رغم الجدل الكبير واللغط الشديد الذي ساد الأوساط السياسية والحزبية والقانونية الفلسطينية، إبان تشكيل المحكمة الدستورية الفلسطينية في الثالث من أبريل عام 2016، بقرارٍ أحادي من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قصد به امتلاك ناصية التشريع، ومنح قراراته الرئاسية قوة الفعل والتنفيذ، وإمكانية الحلول محل المؤسسات التشريعية الفلسطينية، إلا أن القرار واجه معارضةً سياسية فلسطينية كبيرة، وتعرض لانتقاداتٍ قاسيةٍ، وطعونٍ قانونية ودستورية تثبت تعارض المحكمة وقرار تأسيسها مع القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، إلا أن الرئيس الفلسطيني الذي أتهم بالتفرد والهيمنة، واحتكار السلطة وتحصين قرارته دستورياً، مضى في قراره، ونفذ مرسومه الذي أنشأ أول محكمةٍ دستوريةٍ فلسطينية.
رغم هذه الملابسات المشتبهة، والظروف غير الوطنية التي شابت تشكيل المحكمة، والتي جعلت غالبية الفلسطينيين يشكون فيها ولا يعترفون بها، ولا يعتقدون بسيادتها وسمو قراراتها واستقلال قضاتها، ولا يؤمنون بنزاهتها وعدالتها ودستوريتها، إلا أن الفرصة اليوم مواتية جداً لهيئة المحكمة الدستورية ورئيسها، لأن تؤكد على دورها الرئيس ومهمتها الأولى، ألا وهي صيانة الدستور والإشراف على دستورية القوانين، والتأكد من عدم مخالفتها لنصوص القانون الأساسي "الدستور المؤقت للسلطة الفلسطينية"، فضلاً عن إصدار قراراتٍ ملزمةٍ للسلطة التنفيذية، وإجبارها على تنفيذها أو التراجع عن المضي في قراراتٍ قد اتخذتها لمخالفتها نصوص القانون الأساسي، وذلك بعد الحكم ببطلانها وعدم دستوريتها.
إنها فرصة المحكمة الدستورية الفلسطينية الكبيرة، وبوابتها الواسعة لكسب اعتراف الشعب الفلسطيني بها، ونيل الاعتراف الدولي بقانونيتها، وإثبات استقلالها ومصداقيتها ونزاهتها والتزامها القانون الأساسي، ولأجل ذلك هي مدعوة لإصدار عددٍ من القرارات والأحكام الدستورية واجبة النفاذ وغير القابلة للطعن بكل الوجوه والأشكال، ولها قوة القانون وسنده الذي تتجاوز به قوة السلطة الفلسطينية، وتقضي على احتكارها للسلطة التنفيذية والتشريعية، وتتخلص بما لا يعيبها من هيمنة وتفوق الرئيس، وذلك في خطواتٍ جريئةٍ ومسؤولة، تجعل منها بحق حارسة على القانون، وأمينة على الدستور، ومراقبة لدستورية القرارات ووطنيتها، وقادرة على تفسيرها وبيانها، وضنينة بعدم مخالفتها للقانون الأساسي.
المطلوب من هيئة المحكمة الدستورية الفلسطينية ورئيسها الالتئام القانوني، وإصدار أحكامٍ سريعةٍ ببطلان كل قرارات السلطة التنفيذية القاضية بفرض عقوباتٍ على سكان قطاع غزة، كونهم مواطنين فلسطينيين لهم كل الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها كل الفلسطينيين، بغض النظر عن ولاءاتهم الحزبية ومناطقهم السكنية، وعليها أن تلزم رئيس السلطة الفلسطينية بالتراجع عن مفاعيل قراراته كلها، واعتبارها بحكم العدم لبطلانها، وتعويض المتضررين من قراراته، تعويضاً أدبياً ومادياً بقدر الضرر الذي لحق بهم.
وعلى المحكمة الدستورية الفلسطينية أن تبطل كل قرارات الطرد التعسفي من الوظيفة، والحرمان من الراتب، كله أو بعضه، على خلفية الانتماءات الحزبية أو الولاءات التنظيمية، كونها قرارات غير قانونية، وأن تبطل كل الوصايات الأجنبية على قرارات السلطة المتعلقة بالسكان، سواء كانوا أحراراً أو معتقلين، فلا مصادرة لحقوقهم المادية، ولا حجب لمساعداتهم ومعوناتهم الشهرية، إذ هم جميعاً متساوون أمام القانون ولهم نفس الحقوق والامتيازات، إلا أن يرتكب أحدهم جرماً يستحق عليه المحاكمة العادلة والعقاب الفردي.
وعلى المحكمة الدستورية أن تلزم السلطة الفلسطينية بإزالة كل العقبات والشروط التي تحول دون تمكين سكان قطاع غزة من الحصول على حقوقهم في الكهرباء والدواء والعلاج، والمؤن والمساعدات والهبات، وغيرها من المشاريع الإنمائية والإغاثية والاقتصادية والتشغيلية، بل وأن تلزم السلطة بوجوب تقديم كل التسهيلات الوطنية التي من شأنها تخفيف الأعباء عن المواطنين الفلسطينيين عموماً وعن سكان قطاع غزة على وجه الخصوص، وأن تعتبر أي إجراءاتٍ عقابية أو معطلة، سابقة أو لاحقة، اجراءاتٍ باطلة لا يُعترف بها ولا يُبنى عليها.
وعليها أن تلزم الحكومة الفلسطينية بالقيام بواجبها والاضطلاع بدورها في قطاع غزة، وأن تباشر مهامها وتزاول أعمالها كاملةً، دون تأخيرٍ أو إبطاءٍ، بما يخفف عن السكان، في الوقت الذي تلزم فيه كل الأطراف الأخرى باحترام القانون الأساسي، وتمكين الحكومة من أداء مهامها دون معوقات من أي طرفٍ، على أن تلتزم الحكومة بإجراء انتخاباتٍ عامةٍ في عموم فلسطين، تشريعية ورئاسية فضلاً عن انتخاب أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، يلتزم بها الجميع ويحترمون نتائجها، وتصادق المحكمة عليها وتحصن الفائزين فيها من الانقلاب عليهم أو تزوير إرادتهم.
فهل تصر المحكمة الدستورية الفلسطينية العتيدة أن تتخلى عن أصالتها وسموها، وعن رفعتها وعلوها، وتريد أن تبقى ديكوراً لا أكثر، وشكلاً لا جوهراً، وأداةً طيعة في يد السلطة التنفيذية، وشاهدة زورٍ على قراراتها الباطلة وأحكامها الاستنسابية الفاسدة، وتشريعاتها المغتصبة من الدستور والقانون، والتي تضر بالشعب وتسيئ إلى القضية، وتزيد من حكم الفرد وتكرس بين يديه مفاتيح الاستبداد والديكتاتورية، والتحكم والهيمنة، وتؤسس بإهمالها للظلم والطغيان، والتسلط والفساد.
أم تلتقط المحكمة الوطنية الفلسطينية هذه الفرصة وتتمسك بها، وتشرع بقراراتها الوطنية نفسها، وتجعل من نفسها مرجعيةً دستورية حقيقية، وحامية للقوانين الوطنية، فتحظى باحترام الجميع ومباركة الكل، وتكون خير عونٍ لشعبها وأصدق نصيرٍ لقضاياه، وأفضل مرجعٍ يثق بها المواطنون ويسلمون بأحكامها، إذ نحن في أمس الحاجة إلى هيئةٍ قانونية مستقلة، يطمئن إليها المواطنون ويركنون إليها ويؤمنون بعدالة أحكامها، ولا تنس المحكمة الدستورية أبداً أن قراراتها سيادية عليا، وأن أحكامها مبرمةٌ نافذةٌ، وأن لقضاتها حصانة لا تمس وحرمة لا تنتهك، وبذا يكون لها أكبر الدور في حماية الوطن وصيانة الدستور، وفي تمكين الحكومة وإنهاء الانقسام، وفي تشريع المستقبل وصياغة نظم الشعب والمجتمع.