تقديم:
سمير أمين، اقتصادي ماركسي فرنسي مصري، مرتبط منذ سنوات طويلة بكيفية لصيقة جدا بالحركات المناضلة في العالم الثالث. هو أيضا رئيس المنتدى العالمي للبدائل. التقيناه، كي يتحدث لنا عن كتابه الصادر في باريس شهر سبتمبر 2011 ، تحت عنوان: العالم العربي خلال الأمد البعيد: ربيع الشعوب؟.
س- في كتابكم، تضعون موازنة بين ما يسمى ب"الربيع العربي"، ثم ما أسميتموه سابقا بـ''خريف الرأسمالية''. ما هي الصلات التي تضعونها بين هذين المسارين؟
ج- نعيش، كما أعتقد، خريف الرأسمالية، حسب معنى أن هذا النظام قد أصابه الهرم، وأدرك مرحلة تمركز للرأسمالية بكيفية لم يعرفها قط سابقا. بالطبع، ليس رأسمال الاحتكارات بالظاهرة الجديدة، بل حقبة هذه الاحتكارات المعممة، من أرسى مرتكزات لحظة جديدة سيطرت في إطارها الاحتكارات على كل شيء تقريبا. وإن لازالت تظهر عناصر النظام الاقتصادي مستقلة، فهي مراقبة على الصعيد الدولي من طرف الاحتكارات، خلفيا وأماميا. قد نتخيل بصعوبة مرحلة احتكارات أخرى أكثر تقدما، فقط إذا امتلك مثلا، ملياردير العالم قاطبة. تشكل احتكارية الرأسمال هذه، مصدرا للعديد من الظواهر :
*التمويل: يستحيل الادعاء، بأننا سنجد حلا للأزمة ب"تنظيم التمويل''. لا يمكننا في المقابل تنظيمها سوى بالتأميم حسب أفق إضفاء الطابع الاشتراكي على الاحتكارات. لكن بما أن هذا التوجه غير مندرج حاليا ضمن جدول الأعمال، فلا قدرة لنا على ضبطها. يحظى التمويل بمكانة مهمة فيما يتعلق بإعادة إنتاج النظام الرأسمالي أثناء المرحلة التي وصل إليها.
*التدمير : نقول بأن الرأسمالية برهنت عبر التاريخ كونها قادرة على التلاؤم مع كل الوقائع. بالتأكيد الإقرار صحيح، لكن بأي ثمن؟أن يصير هذا النظام مدمرا أكثر فأكثر!لقد بلغنا حاليا حقبة يستحيل معها تصديق مظاهر الخراب التي يشيع انتشارها .
*عدم التسامح : لا تتساهل رأسمالية الاحتكارات المعممة مع بروز بلدان يقال عنها صاعدة . هذا يعني أنها ترفض ''التحاق''الأخيرة بالبلدان المسيطرة، المتمثلة في الثالوث: الولايات المتحدة الأمريكية، أوروبا، اليابان حتى ولو بوسائل رأسمالية ضمن إطار العولمة، وهذا ما تحاول فعليا القيام به. المشروع الذي بدأ العمل به أصلا من خلال السيطرة العسكرية على الكون، يمثل أصل حرب مستمرة. هنا، الأعداء الحقيقيون ليست البلدان التي هاجمتها الرأسمالية مثل ليبيا، العراق، أو سوريا، بل خلفها البلدان الصاعدة، لاسيما الصين. إنه خريف الرأسمالية، مثلما أسميته. ليس موتا طبيعيا للرأسمالية الشائخة، لكن على العكس من ذلك، كلما شاخت إلا وأصبحت شريرة. يعتبر خريف الرأسمالية خريفا خطيرا. في نفس الوقت، يثور ضحايا "خريف الرأسمالية'' داخل بلدان الشمال كما الجنوب. تابعنا تلك الثورات حسب ما سميناه سريعا جدا بـ''الربيع العربي"، ثم أيضا في أمريكا اللاتينية، بحيث حصلوا على أفضل النتائج. نعاينه وفق شكل آخر من خلال محاولات، داخل البلدان الصاعدة، قصد فكِّ قبضة العولمة. نلاحظ ذلك أيضا مع الإفقار الجاري داخل المراكز الرأسمالية المتطورة والامبريالية، في بلدان منطقة اليورو، عبر اليونان وفرنسا وبلدان أخرى. لازلنا نشاهد ذلك حسب إطار التنقيط أثناء المعركة الانتخابية الفرنسية ثم في كل مكان تقريبا. هناك إذن فصول ربيع ممكنة لكننا لازلنا بعيدين جدا. لماذا؟ لأن حركات المقاومة والثورة تفتقد حقا لمشروع حقيقي، بل متشتتة وتفتقد لاستراتيجية وأهداف موحدة. حاليا، لا يتوافق ''خريف الرأسمالية'' مع"ربيع الشعوب". وفي انتظار أن يتشكل هذا المسار، يمكن لهذه الأزمة أن تبلور مرحلة أعلى للحضارة، لكن هذا لم يحدث، الخلاصة ينتظرنا الأسوأ.
س-توضحون بأنه مع كل سيرورة ثورية، نصادف ثانية هذه المجابهة بين الاندفاع الديمقراطي ثم ''جبهة رجعية''. كيف تجلى هذا مع يقظة العالم العربي؟
ج- بالنسبة للحالة المصرية، الأمر واضح جدا. إنه التحالف بين القيادة العليا العسكرية، وهي ليست جيشا بل تجمعا لرجال أعمال فاسدين، ثم الإخوان المسلمين. تحالف قائم أصلا لأنه تشكل من طرف السادات ومبارك. لحظتها، لم يكن بعد الإخوان المسلمين في صف المعارضة. أوضحت في كتابي، على نحو ساخر كيف فوض لهم السادات ومبارك والتعليم والقضاء ثم التليفزيون…أساسا هي قطاعات لاتُمنح للمعارضة !إذن بقي الإخوان المسلمين طرفا ضمن هذا التحالف، لذلك تزعجهم فكرة أن تتجاوزهم ديماغوجية سلفيين رجعيين جدا. لم يكن الفوز الانتخابي للإخوان المسلمين مفاجئا، بل يفسره تضخم الأنشطة غير المقننة التي تميز اقتصاديات البقاء. هذا أفاد الإخوان المسلمين وساعد على تعضيد التحالف الرجعي. فضلا عن ذلك، وخلال التظاهرة الضخمة ل25 يناير 2012، كان هناك من جهة الإخوان المسلمين الذين أتوا قصد الاحتفال بانتصارهم الانتخابي، ومن جهة ثانية ممثلو الحركات الديمقراطية التقدمية. وفي تونس، تشكل التحالف بين النهضة ثم الإتباع القدامى لبن علي الذين تقنعوا وراء ستار البورقيبية، إذن جسَّد الليبراليون مصدرا للتقهقر الاجتماعي ثم التمرد. في هذا السياق ، بقيت الكتلة الرجعية متينة إلى أبعد حد.
س-لقد أكدتم بأن : "خطاب الرأسمالية الليبرالية المعولمة وكذا الإسلام السياسي، ليس متنافرين بل على العكس متكاملين''. ماذا تقصدون بذلك؟
ج-في كتابي، توخيت الوقوف طويلا عند ما أسميته بـ''النظام المملوكي". أردت تناول وجهة نظر تاريخية بتركيز الانتباه على النظام المملوكي الذي تآلفت في إطاره طبقة مهيمنة لكن روافدها متعددة :المكون العسكري، البورجوازية التجارية، ثم المكون الديني. قام هذا النظام، منذ القرن التاسع عشر حينما قدم بونابرت إلى البلد. ستحاول مصر الحديثة – لكن عبثا- تجاوزه غاية الفرملة القوية حين الاصطدام بالاحتلال الانجليزي. في مرحلة ثانية، (1920-1967) ، حتى'' إخفاق الناصرية''، حدث السعي إلى تجاوز ذلك النظام برأسمالية للدولة تستلهم الاشتراكية السوفياتية، تحديدا قبل مرحلة أخرى من الارتداد مع السادات ومبارك(1967-2011). تشكل النظام المملوكي ثانية مع السادات ومبارك، بحيث سنرى التحاما بين الجيش ورجال الأعمال. إجمالا، طبقات كومبرادورية تدين بثروتها إلى قربها من السلطة ورجال الدين. يتوافق هذا التحالف تماما مع النظام والخطاب الامبرياليين لأنه عاجز عن إخراج البلد من وضعية التخلف، وتقديم منظور مقبول بالنسبة للطبقات ثم استعادة الوطن لكرامته على المستوى الدولي. لذلك فالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، سعيدان خلف تلك التحالفات في مصر وتونس.
س – لماذا بحسبكم، هناك تعارض بين الديمقراطية والنظام الرأسمالي للاحتكارات الكبرى؟
ج- على المستوى العالمي، يقوم نزاع بين أشكال التسيير السياسي- حتى المسماة ديمقراطية كما الشأن في البلدان الأوروبية - وكذا مقتضيات إنتاج النظام الرأسمالي مثلما الأمر حاليا، أي إدراك مرحلة الاحتكارات المعممة. أفرغت الديمقراطية من كل مضمونها، وصارت مجرد مهزلة. وإن احترمت بعض الحقوق كتعددية الأحزاب، فالتصويت لم يعد يغير أمرا. اليوم، بلغ الكاريكاتور أقصى مستوياته كما توضح وكالات التصنيفات التي تسود السياسة. يظهر هذا النزاع بكيفية أكثر عنفا، في المناطق المحيطة. كما أن بعض البلدان مضطرة كي لا تكون ديمقراطية، مادامت تدير أوضاعا غير مقبولة ومرفوضة اجتماعيا. في الغرب، يمثل هذا التناقض والتنازع، نقطة تقارب ممكنة بين تنظيمات اليسار الراديكالي. هكذا، تُقدم على طبق من فضة، الشروط المحفزة لانبعاث أممية للعمال وكذا بين الشعوب جراء هذا التراجع للديمقراطية. أظن أن الرأي العام الأوروبي أدرك ذلك، لكنه عاجز عن معرفة ما يمكنه القيام به، ولا أعتقد بأنه يقبل قرارات وكالات التصنيف، المشار إليها سابقا، التي ليست شيئا آخر سوى مستخدمين يتبعون أوامر رأسمال الاحتكارات الكبرى. توظف تلك الوكالات وتسدد أجورها مباشرة من طرف الاحتكارات، مما يمنحها موقعا يجعلها تفرض نفسها كحزب يسود باقي الأحزاب الأخرى، ثم تمتلك وحدها كفاءة إرساء قواعد اللعبة، بمعنى الحدود التي يستحيل على الممارسة الديمقراطية اقتحامها. يطمح هذا الحزب الرهيب للرأسمال التمويلي، كي يفرض نفسه على الدول ويلزم سياساتها بالاستجابة حتما لمقتضيات استثنائية ترفع نحو أقصى مستوى ممكن، خلال وقت وجيز مردودية الاحتكارات! لا تستحضر تلك الوكالات أي معيار ثان قصد الحكم على ماهو ''ممكن' أو ليس كذلك. منح أدنى شرعية لسلطتها، يعني الاستسلام منذ الوهلة الأولى، لقبول الديكتاتورية الفظة وكذا التوجه الأحادي الجانب للرأسمال، الذي ينعت ب"مطلب السوق''. لكن الوقائع، توضح أن الخضوع لتلك المتطلبات يعمق الأزمة ولا يسمح بأي وجه ''الخروج منها''، مثلما تنشد الحكومات المعنية بالأمر. تقتضي كل سياسة بأن نلقي إلى القمامة ب''ملاحظات''تلك الوكالات. يمكننا إعادة صياغة السؤال مثلما ينبغي في إطار ديمقراطية تتسامى عن مآل المهزلة:تحديد المصالح الاجتماعية المتضاربة داخل المجتمع، وتشكيل اقتراحات ل''الصفقة الجديدة''(تسويات اجتماعية تاريخية)التي تستفيد من دعم اجتماعي واسع، بأن تفرض الشروط على الرأسمال التمويلي. يمكن لأزمة الديمقراطية هذه، تعبيد الطريق أمام فاشيات جديدة ناعمة، كما نلاحظ مع الجبهة الوطنية الفرنسية، ثم السلفيين في العالم الإسلامي مثلا. لكن بهذا الخصوص أظل متفائلا، أنه إذا تناول اليسار الجذري الفرصة كي يتقدم بشجاعة ويقرر إغلاق تلك الوكالات، بتأميم الاحتكارات، في أفق إضفاء الطابع الاشتراكي، على مستوى تسييرها القانوني، إذن سيكون الصدى هائلا. في فرنسا، عالج جان لوك ميلونشون ذلك قليلا وإن بكيفية لازالت خجولة.
س-تستحضرون الانزلاق الدلالي الذي حدث بين تعبير ''الصراعات الاجتماعية'' و"الحركات الاجتماعية". وفق تصوركم، هذا يؤدي إلى خطأ في التحليل بخصوص محاولات تحرير الشعوب، لكن ضمن أي نطاق؟
ج- في الواقع، لا أحب كثيرا تعبير ''حركات''، لأنه توجد حركات باستمرار. المجتمع متحرك. توجد حركات تقدمية وأخرى رجعية. الحركات شرعية تقريبا، لكنها قطاعية ودون تقارب، لا تحدد بالضرورة العلاقات بين الأسباب التي من أجلها تصارع وكذا منطق رأسمالية الاحتكارات المعممة، لذلك تبقى ضعيفة، أريد القول دفاعيا. الدليل على ذلك، أنه غاية الوقت الحالي، حافظت الاحتكارات وكذا خدامها السياسيون على المبادرة، بينما تكتفي ''الحركات'' بإظهار ردة الفعل. الانتقال إلى الهجوم، يعني اتخاذ مبادرات تلزم بدورها الاحتكارات والسلط كي تكشف عن ردة فعل. أخيرا، يرغمونهم على التكيف. لذلك أفضل التكلم عن ''الصراعات الاجتماعية''، لأنه في ظل الصراع، تنبثق فكرة التقارب مع صراعات أخرى، بالتالي تبلور منظور للتسييس.
س-تدعونا في عملكم للتساؤل حول مفهوم الديمقراطية، ثم ترتبطون خاصة من خلال ذلك، بوجهة نظر نيومان تشومسكي . ماهي بحسبكم الشروط المحققة لانتقال ديمقراطي حقيقي ناجح؟
ج-أشارك تصور نيومان تشومسكي ، وما قاله عن ديمقراطية الولايات المتحدة، بدأ يصير حقيقيا داخل أوروبا. أعتقد، بعدم انفصال السؤال الديمقراطي عن التقدم الاجتماعي. أفضل تعبير ''دمقرطة المجتمع''، لأن الأمر يتعلق بمسار ينبغي في إطاره للتطورات، حتى المؤسساتية نتيجة تسيير الحياة السياسية، عدم انفصالها عن التقدم المجتمعي. لقد لاحظنا ذلك على امتداد القرن التاسع عشر الأوروبي بفضل معركة الطبقات العمالية قصد الاعتراف بحقوقها عموما، النقابية والاقتصادية والاجتماعية. أكبر انتصارات الديمقراطية، لاسيما إبان كل حقبة مابعد الحرب، تلك التي قادها المجلس الوطني للمقاومة، والتأميمات، والضمان الاجتماعي، إلخ، فأعطت مشروعية إلى الطبقات العمالية، افتقدتها سابقا في ظل التاريخ الرأسمالي. هذه التحققات المتقدمة الديمقراطية، ارتبطت على الدوام بالتقدم الاجتماعي. مقابل ذلك، وخلال حقب كما الشأن مع الحالية، في ظل الارتداد الاجتماعي، فقدت الديمقراطية دلالتها.
* هامش:
Mémoire des luttes :11 février 2012.