا تنتهي دروسه؟».
ذلقد كان «الربيع العربي» حدثا كبيرا بكل المقاييس، وقد أسال الكثير من المداد وخصب الأفكار في وقت وجيز كما يظهر من عناوين وتوصيفات البيبلوغرافيا التي عرضها الباحث بشكل دقيق ودال. وإذا كان نفر كبير من المثقفين والمحللين قد كفر بـ «الربيع العربي»، أو تبرأ منه، بدعوى ما حدث من خيبات وانتكاسات بالجملة على صعيدي الخطاب والميدان، بيد أن الباحث السوسيولوجي د. أحمد شراك قد تصدى بجـرأة وتـجـرد للحدث وانتــهــى إلى نتائج دالة ومبهرة ما زال جزء كبير منها قائما.
أحمد شراك:
«سوسيولوجيا الربيع العربي»
مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، فاس 2017
508 صفحات.