يكتب الناقد المصري أن الروائية قسمت عملها إلي ستة أبواب اختص كل باب منها بتناول جانب من جوانب الحياة في الشتات، بدأت بما يشبه النزيف الداخلي والذي عزفت فيه الساردة مآساتها وحكايتها مع ابنتها، لتخرج منه إلي توسيع الدائرة لتشمل كل أفراد العائلة

حزامة الفلسطينية .. قبل أن تنام القضية

شوقي عبدالحميد يحيى

 

في روايته "عائد إلي يافا"، (المرجع) في تناول الرواية الفلسطينية للقضية الفلسطينية، يرمز "غسان كنفاني" إلي فلسطين بابن السارد "سعيد س" "خلدون" الذي اصبح اسمه فيما بعد "دوف"، والذي تركه – أو أُرغم علي تركه -هو وزوجته "صفية" حين الهجوم الكاسح علي يافا، ولم يكن قد تجاوز الخمسة أشهر من عمره، ثم عاد لاسترداده بعد عشرين عاما، فوجده شخصا آخر، فقد تغيرت لغته، وأصبح جنديا في جيش الدفاع، ورفض العودة معهما، مكيلا لهما الاتهامات، مؤنبا {كان يمكن لذلك كله ألا يحدث لو تصرفتم كما يتعين علي الرجل المتحضر الواعي أن يتصرف. كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في السرير. وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة.. لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا . أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل. الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! ولقد أمضيتَ عشرين سنة تبكي.. أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول؟}. وكأن الكاتب يستحضر مسرحية "جون أزبورن" "أنظر وراءك في غضب". في محاولة لتحميل جيل الآباء وزر التفريط في فلسطين، وأنهم لم يكونوا علي مستوي الحدث، فآثروا الهروب، دون أن يحاولوا الدفاع عن بلدهم، بل استسلموا للخنوع، متأثرين بتخلفهم، ولم يقدموا لفلسطين سوي الدموع والبكاء علي الأطلال.

وهي ذات الرؤيا التي ركزت عليها الكاتبة الفلسطينية "حزامة حبايب" في روايتها "قبل أن تنام الملكة"[i]، متخذة من حديث "سعيد س" مع زوجته بعد هذا التأنيب الذي كان من "خلدون" أو "دوف"، الذي يدعون أنه ابنهم، حيث قال { لقد أخطأنا حين إعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق}. حيث خالد هو الإبن الثاني لسعيد، والمولود في الشتات، ولا يزال بحماس الشباب. فقد إنبني السرد لدي "حزامة حبايب" فيما يشبه رسالة تكتبها الأم "جهاد" إلي ابنتها "ملكة" التي أصرت علي المغادرة، علي غير رغبة الأم، وكأن الإبنة لا تشعر بما تشعر به الأم تجاه الماضي، أو كأنه لا يعنيها، فكان الانفصال المادي، والانفصال الروحي، بين جيل عاش المآساة، وجيل عاش في الشتات، بما يمكن معه القول بموت القضية، وما عبرت عنه الساردة في "قبل أن تنام الملكة" كأفضل تعبير عن انفصام الجيل الجديد عن جيل الآباء، حين نطقت الأبنة "ملكة" لأمها "جهاد ثلاثا { بكرهك .. بكرهك .. بكرهك} { همستُ في صدري، وقد غطيتُ وجهي بكفيَّ المرتعشتين، كي لا أراك وأنت تكرهينني}ص10. خاصة إذا تأملنا لغة حديث الساردة الذي يمكن وصفه ب"الخشن" في معظم الحالات، والوصول به إلي لغة القاع، الذي يتناسب مع حياة الساردة وتشردها، وما حملتها من أعباء طوال حياتها في الشتات، بين الأردن والكويت ودبي والعراق –مرورا-. وبما يشعرنا بترسب إتهامات "دوف" لدي كنفاني، في قاع وجود "جهاد" لدي حزامة، التي إستطاعت تصوير عجز الرجال، وتحمل المرأة لكل العبئ، - وما يمكن أن يحمل صورة من صور الرفض، وهو غياب الرجولة - متهمة إياهم بما يشبه (التنبلة)، اللهم صب اللعنات علي الحكام العرب { وحين كان ينبري زعيم عربي للحديث عن قضية العرب الأولي محذرا مغبة التفريط بالحق الفلسطيني في كل مرة من النشرتين – نشرة كل من الكويت والأردن – فإن عمي وأبي لايتورعان عن تسديد الإصبع الوسطي له، وقد يردفانها بشتيمة تمس عضو أخت الزعيم أو أمه، إذا ما جال الأخير وصال في مساحة وغي كلامية مغبرة بحماسة مفرطة}ص156.

وفضلا عن صورة الأب "نعيم" الذي شوهت الكاتبة صورته –برؤية- أمام إمرأته "روعة"، والذي إختارت الكاتبة اسمهما بصورة تهكمية لما يحملانه من دلالة ساخرة، حيث لم تكن تتورع (الأم) بسبه، بعضو أمه، وكيف أنها كانت تضربه، وتبرك فوقه ، لولا حمايتهن له { تقمصت أمي شخصيتها اللبؤة ونطّت علي أبي، فارتميت علي أبي في محاولة عبثية كي أنتشله من تحت مخالبها وأسنانها}ص134. وحيث تقولها – الساردة - صراحة { كان أبي رجلا وحيدا ومهزوما، وأنا كنتُ – دون أن يعرف أبي ربما – امرأة مهزومة أكثر}ص309. حيث تعترف الساردة بأن كلاهما مهزوم، علي النحو الجمعي، مثلما هو علي النحو الشخصي، حيث كلهما تعرض لتجربة حب فاشلة، تبين كل منها ذات الرؤية التي نراها لكلاهما. فعندما واجهت الساردة تجربة الحب مع د إياس، كانت التجربة يمكن القول عليها أنها إيجابية، حيث تم التلاقي – السريع – وتم التعايش معها، حتي بعد أن غادر د إياس، ومات، أثمرت التجربة ذلك التلاقى، بل والإنجاب – علي نحو ما سنري لاحقا -. بينما كانت تجربة الأب، علاقة منفردة وسلبية، حيث ظل ينظر إلي المحبوبة، دون أن يتخذ أي موقف إيجابي، ولم يعرف حتي إسمها، ولما رحلت، لم يعرف أين رحلت، بل وتوقفت التجربة عند مجرد الذكري.

و لم يكن الأب "نعيم" فقط هو ما هو عليه، وإنما "منذر" زوج الخالة "رحمة" أيضا الذي باع ابنته "سماح" لأحد رفقاء الشدة {كسداد لفلوس عليه} من أربيعيني تفحصها مثلما يتفحص الشاري جاريته في سوق النخاسة. هذا في الوقت الذي كانت الأم (والدة جهاد) هي مدبرة البيت، وهي صاحبة التصرف فيه. وكان "منذر" زوج الخالة "رحمة" هو أيضا يتحرش بزوجته حتي يحصل منها علي المال:

{ - وبعدين يا قمر؟! صبري عليكِ طال! فتعطيه خالتي رحمة تلك النظرة التي يفهمها جيدا، ثم تقول له:

ما معي ولا قرش أحمر.

  • كدابة!

عنئذ تنفلت عليه خالتي "رحمة" ولا تسكت، فتذكره بما لايريد أن يتذكره}ص37.

كما كانت "جهاد" أيضا هي رجل البيت، فقد ساعدت الجميع، إخوتها، وجِدتها، وحتي أبناء الجيران، وهي التي تولت الإنفاق علي البيت بأعداده الكبيرة، بعد أن توقف حال الأب الذي أصر علي البقاء بالكويت – دون عمل- بعد أن عادوا هم إلي الأردن، بعد اجتياح صدام للكويت، وما كان له من تأثير مادي ونفسي، ودوره في صب المزيد من التمزيق في أواصر الأسرة. حتي تصرف الأب نفسه حين مجيئ ابنته البكرية، التي اصر علي تسميتها "جهاد" رغم إعتراض الأم، وعندما تفشل الأم، توافق مرغمة علي أن تسمي هي البنات في قادم الأيام، ويسمي هو الأولاد، فكان أن اختار بعد "جهاد" كان التالي "جمال" والتالي له "ناصر"، ثم "بن بيلا" أو "بيلا" كما ينادونه. وكأنه يبحث عمن يقوم بالأعباء عنه، والتي من ضمنها – ضمنيا – السعي للعودة من أرض الشتات، أو إستعادة البيت المنهوب، يعتبر كشفا من الكاتبة لحقيقة تلك الشخصية الاستسلامية المنهزمة، فضلا عن إصراره بمخاطبتها بمنظور الذكورة، والحديث إليها علي أنها رجل البيت، وما عبرت عنه الساردة في شبه التصريح {لم يرفض أبي الأنثي التي كنتها بقدر رفض الذكر الذي كانه. ولأنه لم يستحضر رجلا آخر حوله يمكن أن يكونه أرادني رجله، ولعله أرادني أستكمل نواقصه الكثيرة}ص255. وهو ما يعيدنا إلي "سعيد س" في "عائد إلي يافا" الذي لما علم بأن "دوف" يقاتل العرب مع الجيش الإسرائيلي، إدعي أمامه أنه يمكن أن يقابل أخاه (المفترض) "خالد" الذي تطوع مع قوات المقاومة ، بينما كان "سعيد س" نفسه هو من منعه من الانضمام، بل وهدده إن فعل، ثم يعود بينه وبين نفسه، متمنيا أن يعود إلي بيته ليجد "خالد" قد إنضم بالفعل إلي قوات المقاومة. فهو الشخصية، العربية عموما، الثنائية الرؤية، الاستسلامية الانهزامية. إلا أن حزامة، لم تحرم الرجال من فضيلة الفعل، علي طريقتها الساخرة، حيث أخبرتنا بأن أسرة "نعيم" تشكلت من ثمانية أبناء (بنين وبنات) بينما عمها تكونت أسرته من عشرة أبناء (أيضا بنين وبنات). وليتوقف جهاد الرجال علي هذه المهمة، وأكدوها بإضفاء الأسماء الثورية إلي أبنائهم، وكأن مجرد تسمية الأبناء بتلك الأسماء، هي ما سوف يعيد الأرض السليبة {الصفوف تفيض بأسماء ثائرة دالة مثل: نضال ، كفاح، فداء ، انتصار. وكان ثمة اسم جازم إزاء نتيجة الثورة الحتمية ، مر عليَّ مرة واحدة علي الأقل: تحرير، التي تحررت من المدرسة بعد شهادة المتوسطة وتزوجت. وزاملت يافا وبيسان اللتين لم تعرفا موقع مدينتيهما علي الخريطة. كل ذلك قبل أن يأتي الجزر علي جهادنا وكفاحنا وفدائنا، كما تراجع منسوب نقاء ثورتنا فحلت في صفوف المدرسة – والحياة كذلك – بعد حقبتنا، التي غذتها الأوهام، أسماء مجردة من الوهم، مطهرة من التوقعات غير العقلانية، أقل ثورجية وأكثر ارتهانا للقوي الغيبية من فصيلة دعاء وإسراء وآلاء وآيات، إذ استسلمن، كما أسماؤهن، لله القادر وحده علي أن يعيد لنا فلسطين من النهر إلي البحر، وهو وعد مشار له في كلامه العزيز}ص123

بل وصل بهم الأمر إلي إطلاق اسم "فلسطين" علي فتياتهم، وقد شوهت، الساردة، كل معالم الجمال في زميلتها في المدرسة "فلسطين"، التي خلت من كل معالم الجمال، للحد الذي خضعت معه لتعليقات الأب " نعيم" الجارحة والخالية من الذوق، بأن فلسطين لو كانت بهذا الشكل، ما فكروا في إغتصابها { في مرة واحدة سألتُها عن سبب إرتدائها الحجاب، رغم أن شقيقاتها لم يكن محجبات، فشلحت إيشاربها وأبانت عن مساحة عريضة من رأسها كانت جرداء اللهم من زغب قليل متناثر}ص124.

والمتأمل لحياة الساردة "جهاد" إلي جانب تحملها لعبئ العائلة ومن زاد عليها من الجيران، وما عانته في رحلات الشتات التي لم تتوقف، والمعاناة التي واجهتها في كل بلد، والتي منها إتهامها في المدرسة الثانوية بالأردن، هي وزميلتها "مريم" بالسرقة في المدرسة التي عملت بها في البلد العربي، لمجرد أنهن أعلن فلسطينيتهن مباشرة، رغم أن الفلسطينيات كن كثيرات، إلا انهن كن يخفين فلسطينيتهن. فضلا عن ذلك الإحساس الذي تعاظم لديها، حيث { الحياة في بلد نفطي كالكويت لم تجعلنا كويتين كما كان أقرباؤنا الكثر الذين خلفناهم خلفنا في المخيمات يتهموننا أو يحسدوننا. كانت حياتنا في الكويت، في واقع الأمر، إمتداد لحياتنا التي كانت يمكن أن تكونها في المخيم ، موسومة بالشتات مع القليل من التحسينات والإضافات}ص153. ثم تنتقل الساردة إلي دبي، ليصبح الحكي بين فلسطين، والكويت والعراق والأردن ثم دبي، ورغم ذلك ظلت الذات الساردة –بعائلتها – منفصلة عن كل تلك الأماكن، فلم تنصهر مع أي منها، إمعانا في الغربة والشتات، والبعد، فتعبر عنه الساردة {من نافذة المطبخ في بيتي بالطابق الثامن، تشرع دبي طرقاتها دون تحفظ لغرباء كثيرين، مصائرهم متوازية، أكثر منها متقاطعة، وفي داخل كل منهم وطن في الغالب مهزوم، أو في أفضل الأحوال مؤجل}ص303. ثم في النهاية - تُصر الإبنة "ملكة" علي رفض الإلتحاق بأي جامعة عربية ، وتفضل الإلتحاق بجامعة بريطانية، وكأنها التعبير عن ضياع الهوية. وكأننا أمام حياة الانفصال من الجانبين، جانب التوازي في بللاد الشتات، بمعني عدم الانصهار في تلك المجتمعات، من جانب، ومن جانب آخر، إنفصال الجيل الجديد عن القضية والأرض. ثم تصف الشقة الضيقة التي لا تختلف عن شقق المخيمات، وما بها من تكدس، بينما الحياة تسير بالحب والمداعبة خارج إطارهم، حيث إعتمدت الكاتبة علي تقديم الصورة التي تلعب الدور في وصف الحياة، وحيث الشاذ والمقزز ، يصبح عاديا: { يقتل ابن عمي أبو تيسير صرصورا يهرول هلعا تحت طاولة التليفزيون بفردة شبشبه التي يسددها بحرفية، دون أن تحيد عيون عائلة عمي عن متابعة عبد الحليم حافظ وهو يداعب فاتن حمامة ويتحرش بها بلطف ملاحقا إياها ب "حلو وكداب". يفتك شقيقي بسحلية أو بريص التي تزحف أعلي الجدار، بضربة من فردة حذائه تصيب الهدف من الرمية الأولي، فيما تظل أبصارنا منصوبة علي عبد الحليم حافظ الذي يتساءل "بتلموني ليه"، دون أن نلومه في واقع الأمر إذ وقع في غرام مريم فخر الدين، مفتونا بعيونها، وكما تخيط شقيقاتي فساتين للدمي من بقايا أقمشة تعطيها أمي لهن، مخلفات بعض الإبر والدبابيس علي البلاطات، فتغز أقدامنا الحافية لنضع ختم وجودنا بالدم علي أرض ليست لنا }ص155. إلي الحد الذي كانت معه في قمة السعادة، حينما إمتلكت، وابنتها، حجرة مستقلة، بل كنبة مضافا لها ياء الملكية، لتصبح وطنا {حين أغلق بابي الغرفة الرئيسي والداخلي علينا، نصبح أنت وأنا في وطننا، فيما يعيش الآخرون، أبي وأمي وإخوتي في الشتات لاجئين في شقة جديدة أكبر من شقتنا شبه الأزلية في غيتو النقرة، علي كبرها}ص179.

وحيث لم تكن قضية الاحتلال الإسرائيلي قضية فلسطين وحدها، وإنما هي قضية العرب، الذين لم يكن حال ناسها بأفضل مما هي عليه في غيرها من الدول العربية، الأمر الذي يؤثر بالسلب علي القضية {أبكي علي إمراة تقف في طابور الخبز في أحد مخابز القاهرة تجعل مراسل إحدي القنوات الإخبارية الطنانة الذي يستعجل الانتقال إلي شخص آخر شاهدا علي بضعة أرغفة خبز اشترتها أخيرا بعد ست ساعات انتظار، حيث إختلس منها الخباز الدقيق والماء وطعم الخبز. "يرضي مين دا يا رب" تصفق صاحبة الوجه الطالع من أحد أحياء القاهرة الكالحة الخبزات بعضها ببعض كحطبات ناشفة، ثم تستغفر ربها مرغمة، خشية أن يؤدي تكّبرها علي النعمة إلي مسخ كوم العيال الجوعانين الذين ينتظرونها في البيت.. "لا حول ولا قوة إلا بالله .. ربنا علي المفتري" ترفع وجهها إلي السماء. أبكي علي بقايا شباشب رخيصة مرمية باستهتار في أحد أسواق بغداد بعد أن غادرتها أقدام أصحابها الذين تفتتوا في انفجار يومي. أبكي علي مسلسل مجازرنا الدرامي، متعدد الحلقات والأجزاء.. مجزرة "الرصاص المصبوب "علي الأبدان المفزوعة في غزة في واحدة من من حملات تصفية الجسد الفلسطيني التي تدني فيها سقف الحياة بصورة غير مسبوقة}ص20. وكما ساهم الاجتياح العراقي للكويت في المزيد من الضياع والتشتت وفقدان الأمل. فقبيل الاجتياح، كانت الأسرة تعيش في الكويت، وتسارعت الأنباء فعادت الأسرة إلي الأردن، لقضاء أجازة بها – ولم تتمكن من العودة، لظروف الحرب -، عدا الأب "نعيم" والساردة "جهاد" التي لعب "نعيم" لعبة دنيئة عليها لإجبارها علي العودة إلي الأردن ( بإيهامها بإجراء قرعة، وضع فيهما أسم "جهاد"، ولتلقي في رحلتها مرار الاحتجاز في الطريق عدة أيام، حتي تبول علي نفسها، ومعها صغيرتها "ملكة". فضلا عن ضياع الثقة التي نالت العرب بعد إكتشافهم حقيقة الوضع بعد نكسة 67 ، كذلك فقدان الثقة بعد نكسة صدام حيث تتناقل الأخبار الحشود الأمريكية التي تستعد للحرب، غير أن الثقة في عدم قيامها، ما كان يسود ، أو بمعني أدق – لا يصدق{ كنا واثقين أن الحرب لن تقع، ومبعث ثقتنا لم يكن بأي حال من الأحوال مصدره الطعن في جهوزية العنف الأمريكي وإنما في أهلية صدام حسين نفسه وجديته}ص183.

ولم تكن الكاتبة لتتوقف عند الرؤي الجمعية، فقط، حيث أن العمل كله يقوم علي معاناة الإنسان، الفلسطيني تحديدا، فكانت تجربتها المريرة – كإمرأة- في علاقتها بالرجل، والتي أثمرت "ملكة"، الجيل الثاني، والذي نشأ من المعاناة، ولتكشف به جانبا آخر من جوانب التخلي عن المسؤلية. فإذا كنا قد عايشنا تلك الطبقات المحدودة الدخل والعلم، فها هي طبقة أخري بلغت من العلم قمته. حيث يسمع أستاذ الجامعة، الدكتور "إياس سليمان" أستاذ الدراما والمسرح بجامعة الكويت.. فلسطيني يحمل الجنسية البريطانية. يسمع اسم "جهاد" وهو ينادي علي الطلبة في مدرج الجامعة، وليعلم أنها من قرأ لها قصة في الجرائد، فيطلب منها أن تأتيه في مكتبه، ودون كثير مقدمات، ينجرفا في علاقة، عاطفية، وجسدية، تستمر فترة من الزمن، لتعبر الكاتبة عن إنفجار الأنثي فيها، بعد طول التعامل معها بصفتها (رجل البيت) { مكتبه الذي شهد انصهارنا الأول الفجائي، يوم طلع عفريت المرأة الفاغرة رغبتها من قاع القاع في قمقم الولد المقنع}ص285. ويرفض الارتباط بها، لأنه متزوج وله أولاد. وتحت قهر الظروف، وللعوامل النفسية، تضطر لقبول الارتباط بزميله دكتور "أحمد ناهض" لتكتشف أنه ما تزوج منها إلا لاقتناص ما كان يملكه د "إياس سليمان"، فيما يشبه الاغتصاب، غير أن الواقعة كانت قد وقعت بالفعل وحملت "جهاد"، ورغم محاولاتها المتكررة، تفشل في إجهاض الحمل، لتأتي "ملكة" لتصبح "جهاد" هي الأم والأب، ولتتعذب بها حين تقرر، للمرة الثانية علي السفر إلي بريطانيا، وترفض أستكمال تعليمها في أي من الأردن أو الكويت، إمعانا في التباعد بين الجيل الجديد (الذي ولد في الشتات) وبين القضية.

ولا شك أن كل تلك المرارات، قد غرست في أعماق الفلسطيني بذور اليأس والتهميش، تلك التي وصلت إليها الكاتبة، أو سعت إليها – في تصورنا – وما عبرت عنه في تصويرها لهامشية تلك الحياة { وعلقت أمي براويز، غير ذات قيمة، تستنطق بعض القيمة عنوة من حياة مفصولة عن تاريخ كان يتشكل – خارج بيتنا – دون أن تكون لنا يد في تشكله. كانت حرب ستقع، وكان أبي قد آثر أن يظل في الكويت، شاهدا مُغيبا علي التاريخ، ذلك أن أحدا لن يسأله عن التاريخ ولن يستشهد به مرجعا من أي نوع}ص224.

غير أن خبرا يأتيها باستكمال "طارق" إبن "د إياس" قد استكمل مشروع تحويل قصتها إلي مسرحية، بعد موت والده، وسوف يأتي إلي دبي لعرضها ضمن مهرجان المسرح العالمي، ويرجوها أن تحضر العرض الأول، وكأن هذا التعاون المشترك هو الإبن الذي كان مُرتجي من العلاقة، أو أن التوافق قد حدث بنوع ما. الأمر الذي فرض نوعا من السعادة، وبصيص من الأمل، في أن يكون للكلمة دور في تنوير الجيل الجديد، سعيا نحو تفهم القضية.

التقنية الروائية

قسمت الروائية عملها إلي ستة أبواب (مقسم كل منها إلي عدة فصول). إختص كل باب منها بتناول جانب من جوانب الحياة في الشتات، بدأت بما يشبه النزيف الداخلي (في الرحيل الثاني) والذي عزفت فيه الساردة مآساتها وحكايتها مع ابنتها، لتخرج منه إلي توسيع الدائرة لتشمل كل أفراد العائلة، من الأب والأم والجدة والجيران، وكيف حالهم وكيف يعيشون في المخيمات مكدسين بطريقة ساخرة. ثم تستمر الفصول، لنتعرف حالة في كل باب ووقع الحالة علي كل هؤلاء وكيفية تعامله معها، مثل شُح المال(في مآل المال)، التعامل مع النضال بالأسماء( في أسمائنا غير الحسني}، الحياة الداخلية في حياة النساء (البيوت العارية) ، والحب (في الحب غير المنطقي)، لنصل في النهاية إلي الباب الأخير الذي فيه يطلع النهار، ولنجدنا أمام حال الساردة وحدها من جديد، أو مع حالتها المنفردة، لنتعايش مع بذور تحققها المأمول، رغم عودة مشهد الإبنة المفارقة، وإصرارها علي الهجر لخارج كل البلاد العربية.

ومثلما تعددت مهام، وأعمال "جهاد" التي تنوعت- إلي جانب دورها ك(رجل البيت)، بين التدريس والترجمة، وكتابة القصة، ، تعددت أيضا تقنيات السرد التي تأرجحت بين الخطاب (الموجه إلي ابنتها)، والسيرة الذاتية، فضلا عن صيغة ألف ليلة وليلة، حيث تقمصت صورة شهرزاد، التي يتتالي الحكي علي لسانها، مستنبتة الحكاية من الحكاية، مذكرة إيانا في بداية كل باب بتلك الصيغة التي انتهجتها شهرزاد ألف ليلة وليلة، حيث نجد:

{بلغني أيتها الملكة السعيدة، ذات الآراء غير الرشيدة تماما، والأحلام غير الحميدة مطلقا}.

{بلغني أيتها الملكة السعيدة، ذات الرغبات الجارفة والأفكار الجانحة}.

{بلغني يا مليكتي السعيدة، ذات الرؤي الشاردة والأمنيات المجنحة}.

{بلغني يا أسعد الملكات، ذات التصورات المستحكمات العنيدات، والقلب الراعش بفراشات حائرات}.

ثم تلك الصيغة الناطقة بإدراك الصباح:

{ ثم أدركني الصباح يا ملكة، وصباحات كثيرة بعده..}.

غير أن هذه البدايات، أو الإشارات، لم تكن فقط لمحاكاة ألف ليلة وليلة. فإذا كنا قد تعرفنا علي كل الشخصيات التي وردت في محيط العائلة، بصفاتهم وطبائعهم، ومواصفاتهم، فإن الوحيدة التي لم نتعرف عليها بصورة شخصية، هي الغائبة الحاضرة "ملكة". وقد وفقت الكاتبة حيث لم تحدد تلك الصفات الشخصية لها، لتظل رمزا لكل ذلك الجيل الذي ترجمت صفاته في هذه الإشارات، والتي تؤكد، طموح الشباب، ورغباته الجارفة وأفكاره الجامحة، ورؤاه الشاردة، وعناده المستحكم، وقلبه الراعش بالفراشات والأحلام بمستقبل خاص بعيد عن كل تلك الهموم. لتترجمها الكاتبة في ذلك الحوار الدال والمؤكد لتلك الرؤية:

(عرضت عليك الإلتحاق بالجامعة الأمريكية في دبي أو الجامعة الأمريكية في الشارقة، لكنك أصررت علي الدراسة في بريطانيا. "ليش بريطانيا" سألتك. "وليش مش بريطانيا؟" أجبتني. "وأنا؟ راح تخليني وحدي؟!" سألتك. "راح أخليك في قلبي"، أجبتني بعينين تسبقانك إلي وطن شخصي ينتظرك وحياة..تسقينها بحزنك قبل فرحك.}ص322. كما أنه غذا كانت شهرزاد ألف ليلة، قد استخدمت الحكي تمسكا بالحياة أمام جبروت شهريار وسطوته، وكان في ذات الوقت حفاظا علي جنس المرأة، فإن الكاتبة استخدمته لذات الغرض، حيث لم يكن حكيها في الرؤية العامة إلا محاولة – أيضا – لبقاء القضية حية، ومقاومة للموت. لذا كانت عتبة العمل الرئيسية "قبل أن تنام الملكة". وكأن الكاتبة تستغيث، وتُنذر .. أن استيقظوا قبل أن تنام القضة.

كما شمل التنوع أيضا إسلوب الكتابة، الذي سادته السخرية المريرة، المحملة بالخشونة المتوائمة ، والمبررة، مع تلك المرارات، الحاملة لقسوة الواقع، المكافحة للتغلب علي هزائمه المتكررة، فإنه أيضا لا يخلو من تلك التعبيرات والجمل الشاعرية المشحونة مثل ذلك التعبير الناطق بالمرارة والبؤس، حيت يسأل الأب القابع المستكين في الكويت، بينما باقي الأسرة في الأردن:

{يسألني عن عباد بيتنا النائمين، المتدافشين، مفترشي الرغبات تحت أغطيتهم، اللاهين عن لحمهم وشحمهم ووعيهم إذ تتطور بمنأي عن صحوهم}ص253.

ومثل ذلك النزيف الطافح في الحديث إلي الإبنة المغادرة، المتجاهلة لتلك المرارات:

{ وقلبي يا ملكتي من أورام الفقد ورضوض الخذلان مزرقا ما زال. في قلب تهاويه، مشي قلبي قابضا علي نزفه، مرتديا الثبات غلالة شفافة، متقمصا الوقوف ، متنكرا باللامبالاة، مقَنعا بالسلامة، فظلت أوجاعه طرية، واستقرت جراحه في قاعه المعتم مشقوقة، مكشوفه}ص275.

و للتعبير عن سنين الحرمان وتقمص دور الولد، تنشأ العلاقة الجسدية مع أستاذ الدراما "د إياس سليمان" في الكلية:

{ نفك المغلق ونستجلي ما غفل من معاني الجسد وعطاءاته اللامحدودة علي مقعدين أماميين في سيارة تشق دربها، دونما احتراز}ص286.

و { فرش الليل فوقنا بعضا من رذاذ إضاءة الشارع الهزيلة فتعانق خيالانا علي الأرض}ص308.

ومن السمات التي ميزت الرواية، قدرة الكاتبة علي رسم الصورة، وكأنها تجسد المآساة مشهديا، الأمر الذي يدفع القارئ لتصور المشهد، فيحدث التعاطف المرجو، ويزيد من القدرة علي التأثير. فإذا كانت الكاتبة قد تحدثت كثيرا عن ضيق المساحة المتاحة للعيش، سواء في المخيمات أو بلاد الشتات، مع كثرة العدد فوق المحتملة، فقد صورت الكاتبة ذلك في مشاهد عديدة، منها علي سبيل المثال:

{وإذا ما استفقدنا بلوزة أو تنورة أو فستانا أو قميصا أو بنطلونا، نتفتل في فراغات البيت الضيقة بين قطع الأثاث بالفانيلات والشلحات والكلاسين نفتش عن غرضنا في كركبة وجودنا الذي تقلصت فرديته، ثم نفتح الحمام الذي لا يوصد أيا ما يكون عليه نشاط محتليه من الداخل، فتكون أمي وسط البانيو عارية }ص167.

ولم تكن تلك الحالة المشهدية ببعيدة عن وصف المسرح الذي تُعرض عليها قصتها الممسرحة، صورة ترسم الرؤيا الكلية للرواية، في تعبير لفظي تمثيلي مسرحي حيث "ج" هي ما رمز إليها به "إياس سليمان" :

{ في النهاية تقف جيم في منتصف خشبة المسرح، تقرر أن تجرب كل شئ لتصبح جميلة...تمسك جمرة مرة، وجوهرة مرة أخري ... تتشكل علي شكل كائن يشبه جملا يسير منكسرا، تضع ساقا في الجنة وتمد أخري في جهنم، فتشتعل أرض المسرح بنار تبدو حقيقية تُنذر بأن تلتهم البطلة ....................... لم أقف مع جمهور المسرح الذي يصفق طويلا في ختام العرض.. فقد تبلل جناحاي من البكاء، فثقلا}ص331. وكأن الراوية قد أنهكها الزمن، وأنهكها الشتات، ففقدت حتي القدرة علي الفرح.

فإذا كان "غسان كنفاني" قد إتهم الأجيال السابقة بالتفريط في القضية، فإن "حزامة حبايب" قد زادت عليه بأن الأجيال القادمة (قد باعت القضية) ، لكنا نحن قد كسبنا مبدعة خرجت من ثوب النساء، وارتدت ثوب الرجال، فحملت القضية علي أكتافها، وإن كانت قد أجهدت، إلا أن لديها لم يزل بصيص من الأمل في أن تلعب رسالتها إلي ابنتها هناك في البعيد، دور حتي وإن تأخر، فربما يأتي يوما ما.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[i] - حزامة حبايب – قبل أن تنام الملكة – رواية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر – ط 1 – 2011.