عجلات كشك ليزا
I
بوريا، إذا صادفني، لا يراني. وليزا تُنفّذ ما يأمرها به حرفياً، فيقع كشكها على عاتقي تلقائياً، ودائماً بعد منتصف الليل. قبل شارع الملاهي كان الكشك، بتوجيهٍ من السيد بوريا، في مدخل حديقة الحيوانات. وقبل ذلك في منتصف النفق الواصل ما بين صالة الحيّ الرياضية من جهة، ومبغى بحسيتا، الذي حدّثه بوريا منذ سنوات، من الجهة الأخرى. وقبل ذلك على رصيف ساحة سينما الشرق إلى جانب باعة المشبّك واليانصيب والذهب المزيف والكتب المستعملة. ومع قدرة بوريا، في أيّ لحظة، على إبعاد كشك ليزا إلى خارج حدود الحي الروسي كلّه، كنا لن نجد طبعاً، ولا نريد أصلاً أن نجد، شاغراً له على أرصفة الأحياء الأخرى من العاصمة القديمة دمشق. إن ليزا، نعم، حريصة جداً على تلبية جميع أصناف زبائنها، فلا تستغني أبداً عن برازق الشام، ولا عن توابل البزورية، ولا عن موالح دمّر، ولا، طبعاً، عن قناني السَّمَغون وقضبان السلامي المصنعة من لحم الخيل التي أجلبها عادةً، مع روايات دي ساد المترجمة إلى الروسية، من المركز الثقافي الروسي في وسط العاصمة. إلا أننا، ليزا وأنا، مستعدّان دائماً، إذا شاء بوريا، للموافقة، دون أدنى شعور بالغبن، على نقل الكشك ولو إلى سطح بناية، على أن تكون هذه البناية هنا، في الحي الروسي، وليس في أي مكانٍ آخر. وبذلك أتنازل، أنا على الأقل، عن كل مسوّغات التذمر حين يكون عليّ، من وقتٍ إلى آخر، تأمين رافعة مناسبة لنقل كشك ليزا إلى موقعه الجديد في مهلةٍ، يحدّدها بوريا، لا تتجاوز عادةً ساعات الصباح الأولى قبل بلوغ الثامنة حتماً. ومن كثرة ما تنقّلنا أصبحتُ، كلّما لمحتُ بوريا من كوّة الكشك في ساعة متأخرة، أو حتى سيارته الفولغا السوداء، أتوقّع أن تكون هذه الليلة مسلّيةً لزوجتي، وصعبةً عليّ وعلى أبو علي في دمّر البلد.
لقد علّمتني خبرتي، الطويلة نسبياً، بالرافعات وسحناتِ أصحابها، المتنفّخة المتأففة من قرعي اللجوج على أبوابها في آخر الليل، أن أبو علي كان أكثر من لبّانا، كلما احتجنا إلى رافعة، بأقل ما يمكن من سوء الاستقبال المعهود في توقيتنا الحرج دائماً. ولسببٍ ما، اكتشفت، مع تكرار الحال، أن هذا الرجل يكون أكثر استجابةً لي كلما كنت أكثر أناقة عندما أنتشله من سابع نومِهِ، فيحرص، بإخلاصٍ ومشقّة، على ابتلاع انزعاجه من وجودي مرةً أخرى أمامه في مثل هذا الوقت. كأنني عندما أكون حليق الذقن، مسرّح الشعر، معطّراً، ومترسّماً فوق ذلك بأفضل بذلة لدي، أفرض عليه هيبةً من نوعٍ خاص تمنعه من ردّي خائباً. ويخيّل إلي، في كلّ مرة، أنه يكاد يدعوني إلى فنجان قهوةٍ، ما شربته قط، ريثما يُتَلْفِن لسائق رافعته ويعتذر منه بكلمتين باهتتين عن إيقاظه، ثم يطلب إليه، بصوت معلّمٍ منّانٍ موّان، أن يلاقيني عند مفرق البلدة على طريق بيروت القديم.
أما زوجتي فكانت تستيقظ طبعاً قبل أبو علي، برغم حذري الشديد في فتحي باب الشقة ودخولي على رؤوس أصابعي. هذه المرأة العزيزة، الرقيقة برغم كل ما تفرضه عليّ في المنزل من القواعد الصارمة، تجعلني، أحياناً، أشعر بثقلي الباهظ حتى على الهواء الذي تتنفّسه عندما أراها واقفة أمامي، أو مارّة بقربي، أو نائمة إلى جانبي. وغالباً ما يخيل إلي، لأسبابٍ سيأتي ذكرها لاحقاً، أنها عندما تنظر إليّ لا تتلقّاني بحواسّها الخالصة المباشرة للأسف، بل تشاهدني في التلفزيون محاطاً، دائماً وبلا كلل، بالحفاوة والتهيّب والتكريم. وفي كل مرة أوقظها، بسبب رافعة أبو علي، أكاد أرجوها أن تعفي نفسها مني، الآن على الأقل، وتعود إلى فراشها، فأنا أستطيع فعلاً أن أتدبّر من دونها شؤون أناقتي المُباغتِة في مثل هذه الساعة المتأخرة. غير أنني أعرف مقدار ما ستشعر به من الأسف، وربما الألم، إذا اكتشفتْ في اليوم التالي أنني مررت بالمنزل في ليلة أمس دون أن تعتني وخادمتيها بي وتُبدي لي ما تعتقد أنني جدير به، في أيّ وقتٍ ومكان، من الرعاية والمحبّة والاحترام. وكما لو أن كلّ شيء معدّ مسبقاً ليجري بمرافقة عدسات الكاميرات، التي يمكن أن تتخيلها زوجتي ببساطة متناهية، كانت الخادمتان، عندئذٍ، تعرفان بدقة أين تقفان ومتى، ومن منهما ستقدم إليّ المنشفة بعد الحلاقة، ومن ستقدم الكولونيا التي سأمسح بها وجهي، وأيّ بذلة سأرتدي ومع أي قميص وجورب وحذاء. وزوجتي، في هذه الأثناء، تحوم صامتةً من حولنا بخطوات بطيئة متأمّلة محسوبة بدقّة، مثل رئيس حرس متشدّد، أو مُخرجٍ حصيفٍ عليمٍ بكل شيء. ثم لا تلبث أن تنشغل، نفسها، بانتقاء ربطة عنقٍ مناسبة، تتروى في عقدها، ثم في وضعها، بأصابع خفيفةٍ ومسؤولةٍ، تحت ياقة قميصي. وغالباً ما تتصور، في اللحظة الأخيرة قبل أن أخرج، ملاحظةً صغيرةً بحجم زغبرةٍ أو خيطٍ عالقٍ على كتفي أو على كُم جاكيتي، فتلتقطها حالاً برؤوس أصابعها، كلمسةٍ أخيرةٍ على قيافتي التامّة. وكنت أستطيع طبعاً، بقهقهةٍ مجلجلةٍ واحدة، أن أدمّر هيبة هذه التشريفات المُحْكمة الخرساء، إلا أنني أجدني، في كل مرة، مستسلماً لها، كما لو أنني بحاجةٍ، لا تقل عن حاجة زوجتي، إلى هذه الدرجة الكاريكاتورية من رعايتي ومحبتي واحترامي.
المرّة الأخيرة التي احتجنا فيها إلى رافعة كانت عندما ركّبنا عجلات الكشك. وفكرة العجلات، على بساطتها وحيويتها بالنسبة لنا، لم تكن فكرتنا، فقد نبّهني إليها، عندما أوصّلني بشاحنته ذات مساء إلى كشك ليزا، عبدو، صديقي القديم ومعلّمي الآن في أهمّ ورشةٍ لمعالجة المياه في المنطقة.
* * *
II
كان صديقي عبدو قد فهم، قبلي، أن شهادة الأدب الروسي، التي جئت بها من موسكو، لن تلزمني. وكنت ظننت، في بداية عودتي بعد غياب عشر سنوات، أن معرفتي، عن كثب، بتورغينيف وغونتشاروف ودوستويفسكي وغارشن وتشيخوف وأندرييف، سوف تساعدني على العيش الكريم في بلادي بصورة من الصور. لكنّ الأشهر الخمسة الأولى، التي قضيتها بحثاً عن عمل، أثبتت لي، بما لا يقبل الشك، أن لهؤلاء الكتاب الكبار فائدة عظمى لا تقدّر بثمن، ويستطيع العارفون بهم جيّداً، في أيّ بلد آخر، أن يحوّلوا معرفتهم هذه إلى منازل محترمة للعيش البشريّ مع زوجاتٍ جميلات، وأولاد أسوياء، وأصدقاء أوفياء، ومزاج طيّب عند الحاجة. أما عندنا فسوف يكون من الصعب عليك أن تحوّل الكونت تولستوي نفسه إلى قليل من الخبز والخضروات والزيت والعرق وأجرة الشقة الخانقة التي يمكن أن تُتاح لك في ضواحي العاصمة. ولأنني أحب الحياة دون شروط مسبقة، ولا أريد أن أستسلم لليأس، بدأت شيئاً فشيئاً أهيّئ نفسي لأن أملأها، مبدئياً، بأشياء أخرى أقل أهمية وأكثر قابلية للتحويل في ظروفنا التقليدية العريقة.
وحدث، في تلك الفترة تقريباً، أن صادفني عبدو، خارجاً من خمارة آكوب في العزيزية، أموّه في مشيتي القلقة كميةَ العرق الكبيرة التي شربتها، على غير عادتي، في ذلك المساء. أذكر أنني سمعتُ قهقهته من نافذة شاحنة صغيرة توقفت بمحاذاتي، فتمكّنت من الالتفات إليه بتوازنٍ مُقَلْقَل. ثم هززت رأسي، موافقاً طبعاً، حين ركبتُ إلى جانبه، على إكمال السهرة في أحد كباريهات الحي الروسي.
طلب عبدو زجاجة ويسكي، وصبّ كأساً لي، وأخرى له. ثم رفع يده، وانتقى بسبّابته فتاةً من مجموعة فتيات مُتحلّقات حول إحدى الطاولات، ودعاها. جاءت، وألقت عليناً تحيّةً مُكسّرةً بالعربية، ثم قدّمت نفسها- أوليا من أوكرانيا. أجلسها عبدو بيني وبينه، وصبّ لها الكأس الثالثة على الطاولة.
- يجب أن تؤمن بالصين.
نصحني عبدو فجأةً، بعد رشفةٍ صغيرةٍ من كأسه.
وكانت أوليا قد بعثت في داخلي شوقاً مفاجئاً، لا يُقاوم، إلى شقتي السابقة في موسكو، تلك التي كنت قد غادرتها منذ شهور فقط، فلم أجد ما أعلّق به على الصين التي اقترحها عبدو عليّ الآن.
- كل معدّات معالجة المياه الآن في الشرق الأوسط صينيّة.
تابع عبدو، ثم وضع كفه على ركبة أوليا، ليؤكّد، كأنما، حماسته للصين لا أكثر.
- وبأرخص الأسعار.
أضاف، ثم طلب، بإشارةٍ من يده الأخرى، صحن طوشكا.
وكانت كف عبدو قد بدأت تنغّص عليّ شقتي البعيدة، فلم أتفهّم، كما ينبغي لصديق أن يفعل، استمرارَ وجودها الثقيل فوق ركبة أوليا. ثم حاولتُ جاهداً أن أرتاح منها بِحُسْن النيّة قدر الإمكان، ولم أستطع. أمسكتُ بكأسي، وأفرغت نصفها في فمي، وحاولتُ مرةً أخرى- دون جدوى. ثم لم أعرف كيف أجد فسحةً في كلام عبدو، الصلد والمتلاحم، لأعبّر له عن حاجتي الملحّة إلى تفسير كفّه، وإلا فلن أتمكّن الآن من استعادة حتى صندوق الأحذية، في موزّع شقتي الموسكوفية، كما يحلو لي- كان الآن يشرح لي، بتلذّذ كبير، البساطةَ المتناهية التي يتمتع بها مبدأ صيني صغير في تحويل مياه المجارير إلى أخرى صالحة للشرب. وكان في سقف الكباريه، لحسن الحظ، صفوف متعارضة من نيونات رفيعة وقصيرة، فباشرتُ بِعَدّها فوراً، وأنا أطلب من الربّ، في نفسي، أن يزيح كفّ عبدو عن ركبة أوليا بأسرع ما يستطيع. وبالفعل، لم يُنَطّرني الرب طويلاً- استجاب لشوقي المتشنّج إلى سريري السابق وطاولة كتابتي السابقة وأشجار البتولا السابقة التي تطلّ عليها الآن من دوني نافذتي السابقة في موسكو، فأجبر عبدو، قبل أن أنتهي من عدّ الصفّ الأول من النيونات، على حكّ صلعته الضخمة بكفّه الثقيلة نفسها.
شغرت ركبةُ أوليا.
في هذه الحال، قلتُ، سأملأ نفسي بالصين. وعليّ، من أجل هذه الغاية، أن أفرَغ أخيراً، ولو لفترة، من حملي القيّم القديم. لقد بدا لي مستحيلاً فعلاً، وأنا أنتهي من النصف المتبقّي في كأسي، أن تحشر في مكان واحد كل الأدباء الروس العظام مع معدّات عبدو الصينية. لكنّ أوليا تدخّلت في الحال، وسهّلتْ عليّ هذا المستحيل بركبتها الشاغرة- شالتها، ووضعتها فوق الركبة الأخرى، فأصبحت أقرب إليّ، ولم تعد الفروق، بين الأدب العظيم وبين جمهورية الصين الشعبية، جوهريةً جداً بالنسبة لي في تلك اللحظة. غير أنني ما عدتُ قادراً، من ناحية أخرى، على لمس الفروق الكبيرة التي يتخيلها أوكرانيّو هذه الأيام بينهم وبين الروس. قلتُ إنّ فتاة تجلس إلى جانبي، بهذه الإمكانات العمليّة، لا يمكن أن تكون أوكرانية على طريقة الأوكرانيين الدارجة الآن، بخاصة في مثل ظرفي الحرج. ثم شربتُ، وفكّرتُ أن أوليا فتاةٌ روسية بامتياز مادامت معدّات عبدو الصينية تتدفق من فمه بهذه الطلاقة، وتملؤني بفراغها الثقيل البارد الموحش. والإنسان، بخاصة إذا كان مثلي، لا يستعين إلا بامرأة روسية عندما يكون دون عمل، ويقع، بعد خمارة آكوب، إلى جوار صديقه عبدو في كباريه. وكانت كأسي مترعةً أمامي من جديد، فأمسكت بها وشربتُ كما أستند إلى جدار متفهّمٍ أمين. الويسكي الاسكوتلندي الأصلي، قلتُ في نفسي، يستطيع عمليّاً، وبلباقة شديدة، إخراجَ السيد دوستويفسكي مثلاً منّ أي إنسان معززاً مكرّماً، لأن الويسكي الفاخر عموماً، كالفتاة الروسية تماماً، سلسٌ ومُقْنِع وخالٍ من المسنّنات الحادة والعقبات الكأداء. ثم إن هذا المشروب الراقي لا يقرقع حين يُخفي، أو يقدم أو يؤخر، مكانةَ شخصٍ عزيز، أو تحفةٍ فنّية نادرة، في قلب الإنسان. وكان عبدو، في هذه الأثناء، منهمكاً جداً، على حد علمي، بالحديث عن جهاز تعقيم الماء بالأشعة فوق البنفسجية، فتركه الآن فجأةً، وتحوّل إلى كأسه وبدأ يشرب.
- Прекрасно в нас влюблонное вино. И добрый хлеб что в печь для нас садиться, И женщена которою дано, Сперва измучившись нам насладиться.
هدرتُ فوراً بذلك لعبدو حتى عاد من كأسه إلى جهاز التعقيم بانشراح أكبر. لم أكن أقصد طبعاً، من هذه الكلمات، تعريفه بالشاعر نيكولاي غوميلوف، أبداً. كان يمكن حتى لرشّة من الشتائم الروسية أن تحلّ محلّ الشعر آنذاك. لم يكن للمعنى أيّ ضرورة. المقصود كان الويسكي وركبة أوليا الشاغرة وكلمات لا يفهمها عبدو. أعني المساعدة، التي أنتظرها من الويسكي وركبة أوليا والكلمات الروسية، في تخفيف الفراغ الصيني الثقيل الذي يصبّه عبدو، بموافقتي التامة، في روحي. ولكي لا أشعر بأني مجرّد علبة، أو صندوق صالح لتخزين كلّ المضامين على حدٍّ سواء، أمسكتُ بركبة أوليا كما أمسك بشيءٍ من الكرامة، أو بلتر ويسكي أصلي مختوم. سوف يكون من الصعب عليّ الآن، قلتُ بعد ركبة أوليا مباشرةً، أن أعتبر وجودي نافلاً مهما ابتعدتُ، مبدئياً، عن الأدب الروسي. ثم إنني ما أزال قادراً، بمكوّناتي العزيزة القديمة الكاسدة التي أتخلّى عنها في هذه اللحظات، على التربّص بعبدو العالق حتى الآن بتفهيمي جهاز التعقيم- هززت له رأسي إعجاباً بالصين، كما لو أنني فهمتُ أشعته فوق البنفسجية تماماً، فترك جهاز التعقيم مرةً أخرى ومدّ يده، كما توقّعتُ، إلى كأسه وبدأ يشرب. عندئذٍ سارعتُ، من جهتي، إلى نيكولاي غوميلوف نفسه، وأشهرتُه في وجهه مثل سيف، هذه المرة، عنيدٍ مطعوجٍ ومثلّم:
- Где тишина и неземной покой, Что делать нам с бессмертными стихами? Не сиесть не выпить не поцеловать, Мгновение бежит неудержимо, И мы ломаем руки но опять Осуждены идти всё мимо, мимо.
ثم لم أعرف فجأةً كيف أُكمل انسحابي من مكوناتي الثمينة الزائدة بصورةٍ مشرّفةٍ إلى النهاية، فقد قاطعتني أوليا متسائلةً، بعربيتها الكسيحة، عمّا إذا كانت هذه الأشعار صينية مترجمة إلى اللغة الروسية. لقد راعني أن تلتبس في ذهنها صين عبدو بقصيدة نيكولاي غوميلوف بهذه السرعة. وشعرتُ على الفور بهشاشة ركبتها تحت أصابع يدي، فتركتُها، فوراً ربما، وظننتُ أنها على الأغلب من أوكرانيا. وكان هذا، إذا حصل كذلك فعلاً، سيصعّب عليّ، طبعاً، الشعورَ بجدوى وجودي في تلك اللحظة على الأقل، بخاصة أن عبدو كان قد بدأ يعدّد الموانئ الكثيرة التي ترسو فيها معدّات معالجة المياه الصينية في طريقها من شنغهاي إلى اللاذقية. تلفت أبحث، كأنما، بين الطاولات والزبائن المخمورين عن شيءٍ آخر يُعتَمَد عليه في صون كرامتي. ثم خفتُ من حاجتي الماسّة المتزايدة إلى أملٍ لا على التعيين. وخيّل إليّ، في تلك اللحظة، أن كل زبائن الكباريه وبناته والنُّدُل وساقي البار والكونتوار الذي أمامه والطاولات وأغطيتها النظيفة البيضاء والبست والفرقة الموسيقية، كلّهم، كلّهم أصبحوا أوكرانيين فجأةً، فلم يعد بإمكانهم جميعاً التمييز بين معدّات عبدو الصينيّة وبين نيكولاي غوميلوف، الشاعر الضابط الأبيض وزوج آنّا أخماتوفا الذي قتله الحمر، بعد اعتقاله، في شهر آب من عام 1921. وهنا، عند شهر آب تقريباً، وجدتُ زجاجة الويسكي أمامي على الطاولة كما أجد صديقاً وفيّاً، وعرفت على الفور أن الويسكي الاسكوتلندي الأصلي، على عكس ركبة أوليا، لن يغدر بي. لن يصبح هذا الويسكي أوكرانياً بأيّ حال، سيظل اسكوتلانديّاً بلا كلل، ولن يتحوّل في هذه اللحظة القاسية إلى مجرّد ماء، ذلك لأن شيئاً ما كان عليه أن ينقذني من صحوي الذي لن يكون له لا محل ولا معنى. ماذا أفعل بصديقي عبدو المسلّح حتى أذنيه بالصين، وأنا في وعيي الكامل بدون بولغاكوف على الأقل؟؟ فكّرتُ، يا إلهي! بأيّ شيء كان يلزمني الآن وعيي الكامل؟؟
- ومع أن كلفة شحن البضائع إلى هنا أقل ثلاث مرات من البلدان الأوروبّية عنها من الصين، فإن الأسعار الصينية في النهاية لا تُنافَس.
قال عبدو، بتدلّهٍ وفخر، وهو يملأ كأسي، فتناولتها، ودون أن أنظر إليه كرعتُها، لأتحمّل الفضول الذي بدأت تنظر به إليّ أوليا الأوكرانية- خشيتُ أن تعاجلني بسؤال آخر، بعربيّتها المُخلّعة، في وقتٍ لم أعد فيه قابلاً للاستعمال اللغويّ، فلغتي الأم يُخضعها عبدو الآن لمعدّاته، ولم يترك لي فيها ممسكاً سليماً واحداً، أو مهارةً واحدةً لم تتعرّض للتثليم والبعج والتعسّف. كما لم يعد ثمة محلّ للغة الروسيّة بعد التباس غوميلوف بأشعة الصين فوق البنفسجية في ذهن أوليا. لم يبق لديّ، عملياً، من المناصرين الحقيقيين في الكباريه، غير الويسكي الاسكوتلندي، اعترفتُ، ثم مددت يدي إليه أستعين به من جديد. صببت لنفسي، ولم يخذلني هذه المرّة أيضاً، فقد وجدت، بعد إعادتي كأسي فارغةً إلى الطاولة، أن من غير المعقول أن يحتاج الإنسان دائماً إلى وجوده، وإلاّ سيضطر إلى تبريره في كل لحظة، وهو أمر مستحيل حتى في الصين نفسها. الإنسان أصلاً لا يتحمّل وجوده دون انقطاع، بل يستطيع، ويجب عليه، أن يرتاح من وجوده المرهِق عندما ينام مثلاً، أو ينوي العمل بإخلاص عند صديقه القديم عبدو، أو يصمت صمت حجرة في جبّ. فصمتُّ الآن بوعيي كلّه. ثم أصبح من المتعذّر عليّ أن أظلّ إلى النهاية حجرة في جبّ، لأن عبدو سرعان ما اكتشفني غارقاً في صمتي النائي- أصبح الآن يهدر بالصين مثل كومبريسّة في رأسي، فصار كلامه يرجّني بقوّة حتى سقطت، على الأغلب، من على الكرسي. ثم ظللت أسقط، بينما لم يكفّ عبدو عن ملاحقتي بالكومبريسّة بهمّة جلاّد مهموم بأمري. غير أنني لاحظت، في هذه الأثناء، أنني لا أشكو من سقوطي الطويل، كما لو أنني أرغب به. وفي واقع الأمر كان سقوطي، في تلك اللحظات العصيبة، أرحم بي من أي احتمال آخر- كانت الشهور الخمسة، التي قضيتها بلا عمل، قد لقّنتني درساً لم أفهمه إلا في تلك الليلة- وهو أن الكباريه، برغم كلّ شيء، كان، بكل المقاييس، أقصر طريق عملي ومشرّف لسقوطي من محتوياتي الثمينة المتعالية القديمة. لم يكن سقوطي، إذاً، بمحض المصادفة، ولذلك ظللت أسقط من على الكرسي حتى آخر السهرة، وأنا مطمئن البال هذه المرّة، لأن أمري قد خرج من يدي، ولأن خطيبتي آنذاك (التي هي زوجتي الآن) لم تكن مضطرّة لأن تخترع الأكاذيب إلى الأبد أمام أبيها (الذي هو عمي أخو أبي) لتبرر نفقاتها الشخصيّة الباهظة التي كانت تتنازل لي عنها يوميّاً.
في صباح اليوم التالي استيقظت باكراً، تناولت قهوتي على عجل، وخرجت إلى الشارع. كان بوسعي الآن، بدون كباريه، أن أسقط بمهارة واسترسال وعذوبة إلى الحياة العملية، متوجّهاً إلى ورشة صديقي عبدو، حيث كان يوم دوامي الأول هناك، وأنا بكامل قواي العقلية تقريباً.
* * *
III
لم تصدّق ليزا أن فكرة العجلات قابلة للتنفيذ، وأننا بعد الآن لن نحتاج فعلاً إلى أيّ رافعة، إلا عندما شاهدتْ رافعة أبو علي تشقّ طريقها للمرّة الأخيرة في زحام شارع الملاهي، ولمحتني، إلى جوار السائق، ألوّح لها من النافذة.
وكان لابدّ من التكدير الذي لا يُحسب حسابه عادةً، وقد جاء هذه المرة من شرطة بلدية العاصمة. وكانوا قادرين ببساطة على منعنا من تركيب عجلات الكشك لولا ادّعاء قدري الباشا، شرطي سيرنا في شارع الملاهي، بأنه على معرفة مسبقة بقدوم الرافعة في مثل هذا الوقت. وكنت قد ظفرت برافعة أبو علي في وقت مبكّر من ذلك اليوم على غير العادة، فتسبّبتْ اختناقات المرور، التي لم تنقطع من دمّر البلد إلى الحي الروسي، بتأخير وصولنا إلى مكان الكشك حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان ذلك يعني أننا لن نفيد من رقاد شارع الملاهي الذي يظل مقفراً تقريباً حتى الثانية. وقد صادف ذلك اليوم عيد المرأة العالمي، فزاد من بائعي الزهور واليانصيب والخمور المهرّبة، وعربات الحلوى والخضار والفواكه واللحوم، وبسطات المكياج والغيارات الداخلية والدمى والخواتم والساعات والنظارات الشمسية ومجلات الموضة القديمة، ومناقل شواء الذرة الصفراء، وبرّادات البيرة والمثلّجات، والمتسوّقين، والمتسوّلين، والمتسكّعين، وحشود القادمين الإضافيين من الأحياء الأخرى في العاصمة ليتفرجوا على العروض المجانية في الهواء الطلق التي تقيمها الكباريهات بمناسبة العيد على طول شارع الملاهي. وقد حاول السائق عبثاً، برجاءٍ من قدري الباشا ومنّي، إيقاف الرافعة الضخمة أمام كشك ليزا بشكل موارب، فجاء توقّفها في عرض الشارع، الضيق أصلاً، خانقاً وغير مفسَّر. ومع تعطل المرور تماماً تعالى ضجيج الناس وزعيق الآلات الموسيقية وزمامير السيارات والشاحنات الصغيرة المتوقّفة من الجانبين. وكان عليّ الآن أن أنزل من كابين الرافعة، ففتحت الباب، وأنا أنظر إلى ليزا المحشورة بين الحدّادين بمحاذاة الكشك. لكنّني، في اللحظة الأخيرة قبل أن أقفز إلى أرض الشارع، لمحتُ قرنفلةً حمراء أعرفها، كان فيكتور إيفانيتش يرفعها بيده عالياً، ويلوح بها فوق رؤوس المحتشدين.
فيكتور إيفانيتش رجل سبعينيّ وصحفي سابق في النسخة العربية من "أنباء موسكو". جاء مع جملة من جاؤوا من روسيا في نهاية ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي عندما فرغ الروبل من قيمته السوفييتية القديمة بالسرعة المفاجئة التي فرغت بها مخازن المواد الغذائية في البلاد إلا من ربطات المعكرونة وعلب الكبريت. وإذ كان متقاعداً في تلك الفترة العصيبة وجد في معرفته القديمة باللغة العربية مخرجاً جديداً إلى حياة أفضل في دمشق. انضم هنا، في الحي الروسي، إلى آلاف الزوجات الروسيات مع أزواجهن السوريين من خريجي معاهد روسيا، والمطلقات المخضرمات المعلّقات هنا بأطفالهنّ وعشاقهن، وعاهرات الكباريهات، والتاجرات اليافعات القادمات دون توقف، بحبّ الهال والجوز الأوكراني وعسل الزيزفون ومؤخراتهن الشهية البيضاء، من موسكو وكييف وخاركوف، والعائدات إلى هناك بِبَنطلونات الجينز السورية الرخيصة وكيلوتات النايلون النسوية وأقلام المكياج وقرّاضات الأظافر وأحذية الجلد الاصطناعيّ، ثم الخبراء الروس، من مختلف الاختصاصات، الذين كانوا مايزالون على رأس عملهم، وأولئك الذين انتهت عقودهم أيضاً ممن لم تشجّعهم أخبار بلادهم العاصفة في تلك الفترة على العودة إليها، فلبثوا في أماكنهم آمنين. وكان الحيّ الروسي، بالعموم، بخدماته الجيدة التي يوفرها في الليل والنهار مع لامبالاته المطلقة حيال الغرباء، مكاناً لا يضاهى لعيش الكثيرين القادمين من المحافظات السورية أيضاً، بخاصةٍ لهواة ومحترفي وأدعياء الفنون والآداب المشدودين، بحكم أحلامهم الكبيرة، إلى أضواء العاصمة، وكذلك لمحبّي الحياة المرحة من ورثة الأسر الغنية المتبطّلين والمتطفّلين عليهم، ولزبائن مكتبات الأرصفة ورواد السينما وصالات الفن التشكيلي من الموظفين متوسطي الحال والمعرفة المتطلّعين عادةً، بتهيّبٍ كبير، إلى الانزلاق في أحضان الآثام اللذيذة التي طالما نهتهم عنها تربيتهم الفاضلة، وكذلك للّصوص الخبراء وقد تحولوا هنا إلى نصّابين لبقين، وللقوادين الظرفاء وقد أصبحوا رجال أعمال لامعين، وللوحيدين والوحيدات المتقدمين بالسنّ، الذين غدر بهم الدهر من بقايا أحزاب اليسار المتفتّت، وغيرهم الكثير من مقطوعي ومقطوعات السياسة والفنون وسوء الطالع، وإن كانوا، في غالبيتهم العظمى، قد حافظوا حتى الآن على نفوسهم الخضراء، وإقبالهم، الذي لا يذبل، على الحياة كما هي، دون أي قيدٍ أو تعقيد أو تعكير.
لقد اعتاد الناس أن يروا فيكتور إيفانيتش على أرصفة الحي الروسي حليق الذقن، ملمّع الحذاء، بطيء الخطى، مستغرقاً بأفكاره أو مبرطماً بإجابات قصيرة عن همهمات كلبته الأفغانية العجوز رئيسة بتروفنا. وكان الأطفال أكثر من ينجذب إليهما في الطريق، إذ غالباً ما يلتقونهما في حديقة الحيوانات. وقد اعتادت رئيسة بتروفنا أن تسمح لهم بحكّ رأسها وتمسيد فروها في الشارع، أما في الحديقة فتتحامل دائماً على شيخوختها لتجاريهم بالخفّة والشقاوة واللعب. وقد عُرف عن فيكتور إيفانيتش في الحي الروسي أنه لم ير امرأةً قبيحةً في حياته، فما مرةً بَخِلَ بانحناءة رأسه الخفيفة ولا بانتقاء كلمات الإطراء غير المبتذلة أمام من يصادف من النساء في الأماكن التي يتردّد إليها، ولا وجّه، في يوم، إساءةً لامرأة مهما استحقتْها في نظر الآخرين. أما في عيد المرأة العالمي فيُضيف عادةً إلى مظهره اليوميّ المرتّب النظيف بذلته الرمادية الخالدة، التي يتهندم بها أيضاً في أعياد الميلاد والفصح والنصر على الفاشية. لكنّ اهتمامه، في هذا اليوم، ينصبّ، قبل كل شيء، على أناقة رئيسة بتروفنا باعتبارها المعنيّة أولاً بالاحتفال، فهي بالنهاية الأنثى الوحيدة المتاحة لاحتفائه التطبيقيّ المباشر بعيد المرأة العالمي منذ مدةٍ طويلة. من أجلها يستيقظ في هذا اليوم قبل المعتاد كما يعرف المقربون منه- يحمّمها، يجففها، يمشّط شعرها السبِل الأشقر الطويل، بمشط رأسه على الأغلب، يمسح عينينها، الدامعتين دائماً، بمنديل جيبه النظيف، كما يفعل أحياناً عندما يكونان معاً في نزهةٍ أو زيارة. ثم يشْكُلُ، بحباسةٍ صغيرةٍ، وردةً قماشية حمراء قديمة على رأسها، ويستبدل سيرَها الجلدي، المُملَّخ المعهود، بآخر أكثر جدّةً يُلاحَظ عليها أيضاً في بعض المناسبات العامّة الأخرى. ثم يظهران معاً على هينتهما، زاهيين مقبلين على الحياة، من غرفتهما في حديقة الحيوانات باتجاه شارع الملاهي. وفي طريقهما إلى هناك يحرص فيكتور إيفانيتش، كما يفعل دائماً في هذه المناسبة، على شراء قرنفلة وحيدة، حمراء هي الأخرى، يقدمها، بعد قليل، لليزا بمناسبة العيد، وهو يشكرها على المقالات التي قصهّا من جرائدها السورية والروسية القديمة طيلة العام الماضي. وكالعادة تفاجأ ليزا بقرنفلته، كما لو أنها لم تتلقّ مثلها في السنة الفائتة، فتحمرّ من شدة التأثّر، ثم تمنحه قبلتها السنوية على خدّه الأحمر المجعّد، الأمر الذي يزيد احمراره، في كل مرة، ويُظهر على شفتيه ابتسامةً قصيرةً دافئةً ومربَكة. وعادةً ما يتوجّه فيكتور إيفانيتش، بعد أن تنتهي ليزا من مداعبة رئيسة بتروفنا، إلى ملحمته المفضّلة لينهي عيد المرأة العالميّ بالمقانق مقليّةً، كما يحبّها ورئيسة بتروفنا، بالزبدة البقرية مع شرائح البطاطا والبصل.
لقد فهم فيكتور إيفانيتش على الأغلب، ما إن وصل، اليومَ، إلى تقاطع شارع الملاهي مع مفرق حديقة الحيوانات، أن برنامجه السنويّ القصير الخاص بعيد المرأة العالمي لن يسلم، هذه المرّة، من بعض التعديل- كان اختناق السير قد وصل طبعاً إلى هناك. ولابد أنه قد فكّر بتأجيل قرنفلة ليزا إلى صباح الغد حين نظر من بعيد باتجاه كشكها، لكنّ ذراع الرافعة المتوقفة في عرض الشارع، وجنازيرها المتدلدلة فوق جمهرة الناس، قد حلحلت، كأنما، بعض الصدأ عن بقايا حسّه الصحفيّ القديم، فقرّر تسليم القرنفلة في موعدها. وهكذا تورّط، ورئيسة بتروفنا، في الزحام العسير باتجاه الحدث الساخن، وما عاد التراجع ممكناً. ومع وصولهما المُضني، ووقوفهما الخانق إلى جانب الكشك، كان الإنهاك كفيلاً، حتماً، بإعادة الصدأ والتبلّد إلى البقايا المتقرّنة من الحسّ الصحفي لدى فيكتور إيفانيتش. وما كان الآن لينظر إلى الرافعة، بعد كلّ العناء، إلاّ مُحْبَطاً، مثلّم المشاعر، مشوّش الأفكار، مُسائلاً نفسه، على الأغلب، عمّا يفعله في هذا الضيق والصخب. ولابدّ أن القرنفلة الحمراء، التي صانها من الدعك بأكتاف المحتشدين من حوله، قد ذكّرته عندئذٍ بليزا، فتنظّمت هواجسه من جديد- أفلت الرافعة من ملاحظته الكليلة، وجعل بعينيه يبحث عنها بين جموع الناس من حوله. ولعلّ مقانق العيد العزيزة قد توهجت، هي الأخرى، في رأسه، فابتلع ريقه متنهّداً، وحضن براحة يده خطْمَ رئيسة بتروفنا التي بدأت تنبح، معتذراً عن تأخير وجبتهما الشهية المُنتظَرة. وكان نفاد المقانق، في ملحمته المفضّلة، قبل أن يعثر على ليزا بين المحتشدين، سيكون طبعاً بمثابة الضربة القاضية لعيد المرأة العالمي بالنسبة له ولرئيسة بتروفنا. لكنّ شمس آذار الخدّاعة كانت قد أغرت، كأنما من أجله، صديقتَه ناتيلاّ لْفوفْنا، معلّمة اللغة الروسية المتقاعدة، لأن تعطي درسها الخصوصيّ، على شرفتها المقابلة للكشك، لتلميذها الخمسيني صبري- صاحب دكان الموالح في البناية نفسها. وكان صوتها السعيد الرنّان يجد متسعاً لتطايره في هواء شارع الملاهي برغم الرافعة وضجيج المحتشدين. ولابدّ أن رنينها بقواعد اللغة الروسية قد وصل إلى فيكتور إيفانيتش في الوقت المناسب، فرفع يده من الرصيف المقابل ولوّح لها بقرنفلة ليزا، مرةً واثنتين وثلاث، إنما دون جدوى. ما كان لناتيلاّ لْفوفْنا طبعاً أن تلاحظه، مع الإخلاص والتغنّج اللذين تؤدي بهما عملها المحبوب، فجعل فيكتور إيفانيتش يتلفت برأسه بحثاً عني على الأغلب- كان يستطيع أن يؤمّن قرنفلة ليزا عندي أيضاً. وكنتُ، في هذه الأثناء، قد نزلت من كابين الرافعة، وانضممتُ إلى الحدادين أثبّت، معهم، كلاّبات الجنازير المُدَلْدَلة في الأماكن المتينة، التي أعرفها جيداً، في جسم الكشك. وحين لم يُحصّلني فيكتور إيفانيتش، بين زحمة الوجوه من حوله، ظلّ ممسكاً بقرنفلة ليزا، وقد رفع ذراعه إلى أقصى ما يستطيع.
ثم زاد من غرابة الموقف وحراجته، عندما ارتفع الكشك في الهواء واحتلّ الحدادون مكانه على الرصيف مع معدّاتهم، أن فوجاً من الكشافة أعلن بطبوله البعيدة عن دخوله المهيب في أول شارع الملاهي. الأمر الذي فاقم، من جديد، حنق شرطة بلدية العاصمة على ليزا، لأن فوج الكشافة، في حقيقة الأمر، لن يخترق الحي الروسي احتفاءً بعيد المرأة العالمي، بل بعيد الثورة الذي يثاقب في اليوم نفسه. وهكذا بدلاً من أن تقشعرّ أبدان الناس بالحماسة الوطنيّة، فيُخرِجوا أعلامهم الصغيرة ويلوّحوا بها بإخلاص، كانت أبصارهم الآن تتجه سلفاً إلى الكشك المعلق بِذراع الرافعة، وقد انهمك الحدّادون يطرطقون بقاعدته، بهمّة واستغراق، كما لو أن ثورة آذار المجيدة لم تحدث أبداً في مثل هذا اليوم. وكان بعض كبار السن من الوطنيين المتحمّسين بالفطرة قد أفلحوا، في الوقت المطلوب، بإخراج أعلامهم الورقية المُجعْلكة، إلا أنهم لم يخفّفوا من حنق شرطة بلدية العاصمة، فقد كانوا، إلى قلّة عددهم، مشتَّتين بين انجذابهم الشديد إلى الحدّادين المشغولين بعجلات الكشك المتدلّي في الهواء وبين تلويحهم غير المركَّز بالأعلام. حتى تلميذ ناتيلاّ لْفوفْنا كان مشتتاً، في الشرفة المقابلة، بين قواعد اللغة الروسية التي تتغنّج بها المعلّمة، وبين الكشك. وأحيانا كان يُدلدل صلعته إلى الأسفل، من وراء الدربزين، ليطمئن على وجود صانعه سعيد في دكان الموالح.
وكانت عجلات الرافعة الخلفية تحتلّ الرصيف المقابل، فطلبتُ، بأعلي صوتي، من الحدّادين أن يتوقفوا عن العمل قليلاً، ومن سائق الرافعة أن يحاول لَحْلَحَتَها مرةً أخرى إلى اليمين أو إلى اليسار لعلّه يوفّر ثغرةً، ولو ضيّقةً، للكشافة كي يمرّوا ببيارقهم العالية الخفّاقة التي صرتُ أراها من مكاني. لكنّ ضجيج المحتشدين وطرطقة الحدّادين وزمامير السيّارات وقرع الطبول، التي أصبحت تلعلع قريباً منّا، ابتلعت صوتي. وكان غير القليل من سكّان الحي الروسي قد أيقنوا قبلي، بحكم خبرة بعضهم السابقة بالعيش في الاتحاد السوفييتي السابق، أن الكشّافة، ماداموا يحتفلون بعيد الثورة وليس بأي عيدٍ آخر، يجب أن يمرّوا من بين الاختناق الحاصل في شارع الملاهي، حتى ولو كان مرورهم مستحيلاً. ثم بادروا تلقائياً، بإجماعٍ غريزيّ، يتراكمون بمسؤوليّةٍ وطنيةٍ عالية، بعضهم فوق بعض، ليفتحوا عدّة أشبار أمام الفتيان وطبولهم. لكن جهودهم الوطنية المخلصة ذهبت عبثاً تحت دفع موجةٍ عارمة من سكارى مرحين وعاهرات جميلات مقهقهات مبكّرات بالنزول إلى الشارع بمناسبة عيد المرأة، بالإضافة إلى صمود كتلة ضخمة متراصّة نظيفة من نساء بدينات متينات مبتسمات راضيات ومحمّلات بمؤونة العيد من الخضار والفواكه واللحوم والخمور.
وجد الكشافة أنفسهم أخيراً مرغمين على خلخلة أنساقهم، بأجسادٍ حارّة غريبةٍ، والتوقّف، كيفما اتفق، بين بوز الرافعة الطويل والكشك المعلّق. وكانوا، الآن، يلتفتون برؤوسهم نحو الحدّادين المستغرقين، كلّهم، بمطارقهم، كما لو أن طرطقتهم بقاعدة الكشك تعزلهم بشكل محكم عن طبولهم الهدّارة وأعلامهم الخفّاقة وقنزوعاتهم الشامخة بنسورها المعدنية البراقة. وما كان الحدّادون لينتبهوا أيضاً إلى زمامير السيّارات وأصوات المحتشدين وكهكهات المخمورين وصراخ شرطة البلديّة ورنين ناتيلاّ لفوفنا ونباح رئيسة بتروفنا، إلاّ أن الكشافة، تبعاً لوجوههم الصارمة، فهموا، على الأغلب، انشغالَ الحدّادين بطرطقتهم نوعاً من التجاهل الحصريّ المبيّت لدويّهم المنظّم والهادف. وكان واضحاً أنهم، بغيرتهم الفتيّة على المعاني الكبرى المنوطة بطبولهم في هذا اليوم المجيد، قد وجدوا أنفسهم في تحدٍّ مباغت صريحٍ لعدوانٍ يمارسه الحدّادون على هيبتهم أمام الناس، فزادوا فجأةً من نبرة دويّهم. وكان شرطة العاصمة أول من أيّد هذا التصعيد، فأعادوا انتشارهم بين المحتشدين بصورة تمكّنهم من التدخّل السريع في الوقت المناسب لصالح الكشافة.
وفي الحال توجس العقلاء من سكان الحي الروسي من سوء الفهم القديم، القابل للاشتعال على الدوام، بين عيد الثورة وعيد المرأة في مثل هذا اليوم من كلّ عام، حتى بدون ليزا ومتاعبها. وبالفعل سرعان ما بدا الحدّادون وكشك ليزا ورافعة أبو علي في عيون الجميع أكثر المنحازين الشجعان إلى عيد المرأة ماداموا أغضبوا طبول الكشّافة وشرطة العاصمة إلى هذا الحد. لم تعد الرافعة الآن سبباً لشلل المرور، فقد بدا سكّان الحي، والوافدون إليه الدائمون والمؤقتون، بدوا جميعاً كأنهم يستمدّون من جبروت الرافعة، الرابضة في قلب شارع الملاهي، ما يشبه فراديس عزيزةً بعيدةً عصيّة على النسيان، ومفقودةً، كأنما، للأبد. وبذلك تعقّدت مهمّة العقلاء، فاللحظة شديدة الحرج عندما يظهر الكشافة الوطنيون بمظهر الفزّاعة لأحلام الحي الروسي. وكان الاستسلام لحراجة الموقف وترك الأمر للمصادفة الطيّبة لتجنّب الأزمة نوعاً من المبالغة بالنيّات الحسنة التي يمكن أن تأخذ إلى أسوأ العواقب. ثم جاء، تأكيداً لذلك، أن الكشّافة ضاعفوا تحدّيهم من جديد، فذهبوا الآن إلى أعلى ما في طبولهم من دويّ رهيب، بينما ظلّ الحدّادون بطرطقتهم المتشابهة اللامبالية، والرافعةُ المطمئنة بتعطيلها الكليّ للشارع، وكشكُ ليزا بتدلّيه العنيد المستمرّ في الهواء، يصرّون كأنما، ودون مساومة، على أحلام وفراديس المحتشدين المفقودة، ويطالبون بها.
ولكن ماذا عن الحي الروسي؟ فإذا كان الكشّافة معنيين برسالة طبولهم الخالدة فقط، والحدّادون والرافعة والكشك معنيّين، دون علمهم، بالفراديس المستحيلة فقط، فمن يُعنى، إذاً، بالحي الروسي نفسه؟؟ الحي الروسي ليس العاصمة القديمة دمشق، وإن كان جزءاً من جغرافيّتها. وهو ليس فردوساً من الفراديس المستحيلة، وإن جاورها في أحلام قاطنيه. لكنّه، على طريقته ورغم كل عيوبه، برزخٌ ما، ممكنٌ وعمليّ ومتاحٌ للجميع، فكيف يتركونه للحظةٍ شديدة الحرج؟؟ هل كان سكان الحيّ، والمدمنون عليه من الوافدين اليوميين من العاصمة القديمة، بحاجة فعلاً إلى رافعة بهذه الضخامة لكي يدركوا من جديد أنهم غرباء بهذه الحدّة عندما يكون برزخهم العزيز معلّقاً على حافة الخطر؟؟ أسئلة سرعان ما انتشرت عدواها، بغريزة حب البقاء، في الشارع كلّه، فعاد بفضلها، شيئاً فشيئاً، الازدحام ازدحاماً حقيقيّاً خانقاً من جديد لا أكثر. وقد أفلح الكشافة أيضاً بأن يصبحوا في نظر الجميع، تدريجيّاً وبسرعة لافتة، مجرّد فتيانٍ يحتفلون بعيدٍ من الأعياد لا أكثر. فتيان لهم، بالتأكيد، آباء يفخرون بهم، وأمهات ينتظرنهم على أحرّ من الجمر، وأصدقاء، ومدارس، وكلاب، وقطط، وأحلام مستحيلة على الأغلب على شاكلة تلك الفراديس التي ضيّعها، في أمكنةٍ ما، سكانُ الحي الروسي والمدمنون عليه. ولابدّ أنهم، بعد كل العناء واللهو والتطبيل، جائعون الآن، ويَحْسُنُ، ربما، توزيع الحلوى عليهم والمعجّنات. لكنهم، من ناحية أخرى، كشّافة حقيقيون مهما ساعدهم الحي الروسي باكتشاف غربتهم إزاء الأهداف التي يُطبّلونها منذ الصباح. وعلى الكشّافة، قبل كل شيء وفي أيّ حال، أن يمروا. إنهم، على الأقل، ليسوا من سكان الحي ليظلّوا واقفين إلى الأبد ريثما تُنهي رافعة أبو علي تركيب عجلات كشك ليزا. وكما لو أن المهمة أضحت الآن أشدّ سهولة على عاتق العقلاء في الحي الروسي، فأيقنوا، كأنما بغريزة حب البقاء نفسها، أن الجميع عاجزون تماماً عن القيام بأيّ حركة، ولابدّ من معجزةٍ في الحال. وبما أن المعجزة يجب أن تحدث في كل الأحوال مادامت ضروريّة كل هذه الضرورة، وبما أنها، من ناحية أخرى، لن تحدث قطعاً على أرض الشارع، نظراً لضيق المكان، فقد نظر الجميع تلقائياً إلى الأعلى. وكانت المعجزة معلّقةً هناك فعلاً- كان صبري، تلميذ ناتيلاّ لْفوفنا وصاحب دكان الموالح، يشير، من وراء دربزين شرفة معلّمته، إلى كشك ليزا بإلحاح.
صمت الجميع ماعدا الطبول ونباح رئيسة بتروفنا ورنين ناتيلاّ لفوفنا التي ظلّت تتابع درس اللغة الروسيّة- كانت الآن تنظر إلى نفسها في مرآة صغيرة مدوّرة، وتمرّر قلم الحمرة على فمها، وتؤكّد، بطلاقةٍ ودَلَع، أن الاسم المؤنث المنتهي بعلامة التخفيف لا يتعرّض، في حالة المفعول، لأي تغيير، بينما تأخذ صفتُهُ، بالضرورة، النهايةَ الإعرابية النظامية للمفعولات.
حكّ صاحب الموالح صلعته، واستطاع، بصوته العالي الجرش، أن يختلف عن رنين معلّمته ناتيلاّ لفوفنا، ويعلن، من بين الطبول ونباح رئيسة بتروفنا، أنّ على سائق الرافعة أن يرفع الكشك إلى أعلى ما بوسعه، فيمرّ الكشّافة وأعلامهم من تحته على الرصيف.
صاح المحتشدون صيحة النصر، وطارت في الهواء الكاسكيتات والبيريهات، وقد انشدّت الأنظار إلى ذراع الرافعة على اعتبارها الآن مفتاح الفرج. ثم صار كشك ليزا يرتفع، بطيئاً بطيئاً، إلى السماء الزرقاء، بينما كان الكشّافة يواكبون صعودَه برؤوسهم وطبولهم، كما لو كان علماً وطنيّاً في تحيّة الصباح. كان قرعهم مهيباً ومؤثراً، وعيونهم مشدودة، بِتَبْجيلٍ محيِّر، إلى العجلات الصاعدة نصف المركّبة المُقَلْقَلة على قاعدة الكشك، وهي تُصدر قرقعةً احتفاليّةً مشتركةً خفيفة أشبه ما تكون بقرقرة النراجيل.
ثم كانت مفاجأةً للجميع أن الكشافة لم يمرّوا حين أصبحت الطريق سالكةً أمامهم. بدوا، بتلبّثهم في المكان، كأنهم ما اخترقوا شارع الملاهي لهذا العام إلاّ لكي يصلوا إلى هنا بالذات، فليس ثمّة لديهم، في حقيقة الأمر، أي رسالة أخرى منوطة بهم غير التوقّف أمام الرافعة، والعزف لكشك ليزا المنسحب إلى السماء، ولقرنفلتها الحمراء التي مازالت مرفوعة بيد فيكتور ايفانيتش فوق رؤوس المحتشدين. وكان لا بدّ من تدخّل شرطي سيرنا قدري الباشا. وما كانت دماثته المعروفة لتترك لهم طبعاً أيّ مجال للاعتراض، فمرّوا أخيراً من تحت الكشك المعلّق في الأعالي، إلى الجهة الأخرى من الرصيف. لكنهم، مع ذلك، لم يغادروا المكان، ظلوا بين المحتشدين، أمام دهشة شرطة العاصمة، يطبّلون للكشك، وليس لأيّ شيء آخر، حتى انتهى الحدادون من تركيب عجلاته ونزل أخيراً إلى مكانه المعهود على الرصيف.
لكنّ رجال شرطة العاصمة، برغم رضا الكشافة وانصراف الرافعة وانفراج المرور في شارع الملاهي، لم يتنازلوا عن غضبهم الشديد من ليزا. وكانت ليزا تعرف دائماً كيف تمتصّ نقمتهم الدورية عليها داخل الكشك- أدخلتهم جميعاً، هم وعمراتهم الملتوية الكالحة، ونطاقاتهم الزيتية العريضة، وأبواطهم السوداء الكابية، وأسلحتهم الخفيفة الخالية، على الأغلب، من الطلقات. أغلقتْ كوّة البيع الصغيرة من الداخل، ثم أطلّت من وراء الباب بعد قليل- أخذت القرنفلة الحمراء من فيكتور إيفانيتش، قبّلتْ خدّه الأحمر المجعّد، وناولته، هذه المرة، زجاجة نبيذ أحمر وعلبة مرتديلاّ لرئيسة بتروفنا. وقبل أن تغلق عليها الباب منحتني ابتسامة لا تُنسى، ظللتُ أتشبّع بها على مهلي، وأنا أدور حول الكشك، ولا أشبع، في الوقت نفسه، من الإعجاب بالعجلات.
* * * * *
ما حدث البارحة في زيارة لينا
I
كنت أعرف، من اتّقاد عينَي ليزا، أن زيارتها لابنتها لينا في مساكن برزة لن تمرّ على خير، فكان عليّ أن أرافقها من كل بدّ. ومادمت معها، قلتُ، سأرافقها أيضاً إلى شارع الباكستان لتأخذ درس الفوتوشوب بعد الزيارة. وبعدئذٍ نسرع إلى موعدنا، معاً، في الكباريه بالحي الروسي. والكشك؟؟ لن نغلقه طبعاً، فكّرتُ، سوف نترك فيه فيكتور إيفانيتش ريثما نعود. ثم خرجتُ إلى الشارع.
كان فيكتور إيفانيتش يراقب رئيسة بتروفنا الواقفة، بمزاجٍ عكرٍ، قرب شجرةٍ قريبة من الكشك على الرصيف.
- تعاني من الإمساك.
شكى لي فيكتور إيفانيتش، مشيراً بعينيه القلقتين إلى رئيسة بتروفنا.
- أطعمْها برتقالة!
نصحتُ فيكتور إيفانيتش، وعدت إلى الكشك.
- أنا جاهز.
قلتُ لليزا.
- وأنا جاهزة.
قالت.
ثم خرجنا.
أنا لا أعرف، الآن، كيف خطر ببالي أن أطلب من فيكتور إيفانيتش البقاء في كشك ليزا صباح البارحة ما دمت لا أريد، ولا أتصور، أن يشغل شخص غيري المكان الذي يخصّني في كشكها عندما تقتضي الضرورة وجودي معها في مكان آخر. لكنني، لحسن الحظ، استدركت الأمر، وامتنعت، في اللحظة الأخيرة، عن مفاتحة فيكتور إيفانيتش بأي شيء يتعلّق بالكشك. لماذا لا أكون هنا وهناك، قلتُ، مادام صديقي عبدو، في ذلك الوقت بالذّات من يوم البارحة، لم يكن قد صرفني بعدُ من شغلي عنده، فقد كنا معاً منذ الصباح في مزرعةٍ بضاحية المهندسين على طريق إدلب، وبعد ذلك عدنا إلى المسبح البلدي لدراسة فلترة المياه فيه بتكليفٍ مسبقٍ من مجلس المحافظة، ولم نخرج من هناك قبل الثالثة والنصف بعد الظهر. ثم إن هذا المَخْرَج، بالمناسبة، ليس من اختراعي. إن فكرة أن يكون المرء هنا وهناك في وقت واحد موجودة قبلي، في الواقع، منذ مئات السنين- لقد قبِلْتُها وصدّقتُها وعشتُها منذ وعيت الدنيا في مدينة الرقة، تماماً كما فعل معظم الناس من حولي في ذلك الزمان. ما الذي يمنعني إذاً من استعارتها الآن ما دامت من نسيجي الشخصيّ الذي ورثته بالطبيعة واكتسبته بالتربية، فقد كان شيخي، أنا نفسي، من الأبدال.
* * *
II
لم أعرف معنى أن يكون الشخص بدلاً على وجه الدقة إلا عندما أفشى لي بائع العطر عبد الرحيم بسرّ شيخي ذات مساء. كنت، حينئذ، قد بلغت الرابعة عشرة من عمري، فبدت لي معرفتي المفاجئة هذه أفضل، بما لا يقاس، وأشدّ إقناعاً من الكلاب الشاردة التي كانت تطاردني كلّ ليلة.
كنت في تلك الأيام مشغولاً بـ"الحال" الذي لم يكن يأخذني في حلقة الذِّكْر- كان يأخذ كلَّ المريدين ويستثنيني، فأحزن على نفسي المتيقّظة بلا كلل، وأحاول، جهدي، أن أفرح لأخوتي بالله، وهم يتساقطون من حولي خائرين غائبين في أحوالهم مرتعصين مثل ديكة مذبوحة على البسط الصوفية الملونة النظيفة. كنت أخجل من وعيي، المؤلم العنيد الذي لا يغيب، وأنتظر، طيلة ذِكْر الله، استراحةَ الشاي بلهفةٍ لا تليق بالمريد النزيه. كان شاويش الحلقة، في استراحة الشاي تحديداً، يزيل الهوة بيني وبين المريدين المتشنّجين المأخوذين بأحوالهم. فبيدِهِ القوية كان يرغم كلاًّ منهم أن يمسح وجهه براحة كفّه، وهو يتشاهد فوقه بصوته الآمر، فيتحلحل هذا ويلين، ثم، شيئاً فشيئاً، يعود من نشوة حاله البعيدة، ويجلس مثل منهك من السعادة، عرقان، ساهماً، يكاد يبتسم ولا يستطيع.
لكنّ شيخي لم يتركني طويلاً في شقائي، فقد أمسكني ذات يوم من يدي، وسحبني من صفوف الذاكرين، وأوقفني في وسط حلقة الذِّكْر، فكان عليّ، فجأة، أن أبرّر وقوفي هناك باعتباره منحة لا تقدر من الشيخ. كان المريدون من حولي ينقزون في أماكنهم، على ضرب الدفوف، نقزاً سريعاً، وهم يشهقون باسم الله مع كل نقزةٍ مبتورةٍ بأخرى. كانت أجسادهم منتصبة، وأيديهم مسبلة، ووجوههم مغمضة خاشعة مشدودة إلى السماء، كما لو أنهم يوشكون، الآن الآن، على التحليق والغياب في الظلام العالي، فماذا أفعل أنا؟؟ وجدتني أفرد ذراعيَّ، وأبرم في مكاني، وأنا أبكي بكاء حلواً بعينين مفتوحتين. وبرغم الدفوف، والشهيق الجماعيّ القوي بأللهْ أللهْ أللهْ، وبرغم صياح المريدين المتساقطين من حولي في أحوالهم، برغم ذلك كلّه كنت أسمع صوت بكائي بوضوح، وأنا على يقين من أنني لم أكن، حتى اللحظة، مأخوذاً بالحال المنشود. لكن يقظتي، وأنا أبرم آنذاك، لم تعد عبئاً على روحي، فقد كنت أرعد بنحيبي السعيد فوقهم جميعاً، وقد اندمجوا بألوان ثيابهم المختلفة وبالسماء السوداء المنقّطة بالنجوم وبالبُسُط المقلّمة بألوانها الحمراء والزرقاء والصفراء وبحيطان الزاوية البيضاء وبابَيْ قاعة الذِّكر الشتوية العسليين وبمئات كؤوس الشاي في باب المطبخ المفتوح. ثم تذكّرت فجأةً الحجرَ الذي اصطدم برأسي حين انحنيت لأشرب الماء من حنفية باحة المدرسة قبل سنة أو سنتين من تلك الليلة، فأغمضت عينيّ من شدة الألم، وكففت فوراً عن بكائي الحلو. كنت الآن منكباً على الأرض في حلقة الذكر الطائرة بي أتحسّس بخدّي صوفَ البساط الخشن الذي يخفس من تحتي بلا توقّف، فأحاول بلا توقّف أن أثبّته برأسي. كان رأسي فقط يلتصق بالبساط مثل صخرة في سقفٍ يهوي، بينما يوشك جسدي على الانفصال عنه، ولا ينفصل، فيَنُوس في كلّ اتجاه. وعندما استقرّ البساط تحتي أخيراً فاجأتني البرودة في قلبي، وصرت أسمع، بوضوح موجع، شهيقَ الذاكرين عميقاً ومدوّياً من دوني. لقد فهمت الآن أنني فقدت توازني من شدّة البرم، فارتطمتُ بالأرض عندما رنّ حجرُ المدرسة في رأسي، وأن عليّ الآن أن أنهض فوراً قبل أن يظن شاويش الحلقة أني مأخوذ بالحال بعد طول انتظار. لكن الشيخ قاطع نهوضي بـ"لا إله إلا الله" قالها بصوته الرخيم معلناً بها بدء استراحة الشاي. ظللت مكبوباً على وجهي فوق البساط دون إرادة مني، وربما معها. معها. وإذ أفلتُّ، بإرادتي، الوقتَ الأنسب لنهوضي لم يعد ثمة، الآن، مناسبة للرخاوة في جسمي، فشاويش الحلقة أصبح يتشاهد فوق رأسي، وعليّ أن أتشنّج بسرعة قبل أن يلمسني، فتشنّجتُ بلا إبطاء، كما لو أنني مأخوذ بالحال. صار شاويش الحلقة يرغم راحة كفي على مسح وجهي، وأنا أنتحل، بلهفةٍ مخجلة، تشنجاً حبيباً ليس لي. لقد حزّ في روحي، تلك الليلة، أن الادّعاء اللذيذ، الذي كنت تلطّختُ به، قد انطلى على شاويش الحلقة- وهكذا تشكّكتُ بنفسي بسهولة، ووجدت، وأنا في طريقي إلى البيت بعد نهاية الذِّكْر، أن إخلاصي للشيخ مازال، إذاً، أقلّ من حقّي بالحال. إن الحال علامة رضا الشيخ عن مريده الصالح، وأنا مازلت، حتى ذلك المساء، أقوم، على الأغلب، بما لا يرضي الشيخ في حياتي، إن في المدرسة، أو في البيت، أو في قلبي. ثم لم أجد من كل ذنوبي التي نبشتها في طريقي ذنْباً كاملاً أستحق عليه كل ذلك الحرمان حتى وصلت البيت. عندما فتح أبي الباب لي عرفت على الفور أن ما حرمني من رضى الشيخ، طيلة الوقت، هو الكلاب الشاردة. حييت أبي، وجلسنا معاً على حرف شجرة الكينا، وأنا متأكّد من أنه ينتظر الساعة المتأخرة المناسبة لكي يرسلني، كعادته، إلى الكلاب الشاردة. كانت الكلاب الشاردة تنتظرني كل ليلة قبل الصيدلية المناوبة الوحيدة في البلدة وبعدها في طريق عودتي إلى البيت. وأبي ما كان يتذكّر أدويته، التي لا تنضب، إلا عندما تفرغ الأزقة الطويلة المعتمة من العابرين. كان قلبي يتعكّر، من أبي وعليه، كلّما نبحني كلب، أو طاردني في طريقي. ثم صار يتعكّر، منه وعليه، كلما حركت الريح الأوراقَ من ورائي، لأن الأوراق، مثل كل شيء يتبعني في الظلام، صارت تتحول بسهولة إلى كلاب شاردة. ولا بدّ أن الشيخ كان يغضب من عكر قلبي على أبي كلما نبحني كلب، أو طاردتني ورقة. وكان لا يمكن، طبعاً، مطالبة أبي بالتخلّي عن أدويته مرةً أو مرتين في الأسبوع لكي يتسنى لي، مرةً واحدة على الأقل، أن أتشنج التشنج الذي لا يخص أحداً سواي في حلقة الذكر. إن أبي، بإصراره على أدويته يومياً، كان يحرمني، تلقائياً، من رضى شيخي عليّ. وما كان يضاعف من سوئي في عينيَّ هو إيماني بأن أبي، لو تصور العكر الذي يراكمه في روحي عليه، لأرسلني، بالتأكيد، قبل الكلاب إلى الصيدلية، أو لأعفاني، في تلك الليلة على الأقل، من عكر قلبي عليه بعد أن كذبت بين يدي شاويش الحلقة. كان أبي لا يعرف، لا يعرف ما يورّطني به، ولذلك لم يعفني من غضب الشيخ حتى في تلك الليلة- قام من على حرف شجرة الكينا، وأرسلني إلى الصيدلية عندما خلت الأزقة، في ذهني، من أيّ بشريّ. خرجت، وأنا أرتعد سلفاً من الأزقة الطويلة السوداء المحشوة من أجلي بالكلاب الشاردة. أذكر، مع ذلك، أنني بذلت في تلك الليلة كل طاقتي في الطريق لأحافظ على قلبي صافياً على أبي، لكن عبثاً- حين عدت إلى البيت كان قلبي أقرب إلى السواد من شدة العكر، وفي رأسي فكرة محزنة واحدة، وهي أنني لن أتنازل أبداً عن خوفي من الكلاب الشاردة مادام أبي يرسلني إليها ومادمت لا أريد أن أطعمها نفسي لكي يرضى عني الشيخ. كان عكر قلبي على أبي يمنع الكلاب من أكلي، ويحرمني من الحال في الوقت نفسه.
لقد ظللت أعيش مرارة هذا الظن حتى كذّبه عبد الرحيم عندما سلّمني سرّ شيخي. عند ذلك فقط عرفت الحقيقة. عند ذلك فقط كان أبي يستطيع أن يرسلني، ما شاء، إلى صيدليته في أنصاف الليالي. وكانت الكلاب تستطيع، ما شاءت، أن تنبحني وتطاردني. كما كنت أستطيع من ناحيتي، ما شئت، أن أعود من الصيدلية أزرق أزرق من الرعب دون أن يكون لعكر قلبي الأسود أيُّ دخْلٍ في حرماني من الحال. جهلي، جهلي بمقام الشيخ وحده، كان السبب، لأن شيخي، كما بدا لي عندئذٍ، إذا أطعمني للكلاب لا يستطيع بعد ذلك، مهما حاول، أن يجعل مني مريداً صالحاً، فلكي يأخذني الحال كان عليه أولاً أن يجدني. وكان، طبعاً، من الصعب عليّ، وربما من المستحيل، أن أذهب إلى حلقة الذكر وأنا موزّع في بطون الكلاب، بينما كان شيخي يستطيع بسهولة أن يحرمني من الحال إذا كنت سليماً خارج الكلاب وجاهلاً بمقامه فوق ذلك. وها قد عرفت مقامه الآن، فكبر في قلبي إلى درجة أنني خفت من أن أحبّه أكثر من الله:
تلفّت عبد الرحيم حواليه، في ذلك المساء البعيد، ثم أفشى لي بصوت مبهور بأن شيخي، الذي هو شيخه وشيخ أبي، بَدَلٌ من أبدال الله، وأن شيخ شيخنا في فلوجة العراق هو غوثنا الأكبر. ثم اختلج عبد الرحيم اختلاجاً سعيداً، وهو يخبرني أن جنوداً من كتائب متباعدة على الجبهة شاهدوا شيخنا، بأم أعينهم، يقاتل معهم جميعاً في الحرب الأخيرة، بينما لم يغادر حلقات الذِّكْر في بلدتنا النائية طيلة تلك الفترة.
كانت الخفافيش، حين تركني عبد الرحيم مع سرّ شيخي، قد تكاثرت كعادتها في السوق القديم كلما حلّ المساء وأغلقت المحال أبوابها. كأن السرّ أفرغ ذنوبي القديمة فجأةً من أثقالها في تلك اللحظات، فشعرت بحاجة أكبر إلى هواء حُرمت منه بالخطأ فترةً طويلة. بدا الهواء قليلاً في السوق المُقفر شبه المعتم. كانت أجنحة الخفافيش السوداء الغزيرة ترفّ من حولي وتكاد تلامسني. أردت أن أركض إلى زاوية شيخي أكفّر بين يديه عن جهلي الطويل بمقامه، فرأيتني أركض صوب النهر.
وقفت على الجسر العتيق، كما لو كنت في المكان الأنسب لأخاطب شيخي. شيخي المتخفّي عني في ثيابه البسيطة، البدل المتعدّد دون علمي الفقير القاصر. كان الماء يهدر من تحتي فلا أسمع لهاثي، والرذاذ يتفجر من حولي، والظلام الشفّاف يلفّني، فأغمضت عينيّ لأنفرد، هنا أيضاً كما أفعل تحت لحافي قبل أن أنام، بيد شيخي الكبيرة الرحيمة الحليمة تحطّ فوق رأسي وتغفر لي. ثم وددت كثيراً لو أبكي بأعلى صوتي، فلم تطاوعني عيناي، فقد كنت، رغم اضطرابي، أداري غبطتي ببراءة أبي من غضب شيخي عليّ. شيخي الذي ظلّ يكبر في رأسي في هذه الأثناء وأنا فوق الجسر. ثم ظلّ يكبر عندما فتحت عينيّ، وصرت أشعر من جديد برذاذ الماء على وجهي وأسمع هديره من تحتي وأرى المتنزهين المرحين المارّين بي.
ثم حدث، فجأة، ما نغّص عليّ سرّ شيخي- لقد مررت بحاوية قمامة مقلوبة، فذكّرتني محتوياتها المدلوقة على الرصيف بأننا لم نكسب الحرب الأخيرة، بل خسرناها. فكيف يخوض شيخي معركة نخسرها؟! وكنت لا أريد أن أخسر سرّ شيخي من أجل حرب لم أشعر بها أصلاً ولا أعرف أين حدثت بالضبط ولماذا. ثم إن معرفتي، الآن، بهذا السرّ، قد أسكنت في روحي أملاً حقيقياً بأن شيخي سيغفر لي، لابدّ، جهلي القديم، وأنني، ذات يوم قريب، سأرتعص في حالي الخاص بي، بين أرجل الذاكرين، مثل ديك ذبيح فوق البُسط الصوفية الملوّنة.
سارعت إلى عبد الرحيم. انتظرته في آخر الزقاق حتى خرج من باب بيته إلى صلاة العشاء. وفي طريقنا إلى الجامع الكبير توصّلنا معاً بسهولة إلى أن شيخنا بالذّات لم يخسر الحرب، لأنهم من دونه كانوا سيخسرون ثلاثة أرباع بلادنا التي لم نكن نعرف منها، لا أنا ولا عبد الرحيم، غير بلدتنا الصغيرة على شاطئ الفرات.
صلّيت العشاء في ذلك المساء كما لم أُصَلِّه يوماً. كنت أسترق النظر من بين صفوف المصلين إلى رأس شيخي، وأنا مفتون بأنه يؤمّ صلاتنا هنا، ويؤمّ غيرنا في مكان آخر، وينقذ في أحد الأنهار امرأة وطفلاً سقطا من أحد الجسور، وعلى الشاطىء يزرع الخضار لعجوزين كسيحين مقطوعين، ويقود عربة محملة بالحنطة يوزّعها على المحتاجين في بلدة مجاورة، ويقاتل في مكان لا نعرفه في سبيل الله، بينما لا يغيب، في أثناء ذلك كلّه، عن أعيننا، وهو يركع ويسجد أمامنا الآن في هذا المحراب.
* * *
III
لقد فشلت كل محاولات لينا في منعنا من زيارتها في منزل جدّتها بمساكن برزة. ما أرادت ليزا أن تتفهم عذراً واحداً من أعذار ابنتها المختلقة. وكانت لا تجرؤ على رفع دعوى لتنتزعها بقوة القانون، فعند زوجها السابق، كما تظن، من المعارف الحكوميين ما يكفي لإثبات واقعة الزنا، حتى على أمّه، بجلسة قضائية واحدة. لكنها، بأيّ حال، لم، ولن، تسمح لأحد بحرمانها من رؤية وحيدتها التي لم تتجاوز التاسعة من عمرها. وكان لا مفرّ من مصلّح الدرّاجات ومن عناء إلقاء التحية عليه، لأنه ببساطة جدّ لينا، ولأنه، فوق ذلك، لا يترك دكّانه عند باب البناية من السادسة صباحاً وحتى العاشرة ليلاً. ردّ تحيّتنا، باضطرار مماثل، ثم بشّرنا بطرف أنفه بأن لينا غير موجودة في البيت:
- راحت إلى معلّمة الرياضيات الخصوصية.
قال.
كانت ليزا تعرف أنه يكذب- إن زيارتنا لم تتم لمجرّد رغبتها برؤية ابنتها فقط، بل تمخّضت عن مكالمات طويلة مضنية بالتلفون أجرتها على مدى يومين كاملين مع لينا، وأبيها، وجدّتها الحاجّة رئيفة، وحتى مع عمتها الصغيرة إنصاف. لكنها لم تكذّبه، بل وقفت أمام باب البناية مثل شهيدة يهينونها بسبب وبلا سبب. وطبعاً لم يقع الجدّ في مصيدة آلامها الجاهزة هذه المرة أيضاً، فقد تجاهل خاطرها المكسور فوراً، وتابع عمله. وهكذا فهمت ليزا، من ناحيتها، أنه لن يدعونا إلى الصعود إلى منزله لنكتشف، بموافقته، أنه كذّاب، فأخفت بسرعة ملامحَ شقائها المستعمل واستشهادِها الممل، وانطلقت مثل سهم حيّ إلى درج البناية أمام استهجانه الدوريّ وشفته السفلى المتهدّلة. وكنت، طبعاً، في أثرها أجاري، بصعوبة، خطواتها المتدفقة في صعودها الخفيف. وقفنا نلهث أمام باب الشقة في الطابق الثالث مثل ملاحَقَين. قرعنا الجرس. كان من المستحيل طبعاً أن لا يفتحوا لنا، لأن أحداً في الداخل، أيّاً كان، لن يستطيع إنكار التوافق على الزيارة، وإن كان بوسعهم أن يُنَطِّرونا على الباب بضع دقائق، وهذا ما فعلوه. فتحت البابَ أخيراً العمّةُ الصغيرة إنصاف بوجهها المفعّس، كأنما، من آثار النوم. أدخلتنا إلى الصالون وغابت في الكوريدور، فألفينا نفسينا وحيدين لبضع دقائق أخرى. جلسنا على الديوانة بدون دعوة أحد، وقد انتابنا شعور تلميذين مذنبين في غرفة المدير الذي تركنا نفكّر للحظات بالعقوبة التي سنتلقّاها بعد قليل. كنا صامتين، ومهذّبين دون أن نقصد، فقد كان لكل شيء هنا، حتى لآية الكرسي على الحائط المقابل وللثريّا المطفأة وزجاجِ النافذة المطلّة على الشارع، سُلطةٌ علينا بدت للحظاتٍ سلطةً لا تُردّ. وعندما بدأت ركبة ليزا تهتزّ إلى جانبي دخلت علينا لينا- كانت قليلةً، نحيلةً، مُحرَجةً جداً من زيارتنا برغم معرفة الجميع بها، وتتلفت من حولها كأنها تبحث عن شرشف ترميه فوق أمها، فلا يلاحظها أحد في المنزل. ثم تضاعف ارتباكها حين سمعْنا أحدَ الأشخاص يفرّغ السيفون في حمام شديد القرب من الصالون. وكانت ليزا قد ابتسمت ابتسامة عريضة في هذه الأثناء، لكنّ قدرة لينا على التحمّل لم تسعفها، كأنما، لتقابلها، ولو بابتسامة كاذبة- ظلّت صامتةً متجهّمةً تنظر إليها كما تنظر إلى فضيحة مكشوفة لا تجلب العار لأحدٍ غيرها، فضيحةٍ تغمرها، مع ذلك، بمحبتها الشائكة بإلحاح، بينما لم تجد حتى الآن ما تُخفيها به عن العيون. وكما لو أن صبرها الصغير، النحيل هو الآخر، قد نفد بسرعة، فاستدارت فجأة، وانسحبت مسرعةً باتجاه الكوريدور.
- لينا!
سمّرتْها ليزا في مكانها.
- سأصلّي.
تذرّعت لينا، بصوتٍ متألمٍ خفيض، دون أن تلتفت.
- صلّي أمامي.
ردّت ليزا بصوت حازم مختنق.
- سآتي بسجادة الصلاة.
استسلمت لينا، وخرجتْ باندفاع أقلّ. ثم عادت، بعد قليل، وقد تسربلت قامتها النحيفة بشاشيّة بيضاء من رأسها إلى كاحليها. وكان بين أصابعها سجّادةُ صلاة فَرَدَتْها فوراً، وقفت عليها أمام القبلة المفترضة وراء التلفزيون المطفأ، وبدأت تهمس دون تأخير بـالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم.
- سوف نفطر معاً.
صرّحتْ ليزا لابنتها.
وكنّا، ليزا وأنا، قد أكلنا، قبل أن نخرج من الكشك، شطيرتي جبنة مطحونة، مع بقايا زجاجة نبيذ مفتوحة منذ الأمس، فلم أفهم الإحباط الذي تدفع ابنتها إليه.
شخصتْ لينا إلى أمها دون أن تقطع صلاتها، ثم أغمضتْ عينيها فجأةً، وركعتْ:
- سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم..
همستْ بصوتٍ مُنفعِل ضعيف. كأن ركوعها الحارّ المتواصل قد أخذها، الآن، مع سربٍ كبيرٍ من بنات صغيرات صالحات مكرّسات للجنّة، إلى مكان بعيد جداً عن أمهاتهنّ السيئات. وما كان للينا طبعاً أن تظلّ هناك حتى نهاية زيارة أمها، لأن ليزا سوف تنتظرها هنا في كلّ الأحوال، فاضطرّت، كأنما، إلى إنهاء ركوعها البعيد الطويل. ثم بدت في الحال مأخوذةً جداً بسجودها الوشيك. وكادت تنزل بجبينها الأبيض الزهيد، بخفّةٍ ولهفةٍ، إلى سجّادتها البعيدة لولا أن الشخص الذي خرج من الحمام، ودخل الآن إلى الصالون، كان جدّتها رئيفة بالذّات، فعلِقتْ لينا بوقوفها المُضني في «سمع الله لمن حَمِدَهْ».
كأن حضور الجدّة بحدّ ذاته قد فاقم من سوء ليزا في رأس لينا البديع، فلم تعد تتصوّر وجود أمها في الصالون حتى الآن رغم صلاتها المستمرّة الصادقة. ثم كأنها حارت بإخفائها قبل أن تلتفت إليها جدّتها، فشخصتْ إليها من جديد، في محاولة يائسة، أخيرة ربّما، لإزالتها بعينيها من على الديوانة. لكنّ ليزا كانت، بالمقابل، موجودةً هناك بإحكام، وبعينين مازالتا تحاصرانها بمحبةٍ لا ترحم، فازداد وجه البنت اختناقاً بالحمرة، وتلألأت دمعتان صغيرتان على رموشها. ثم لم تحملها قدماها، هوتْ فجأةً في سجود سحيق، كأنها فقدت وعيها.
- منذ زمن طويل لم آكل معك.
تظلّمت ليزا للينا بصوت مكسورٍ بإتقان.
- سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى.
ردّدت لينا في سجودها النائي.
- أهلا وسهلا.
قالت الجدة رئيفة مُرحّبةً، بحدّةٍ واضحة، وهي تبالغ بملاحظة دمعتي حفيدتها القائمة، الآن فقط، من سجودها العميق. ثم عقدت حاجبيها الأشيبين، ربما على سبيل تأنيب ليزا ذات القلب القاسي، وهي تجلس أمامها، على الديوانة المقابلة، وتترجرج بشحومها الوفيرة.
- سأصنع لكِ قالب كيك.
قالت ليزا بصوتٍ أعلى من المألوف، لكي تعبّر، على الأغلب، عن تقزّزها من احتفاء الجدة بدمعتي حفيدتها، وعن تَفَهّمِها، في الوقت نفسه، لاستغراق ابنتها في عبادتها، فقد لا تسمع بسهولة من يتحدّث إليها من خارج الصلاة.
- مالك يوم الدين إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
تهدّج صوت لينا الضعيف، وارتعشت شفتاها، وهي تحملق، يائسةً، بأمها.
كانت ليزا قد بدأت تُخرج، من محفظةٍ كانت بيدي، وتضع، على طاولة صغيرة أمامنا، أكياسَ نايلون صغيرة شفاّفة فيها طحين، وبيض مخفوق، وسكّر، وحليب مجفف، وقطعة زبدة، وعلبة فانيليا، ومرطبان عسل صغير. ثم ما لبثت أن لمّتْها كلّها بأطراف أصابعها، ونهضتْ بها لتذهب، كأنما، إلى المطبخ الذي عرفتْه جيداً في ماضي أيامها. لكنها جمدت، فجأةً، في مكانها، إذ قطعت لينا صلاتها أخيراً، وانفجرت بالبكاء.
كان بكاء لينا الحارّ ثقيلاً على رجليها النحيلتين، فترنّحت فوق سجّادة الصلاة، ولم تجهش إلى صدر أحد، بل تراجعت إلى مسند مقعدٍ مجاورٍ استندت إليه، وهي تطمس ملامحها المتشنّجة بكفّيها الصغيرتين المرتعشتين. ثم ما لبثت أن كشفت عن وجهها الأحمر المبلل بالدموع، واستمدّت، كأنما، جسارةً خاصةً من ذيل جدّتها الطويل المزهّر الذي أصبح، الآن، أقرب إلى قدميها الحافيتين المُنَمْنَمتين على سجّادة الصالون.
- جدّتي لا تسمح لك بدخول المطبخ، ولا تريد أن تأتي إلينا!
صرخت لينا بعنفوانٍ صريحٍ قطّعته أنفاسُها المبهورة العالية.
- وجدّك؟؟
اهتمّت ليزا بصوتٍ كامدٍ بارد.
- وجدّي لا يريدك!
ثم همّت لينا أن تضيف شيئاً آخر كالتراب تهيله فوق أمها، لكن البكاء، وربما شعورها بابتسامة جدّتها الصارخة من ورائها، قد خنق الكلمات في فمها المفتوح، فغطّت وجهها اليائس براحتيها الصغيرتين من جديد، وسقطت مقرفصةً في مكانها على الأرض تنتحب أمام المقعد.
- أهلا وسهلا! أهلا وسهلا!
كانت الجدّة رئيفة على الديوانة ماتزال تردّد، بحدّةٍ أقل، وتترعْدَدُ مثل تلّة دهن، وهي تنظر إلى قرون وعل يقف وراء ليزا في سجّادة صغيرة على الحائط.
لكنّ ليزا، برغم كلمات لينا ودموعها، بدت لي مصممةً على دخول المطبخ لكي تعمل الكيك، فكان لا بدّ من تدخّلي.
- لن تصلي إلى شيء- قلتُ- إذا كنت تريدين إغاظة هذا النوع من الجدّات بفطورك مع ابنتك. انظري إليها إنها ماتزال ترحّب بك، ولا تشيل عينيها عن قرون الوعل الذي وراءك. وإذا كنت تخططين لأن تخطفي لينا ذات يوم، وتسافري بها إلى روسيا مثلاً، فالأفضل لك الآن أن تثمّني اعترافها. في الماضي القريب كانت تكرّر أمامك، بمكر بريء، قناعَ جدّتها بكلماتها اللبقة المراوغة وابتسامتها الملغومة وتعاطفها المزعوم. لكنها الآن، وخلافاً لجدّتها الكيّسة بلا توقّف، تعترف لك، بوجهها هي، بأن جدّها وجدّتها يكرهانك، نعم، ولا يرغبان بزيارتك. وهذه بداية الثقة التي انقطعت بينكما بالتدريج منذ انفصالك عن زوجك، ولينا الآن قد منحتك فرصة استعادتها، إنما بالتدريج أيضاً، فلا تسيئي استخدام معلومتها ولا تستثمريها في لعبتك التي أعرف أنك لم تحسميها مع زوجك السابق. اقبلي أخيراً بأنك امرأة استطاع زوجها أن يهجرها قبل أن تهجره. اقبلي بجرحك يا ليزا، تصالحي معه يندملْ بسرعة، وإذا كنت تصرّين على تجاهله واللعب به في الوقت نفسه، فالعبي به كما تشائين، إنما بدون لينا. أشعريها الآن بأن كراهية جدّها وجدّتها لك ستكون سرّاً عزيزاً مشتركاً بينكما، وأنكما، مع هذه المعلومة الغالية والهامة، ستبدوان من الآن فصاعداً كما لو أنكما أم وابنتها لا تفصحان لأحد، أيّاً كان، عما يجول في خاطرهما المشترك الدفين، كأنكما تلعبان معاً في صف واحد مع العالم كله الذي يقع في الصف الآخر. أنت الآن في ظرفٍ يرغمك على استدراج لينا إلى أحضانك كما تُستدرج فريسة حبيبة إلى فخ، فأنت عارها كما فهمتْ واقتنعتْ في غيابك. حسنٌ يا ليزا، كوني عارها إذاً مادمت لا تملكين وقتاً معها لكي تثبتي لها العكس. لا تتملّصي الآن من كونك عارها أرجوك! لا داعي لأن ترعبيها، أنت أيضاً، من هذا العار. ثم إنك تستطيعين في هذا الوقت المتاح العسير معها أن تُحبّبيها به. كوني في عينيها عارها الجذّاب المتفهّم المحِب القادر بلا حدود على المغفرة وطول البال، وعندئذٍ لن يعود حتى لشرف جدّتها الرفيع أيّ معنى محدّد مضبوط، فيبدو الأمر، بالنسبة إليها، كما لو أن ثمة لعباً بريئاً بالكلمات لا أكثر. إنك قادرة على ذلك، فأنت لم تبردي بعدُ في روحها الصغيرة المعذّبة، مازلت تملكين سلطة الطبيعة عليها يا ليزا، فهي ما تزال تحتاج إلى أمّ أكثر بكثير من حاجتها إلى جدّة.
لم تلتفت ليزا إلى كلامي، وقد حزرتْ لينا نيّة أمها في الذهاب إلى المطبخ لتعمل لها الكيك برغم كل شيء، فقامت من أمام المقعد، ووقفت في طريقها.
- جدّتي لا تسمح لك!
صرختْ لينا من بين دموعها بصوتٍ فيه من الرجاء بقدر ما فيه من الإصرار على منعها من التقدّم خطوة واحدة. كأن الكيك الذي أرادت أمها أن تعمله لها لن يبقى سرّاً معيباً في المنزل فقط، بل سيشيع خبره في كل مكان، سيكتشفه غداً، لابدّ، كلّ التلاميذ في المدرسة والأولاد في الحارة والبقّال والخضرجي والزبّال ومعلمة الرياضيّات الخصوصية، وسيعرفون كلّهم، عندئذٍ، أن ليزا، ليزا المرأة المنحطّة، هذه التي سُمح لها أن تقتحم المطبخ لتعمل لها الكيك، إنّما كانت في الحقيقة أمها، فكيف، يا إلهي، ستستطيع لينا، بعد الكيك، أن تموّه علاقتها بليزا، فلا يلاحظها أحد، حتى ولو كان هذا الأحد وعلَ جدّتها في سجّادة الحائط؟؟ لن تسمح لينا لها بدخول المطبخ، لن تسمح!
وكانت ليزا، حتى الآن، تملك نفسها ببرود لافت، كأنها تنفّذ خطتها المجرّبة بنجاح، وواثقة من أنها إذا استطاعت الآن دخول المطبخ فسوف تمسح لينا دموعها من كل بد، ثم تتبعها مثل ابنة مطيعة لتساعدها في عمل الكيك. لكنّ برودها المُحكَم هذا اضمحلّ فجأةً، وبدت لي الآن، برغم عينيها المفتوحتين، أنها لم تعد ترى ابنتها المتشنّجة التي تعترض طريقها إلى المطبخ. كأنها هجست بشيء مباغتٍ مُقلقٍ سيحدث، اللحظةَ، من كلّ بد، فغابت عمّا حولها تماماً، وانفردت بنفسها تصغي إلى هاجسها الغامض فقط، تسبره بحواسها كلّها لعلّها تتبيّن صورته قبل أن يحدث الآن، الآن. ثم خُيّل إليّ أنّها بدأت تلهث في مكانها، فما سمعتْ صراخ لينا المرتعدة أمامها:
- وأنا أيضاً لا أسمح لك بدخول المطبخ، أنا لا أحب الكيك!
ثم في برهةٍ خارقةٍ بدت ليزا كأنها حدّدت الجهة التي سيتجسّد فيها هاجسها المبهم المنتظر، فالتفتت بوجهها باتجاه باب الشقة الذي انفتح فعلاً، وظهر من ورائه زوجها السابق.
- لا أحب الكيك، لا أحب الكيك! كرّرت لينا، وهي تتابع نشيجها العالي، وتخبط سجادة الصالون بقدميها المُنَمْنَمَتين الحافيتين.
أظهر الزوج السابق فوراً أنّه مبهوت من وجود ليزا، وأنه شديد التألّم على ابنته المنتحبة، وأنه، فوق ذلك كلّه، لم يعد يطيق تكرار مثل هذه المشاهد المزعجة في بيت أهله، فغضّن ملامحه بصورة بدا معها مستعدّاً لأن ينهي، في هذه اللحظة، هذه المهازل مرةً وإلى الأبد.
* * *
IV
كانت أحلى أيامنا قبل أن نتزوّج في موسكو– روت لي ليزا ذات يوم- كنت لاحظته في إحدى زياراته لمستوصف الأجانب في البيلوروسكيا حيث كنت أعمل، فانتظرتُ زيارته الثانية. ثم تحيّنت خروجه على الباب، لأجعل نزولنا معاً، على درج المدخل، من قبيل المصادفة. استوقفته بنظراتي المتفحصة، فحيّاني. ثم تمكّنت، حتى نهاية الدّرج، من أن أعبّر له عن ميلي إلى البيرة والرجال الوسيمين. في مساء اليوم التالي تجوّلنا في البارك كولتوري، وشربنا البيرة معاً عند أحد الأكشاك. لم أنقطع، طيلة النزهة، عن الكلام على فروسية الرجال المميزين في تقبّل وجود رجال آخرين لدى من لا تستجيب لعروضهم الغرامية من النساء، فلم يجد مناسبة لائقة لاستدراجي ذلك المساء إلى سريره في مسكن أكاديمية العلوم بِـ التّوبلي ستان- كان في السنة الأخيرة من تحضير الدكتوراه، كما فهمت. عزمني بعد يومين إلى مطعم في شارع أربات، ففضلت أن نقف في طابور طويل لنتناول البِلْمينيه على الواقف في مطعم شعبي قريب من المستوصف- ظنّ أنني أهتم بالثقافة والفلكلور وهموم الشعب، فاقترح علي، من وراء البخار المتصاعد من البِلْمينيه والخلّ، الذهاب إلى المسرح. أشعرته بأنه قد حزرني، وذهبنا. ظللت، طيلة العرض، أضجر طبعاً إلى جانبه، وهو نائم على كتفي، فالذهاب إلى المسرح كان دائماً بالنسبة لي كالذهاب إلى بيت خالتي المُقْعَدة كاتيا والإنصات طيلة الوقت إلى قصص حبها المتشابهة مع رجال لا وجود لهم. بعد بضعة أيام سكنت معه في مسكن الأكاديمية. وبعد ثلاثة شهور تركت مستوصف الأجانب، وصرت أعمل معه بتصريف البضائع السورية وصرف العملة وترجمة وتصديق وثائق دراسية من معاهد ودوائر حكومية مختلفة في موسكو. كان يعجبني أنه، طيلة الوقت، لا يفتح كتاباً، ولا يذهب إلى مكتبة، ولا يشارك في سيمينار، وأنه مشغول دائماً بي وبكلبتي لايكا وببضائعه ووثائقه فقط. في البداية لم يرتح للايكا. لكنها استطاعت، بتشجيعٍ مني، أن تحبّبه بنفسها حتى بدأ يهتم بها، يطعمها، ويتشقلب معها، ويسألني عنها بالتلفون ويرسل إليها قبلاته الهوائية من بعيد. كانت تميّز خطواته ما إن يخرج من المصعد في أول الكوريدور الطويل في طابقنا، فتنطلق إلى باب الشقة الموصد، وهي تنبح نبحات ودودة متلهّفة وخافتة. وحين يفتح علينا الباب ويدخل كانت تسبقني دائماً إلى ذراعيه. وكنّا، أنا وهي، نقضي أتعس أيّامنا حين يسافر. كان يزور دمشق، كلّ أسبوعين تقريباً، ليزوّدنا بالبضائع الجديدة، وليتفق مع دفعة جديدة من مسؤولين حكوميين سوريين كبار راغبين بنيل الدكتوراه الغيابيّة من أكاديميّة العلوم في موسكو. وأحياناً يضطر إلى السفر إلى معاهد دراسية مختلفة في باكو وكيشينيوف ويريفان للحصول على شهادات عليا مستعجلة بأسعار أرخص، وغير مشروطة بأي وثيقة دراسية نظامية من الراغبين بها في دمشق. لكنّ همتي ما فترت قط في متابعة أشغاله من دونه، فقد كان يسعدني أنها أصبحت أشغالي أيضاً. ثم إنني أتقنت المكر التجاريّ بسرعةٍ قياسية، فأصبحت أعرف كيف أحصل، قبل عودته، على أفضل أسعار الصرف، وكيف أقلّل من تكلفة الهدايا التي نقدّمها عادةً للموظفين الحكوميين الروس مقابل الأختام والتواقيع على أوراق المسؤولين السوريين الدراسية، وكيف أُنَفِّق، فوق ذلك، كلّ ما يتبقّى لدينا في شقتنا الصغيرة من الغيارات الداخلية النسائية والمكياج وحبسات الشعر وبنطلونات الجينز وكولونات النايلون والحليّ المزيّفة وكروزات الدخان الأمريكي. وكانت لايكا، إذا طال غيابه، تسيء التصرّف مع زبائننا الطلبة في مسكن الأكاديمية، فتزوم عليهم وتهدّدهم بنباحها من بعيد، بخاصّة إذا كانوا من آكلي الكلاب الفيتناميين، فلا يهدأ لها بال حتى ترى حقائبه الضخمة من جديد مصبّرة على السرير، وفوق طاولة الأكل، وعلى أرض الغرفة، وفي الموزّع، وعلى سطح الغسّالة وفي قلب البانيو. وقد أشعرني، دائماً، بكمال أنوثتي وحاجتي إليه بالذّات كما لو كان رجلي الأول والأخير، أنني، على غير عادتي في ماضيّ القصير كامرأة، لم أكن أحتاج إلى أن أفكّر برجل آخر، حتى عندما كان يسافر.
- أنا حامل.
قلت له بعد أيام قليلة من تخرّجه. وكنت أعني "أريد أن أحتفظ بجنيني منك"
غضّن ملامحه، واعتبر حملي تحديداً إلزامياً مسبقاً لشكل علاقتنا في المستقبل، فلم يقبل باستمراره.
ولم أتوسّل إليه لكي يقبل.
ذهبت من دونه إلى المشفى في اليوم التالي، وأنزلت الجنين. ثم عرفت أنني لن أكون الآن قادرة على العودة إليه في مسكن أكاديمية العلوم، وأنني لم أُخلَق، ربما، لكي يكون عندي رجلٌ أخير، فتذكرتُ أندريه. أندريه الذي أحبني دائماً بلا أمل، ولم أضيّع الوقت، توجهت فوراً إلى محطة القطار، وسافرت إلى كْرَسْنَدار- موطني الأول.
* * *
V
لقد جلس أندريه إلى جانبي على المقعد نفسه في السنة الأخيرة من المدرسة، ولم يعرف كيف يستدرجني إلى عناقه. فيديا فعل ذلك ببساطة، مع أنه كان يجلس ورائي. كنت أكسل تلميذة في الصف طيلة تلك السنة، لأن فيديا بالذات كان يجلس ورائي مباشرة. ولهذا السبب لم أقبل بعدئذٍ إلاّ في مدرسة الممرضات. لم تكن علاماتي الضعيفة تشعرني بالعار أمام أحد، فالمستقبل كله آنذاك لم يكن أمامي على سبّورة الصف، بل ورائي على بوز حذاء فيديا الذي يلتصق بمؤخرة حذائي في كل الدروس. لكن فيديا، برغم حذائه المشغول، ظلّ متفوّقاً، على عكس أندريه الذي صار يكسل معي، هو المتفوّق في كل المواد حتى على فيديا قبل أن أجاوره بالمقعد. أصبح أندريه لا يعطي الإجابة الصحيحة للمعلمة عن الأسئلة التي أُخطئ قبله بالإجابة عنها، لكي لا أظلّ وحدي مخطئة في هذا الجانب من الصف. ثم أصبح يحتاط سلفاً، فيخطئ قبلي، أو بعدي، بكل الإجابات عن كل الأسئلة، لأنه أدرك بسرعة أنني لن أنطق بإجابة صحيحة واحدة مادام فيديا يجلس ورائي. وذات يوم أخرجتني المعلمة من الصف، فوقف أندريه وخرج معي. اندهشت المعلمة. وعندما استوقفتْه على الباب احمرّ، وصمت قليلاً، ثم اعترف لها أمام التلاميذ أنه لا يتصوّر الصف من دوني. من يومها لم تعد المعلمة تخرجني كرمى له. وبعد الدوام كان غالباً ما يمرّ بمنزلنا لكي يقدم لأمي خدمةً، أيّ خدمة، في المنزل أو خارج المنزل. وعندما لا يجدني كان لا يسأل عني، بل يساير أمي وجدّتي بالنميمة، التي تحبّانها، حتى أعود.
مرةً واحدةً قبّلته، كما لم أقبل أحداً في حياتي.
كان ذلك عندما شعر فيديا بالخوف. وكانت الفكرة الرهيبة فكرة أندريه:
- سوف نذهب اليوم قبل منتصف الليل إلى الكنيسة.
قال أندريه ذات مساء، وقد عرفنا بالمصادفة أننا في عشية عيد الفصح. لم نكن نعرف آنذاك ما الذي يعنيه عيد الفصح بالضبط، ولا حتى أندريه، لأن المسيح ذاته لم يكن يعني بالنسبة لنا أكثر من وجوه آبائنا التي تتغضّن عند ذِكْره، كما تتغضّن عندما تمغصهم بطونهم، أو عندما يستيقظون من النوم في صباح الأحد بعد سَكْرة ثقيلة. وعندما كبرنا قليلاً فهمنا أن المسيح عدو الدولة السوفييتية، فنفرنا منه تلقائياً، وصرنا نستمتع بتغضين وجوهنا نحن أيضاً، عند ذكره، لنثبت أننا لم نعد صغاراً.
- حسنٌ يا أندريه سوف أذهب معك.
قلتُ، وكنت أستطيع أن أتجاهل دعوته الغريبة لولا لون فيديا الذي تغيّر فجأة. لقد أردتُ، وانتظرتُ في تلك اللحظة، أن لا يكون فيديا أقلّ شجاعة من أندريه. ولكي لا يتحجج بشيءٍ يمنعه من الذهاب معنا ضغطت على أصابع يده بقوة. لكنّ يده أصبحت فجأةً مثل خرقة باردة في يدي، فعرفت أنه، بإصراره على عدم ذهابه، سيفوّت على حبّنا خطراً رائعاً بحجم الذهاب إلى كنيسة. ثم ساءني، فوق ذلك، أنه لم يخجل من نصحنا بعدم الذهاب لأن كل الطرق المؤدّية إلى الكنيسة، كما قال وكما يمكن أن نُصدِّق جميعاً بالفطرة، تكون ملغومة عادةً بعناصر الكي جي بي.
- سنذهب عن طريق المقبرة.
وجد الحل أندريه.
لم يقتنع فيديا. وكان صعباً عليّ أن أصدق جبنه، فظننت أنه بدأ يملّني، أو أنه بدأ، دون علمي، علاقةً مع غيري من بنات الصف. ظننت ذلك بقوة، لأنه، حتى ذلك اليوم، كان مايزال الفتى الوحيد الذي يجعلني أذوب بين يديه كلما انفرد بي في غرفة أو في كوريدور أو تحت درج أو في مدخل بناية.
حين دخلنا المقبرة، في طريقنا إلى الكنيسة، أعطاني أندريه كفه المرتعشة وتقدّمني. كانت غيوم سوادء كثيرة تحجب، بإصرار، القمر الطالع، والصمت لا يقطعه سوى خشخشة الأوراق اليابسة من تحتنا، وصرير حشرات ضخمة جداً صرنا نتخيلها بسهولة بين مواطئ أقدامنا، تماماً كالأشباح التي بدأت تتكاثر في عيوننا بين جذوع الأشجار والشواهد. لكنّ أندريه، برغم كفّه التي ظلّت ترتعش في راحة يدي، لم يتردد بخطوة واحدة إلى الأمام.
- هل يوزّعون أغصان الصفصاف في الكنيسة عشية عيد الفصح يا أندريه؟؟
سألتُ بصوت متقطع خفيض لأثبت لنفسي وللقبور والحشرات الضخمة والأشباح، أننا، أنا وأندريه، لا نخاف تقريباً. لكن غصناً انكسر فجأة في مكانٍ قريب جعلنا نجمد في أرضنا ونتصوّر دون تردّد أن ما سمعناه الآن لا يمكن أن يكون غصناً بأيّ حال مادام المسيح عدواً للدولة السوفييتية إلى هذه الدرجة. التصقتُ بظهر أندريه، وصرنا نرتعد معاً، وقد أصبح بوسعنا الآن أن نعتبر، ببساطة، شواهدَ القبور عناصر من الكي جي بي تحاصرنا من كل اتجاه. لكنّ أندريه لم يستسلم. خطف نفسه فجأةً، وصار يعدو أمامي بسرعة وثبات، مثل بطل في فيلم أراه وأشارك فيه، دون أن يفلت كفّي من كفّه. كانت الشواهد، في هذه الأثناء، وجذوع الأشجار، والأشباح طبعاً، تجري في أثرنا تماماً. وكنّا، من شدّة رعبنا، نسمع، بوضوح ودون توقف، خبط الأبواط المسرعة فوق الأوراق اليابسة، وتلاطم الأغصان، وخرتشة الهراوات، وربما البواريد. ثم لم نصدّق أننا خرجنا فعلاً من المقبرة حتى وصلنا إلى المنحدر الحجري الحادّ في نهايتها. لم نتعثّر في نزولنا السريع إلى رصيف الشارع العريض المقفر الذي أصبح، وحده، يفصلنا الآن عن الكنيسة. ولم نلتفت طبعاً إلى الوراء لنتأكّد من الموت المحتّم الذي تصوّرناه هناك ونجونا منه بأعجوبة. قطعنا الشارع بلمحة بصر. ثم وصلنا أخيراً إلى باب الكنيسة الكبير العالي نصف المفتوح. وقبل أن ندخل حاولنا، ريثما سكن لهاثُنا الشديد، أن نستوعب، ما أمكننا، الفزعَ الجديد المدهش الذي ما عرفناه في حياتنا أبداً.
كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها إلى كنيسة. استقبلتنا أصوات منشدين بعيدين، وعتمةٌ خفّفَتْها شموع قليلة غير مرئيّة بالنسبة لنا. ثم ميّزنا، من بين الأصوات المُرَنَّمة والظلام الشفّاف، سقالات حديديّةً شاهقةً من تلك التي نراها منصوبةً أمام واجهات الأبنية التاريخية التي يرممونها لفترة طويلة، لكنها الآن كانت تعرقل دخولنا، فاخترقنا قضبانها إلى مدخلٍ مُقَنْطَر طويل. لم تمسّنا هنا قطرة ماء، ولا تبلّلت أحذيتنا به، لكن الماء كان يتقاطر بوضوح من الظلام الكثيف في الأعلى، ويرنّ من حولنا على الأرض في أوانٍ معدنية عديدة لا نراها. لاقانا بعد قليل سدّ عميق من صفوف سقالات أخرى متعاقبة، كان على رؤوسها، هنا وهناك، نيران صغيرة لشموع بعيدة تتراقص وتنير بصعوبة رجالاً منكبّين على أعمال غامضة في السقف الأغبش العالي. وفي عبورنا المتعرّج بين القضبان الحديدية التي لا حصر لها، بدأت تقترب منا أصوات المُنشِدين، ونورٌ جديدٌ ظلَّ يتعاظم في طريقنا تحت السقالات حتى ظهرنا في بهوٍ كبير تضيئه شموع طويلة وتحيط به أعمدة ضخمة. اقتربنا من أشباح قليلة منحنية لمجموعة نساء مسنّات متفرقات واقفات بصعوبة أمام مجموعة منشدين وقورين في ثياب غريبة زاهية. وكان في صدر البهو تمثال مسيح مصلوب تحت غطاء بلاستيكي رقيق مغبرّ وشفّاف. وقفنا أبعد ما نكون عن مكان المنشدين، فكفُّ أندريه كانت قد بدأت ترتعش من جديد في راحة كفي. حاولت جاهدةً، برغم الرهبة التي تلبّستني أنا أيضاً، أن أفهم شيئاً من النشيد الغريب الذي كانوا ينشدونه، ولم أستطع- كانت الكلمات ضخمةً ومنفوخةً بالتنغيم إلى درجة أنني لم أكن أسمع غير حروف ممطوطة ثخينة متداخلة يستحيل فصلها بعضها عن بعض في الفراغ الواسع شبه المعتم المخيم فوقنا. ثم انتبهت إلى أنني صرت أتنفّس بصعوبة عندما انفرد بالإنشاد رجل بدين بصوتٍ شبيه بالرعد القوي المتواصل. وقد زاد من اضطرابي أن رعده الرهيب كان يتفجّر من شفتيه، وفي الوقت نفسه يهبط على رؤوسنا من السقف البعيد المعتم قطعةً متماسكةً ثقيلةً واحدة. ثم لم تمض ثوان معدودات حتى بدت لي حروف المنشد أكبر من فراغ الكنيسة، فضاقت بالجدران، وبالأعمدة العالية من حولنا، وبسقالات الترميم، وبالمنشدين الآخرين، وبالعجائزِ المنهكات من الوقوف، وبي وبأندريه بصورة خاصة. كأن المنشد البدين كان الآن ينتقم منّا على كلّ الغضون التي غضّنّا بها وجوهنا عند ذِكْر المسيح، فلم تترك لنا حروفه العظيمة في فضاء الكنيسة فسحةً للتنفّس- شدّني أندريه من يدي، وعدونا. ضلّلتنا السقالات الحديدية المتشابهة في متاهة صفوفها المتلاحقة، وقد أصبحت الآن الفجوات بين قضبانها المزدحمة أشدّ عتمةً وبرودةً وضيقاً. لكننا لم نتوقف عن الجري في كل ثغرة متاحة أمامنا حتى خرجنا إلى الهواء الكثير الذي غمرنا في الخارج.
انطلق بي أندريه مبتعداً عن باب الكنيسة الموارب باتجاه أقصرِ الطرق إلى حيّنا، لكنّ القمر البعيد الخافت ظهر فجأة من وراء الغيوم السوداء، وأضاء لنا رجلاً يقف إلى جانب عمود كهرباء بمصباح مطفأ، فتسمّرنا معاً في مكاننا. كان الرجل ينظر إلينا حتماً، لأننا لم نكن مستعدّين آنذاك إلا لتفسير فوريّ واحد، وهو أن هذا الرجل كان في انتظارنا نحن بالذات. وكان من المستحيل طبعاً أن نعود إلى الكنيسة التي كان مايزال يرجّها وراءنا المنشد البدين. سحبني أندريه باتجاه المقبرة مرة أخرى. صعدنا المنحدر الحجريّ بحذر وبطء. ثم لاحت في انتظارنا، بعد خطوات مترددة قليلة، شواهد القبور المسلّحة نفسها من جديد، والحشرات نفسها، والأشباح نفسها. لكن أندريه، بدلاً من أن نسلك طريق العودة نفسها، أمسك بيدي، وانحرف بي إلى أقرب شاهدة تكمن لنا في أول المقبرة. اقترب منها بخطى بطيئة كما يمشي المسرنمون، وحطّ عليها براحة كفّه الطليقة. ثم مدّ سبّابته المرتعشة إلى اسم الميت وصار يمرّرها فوق سطح حروفه الحجريّة البارزة حرفاً حرفاً.
- أغصان الصفصاااف لا يوزّعووونها في عيد الفصح.
قال بصوت مبهور خفيض، كما يُهجّي كلامه على الشاهدة.
- إذاً في عيد الميلاد؟؟
همستُ، وأنا ألتصق به.
- ربما في أحد الشعانين.
أجابني، وهو يتحقّق من متانة الشاهدة على ظهر القبر بهزّة مفاجئة قويّة. ثم التفت نحوي بوجه مشوَّش وشفتين مرتعشتين:
- في أحد الشعانين!
أكّد، ثم عصر كفّي بكفّه، وشدّني مثل أخت صغيرة إلى طريق العودة الرهيب. خطا بي عدّة خطوات سريعة، ثم توقّف فجأةً:
- في أحد الشعانين يوزّعون أغصان الصفصاف!
صرخ، وهو ينظر، بغضبٍ ساحر، إلى الشواهد والأشباح والأشجار التي تحاصرنا من كل جانب.
- ونحن، أندريه وليزا، كنا الآن في الكنيسة بعشيّة عيد الفصح. وكانت التراتيل جميلةً جداً!
اعترف أندريه لهم جميعاً، متابعاً غضبه العالي.
- التراتيل كانت جميلة جداً!
أكّد اعترافه مرةً أخرى بكل ما في صوته من قوة، وهو يختلج بكلّ كيانه.
لم أتمالك، عندئذٍ، يديّ أكثر من ذلك، فطوّقتُ جسده الهائج بذراعيّ. بدا لي الآن، في اعترافه الغاضب وازدرائه الشواهد المسلّحة والأشباح والحشرات، أجمل فتى عرفته في حياتي. شعرت أنني أستطيع، وينبغي عليّ، أن لا أتركه وحيداً في شجاعته المخيفة، فصرت أغمر شفتيه وأسنانه ولسانه بقبلٍ متلاحقة كثيرة، بينما كانت دموعه الحارة تسيل على وجهي، وقد أصبح الآن يتابع صراخه في فمي:
- والمسيح المغبرّ المغلّف بالبلاستيك قد أعجبنا أيضاً، والمنشد السمين نفسه كان صوته قويّاً مثل صوت الرب.
ثم استطعت أن أغلق فمه تماماً بشفتيّ، فكرّر في حلقي:
- مثل صوت الرّ..
ثم سكت، وصار يبادلني قبلةً طويلةً، ساخنة، مبللة، مالحة، لن أنساها.
بعد ذلك صمتنا طيلة الطريق مثل مذنبين، وكانت يده قد انسحبت من يدي قبل أن نخرج من المقبرة.
في اليوم التالي لم يظهر أندريه في بيتنا برغم أن اليوم كان الأحد. ثم لم يظهر في يوم الاثنين إلى جانبي على مقعد الصف. اعتقد فيديا أن أندريه غاضب مني لأنني لم أذهب معه إلى الكنيسة عشية عيد الفصح.
- بل ذهبت معه.
اعترفتُ وأنا آمل، في قلبي، أن يكون أندريه قد أقدم، في غيابه عن المدرسة، على شيء فظيع من أجلي. تلفنت له من منزلنا بعد نهاية الدوام، ثم في صباح اليوم التالي، وفي المرّتين أخبرتني أمه بأنه نائم. لكن صوتها البارد جعلني أظن أن أندريه ليس على ما يرام. وكان من غير المعقول أن نحتفل من دونه بـ"عيد النصر على الفاشيّة" الذي صادف في ذلك اليوم، فذهبت إلى بيت أهله في المساء. دائماً كان النصر على الفاشيّة وثورة أكتوبر وأول أيار، وكل الأعياد الوطنية الأخرى، مناسبات لا تُفوّت، بالنسبة لنا، للغياب من المنزل فترة طويلة دون أن نسمع الملامات المملّة من الأهل. إن الأهل أنفسهم ينشغلون عن المنزل، في مثل هذه الأيام، بالمسيرة المضجرة في النهار، وبسُكْرهم المنتظر مع أصدقائهم في الليل. وكانت جدّتي تُمضي معظم أيّامها عندنا، فاستللت منها مفتاح شقتها، لأستمتع فيها بالنصر على الفاشيّة مع زملائي في الصف فيديا وأندريه وناتاشا ولوسيا والبدين غريشا والخراء اليابس أركاشا وصديقته مانيا النزيهة.
فتحت لي أم أندريه الباب. ورغم أنها كانت منهمكة حتى أذنيها بإعداد مائدة العيد، فقد أسعدني أن أراها تخصّني لأول مرة بتقطيبة سريعة بحاجبيها قبل أن تعود إلى المطبخ. كانت تعرف أن ابنها مغرم بي. إذاً لم يُخيّبني أندريه، توقعتُ. ومع أنني كنت واثقة من أنني لن أتخلّى عن فيديا أبداً، فقد شعرت، وأنا أنقر بأصابعي باب غرفة أندريه، بأنني أتنفس بصعوبة من شدّة حبّي له. كنت أستطيع أن أهجم عليه وأغمره بذراعيّ وقُبلي قبل أن يفتح الباب، لكنني لم أعرفه عندما فتحه. بدا، من شدّة نحوله وشحوبه، كما لو أنني لم أره منذ فترة طويلة، فلم أعرف كيف أسلّم عليه. ثم لم أفهم الدهشة والمفاجأة في عينيه الشاخصتين بي، كأنني نبقت أمامه من تحت الأرض. أمسك بكمّي بأصابع رفيعة مترددة، وشدّني برفق إليه ليتأكّد ربما من أنه لا يرى شخصاً آخر. اقتربت منه حتى أصبحت أشعر على شفتيّ بأنفاسه السريعة الحارة المسموعة. وعندما همستُ قرب فمه تماماً ما الذي فعله بنفسه في اليومين الماضيين بدا كأنه لم يتوقّع صوتي.
- أندريوشا!
هتفتُ، وأنا أحضنه وأقبّل جبينه وعينيه وأذنيه قبلاً كثيرة وقصيرة.
- ستذهب معي الآن- تابعت همسي وقُبلي- الشلّة كلّها تنتظرك هناك، في شقة جدّتي، وسيكون كل شيء على مايرام.
نظر في عينيّ مباشرة، وبدا لي مثل خائف على نفسه، أو عليّ.
- هيّا!
قلت، وأمسكت بيده وخرجنا، كأنما، بصعوبة، ربما لأن أندريه ظل متردداً متثاقلاً حتى باب الشقة، وربما لأن أم أندريه مدّت رأسها من باب المطبخ، وظلّت تراقبنا من مكانها حتى حجبتنا عنها خزانة الكتب.
- لا تفلتي يدي، أمسكيها بقوة!
نطق أندريه أخيراً على درج البناية بصوت لا يشبه صوته كثيراً. ثم كانت خطواته في الشارع أبطأ من خطاي، وعيناه لا ترتفعان من الأرض، فشعرت، كما لم أشعر أبداً، بأنني أجرّ ورائي إبناً ضخماً أعمى إلى حمّام لأعطيه حقنة بالأعشاب. جاءني الضحك، وأردت أن أداعبه بمتى كانت المرّة الأخيرة التي سحبتك أمك فيها إلى الحمام لتملأ مؤخرتك بالبابونج والماء الفاتر. لكن وجهه الشاحب المضطرب منعني من ذلك، فظللت صامتة حتى وصلنا إلى شقة جدّتي.
عبّرت الشلة كلّها، بصخب بالغ، عن استياء زائف من أندريه الذي يتغيّب عن المدرسة في يوم الإثنين، ثم يحتاج في يوم الثلاثاء لفتاةِ شخصٍ آخر تأتي به من البيت لكي يحتفل في بيت جدّتها بالنصر على الفاشية. لكنهم، حين تسنّى لهم رؤية أندريه بشكل جيّد، لم يعرفوا ماذا يفعلون بصخبهم، فهمد استياؤهم الكاذب بسرعة. ثم استطاعوا أن يجاملوا أندريه بابتسامات خفيفة زائدة، وأحياناً بأسئلة ليسوا بحاجة إلى إجاباتها التي لم يتلقّوها منه على كل حال. لكنهم سرعان ما تحرروا، ما عداي، من أندريه، وشحوب أندريه وعينيْ أندريه الغائرتين، حين أصبحت الطاولة جاهزة، وبدؤوا بكرع الفودكا.
وكان لابدّ لغريشا البدين أن يعبّر كالعادة عن نشوته بعملٍ يندم عليه، فقام ورفع نخب النصر على الفاشية بوقار مسرحيّ مستعار لم يدم طويلاً، فقد خلع بعد ذلك فردة بوطه الثقيل ورمى بها في الهواء، فتساقطت على الفور حبّات كريستال من ثريّا جدّتي القديمة في الصالون. قهقه الجميع ما عدا مانيا النزيهة، لأن الكريستالة الصغيرة، التي سقطت في كأسها، ضاعفت من غيرتها على ثريّات الآخرين، فبادرت ووبّخت غريشا البدين بنزاهة حادّة. وكانت فردة البوط قد نزلت على ظهر التلفزيون المشغول، على الصامت، بإعادة العرض العسكري الذي جرى صباحاً في الساحة الحمراء بموسكو، بينما استقرّت حبّات الكريستال فوق صحن المرتديلاّ وفطائر الملفوف وغطست في إبريق العصير وانغمرت بمايونيز السلطة بين حبّات البازلاّء والجزر ومكعّبات البطاطا واللحم المسلوق.
شرب غريشا كأساً إضافية على سبيل التخفيف من نزاهة مانيا، ثم قام من جانبها، ووقف ورائي. وكنت أعرف أنه يستعدّ الآن لأن يعتذر مني على نثره حبات الكريستال فوق رؤوسنا.
- كنا نستطيع جميعاً أن نفعل ما فعلته ياغريشا!
هتفتُ قبل أن يُكوّم فوقي كلماته المستعطفة. ثم تملكتني فجأة رغبة كبيرة في أن أتأكّد أمام الجميع من أن شحوب أندريه إنما هو من أجلي أنا، فأعلنتُ، وأنا ألتفت إليه، بصوت رنّان:
- حين سيأتي دوري سأرفع نخب فيديا.
- وسيتمكّن أندريه بعد ذلك مباشرة من أن يخلع فردتَيْ حذائه معاً ويحطّم بهما رأسه.
علّق الخراء اليابس.
- أزعر!
لفظتها لوسيا في وجه الخراء اليابس، وهي تنتظر بطرف عينها ردّاً حادّاً من أندريه.
لكن أندريه بدا لي، في تلك اللحظة فقط، أنه لم يكن ينتبه إلى كلّ ما جرى وقيل منذ ظهوره في الشقة.
- غريشا عد إلى مكانك أرجوك!
صرختُ، وأنا أشعر بأن غريشا لم يعد واقفاً وراء ظهري، بل يجلس فوق رأسي.
- أمّا أنا فسأرفع نخب أندريه.
قالت لوسيا فحأةً برأس مرفوع.
- انتبااااه! الكلمة الآن للوسيا!
قرّر فيديا.
- ليس دورها.
احتجّت ناتاشا التي أنهت لتوها صحنها الثالث من السلطة بينما كانت تنظّف من المايونيز كريستالة في فمها بحجم لوزة.
- الكلمة للوسيا!
أكّد فيديا بصوته عندما يناكد أحداً.
وقفت لوسيا وفي يدها قدح فودكا. وكنت متأكّدةً من أنها لا ترفع نخب أندريه محبةً به، بل لأنها لم تكن تريد أن تجد نفسها في آخر السهرة بين ذراعيْ البطين غريشا، فكان عليها أن تحاول استمالة أندريه قبل أن تفرغ ناتاشا من صحن السلطة الرابع.
كانت ناتاشا أجمل منها.
- أنا أعرف أن أندريه يفضّل لو رفعت ليزا نخبه بدلاً منّي- بدأت لوسيا- ولكن ماذا أفعل لك يا أندريه إذا كانت ليزا سترفع نخب فيديا بعد قليل؟
ثم لم تكمل، فقد نهض أندريه فجأةً، وقال بوجه مهموم وصوت خفيض كأنما لنفسه:
- يجب إنقاذ ليزا!
ثم توجّه بسرعة إلى الكوريدور الضيق الذي يأخذ إلى الحمام.
سكت الجميع، وقد التفتوا إليّ مبهوتين. لم تجرؤ لوسيا على اللحاق بأندريه عندما وجدتْني أتبعه. وريثما وصلتُ إلى باب الحمام كان أندريه قد أقفله من الداخل.
- أندريه!- همستُ من وراء الباب- أندريه! افتح الباب!
- يجب إنقاذ ليزا!
ردّ أندريه من وراء الباب بصوت غريب سمعته بالكاد. ثم لم أعد أسمع شيئاً بعد أن تكوّمت الشلة ورائي بلغطها عمّا أصاب أندريه.
لم يفتح أندريه.
ثم جاءت أمه على أثر التلفون الذي تبرّعت به حالاً مانيا النزيهة دون علمنا. دحم البدين غريشا باب الحمّام، فانشقّ على أندريه المقرفص في البانيو.
في اليوم التالي أخذوه إلى المصحّ. وعندما خرج من هناك، بعد شهور، كنّا في استقباله عند المدخل أنا وغريشا البدين ومانيا النزيهة والخراء اليابس ولوسيا وناتاشا. لم يكن معنا فيديا، فقد انتقل مع أسرته للعيش في مورمانسك قبل ذلك بثلاثة أسابيع. وكنا في هذه الأثناء قد أنهينا جميعاً الصف الأخير في المدرسة باستثناء أندريه الذي أنهاه بعد عام عندما كنت أنهي بصعوبة سنتي الأولى في مدرسة التمريض بموسكو.
* * *
VI
نعم، لقد خنته مع أندريه. أردت بقوة أن أحقق، الآن بعد إجهاضي، رغبة أندريه القديمة بي. وكان في السنوات التي قضيتها في موسكو قد تزوج من لوسيا في كْرَسْنَدار، فذهبت إليهما في شقتهما الصغيرة بعد فترة قصيرة من وصولي. عندما فتح أندريه الباب لي فهمتْ لوسيا، على الفور، أن سَنَتَيْ زواجها منه لم تمحوا قصة حبّه القديم لي. بدوتُ فرحةً بزواجهما، كما لو أنهما لم يغدرا بي. وحين فتح أندريه زجاجة فودكا رفعتُ نخبهما دون أن أشعر لا بكذبي ولا بثقل وجودي على لوسيا- بدت لي ذكيةً جداً باحتفائها غير المتكلّف بي. لكنني لم أفهم كثيراً وجهها الذي ظلّ شديد البشاشة حين عادت ذات مرة من المطبخ، ووجدتْ أندريه ملتصقاً بي على الديوانة ورأسه فوق كتفي، فأخذتْ شيئاً من على الطاولة وعادت إلى المطبخ. وحين رجعتْ ثانيةً إلى الغرفة لم أنتبه إلى وجهها، فقد كنت مغمضة العينين أتبادل مع أندريه قبلة طويلة وعميقة. لكنني شعرتُ، حين جلستْ إلى جانبي من الطرف الآخر، بأصابعها في شعري وعلى رقبتي ثم على طول ظهري. التفتّ إليها- كانت تنظر إليّ وتقترب مني بشفتين شهيّتين منفرجتين، وقد بدأت يداها، بحنانٍ لا يُصدّق، تفكّان أزرار قميصي، أزرار قميصي التي تصبح كثيرةً جداً في مثل هذه اللحظات. كانت لوسيا أكثر رقة ودراية من أندريه. جسدي مايزال حتى الآن يتذوّق براعة أصابعها- تعرف أين تضعها وماذا تفعل بها وكيف ومتى، ولسانها- تعرف أين تضعه وماذا تفعل به وكيف ومتى. لكنهما، معاً، كانا يعترفان بحبهما القديم لي بهمسات حميمة مبهورة حارّة، فيما يتقاسمانني بنهم، ويتبادلان أعضائي بغيريّةٍ ومحبّةٍ ورضا. وكنت، في أثناء ذلك كلّه، لا أتوقف عن الشعور به دون غيره، وهو في موسكو، كلما أوصلاني إلى حافة النشوة. كنت أشهق بينهما من اللذة، وأنا، الآن فقط، أغفر لحبيبي البعيد، أغفر له جنيننا الذي تركته في سطل نفايات مشفى التوليد في موسكو مرةً أخرى وأخرى وأخرى. كنت في حاجة ماسّة إلى أن أغفر له مراتٍ عديدةً من بلوغي النشوة مع أندريه ولوسيا، لكي أستطيع العودة إليه، ورؤيته من جديد. وهكذا كنت مشتاقة إليه كثيراً بعد الليلة التي قضيتها بينهما منهكةً من اللذّة إلى درجة أنني بكيت في الصباح بلا سبب، فيما كنا نحتسي القهوة معاً في المطبخ.
عدت إلى موسكو في اليوم نفسه مثل ولد ضال. وكان حبيبي، فوق ما توقعت، يتلهّف إلى لقائي، فقد اشترى خاتمَيْ زواجنا، مقّرراً في غيابي، أنه لن يعود إلى سورية من دوني.
* * *
VII
- الأغراض التي أرسلتَها إليّ، بعد أن لفّقتْها عاهرتك الشرعية على كيفها، ناقصة- انفجرت ليزا تصرخ مثل ممسوسة في وجه زوجها السابق الذي كان مايزال عند الباب- أنت لم تتصدّق بها عليّ لكي تتصرّف بها. نصّية الفرو لم تأت بها من بسكليتات أبيك لكي تدسّها في مؤخرة عاهرتك الجديدة، وكذلك طقم البشاكير الذي أرسلته أمي، وغطاء السرير المشوّف.
وفي حقيقة الأمر فإن ليزا، بصراخها المباغت هذا، قد مسّكتْ زوجها السابق، في هذه المرة أيضاً، ما كان، عادةّ، يحصل عليه منها من مسوّغات تُظهره بصورة المجني عليه، فلا يُلام الآن على فورة غضبه. وقد حزرتْه لينا حين تقدّم من أمها مثل مُحَرَّر من قيد ثقيل، فتراجعت تلتصق بالمقعد مرعوبةً سلفاً مما ستشهده الآن، وهي تكمّم فمها بيديها على بكاء خافت متقطّع ومتلاحق.
- وسوتياناتي، وكيلوتاتي، حتى أصابع التامباكس التي أرسلتها خالتي بالبريد أخفتها عاهرتك لتموّه عليك دورتها الشهرية النتنة.
لطمها زوجها السابق على فمها، فسال خيط دم رفيع من شفتها. ثم لم تسقط على الأرض حين تلقّت على عينيها اللطمة الثانية، فقد مالت إلى الوراء، وقبل أن تهوي على ظهرها وازنتها على قدميها قبضته القوية التي أطاحت رأسها إلى الأعلى.
- لن أخرج، لن أخرج من هذا البيت بدون أغراضي كلّها.. كلّها.
ثم لم تعد ليزا قادرة على التماسك تحت ضرباته المتلاحقة، فسقطت من طولها على الأرض. وكان زوجها السابق قد فَقَدَ سيطرته تماماً على هياجه، فجعل الآن يعجنها بأربعته. لكنّ ليزا لم تكفّ عن صراخها حتى تكوّمت أخيراً هامدةً مثل جثة، بعد الرفسة الأخيرة التي تلقّتها على بطنها.
ابتعد زوج ليزا السابق عنها، وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة. ثم نظر إلى أمه المُتلّلة على الديوانة، مستفهماً ربما، بعينيه الزائغتين الحمراوين، عمّا ينبغي عمله الآن مع ليزا الخامدة. وكانت أمه ماتزال تحتفظ بابتسامتها الفاترة التي شقّتْها له، سلفاً، على طقم أسنانها الاصطناعية، فلم تجد ما تُضيفه عليها الآن.
نهضتُ من محلّي، واقتربت من ليزا. جثوت على ركبتيّ أمام رأسها المُنَفّخ، وانحنيت فوقها. لمست، برؤوس أصابعي، الازرقاق الواسع المنتبج حول عينها اليسرى وخدّها الأيمن، وقلتُ:
- الأهم من كل شيء الآن أن اعتداء زوجك السابق عليك بهذه الهمجيّة قد حسّن، لابدّ، من صورتك في عينيّ لينا. اسمعي! إنها الآن لا تبكي منك بل عليك، وهذا شيء جيد برغم فظاعته. كنا قبل قليل سنخرج بنتيجة أسوأ بكثير. لكن الفظاعة يا ليزا، الفظاعة كيف سننساها؟؟ أعني كيف سنمحوها من رأس لينا بحيث تحافظين على التحسّن الذي طرأ على صورتك هناك، إنما دون دماء على وجهك، ودون أن تكوني مكوّمة أمامها مثل قتيلة؟ يجب أن نفكّر جدّياً ياليزا، غداً أو بعد غد، بطريقة تجعل لينا تشعر بأمومتك دون أن تتعرّضا أنتما معاً إلى إهانة بهذا الحجم. يجب أن نفكّر بطريق أخرى أكثر أمناً تُعيدك إلى قلبها الصغير، لأن من غير المعقول أن تكون وحشيّة زوجك السابق السبيل الوحيد لأن تستعيدي اعتبارك في عينيْ لينا. أما إذا كنت ستصرّين دائماً على اختراع أغراضك الناقصة لكي تستشهدي بين يديه من جديد، فإنني أتفهّم حاجتك لملامسته حتى بهذه الطريقة الدمويّة، إنما، مرةً أخرى أقول، أخرجي لينا من لعبتك الطويلة البائسة معه يا ليزا، أرجوك!
ثم كانت ليزا خفيفةً وليّنة بلا حدود حين حملتها مع حقيبة يدها. تدلدلت رأسُها من فوق ساعدي مع شعرها السبط الطويل، وناست يدُها اليمنى وقدماها بصورة ساحرة برغم وجهها المتورّم الملطّخ بالدم. كانت كأنها تبذل ما بوسعها لتبدو أخّاذة من الزاوية التي ينظر إليها الآن زوجها السابق، فخيل إليّ أنها تتخذ الوضعيّة الأجمل في نظره طيلة تقدمي البطيء بها نحو الباب. ووجدتني، في أثناء ذلك، أتكيّف في حركتي مع غايتها، فأُطلّ بها على زوجها السابق بأكثر بوزاتها فتنةً عندما تكون محمولةً وملطّخةً بالدم ومغمىً عليها بين يديْ رجل مثلي. ولم أتوقّف عن مطاوعتي لها حتى لمحتُ لينا عند الباب. كانت ماتزال تبكي بكاءها المتلاحق المبحوح، لكنّ ما أشعرني بغبطة ما توقّعت أن أتلقّاها في اللحظة الأخيرة هو أنها كانت تعاملني الآن بنظرة أهليّة حميمة إلى درجة أنها لم تكن تتحرّج من دموعها أمامي، كما لو كنت خالتها المفضّلة بعد أمها التي فارقت الحياة منذ قليل. ثم قبل أن تفتح لنا الباب مسحت لينا وجهها الباكي بشاشيّة صلاتها، كأن الوقت قد حان لتهمس بكلمتين أخيرتين جدّيّتين في أذن أمها التي تغادرها الآن إلى الأبد. لكنها لم تنبس بحرف، بل فتحتْ لنا الباب، وأظهرت لي ملامح ناضجة رزينة لفتاة أكبر من عمرها قد تصالحت لتوّها مع مصيبتها القائمة. تريّثتُ في العتبة لأمنحها فرصة أخيرة لِلَمس أمها، أو على الأقل لكي أشعر بكفّها الصغيرة على ظهر جاكيتي. لم تفعل أيضاً.
خرجتُ بليزا إلى فسحة الدرج. وإذ طُبق الباب وراءنا برفق شديد، كما يُطبق على ميّت في سرير أو على طفل نائم أو على كارثة منتهية، فتحت ليزا عينيها المتورّمتين، ونزلت من بين ذراعَيّ بِجدّيّتها عندما تقلب صفحة مسددّة في دفتر ديون الزبائن. ثم انفصلتْ عنّي، وهي تعرج باتجاه الدرج، فعرضتُ عليها أن أحملها من جديد. رفضتْ، لأنك إذا حملتني لن أفعل شيئاً طوال اليوم، وأمامنا شغل كثير. قالت، ثم أخرجتْ مرآة صغيرة من حقيبة يدها، ومنديلاً أبيض رطّبت طرفه بلعابها، وصارت، وهي تنزل الدرج، تمسح، ما أمكنها، الدم عن شفتيها المنتفختين، كما لو أنهما شفتا امرأة أخرى. وعند باب البناية سألتني عمّا إذا كنت قد أعدتُ معي أكياس الكيك الصغيرة التي كانت قد بدرتْها على الطاولة، ثم استدركتْ، قبل أن أجيبها بالنفي، بأنها لن تفسد عندهم على كل حال، سوف يضعونها في البرّاد، وسوف أعمل الكيك للينا في الزيارة القادمة.
وكان علينا الآن أن نذهب إلى دورة الفوتوشوب في شارع الباكستان.
* * * * *
ما حدث البارحة في منزلي
I
مشكلتي الأولى مع زوجتي هي إيمانها الذي لم يتزعزع، منذ وعت الدنيا حتى الآن، بأنني، ذات يوم، سأقوم بانقلاب عسكري، وأصبح رئيساً مُنتخباً مدى الحياة للجمهورية العربية السورية. في أيام خطوبتنا حاولتُ إزالة هذه الفكرة المقززة من رأسها إذ كانت تنغّص عليّ، آنذاك، حتى أصابعها حين تعبث بشعري. إلاّ أن الفترة العاصفة الأولى من حبّي لها جعلتني، شيئاً فشيئاً، أراهن على أن عيشها معي سوف ينتزع حتماً هذا الوهم من رأسها، فأنا، في واقع الأمر، لا يمكن أن أوحي لأحدٍ أياً كان، لا من سلوكي ولا من دخلي الشخصيّ المنظور ولا من طبيعة علاقتي مع العالم، بمسوّغٍ واحدٍ لهراءٍ من هذا النوع. لكنْ تأكّد لي، مع مرور الوقت، أنني لا أجني إلا جرحَ مشاعرها ووجعَ رأسي في كل مرة أعبّر فيها عن ضيقي الشديد من مستقبلي الخانق الذي أصبحتْ تحاصرني به في عيشنا المشترك.
أنا، الآن، لا أعرف، على وجه الدقّة، ما إذا كنت أحب زوجتي إلى درجةٍ أطيق معها هذا التعذيب اليوميّ، لكنني أعرف، تحديداً، أنني أحب ملامستها، أينما التحمتُ بها، بين أيّ انثناء، فوق أيّ انحناء، وفي أيّ عمق من أعماقها. كنت أستطيع، ومازلت، أن أقطع فجأةً أيّ ضرورة، أيّ موعد، وأيّ عمل، وأعود إلى المنزل خصيصاً لألامسها. ورغم أنها، دائماً، تحزّ روحي، في أثناء ذلك، باحترامٍ ورهبةٍ يفرضهما عليها مستقبلي الدمويّ الذي تتصوره، فإنني ما تخلّيت قط عن لمسها بكل ما أملك من مشاعر وأخيلة وأفكار. كانت أفكاري، وما تزال، تساعدني في لمسها، فيحدث جديداً غاوياً في كلّ مرة. وكان لمسها، وما يزال، يوضّح أفكاري، فأكتشف أشياء ما عهدتها في ما عرفتُ وخبرتُ، في أبطال الروايات والمسرحيات واللوحات المفضلة لديّ، وفي الناس الذين أخالطهم أصدقاء وغير أصدقاء، وفي الحيوانات والطيور والحشرات التي أحب مشاهدتها كثيراً في التلفزيون أو في حديقة الحيوانات بالحي الروسي. لكنّ إدراكَها لمقدار ما يعنيه لمسُها بالنسبة لي لم يدفعها قط إلى أن تتمنّع عنّي لتخضعني، في كلّ مرةٍ أقترب منها، لانقلابها العسكريّ الدفين. كانت لا تتردّد في منحي نعومتها الهنيئة، بالسلاسة نفسها والاحترام نفسه والرهبة نفسها، كما لو أنني، في كلّ مرة، قد حدّدت لتوّي ساعة الصفر لتحقيق إيمانها القديم بي.
وكان بإمكاني طبعاً أن أستمرّ، بلا كلل وإلى النهاية، بمناعتي العنيدة أمام هذا الإيمان التعسفي لولا أنّ زوجتي صارت تُصاب بنوبات كآبة شديدة أقلقتني عليها كثيراً- صارت أحياناً تنفجر بلا سبب في بكاء يطول، أو تسجن نفسها في غرفة النوم طيلة النهار دون طعام أو شراب، أو تشرد طويلاً في ياقة قميصي ثم تتركني وتركض إلى غرفة ثانية أو إلى الفيراندا، بينما أنتظر منها ردّاً على سؤال ملحّ. لقد وجدتُني أمامها، والحال هذه، مرغماً، يوماً بعد يوم، على محاباة مستقبلي القذر من أجل أن أستعيد طلاقة ابتسامتها وألق عينيها وسلاسة بشرتها الحبيبة. وبالفعل ما كنت لأتصور أن أضحّي لحظةً واحدة بكل تلك الهناءات لمجرّد فكرة لا معقولة مقيتة تربّت عليها. ولابد من الاعتراف هنا أنّ محاباتي الاضطراريّة تلك قد رتّبتْ عليّ، بالمقابل، أسلوبَ حياة في المنزل لا يُطاق كان عليّ أن أُمرّره بأقل الخسائر الممكنة من أجل عيشنا المشترك. ثم سرعان ما تبيّن لي أن إنقاذها من الكآبة والإحباط عمليّة بلا نهاية ولا سقف، فكان عليّ، قبل كل شيء، أن أزداد تكتّماً على عملي في ورشة صديقي عبدو الذي بدأ قبل أعراض كآبتها الشديدة بفترةٍ طويلة، وأن أراعي في حياتي اليومية، عندما أكون تحت ملاحظتها المباشرة، بعض الضرورات والمحاذير- أن لا ألبس، مثلاً، البذلة نفسها في يومين متتاليين، وأن لا أجلس ببرنس الحمّام في صالة الضيوف ولو كنا وحيدين في المنزل، وأن لا أسمح لنفسي بدندنة أغنية، أياً كانت، وأنا في طريقي من وإلى الحمام أو غرفة النوم، وأن لا أُتيح، بأيّ حال، للخادمتين، اللتين وجدتُهما أمامي مع أثاث المنزل، فرصةَ طرح الأسئلة عليّ، وأن أُكثر ما استطعت من الابتسامات مع الضيوف وأقلل ما أمكن من الكلام معهم في حدود اللياقة الصارمة، وأن أقاوم رغبتي الخاصة أحياناً بتلميع الحنفيّات وقبضاتها في المطبخ والحمّام أو بتحريك الخضار على النار أو بغلي يانسوني الخاص قبل أن أنام. وكان، طبعاً، لا مفرّ من أخطائي الكثيرة نتيجة جهلي المطبق بسلوك زعماء الانقلابات المنتخبين مدى الحياة في خلواتهم الخاصة مع نسائهم الشرعيات. وبرغم تكيّفي، أو خضوعي لحرْفيةِ تقييدي بأصول تلك الخلوات، كانت تحيّرني مصادر زوجتي عنها- من أين استقتْها، وكيف سطتْ عليها بحذافيرها لتطبّقها عليّ سلفاً بكلّ هذا الإخلاص وهذه المسؤولية. وقد أصبح ذلك يضعني في مواقف غريبة تجعلني، أحياناً، أشعر بأنني أعيش في فيلم كرتون، فأنفجر من الضحك. ثم شيئاً فشيئاً تعلّمتُ، لكي أتحمّل أوهام زوجتي، أن أحول الأمر إلى مجرّد عبث مسلّ، فأتجنّب قدر الإمكان، على حدّ بين الجدّ واللّعب، ما أظنّه سيعكّر نعومة جلدها عليّ وسيخلّ، من كل بد، بشروط سلوكي الذي يريحها بصفتي رئيساً أبدياً مقبلاً شئتُ أم أبيت. صرت، على سبيل المثال لا الحصر، أُأَجّل قضاء ضرورتي في الحمّام إلى آخر الليل حين أتأكّد من استغراقها في النوم، لأنني لاحظتُ أنها تتكدّر لعدّة دقائق كلّما شاهدتني خارجاً من هناك. فكّرتُ أنها، ربما، لا تريد أن تصدق أنّ شخصاً مثلي يمكن أن يفعلها مع كل السياسات الحكيمة التي سأنتهجها في المستقبل، وكل الأعداء الداخليين الذين سأستمرّ بالتخلّص منهم بلا رحمة إلى آخر يوم في حياتي، وكل الأعداء الخارجيين الذين سأكسبهم عن جدارة عاماً بعد عام. وكان أكثر ما يسعدها، ويضحكني منّي طبعاً، جلوسي إلى طاولة الطعام كما لو أنني في اجتماع مع وزراء لست راضياً عنهم، فآكل وأنا أتجهّم وأستغرق بالتفكير حتى نزول الفواكه والحلويات. وعندئذٍ أستطيع أحياناً أن أرسم ابتسامة باردة على فمي، أو أن أحكّ حاجبي بخنصري، كما لو أنني توصّلت أخيراً إلى حلّ المعضلة، التي تؤرقني، بتقديم أحد وزرائي المفترضين من حولي إلى المحاكمة بتهمة الفساد، أو الاتصال بدولة شقيقة دون توجيه مني. كأن إرهابي المفترض القادم كان يغمر زوجتي سلفاً بمتعة أقرب ما تكون إلى بلوغ النشوة الجنسية، فكلّما اقتربتُ أمامها من نموذج السفّاح الذي في رأسها كانت عيناها تلتمع ببريق برّيّ أخّاذ، وهي تبدي لي سعادة العبدة المغرمة بوحشيّة سيّدها.
لكنّ هذا العبث لم يعد، مع الوقت، مسلّياً بالنسبة لي. نعم، لا بدّ لي، بعد كلّ شيء، من الاعتراف أيضاً بأن انخراطي في إنقاذ زوجتي من الكآبة بهذه الطريقة قد قلّل كثيراً من ساعات وجودي في المنزل، فكان غيابي الآن بمثابة إنقاذٍ عكسيّ عاجل يعيد إليّ روحي التي صرت أفقدها في حضوري هناك. حتى وجبة الغداء صرت أتناولها غالباً في ورشة صديقي عبدو، أو في الحي الروسي مع ليزا في الكشك، وأحياناً مع صالح وفيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا في حديقة الحيوانات، لكنْ دائماً مع نفسي التي اعتدتُ عليها ولا أشكو منها ولم أعرف غيرها قبل الزواج.
ولكنْ من أين اخترعتْ زوجتي مستقبلي المستحيل هذا؟ وكيف اهتدت إليه لتنغّص به حياتي؟ الحقيقة أنها أشدّ براءة و رِقّةً من أن يخطر ببالها طموح همجيّ من هذا القبيل، إنّما أبوها أصابها به منذ تخيّلها زوجةً لي في طفولتها البعيدة. أقصد أن عمّي، شقيق والدي، كان المصدر الوحيد لهذا الداء. ولا أعرف إن كان هذا الداء قد تجلّى لديه هو نفسه قبل نيلي الشهادة الثانوية باهتمامه المبكر بي الذي أذكره جيّداً. كنت وحيد أبي على ست أخوات، وكان عند عمي ثلاثة ذكور وبنتان، لكنه، أذكرُ، كان يفضّلني على أولاده جميعاً، ولا يترك مناسبة دون أن يعبّر عن ذلك بحضور الجميع، ما كان يضايق زوجته على أولادها، ويضايق أمي من تَسَلْبُطِهِ عليّ.
أما بعد نيلي الثانوية العامة فقد عبّر عمي، بجلاء ساطع، عن دائه المستفحل بمستقبلي حين قدم من العاصمة خصيصاً إلى الرقة، حيث كنت أعيش مع أهلي، ليدعوني إلى التطوّع بالجيش بلا إبطاء. ولمّا أدرك أنني لن ألبّيه استعان بأبي عليّ، لكنْ دون جدوى، فقد اعتبر أبي دائماً أن الجيش ملاذ الأسر المعدمة للتخلّص من بطون أولادها، وأن كل ما يتنمنّاه لي هو أن أكون رجلاً صالحاً لا غير. اضطر عمي، عند ذاك، إلى العودة إليّ مرة أخرى. ثم صار، كلما تسنّى له الانفراد بي، يؤلف أمامي سيرة شخصية لي، ويقنعني بها مع أنها، في الواقع، لا تمتّ إليّ بأيّ صلة. لقد تبيّن لي، مثلاً، أنني أملك، دون علمي، ملكة قيادة الآخرين منذ نعومة أظفاري، بل يمكن القول إنها ولدت معي، وهو، أي عمّي، يستطيع، إذا دعت الضرورة في يوم معلوم، أن يثبت للعالمين جميعاً، سواي طبعاً، بالوثائق والصور والتواقيع والأختام أنني كنت الطالب الأميز ليس فقط بين طلاب مدرستي وحدها، بل وبين كل طلاب المدارس، وأنني، بأمر خاص من قيادة الحزب، الذي تركه عمّي آنذاك غائماً بلا أيّ تحديد، كوّنتُ الخلايا السرّية الأولى بين صفوف الطلبة، بل وكنت على رأس كل المظاهرات التي حصلت في العاصمة وخارجها ضد حلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر. وحين قاطعته، ذات مرة، بأن أمي لم تكن قد ولدتني حين حصل العدوان الثلاثي على مصر، رفع صوته الجرش وأجابني بجملة نارية متعاليّة لم أفهم منها شيئاً مفيداً يتّصل بحديثنا لا في ذلك الوقت، ولا الآن بعد كل هذه السنين، ومفادها أن التاريخ لا يصنعنا بل نحن نصنع التاريخ. ثم أردف، بعد صمتٍ معبّرٍ قصير، بأن كلّ ما عليّ الآن هو أن أسمع كلامه وأتطوّع بالجيش حالاً وبلا تردد. ثم تساءل، مُتعجّباً ومشفقاً على وقتي الثمين، كيف أجرؤ على تبذيره في دوام ممل على مقاعد الجامعة، كما يفعل الاختصاصيّون المتكرّرون بمئات الآلاف في مختلف العلوم، بينما لا يتجاوز زعماء الانقلابات الناجحة في سورية عدد أصابع اليد الواحدة إلا بصعوبة. هل لاحظت؟؟ إن ما تحتاجه نباهتي القيادية ليس الكتب، بل ازدراء الكتب، ليس الثقافة، بل ازدراء الثقافة والمثقفين. فلأتركْ إذاً وسوسة العلوم للمخنّثين المخلوقين للطاعة والنقّ، ولأنصرفْ إلى ما يليق بمواهبي، إلى ما سوف ينصرني على أعدائي، الذين تركهم عّمي هم أيضاً بلا تحديد. ثم في ذروة انفعاله استدرك عمي نفسه فجأةً، واستثنى قواعد اللغة العربية من كل العلوم النافلة الأخرى، واعتبرها العلم المدني الوحيد الضروري لأي رئيس منتخب مدى الحياة، لأن كلامه، حتى ولو كان كلّه سخيفاً ودون معنى، لن يفقد قيمته الحقيقية ومصداقيّته في الواقع إلا بالأخطاء النحوية التي لا تُغتفر.
ثم عانى عمّي، كما سمعت بعدئذٍ، من أمسية حزينة عندما علم بقدومي إلى دمشق، وانتسابي إلى مجرّد قسم تاريخ في كلّية آداب. وما كانت مصيبته طبعاً، برغم مواظبته على الصلوات الخمس وحجّه وصدقاته وزكاته بعشرات الألوف سنوياً، ستصبح أقلّ إيلاماً لو اخترتُ كلية الشريعة ودخلتُ فيها، وهو الخيار الثاني الوحيد الذي حصرني فيه مجموعي الضعيف بعد طي علامة التربية الدينية. وبرغم أن عمي لم يصدّق تفضيلي العيش في المدينة الجامعية على العيش بكنفه في أفخم أحياء العاصمة، إلا أنه، كدأبه في كل مرة، لم يستسلم- عزمني، بعد أيام، إلى مزرعته المنيفة في الزبداني. استقبلني مع كل أولاده وجيش خدمه والعاملين لديه، مهندمين معطّرين على بابها، كما يليق بنباهتي التي لم يجعلني أقتنع بها حتى تلك اللحظة. كانت تنتظرني إلى طاولة الطعام الهائلة أسرته كلّها. ولم يُخفِ فخره بي أمامهم، في ذلك اليوم أيضاً، برغم قسم التاريخ المشؤوم. ثم استطاع، بقدرةٍ سحريّةٍ من حضوره الطاغي على الجميع، أن ينسب إليّ، كالعادة، حوادث مميزة ومواقف فذّة لا علاقة لي بها أبداً، إلا أنها كانت من الدماثة وخفّة الدم، بل والذكاء في قوّة إحكامها، ما جعلني، حتى أنا، أتابع بشغف حديثه الملفّق عني.
في تلك الجلسة بالذات لاحظت، لأول مرة، أن ابنتيه لم تعودا صغيرتين، وقد ميّزتُ إحداهما بنظرةٍ عجلى خجلتُ من نفسي بسببها بعد قليل، فالبنت تصغرني بلا أقلّ من ست سنوات، وأبدو بالقياس إليها رجلاً مكتملاً. ثم أذهلني عمّي حين قطع خرافاته الشيّقة عني، والتفت إليّ فجأةً وأخبرني، وهو يضع عينيه، المؤتلقتين ببريق مفاجئ، في عينيّ، بأنّ رجاء ستبلغ بعد ثمانية أيام الثالثة عشرة من عمرها، وأنها تعزمني منذ الآن إلى عيد ميلادها. ثم قهقه بلا مناسبة، وهو ينقّل نظره بيني وبينها حتى إذا ثبّته عليّ من جديد قَطَمَ قهقهته، وتناول كأس الماء أمامه، شرب جرعةً منها، ثم أبعدها من تحت شاربيه، وقال:
- رجاءْ من طينتك!
ثم عاد إلى خرافاته عني، بالنبرة ذاتها والحذاقة ذاتها، بينما ظللت أتخبّط بحرجي من نظرتي العجلى التي لقطني على الطاير متلبّساً بإرسالها إلى ابنته الصغرى.
عرض عليّ بعد الغداء أن يُريني، في مكتبه، لوحة ثمينة لفنان أوروبي شهير من مقنياته الجديدة، لكنه اكتفى، حين وصلنا وجلسنا، باعترافه بأنه لا يفقه شيئاً بالفن التشكيلي، وأن اقتناءه للوحات الفنية وسيلة عصرية للحفاظ على قيمة المال لا أكثر، فأنت هنا لن تخسر شيئاً إذا لم تربح الكثير. ثم نهض من مقعده فجأة وانتقل، وهو يتمشّى بين قطع الأثاث، إلى حديث جدّي دعاني فيه بلا مقدمات إلى الدخول في حزب البعث، فمادمت لم أتطوع، لن أفتح باباً آخر على الجيش إلا عن طريق الحزب. ولابدّ، في كل الأحوال، من إصبع الجيش في طبختي. أما مسألة صعودي السريع إلى مراكز القرار العليا في الحزب فسوف يتكفل بها هو بكلّ ما يملك من معارف عتاة في الحزب والدولة والجيش، وكلّ ما يملك من أراض وعقارات وأسهم وأرصدة في الداخل وفي الخارج. المهم أن لا أنسى، في معركة صعودي الخطِرِ، السلاحَ الأمضى- الحذر ثم الحذر ثم الحذر. الحذر من الجميع بلا استثناء، من أصدقائي أولاً، لأن الصداقة هناك شيكّات بلا رصيد يتبادلونها جميعاً في لقاءاتهم الرسمية وخلواتهم المشتركة، ثم يرمونها في أول سلة مهملات تصادفهم بعد انصرافهم كلٌّ إلى كمينه الخاص. الأصدقاء تحديداً هم أعدائي الأقربون الذين لن يكشفوا عن سمّهم الأصفر إلاّ حين أخطئ بحساب مسافة واحدة فقط من المسافات القصيرة المتشابكة التي تفصل أيّ واحد منّا عن ألغام الآخر. ثم الحذر الأهم من شعبيّتي التي سوف تنمو رغماً عني مادمت سأصعد بهذه القوّة وهذه الوتيرة. شعبيّتي مقتلي في هذه الفترة، وعليّ أن أتدخل دائماً في التوقيت المناسب لأقصقص، أنا، من أهميتها بالفعل وليس بالقول، عليّ أن لا أنقاد إلى غواياتها الكثيرة، أن أقاوم حلاوتها التي لا تقهر، أن أخمد نورها الفائض بيديّ أنا، فلا تشذّ عن النيران الأخرى من حولي، لأنني لن أكون الطامح الوحيد إلى المسقبل نفسه. وهنا شعرت بالغثيان، ولكي لا أتقيّأ أمام عمي وجدتني أقاطعه وأخبره بأنني شيوعي.
- نعم شيوعي!
أكّدتُ له وأنا أتهوّع. وفيما سقط على أحد المقاعد فجأة من هول ما سمع، قدّرتُ، وأنا أخرج مسرعاً من مكتبه إلى أقرب حمام أستفرغ فيه، أنّ شيوعيّتي الآن سوف تشفيه إلى الأبد من دائه بمستقبلي.
ولكنْ هيهات.
لقد ثبت لي، فيما بعد، أن آليات زعامتي للانقلاب المنشود تتمّ في رأس عمّي من دوني، فلا يقدّمها ولا يؤخّرها ما يدور في رأسي، أو ما يدور في حياتي وما يستجدّ فيها. لم يعن له شيئاً لا تاريخي القصير في جامعة دمشق، ولا انقطاعي المفاجئ عن هذا التاريخ، ولا سفري إلى موسكو، بعدئذٍ، ولا أدبي الروسي هناك، ولا عملي بعد ذلك، فترةً طويلةً نسبياً، في النسخة العربية من صحيفة "أنباء موسكو". لقد ظلّ في غيابي يسعى إلى غايته، بالمثابرة نفسها والحماسة نفسها، كما لو كنت إلى جانبه في دمشق، فطال بأخطبوط نفوذه معارفَ أعتى، هو الصالح، نظرياً على الأقل، بإمكاناته المادية الكبيرة لأن يكون الوجه المدنيّ القويّ لمشروع أيّ كمين عسكريّ طموح. ثم حدث أنّ أول ما فعلتُه، بعد أيامٍ من عودتي من روسيا، هو أنني وقعت فعلاً في غرام ابنته رجاء. وقد وجدتُ كل شيء ميسّراً أمامي لأن أخطبها وأتزوجها بعد بضعة شهور. وكان عمّي قد هيّأ شقة زواجنا بكلّ ما يحتاجه، وما لا يحتاجه، عروسان ثريّان، قبل أن أعود بفترة طويلة، فبدا غرامي برجاء، شئتُ أم أبَيتُ، حلقةً مُبَيَّتة لا غنى عنها من آليات مستقبلي سيئ الصيت في رأس عمي. لم تعذبني هذه الفكرة كثيراً طبعاً، لأنني، في واقع الأمر، اعتبرتُ دائماً، حتى مساء البارحة بالذات، أنّ مستقبلي، الذي يسعى إليه عمّي بيديه ورجليه، نوعٌ من الهلوسة المُكلِفة والمستحيلة لا أكثر. وقد بدأتُ، مع بداية زهدي من إنقاذ زوجتي من كآبتها، أتملّص بأوهى الحجج من زياراتي معها إلى منزله، على الأقل لكي أبعدها عن مصدر هذه الهلوسة المقيتة. إنني، برغم كل شيء، مازلت أحبها بصورةٍ من الصور، وأعتقد أنني لا أريد أن أخسرها لمجرد أوهام تافهة غير قابلة للتطبيق. لست نادماً حتى الآن على النعمة التي تغمرني بها في آخر الليل، وعلى أنني، بعيداً عن مسقبلي السرياليّ الأسود، مازلت أعثر فيها على أشياء ساحرة أخرى حتى حين لا تكون نائمة، كأن أستيقظ، مثلاً، على صوتها وهي توقظ ثدييها- تصبّح عليهما بالخير، وكلّ منهما في راحة يد، وبأصابعها الرهيفة تتأكّد، كأنما، من تمامهما، ثم تنحني إليهما برأسها، تترفّق بهما، وهي تُدنيهما من شفتيها الواحد تلو الآخر، تقبّل هذا وذاك، ولا تنفكّ تبربر لهما بتلك الكلمات الحلوة الدافئة المجزوءة التي توقظ بها أمٌّ صغيريها التوأم. ثم تظلّ على هذه الحال حتى تنجلي بربرتها عن كلام واضح حين تقص عليهما غالباً مناماتها التي رأتها في الليلة الفائتة. كانت مناماتها تجمع أشياء يصعب تجاورها في اليقظة، فتجد مثلاً فراشةً صفراء ترفرف طيلة المنام على كعب حذائها الليلكي العالي الذي تنتعله، فيما هي تركض في مرج أخضر على مدى البصر. وكثيراً ما يظهر عمّي مسرعاً في مثل هذه المنامات يتقدّم قاطرات ديزل جديدة تخبّ وراءه على العشب دون أي سكّة حديد، أو على سطح الماء، بينما تشعر زوجتي بالفخر، في أثناء ذلك، وهي تطلّ من كلّ نوافذ المقطورات الطويلة التي لا عدّ لها وراء أبيها. أما أنا فغالباً ما أظهر في مناماتها على صورة كائنات وأشياء خفيفة أو زلقة- منطاد في السماء، حوت ضائع، أو جندب تسمع صريره ولا تراه، وقد أرمي نفسي من رأس بناية ولا أصل أبداً إلى يديها المفتوحتين في انتظاري على سطح الأرض.
* * *
II
البارحة مساءً كانت بربرة زوجتي، مع ثدييها، مختلفة..
استيقظتُ عليّ ملتصقاً بها تحت الغطاء بعد قيلولة متأخرة، فهيّأتُ نفسي لسعادة الإصغاء إليها وهي تُمَسّي على ثدييها بالخير، وقد غمرتني، سلفاً، المتعةُ التي أجنيها عادةً من كلماتها المتداخلة الخافتة المنقوصة المتدفقة من بين قُبلها الصغيرة فوق هذا الثدي وذاك. ثم انتظرتُ، بشوقٍ بالغ، مناماتها الفاتنة التي سترويها لهما، ومستعدّاً حتى لمشاجراتها اللذيذة الهامسة التي تنشب أحياناً معهما. لكن بربرتها لهما أفضت، هذه المرّة، إلى شيء آخر.
لم أستغرب في البداية، وربما استحوذت عليّ رصانتُها غير المألوفة في هذا الوقت الساحر حين أخبرتْ ثدييها، مشدّدةً على مخارج حروفها، بأنني استيقظتُ، أنا أيضاً، منذ قليل، وأنني، الآن، أجلس في الفراش مثلها، ومثلها أستند إلى ظهر السرير وأنظر إليهما، هما الكسولان اللذان لا يعرفان قيمة الوقت، المتناومان فوق صدرها حتى الآن برغم الساعة السادسة التي دقّت في الصالون قبل دقائق. ثم انشغلتُ، بعدئذٍ، بالنبرة التي اتخذتها فجأةً، وهي تخبرهما بأن الخادمة سوف تفتح الآن باب غرفة النوم علينا، وهو ما لم تجرؤ خادمةٌ على فعله قط، لتذكّرني بأن موعد حمامي قد حان، وأنني، فوق ذلك، سأستجيب لها دون تلكّؤ.
لم تترك لي نبرتها هذه فرصةً لأن أتفهّم خروج حمّامي الشخصي أيضاً من نطاق سيطرتي في منزلٍ يُفترَض أن يكون منزلي، فما بلهثني وشوّش رأسي رائحةُ تهديد جديدة مؤسسةٌ، كأنما، على مستجدّاتٍ أجهلها، وأخسر بموجبها، في كل الأحوال، امتيازَ الاعتراض على أيّ شيء من الآن فصاعداً. ثم زاد من بلبلتي أن إحدى الخادمتين فتحت باب غرفة النوم فعلاً وذكّرتني، بلهجة شديدة البرودة والسطوع، بأن موعد دخولي إلى الحمّام قد حان. فشعرت باضطرابٍ ما اعتراني أبداً طيلة زواجي.
نظرتُ إلى زوجتي أتأكّد من خطأ، لابدّ، حَدَثَ الآن، وينبغي تصويبه على وجه السرعة.
لم يكن ثمة أيّ خطأ، فوجهها، كما لم أره قط، كانت كلّ تقاطيعه صقيلةً صلبةً كتيمةً ومحسوبة.
تلفتّ من حولي، فبدا، كما لم يبدُ لي يوماً، أن كل شيء في غرفة نومنا محسوبٌ ومتعلّقٌ، بعضه ببعض، كأنما بمعادلات رياضيّة متناهية الدقة غابت عن ملاحظتي طيلة حياتي مع رجاء. ولأنني كنت على يقين من أنني لا أشارك الآن في منامٍ، عنيفٍ على غير العادة، من مناماتها، بدا الأمر لي فجأةً كما لو أن اعتراضي على الحمام الآن سيترتّب عليه ما لا يمكن أن أطيقه، أو أتصور حدوثه، كأن يختفي الحي الروسي، مثلاً، من حياتي بكلّ ما فيه: سِيْركه، دار مسرحه، حديقة حيواناته، سينماياته، كباريهاته، مقاهي أرصفته، مبغاه، جيش فناناته وفنانيه، كشك ليزا، وليزا، وكل من عرفتُ وصادقتُ وأحببتُ هناك.
كانت الخادمة الآن تنتظرني في الباب مثل سياف، وكان عليّ حتماً أن أستسلم لها، لأخرج، كما أُوحِي إلي، بأقل الخسائر الممكنة.
نهضت من السرير، وأنا أختبر يأسي من وجه رجاء حتى اللحظة الأخيرة، فظللتُ ألتفت صوبها إلى أن أمسكتني الخادمة من معصمي عند الباب.
كانت يد الخادمة، وهي تسحبني من غرفة النوم، عمليّةً وأكثر طراوةً وعمقاً من وجه زوجتي ومما توقعتُ، فلم أسحب معصمي من يدها- ربما كان لا ينبغي لي أن أفعل ذلك. وفيما بدأتْ تقودني في الكوريدور خيّل إليّ أنني لمحتُ في الصالون، من وراء ظهرها قبل أن تنعطف بي باتجاه الحمام، أشخاصاً ببذلات رسمية سوداء كنت ألاحظ أحياناً واحداً أو اثنين ممن يشبهونهم في شوارع العاصمة أو حتى على أرصفة الحي الروسي، لكنني لا أذكر أبداً أنني وجدتهم في منزلي، وبهذه الكثافة.
قلت في نفسي، وأنا أساعد الخادمة في إخراجي من ألبستي الداخلية، إذا كان ما لمحته في الصالون صحيحاً، فهذا يعني أنهم قد اكتشفوا أخيراً نوايا عمّي، وسوف يدمّرون الآن بضربة واحدة كل آليات مستقبلي القديم المشؤوم في رأسه. ولكنْ إذا كانوا سيعتقلونني بعد قليل فما الداعي إلى حمّامي؟ إن كل تقاليد بلادنا في اعتقال خونة الثورة وأعداء الشعب لا تفسح بالمجال، على حد علمي، لتحميم الخائن في منزله قبل اعتقاله، إلاّ إذا كانوا قد حمّموا عمّي أيضاً قبل أن يدسّوه في مؤخرة إحدى سياراتهم الجيب.. يا إلهي! ورجاء؟؟ هل سيحمّمونها؟؟ لا أعتقد أن رجاء ستستحمّ الآن بضغطٍ من هؤلاء الغرباء، بل لأنها تستحمّ عادةً بعد قيلولتها لا أكثر. وإذا كانت اليوم، على غير العادة، ستستحمّ بمعزلٍ عني، فلأنّني، وحدي، خائنٌ للثورة وعدوٌّ للشعب في هذا المنزل، وعليّ، من أجل سلامتها، أن أبادر فوراً بِفكّ شراكتها مع أبيها بمستقبلي، وأن أقتنع بذلك دون إبطاء. ومن ثم لا داعي أبداً لأن أخجل، مثلاً، من وجودي في هذه اللحظات عارياً في الحمام أمام الخادمة للمرة الأولى في حياتها معنا. وتأكيداً على ذلك تذكّرتُ النبرة الصارمة التي أرسلتني بها رجاء إلى هنا. وكانت الخادمة الآن تُجْلسني في البانيو، فتمكّنتُ تقريباً، مع نزول الماء الساخن فوق رأسي، من إيجاد شراكة أخرى لرجاء، في ذهني، بين وجهها الجديد الصقيل الكتيم وبين الأشخاص الغرباء المحتملين جداً في الصالون. إنها ببساطة تتحالف، كما ينبغي عليّ أن أفهم وأتفهم، مع من كان أبوها سينكّل بهم على يدي. وهاهم سيقطعون اليوم هذه اليد من أصلها قبل أن تقطعهم.
- سأتحرّر أخيراً، ولو بهذه الطريقة، من هراء عمّي.
قلت للخادمة، وقد بدأت يداها العمليتّان الّلينتان العميقتان تفركان رأسي بالماء والشامبو بتفانٍ محايد دون أن أشعر للحظة واحدة بأن زوجتي قد باعتني لأحد، فأنا فعلاً خائن لثورتهم، حتى بدون انقلاب عمي، وعلى الخونة أمثالي، تبعاً للأصول المرعية عندنا، أن يلاقوا مصيرهم. المهم أن تنجو رجاء. دائماً كنت، وما أزال، مستعدّاً لأن أرى في أي شيء، في انقطاع الكهرباء وفي رنين الهاتف وفي الرغوة التي تغمرني الآن في قلب البانيو وحتى في الوساوس المتضاربة التي تتناهبني في هذه اللحظات تحت يدي الخادمة، سبباً جديداً لوجود رجاء في حياتي. ستظلّ زوجتي بالنسبة لي رجاء التي أعرفها مهما كان وجهها مغلقاً في وجهي. وإذا كانت قد وقفتْ هذا المساءَ، إلى جانب الثورة الحاكمة على نحوٍ مفاجئ وغير مسبوق، فإنما فعلت ذلك، على الأغلب، لتجنّب نفسها المصير الأسود الذي ينتظرني بعد قليل، وهو ما لا ألومها عليه، بل ينبغي عليّ أن أتوقعه وأرجوه وأتمناه وأفرح به، كما يفترض بزوج محب أن يفعل في الساعات الحرجة، الأخيرة ربما، من حياته.
- لماذا لا أشعر بالسعادة إذاً؟
سألتُ الخادمة على سبيل تجريب حرّيتي الوليدة في استدراجها إلى طرح ما تشاء من الأسئلة عليّ، فسحبتْ ذراع الدوش وشطفت الرغوة عن رأسي، ثم ساعدتني بالوقوف. وكنت جاهزاً في تللك اللحظة لأن أخرج من الحمام إلى المطبخ، أرفع ستائره، وأفتح نوافذه على مصاريعها، ثم ألمّع، بنفسي وعلى مهلي، حنفيّات المطبخ، وأحرّك الخضار إذا كان ثمة خضار على النار، وأغلي لنفسي، إذا شئت أيضاً، ركوةً كاملةً من اليانسون، وأدندن، فوق ذلك كلّه، أغنية لعبد الحليم حافظ أو حتى لفهد بلان. لكنّ الخادمة وصلت الآن بليفتها إلى سرّتي، ولم أعد أنتظر أسئلتها، بل يدَها- كيف ستتابع نزولها الزلق الحار المُنتظر على جسمي المشوّش المتوتّر المنتصب كلّه في البانيو.
- لماذا لا أشعر بالسعادة؟
سألتها مرة أخرى، لا لكي أسمع منها شيئاً هذه المرة، بل لأستعجلها، كأنما، إلى أن تفعل كلّ ما في وسعها لكي أصل إلى ذروة السعادة، مادامت عضواً، ربما مؤكّداً، في تحريري من رأس عمّي، وفي تسليمي بعد قليل إلى العناصر الموحّدين بالبذلات السود، المفترضين بقوة من قبلي حتى الآن، في الصالون. ثم كان مخيّباً لي، بعد قليل، أن يدها وصلت عملياً إلى كاحلي، ولم أصل إلى شيءٍ نوعيّ محدّد من السعادة.
وكانت الخادمة الثانية قد دخلت، تحمل برنسي، إلى الحمام، ووقفت إلى جانب البانيو ريثما أنهت الأولى إزالة ما تبقى هنا وهناك من الرغوة على جسمي. ثم تعاونتا في ضمّي داخل البرنس بسرعة، وأخرجتاني من الحمّام.
في طريقي إلى غرفة النوم سارعتُ والتفتّ برأسي ناحية الصالون. حاولت أن أتحقق بكل قواي مما يجري هناك في الوقت الضيق الذي أتاحته لي الخادمتان المنطلقتان بي مثل مخفور- الغرباء أنفسهم كانوا في كل مكان. لكنني حصّلتُ، من وراء ظهر أحد المقاعد، يدَ رجاء في كمّ برنسها مستلقية على المسند، فهبط قلبي. لقد حمّموها، فكّرتُ، ثم أسعفني بروفيلُها الواثق المبتسم أمام سحّاب بنطلون كوافيرٍ مشغولٍ بشعرها، فيما كانت تلتفت، باهتمام ومودّة، وتصغي إلى قذالِ رجلٍ بدا لي، في لمحة بصر، أجعد، أسود، ملتصقاً بظهر المقعد المجاور. لم يكن في ابتسامتها، طيلة ملاحظتي الخاطفة تلك، أي أثرٍ للاضطراب، الأمر الذي مكّنني، برغم كل شيء، من تمويه الكثير من الشكوك، التي يمكن أن تُثار عند غيري مثلاً، حول براءتها من ماضيها الطويل في مستقبلي، في تلك اللحظة على الأقل.
طبقتْ إحدى الخادمتين الباب وراءنا، بينما أوقفتني الأخرى أمام مرآة زوجتي الكبيرة- نزعتْ عني البرنس، وتناولت من يد الأولى بشكيراً. وفيما انهمكتْ بتجفيف شعري، وجدتني انهمك بابتلاع أنفاسها الحارة، المشبعة، كأنما، برائحةِ كأسٍ مترعة بنبيذ أحمر مزّ مسخّن مع خيط واهٍ متواصلٍ من رائحة ورد جوريّ شاميّ. ومن شدّة مفاجأتي بهذه الأنفاس المُسكرة بدأتُ أتصوّر أمامها عيوباً لا تغتفر في جسمي وأخجل منها على الفور، فخطر ببالي، مثلاً، أن رجاء قد قهقهت قبل أن ننعطف في كوريدور غرفة النوم. ثم لم أفهم ما الذي يجعلني أظن أن قهقهةَ رجاء عيباً من عيوبي؟ ما علاقتها في نهاية الأمر بما يحدث الآن معي أمام مرآتها في غرفة النوم؟ ألم أفكّ، في ذهني، شراكتها مع أبيها بمستقبلي قبل قليل؟ أنا وعمّي فقط سوف نكون، في كل الأحوال، في زنزانتين منفردتين قبل أن يستأصلوننا من شروشنا اليوم أو غداً. أما رجاء فلم يعد بوسعها أن تكون عيباً من عيوب جسمي العدو،ّ كلّه، للشعب والثورة. لقد كانت تبتسم وتصغي باطمئنان إلى قذال الرجل الأسود الأجعد لا أكثر، وربما قهقهتْ على خلفية سحّاب بنطلون الكوافير الذي يقف أمامها، فما المشكلة؟ ما المشكلة؟ ثم كدت أصل فجأةً إلى ذروة سعادتي لولا ملاحظتي عيباً صريحاً لا يخصّ أحداً سواي- كرش صغيرة تعرفت إليها في المرآة فوق رأس الخادمة المقرفصة الآن بين ساقيّ، وهي ترفع سروالي الداخليّ نحو الأعلى- كان فمها، القريب جداً من ذروة سعادتي، يملأ سروالي برائحة النبيذ الجوريّ الدافئ المزّ. وما أردت أن أهدر نفساً واحداً من أنفاسها، فاعترفتُ لنفسي سلفاً بكرشي الصغيرة التي أراها في المرآة وبكل ما أعرف وما لا أعرف من عيوبي المحتملة، حتى صار بوسعي أن أميل إلى الأمام باتجاه أنفاس الخادمة دون أدنى شعور بالخجل.
- لماذا لا أميلُ؟
قلتُ، ثم ملتُ، وظللتُ أميلُ حتى وصل إليّ صوت زوجتي المرح العالي من الكوريدور.
فُتح الباب، ودخلت رجاء تتحدّث بالموبايل، يتبعها مباشرة الكوافير نفسه في بنطلونه الجينز- لم أخطئ إذاً- وأصابعه ماتزال مشبوكة في شعرها، بينما كانت تتراجع أمامها امرأة أنيقة تمرّر على وجهها أقلاماً وفراشي متنوعة تَلُتُّها، بين لحظة ولحظة، بعُلَبٍ ملونة مفتوحة تحملها، على ما يشبه صينيةً، بيدها الأخرى.
وكانت الخادمة، بعد دخول رجاء، قد رضيتْ تماماً عن تلبيسي السروال، فوقفت أمامي. ثم جاءت الخادمة الثانية من ورائي وقبّعتني بقميصي القطنيّ الداخليّ، وعندما أخرجتْ رأسي من فتحته اشتغل السيشوار، ووقعت عيناي رأساً على صبيّين- أحدهما يتبع الكوافير، ويحمل بين يديه وعاء مسطّحاً مزدحماً بالبيغودي وملاقط الشعر والأمشاط والمقصات، والآخر يخلّص، من بين الأرجل الكثيرة في غرفة النوم، أشرطةً كهربائية يسحبها وراءه في أثر السيشوار ومعدات مختلفة أخرى تتحرك مع رأس زوجتي التي لم تعرف أين تستقرّ حتى الآن.
- لأ..لأ.. الطبيب.. مؤكّد.. البارحة.. إمْ.. إمْ.. إمْ مْ مْ مْ.. لأ.. كيف؟!
تابعت رجاء رنينها المتنقّل السعيد من حولي دون أن تلاحظني، كما لوكنت في مكان آخر. وكانت عيناها الصلبتان، إذا صادفتني في حركتها العشوائية في الغرفة، تخترقانني إلى أشياء أحجبها عنها من الأثاث. لكنني، مع تعاظم تجاهلها لوجودي، لم أعد، كأنما، مكترثاً جداً بملاحظتها لي، ولا حتى قادراً على تمييز شيء خاص في خادمتيها المخلصتين- كأنني ما تنفّستُ أنفاساً مُسكرة، ولا مِلْتُ إليها قبل قليل- لقد استحالتا، بحضور رجاء، دميتين معدنيتين مُبرمجتين بتعليماتها المبيّتة الصارمة لا أكثر. كانتا قد ألبستاني، في هذه الأثناء، بذلةً باذخةً، فيما أصبحتْ إحداهما تنشغل، الآن، بعقد ربطة عنق تحت ياقة قميصي، وتنكبّ الأخرى على قدميّ تضمّهما في حذاء جديد.
فهمتُ أخيراً، مع توقّف أزيز السيشوار وفحيح السبراي ورشّ العطور، أن كلّ إجراءات تقييفنا، أنا وزوجتي، قد انتهت، فخرج الجميع من غرفة النوم ما عدانا.
بدأتُ أدرك الآن، بمرارة ووضوح، أن أحداً لن يعتقلني بعد قليل، وأنني بالغت كثيراً في إنقاذ زوجتي من الكآبة مدةً طويلة، وأن عليّ، وإن متأخراً جداً، أن أهجر كل شيء حالاً، وأنجو بنفسي، إلى الحي الروسي بلا عودة. بلا عودة. سوف أعيش في كشك ليزا، أو نتشارك، أنا وصالح، بغرفته الصغيرة المجاورة لغرفتها على سطح حديقة الحيوانات، ولن يعترض، أنا على يقين، لا فيكتور إيفانيتش ولا عجوزه الأفغانية رئيسة بتروفنا.
- سنتعشّى عند أبي!
قالت رجاء للمرآة، فيما كانت تتفتّل أمامها بثوب لم أره عليها من قبل.
يا إلهي ماعلاقتي أنا إذا كانت رجاء قد قررت أن تتعشى عند أبيها؟ قلت في نفسي، ثم تذكّرتُ أن عمّي كان قد أوفد إليّ البارحة أولاده الذكور يدعوني إلى العشاء في منزله، لكنهم غابوا عن بالي فور خروجهم، فأنا، منذ مدة طويلة، لا ألبّي، بإصرار، معظم الدعوات الدورية التي تأتي من هناك.
- ما علاقتي أنا؟
- سوف تذهب معي.
قالت بنبرةٍ معدنية بدا معها ذهابي، هذه المرة، إلى بيت أهلها أمراً مفروغاً منه.
- أنت تعرفين أنني لن أذهب!
قلتُ، وأنا أسرع بالخروج من غرفة النوم.
كان الكوريدور فارغاً، فوددت لبرهة خاطفة لو أنني مازلت نائماً حتى الآن إلى جوار رجاء، وأن ذوي البذلات السوداء الذين بدأت أراهم بوضوح، وأنا في طريقي إلى الصالون، ليسوا سوى كابوس سيختفي حتماً ما إن سأستيقظ.
وقفتُ في باب الصالون.
لم أكن خائفاً، لكنني، لسببٍ لم أفهمه، كنت قادراً على رؤية ما لا يُحصى من الرجال الغرباء أمامي في تلك اللحظة. بدت لي رؤوسهم، جميعاً، صغيرة بالمقارنة مع رقابهم الغليظة الطافحة فوق ياقاتهم البيضاء المزرّرة بصعوبة. عيونهم فارغة من أي إيحاء محدّد أو معنى، جباههم ضيقة، ذقونهم عريضة حليقة متقدمة، كأنما كلها، إلى الأمام، وجذوعهم في الغالب أطول من أرجلهم المفتولة والمدكوكة دكّاً في البنطلونات السوداء. وكان طبيعياً أن أدرك فوراً صعوبة وصولي إلى باب الشقة من نظراتهم المتشابهة التي تصوّبتْ عليّ وأطرافِهم التي تحفّزت تلقائياً عند ظهوري. تقدمت إلى الأمام، كما لو أنني لا ألاحظهم، فأعادوا انتشارهم فوراً، وشغلوا كل الثغرات المؤدية إلى الباب بين قطع الأثاث، كما لو أنهم قد توقعوا مسبقاً كل الخطوات التي يمكن أن تخطر في بالي. هل من المعقول أن أُجلَب جلباً بكل هؤلاء الثيران المُستَنسخة إلى مجرّد عشاء بريء عند السيد عمي؟ فكّرتُ.
كان عليّ أن أخرج من الشقة بأي وسيلة، أو أنهار أمامهم على الأرض مثل كومة قمامة.
لا أريد أن أنهار.
أردت أن أمرّ برغم كلّ شيء. لم يتحرك رجلٌ- حائطٌ يقف أمامي. كان ينظر إلي كمن لا يراني. فكّرت أنني إذا قفزت فوق ظهور المقاعد والطربيزات فسوف أصل إلى الباب عبر أقصر الطرق وأسرعها. ثم دون أن أفكّر بالعواقب وجدتني طائراً في الهواء. وكان تنزيلي إلى الأرض، قدّرتُ، يحتاج الآن إلى قبضات قويّة تقيّد أطرافي بحركات خاطفة وعنيفة وحازمة، وهذا ما لم يفعلوه. كانوا، كأنما، حريصين على أخذي من منزلي بقيافتي الكاملة دون تجعيد ولا فتوق ولا كدمات قد يسببها ارتطامي غير الدقيق بقبضاتهم وأكواعهم وركبهم وسطوح الجدران والسقف والزوايا الحادة الناتئة من قطع الأثاث. شعرت أنهم يهينونني، فوق كل شيء، بالحفاظ عليّ سالماً من الأذى، فصرت أتشظّى فوقهم وبين أيديهم، بكلّ أطرافي وقواي، لعلّي أرتطم بشيء يحطّم رأسي أو يمزّق كُمّي على الأقل، لكنْ عبثاً. ظلّوا يواظبون على إذلالي بثبات وبرود، إذ تابعوا امتصاصهم تشعّبي السريع في الهواء بأيديهم المترفقة ورؤوسهم الحذرة وصدورهم المحكمة، وهم يتحركون بي إلى الأمام بسماحةٍ وحنكةٍ وإصرار. وإذ فُتح باب الشقة على مصراعيه اعتقدت أن شيئاً من شظاياي الطائرة سيرتطم بإطاره حتماً. لكنّ أحدهم باغتني، في اللحظة المناسبة، عكمني برفق وإحكام، ثم أخرجني بسلامٍ مُغيظ إلى فسحة الدرج حيث عدت أتشعّب فوقهم وبينهم حتى باب البناية. وهنا رأيتني، بحركة سريعة سلسة لم أعِها، مُجَمّعاً في مقعد خلفي لسيارة. ولأنني ما أردت أن أنفجر من القهر بين أجسادهم الصمّاء التي تطبق عليّ أغمضت عينيّ لألهث وحدي في الظلام، وأستعيد وأفهم، ما حدث، ويحدث، معي منذ استيقظت من قيلولتي المتأخرة.
* * * * *
ما حدث البارحة في الكباريه
I
لن تؤثّر على درس الفوتوشوب شفتا ليزا المورّمتان، ولا الازرقاق المدمّى المنتفخ حول عينها اليسرى وعلى خدّها الأيمن حيث نزل كعب حذاء زوجها السابق قبل قليل. ثم إنها تستطيع أن تبلع الدم، الذي مازالت تنزفه لثّتها، فلا يلطّخ أسنانها إذا اضطرت فجأةً إلى الابتسام، أو إلى طرح سؤال على الأستاذ. وما إن ستأخذ مكانها بين زملائها في الدورة سوف ترتاح، فوق ذلك، من عرجها الخفيف الذي كانت، الآن، تكابر بإخفائه أمامي على الرصيف بلا جدوى. لكننا لن نستطيع، للأسف، أن نذهب إلى الكباريه بكل تلك الكدمات والإصابات التي جئنا بها من زيارة لينا. كما لا يمكن تأجيل موعدنا هناك ريثما يتخلّص وجهها من كلّ تلك الآثار. لقد بذلتُ ماء وجهي على مدى عدّة أيام لكي يقبل صديقي عبدو بتدبير هذا الموعد- اعتبرَ أنني أستعرصه بطلبي هذا، وأنه لن يتحمّل تلويث سمعته مرةً أخرى بطلباتٍ من هذا النوع. كنا، ليزا وأنا، ندرك أن شيئاً مفيداً لن يخرج معنا دون مساعدةٍ بوزن عبدو لدى أصحاب كباريهات الحي الروسي، فما أكثر عاهرات الأرصفة الجميلات اللواتي يحلمن بالعمل داخل أيّ كباريه. الفرصة المتاحة لنا اليوم لن تتكرّر مرةً أخرى، وعلينا أن ننتهزها من كل بدّ، لكنْ كيف سنتخلّص، قبل ذلك، من كل تلك الكدمات والإصابات؟؟ سوف نرتكب حماقة كبيرة بالتأكيد إذا لجأنا إلى أي مستوصف، لأننا لن نكسب منهم هناك سوى المزيد من تشويه وجه ليزا بضماداتهم الجاهزة. وكان علينا أن نفعل شيئاً على وجه السرعة، فوجهها يزداد انتفاخاً مع كل دقيقة. وهي، من ناحية ثانية، لا تريد أن تكون عاهرة رصيف، ليس لأنها تحتقر من تكسب رزقها من صبايا الحي الروسي بهذه الطريقة، بل لأنها تقضي وقتاً طويلاً على الرصيف في كشكها، ولأنها، فوق ذلك، لم تعد شابّة تماماً لتتحمّل برد الشتاء بثياب خفيفة تحت عمود كهرباء في آخر الليل ريثما تحظى بأحد الزبائن. أما المبغى، الذي رمّمه بوريا وأعاد تأثيثه ووضع نظامه الداخلي الصارم، فلا يحقّ لها الالتحاق بملاك عاهراته إلا إذا التزمتْ بالعيش هناك، وهي لا تنوي أن تقلب حياتها رأساً على عقب، لأنها تخطط لأن تكون عاهرةً لساعات قليلة فقط من كل يوم. أصلاً ما عندها وقت إضافي آخر تخصصه لهذا العمل، بخاصة بعد انتهاء دورة الفوتوشوب عندما ستشرف على إخراج مجلة إلكترونية باللغة الروسية خاصة بالجنس اللطيف. في دورة الفوتوشوب، اليوم، لن نتخلّص، طبعاً، من أورام وبقع ليزا الملوّنة في مدّة أقصاها نهاية الدرس عندما لا يتبقى على موعدنا في الكباريه سوى مشوار الطريق. لكنهم على كل حال سوف يعلّمونها، في هذا الوقت الضيق العصيب، الإخراج الإلكتروني الذي ستحتاجه بعد شهرين- الموعد الذي حدّده لها ممول المجلّة وصفي أفندي. ووصفي أفندي لا يكذب، على الأقل لأنه زوج يكاتيرينا سيرغييفنا رئيسة الحركة النسوية في الحي الروسي. وهو، إلى ذلك، شخص رزين يحترم كلمته باعتراف الجميع، بدليل أن المرة الأخيرة التي استلمته زوجته عارياً من فرع مكافحة الإدمان على الكحول كانت منذ تسعة أشهر، وهو رقم تتطلع إليه كل نساء الحي الروسي المتزوجات بحسرة وإعجاب كبيرين. ثم إنه الرجل الوحيد الذي يواظب على حضور اجتماعات الحركة النسوية كلّها منذ تأسيسها، ما منحه ثقة معظم الزميلات، بل واستحسانهنَّ قراءتَهُ التقاريرَ الدورية بصوته الباريتون الرخيم بالنيابة عن زوجته الخنّاء. وليزا تثمّن، من ناحيتها، ثقته التي دفعته لاختيارها، هي بالذات، لإدارة المجلة، ولا تريد، بأيّ حال، أن تخيّب ظنه بها. ومن أجل ذلك تردّدت مرات كثيرة إلى مقاهي الإنترنيت واطّلعت على مواقع نسوية شبيهة، وجمعت حتى الآن الكثير من المواد والصور والرسوم التي يمكن أن تفيد منها في مجلتها القادمة. لكنْ الآن، فكّرنا كأنما معاً، ما الفائدة الآن من قتلِ الوقت بوصفي أفندي مادام الإخراج الإلكتروني لن يلزم ليزا قبل شهرين؟! لا فائدة من ذلك طبعاً، إلا إذا قرّرت ليزا صرف النظر عن عملها في الكباريه. الأمر الذي لن تقدم عليه حتماً، لأنها ترغب، منذ فترة طويلة، بأن تعمل عاهرة في الفترة المهدورة بين الثانية عشرة ليلاً والثالثة صباحاً، ولأن أي عمل آخر، في هذه الفترة بالذات، لن يكون مثمراً ومتنوعاً وشيّقاً ومُجْهِداً أكثر من هذا العمل. إن ليزا تخاف دائماً من منتصف الليل حتى لو كنت معها في الكشك. في منتصف الليل أشعر بأني مازلت قادرة على عمل أشياء مفيدة أكثر من جلوسي معكَ وراء كوّة الكشك، ثم لا أجد ما أفعله. تكتيف اليدين هذا يخيفني، ويخيفني أكثر أن أذهب في هذا الوقت إلى سريري، فأنا أعرف أن النعاس لن يفتّت قواي قبل الثالثة صباحاً. أحب أن أقوم في هذا الوقت المتأخر من الليل بأعمال مُضنية حتى موعد نومي، كتلك التي يقوم بها الميكانيكيون في الورشات، والحمّالون في الموانئ، وسائقو التكسي العموميون في ورديّاتهم الطويلة، ولاعبو الكاراتيه، وعواهر الكباريهات. العاهرة ممكنة جدّاً في هذا الوقت ونافعة وفي متناول اليد ولا تحتاج لا إلى دراسة الميكانيك ولا إلى تعلّم الكاراتيه أو قيادة السيارات.
ثم قطعتْ أفكارَنا على الرصيف، مثل جرس إنذار، قطةٌ عرجاء مرّت من أمامنا- كانت ترفع إحدى قائمتيها الخلفيتين وتمشي نقزاً على ثلاث فقط، فانتبهنا إلى أن عرج ليزا المموّه يمكن أن يتسبب بتأخيرنا عن دورة الفوتوشوب. وفي الحال وجدنا في هذا التأخير المحتمل مخرجاً وحيداً لوجه ليزا. وهكذا استطعنا، بفضل تنبيه القطة، وبرغم باريتون وصفي أفندي، أن نجعل من دورة الفوتوشوب في تلك اللحظة الحرجة جداً شيئاً نافلاً ولا معنى له بالمقارنة مع صديقتنا دارْيا. ثم لم نتلكّأ هنا أو هناك، أخذنا أول سيارة أجرة صادفتنا وانطلقنا. لم نذهب طبعاً إلى المركز الإلكتروني في شارع الباكستان، بل إلى صالون دارْيا في الحي الروسي. كان الطريق أطول من المعتاد من شدة لهفتنا إلى الوصول بأقصى سرعة، فصرتُ أقطّعه بصفيري على البنايات المسرعة في النافذة إلى يميني، بينما ظلّت ليزا تمسك بيدي حتى نزلنا من السيارة أمام باب صالون التجميل.
لم نعرف كيف نخفي سعادتنا الغامرة أمام داريا التي صعقتْها إصاباتُ صديقتها ليزا إلى درجة أن عينيها امتلأتا فوراً بالدموع. وإذ لم يكن لدينا الآن محلّ، ولا وقت، للشروح والعواطف، وجدت ليزا نفسها تضحك من كلّ قلبها، وهي تبلع نزف لثتها، وتضمّ داريا إلى صدرها. لم تفهم داريا طبعاً مناسبة الضحك، ثم بدت محرجَةً من دموعها المتساقطة على خدّيها كأنما بلا سبب، فتناولت منديلاً ورقياً وجففّتها مثل مخدوعة. لكنها، مع ذلك، لم تستطع، بعد قليل، أن تهضم وجه عزيزتها ليزا المُكَدَّم، فأصرّت، متوسّلةً بملامحها المشوشة المبهوتة وصوتِها المتقطّع، على إسعاف ليزا في الحال إلى أقرب مشفى.
قابلْنا طبعاً فكرة الإسعاف بالبرود والاستخفاف اللاّزمين، ثم أمسكتُ بليزا وأجلستُها على مقعد أمام مرآة كبيرة، وطلبت من داريا أن تضمّدها، هي، بمساحيقها فقط.
- كيف؟؟ كيف سأطلي بالمكياج وجهاً مورّماً ومسلّخاً ومدمّى؟!
- نعم ستطلين، وبسرعة، يا داريا العزيزة، يا داشا الحبيبة، يا داشوتشكا الماهرة التي لا مثيل لها، ولا حتى في بيتربورغ. لن نقصّ كل شيء عليك الآن يا عزيزتي، فلا تضيّعي الوقت بالدهشة والأسئلة أرجوك، انشغلي الآن، لو سمحت، بإخفاء هذه المصائب من وجهها فقط.
قلتُ، ثم خرجتُ من الصالون قبل أن تتمكّن داشا من الاعتراض عليّ.
وقفت على رصيف الشارع، فترة طويلة، أشعر بالرضا لأننا لم نهدر وقتنا الضيّق في مكان آخر. لكنّ ليزا أذهبتْ رضاي كلّه ما إن ظهرت أخيراً من باب الصالون. كان وجهها الآن أقرب ما يكون إلى قناع مُطَعْوَج لمهرج سيرك. صحيح أن طبقة المكياج السميكة قد غيّبتْ الدم والتسلّخ والازرقاق والاحمرار، لكنها جعلت الأورام المتفاقمة غيرَ مفهومة الأسباب إلا باعتبارها تشوّهات خلقية نادرة. وقد عزّزتْ ابتسامةُ ليزا الظافرة أصالةَ هذه التشوّهات مادام الإنسان السويّ، المرضوض والمورّم بهذا المقدار، لن يكون قادراً على الابتسام بمثل هذا التطاول وهذا الإصرار. وبالمقارنة مع ما قَبْل مكياج داريا كان واضحاً أن فضول المارّة قد تضاعف الآن، إن بسبب الابتسامة المتعرّجة المحشورة بالقوّة بين الانتفاخات الغامضة، أو بسبب الرغبة الطبيعيّة لدى البشر في تفسير الظواهر، بخاصة إذا كانت استثنائية وعويصة. وكانت ليزا تؤكّد ابتسامتها الحمراء لكلّ من يتقصّى وجهها في الطريق، ولم يكن بوسعي أن أمنعها من ذلك. لقد وجدتني أستسلم ليس فقط لابتسامتها المستمرّة، بل ولوجهها بكلّ ما فيه، لأن إصلاحه أصبح مستحيلاً حتى على أعتى المشعوذين في الدقائق المعدودة الأخيرة المتبقّية التي نمشيها الآن باتجاه الكباريه. ثم استرعتني عيناها، ولم أعد قادراً على تركها وحيدة مع وجهها اللامعقول أكثر من ذلك. كانت عيناها لا تبتسمان، بل تفضحان رغبةً حارقة بأن تنفجر بالبكاء. لابدّ أنها قبل أن تخرج من صالون داريا قد تروّتْ بالنظر إلى نفسها في المرآة. لكنها لن تبكي، وأنا بطبيعة الحال لن أكتفي بالاستسلام لفظاعة وجهها. كان عليّ أن أفعل شيئاً فورياً ملحّاً قبل مواجهة اللجنة في الكباريه بعد قليل. ستكون اللجنة متطلّبةً، ولن تتهاون في ضمّ أيّ عاهرة جديدة إلى ملاك المحلّ المميّز، حتى ولو كان واسطتها صديقي عبدو- ربما سيتسامحون، كرمى لخاطره، مع عرجها الخفيف مادام لن يعيق شغلها مع الزبائن، فهم في نهاية الأمر لن يُرَكِّضوها. ولكنْ وجهها، كيف نقنعهم بوجهها؟؟ كان عليّ، أولاً وبلا إبطاء، أن أبادر، أنا، وأقتنع بكلّ قواي بوجهها كما هو الآن، وأن أتناسب معه بأعضائي كلّها وسكناتي كلّها، فلا يبدو نشازاً بالمقارنة مع رِجْلها السليمة أو وجهي. يجب أن أظهر في عيون أعضاء اللجنة، بعد قليل، لا كجزء منهم باعتباري صحيحاً، بل كجزء منها باعتبارها لا تشكو من عيب لافت. إن أيّ خاطر دفين متسرّع ينتقص من ليزا في رأسي سوف يسهّل على اللجنة الاستنتاج أن وجهها مثير للغثيان. أمسكتُ يدها على باب الكباريه لأصاب، كأنما، بإيمانها بوجهها، الذي لم أعد أراه، إيماناً خالصاً أعمى قبل أن ندخل. وكان الوقتُ وحاجةُ ليزا إلى قبولها في الكباريه أضيقَ وأثمنَ من وساوس العقل السليم، فدخلنا كأننا لم نزر لينا في هذا اليوم، أو أن شيئاً لافتاً لم يحدث هناك. أفضى بنا الباب إلى دهليز ضيّق طويل شبه معتم كان في ملاقاتنا عند نهايته عصام الكردي، رافع الأثقال وبطل الرماية السابق والحائز على وسام بطل الجمهورية في حرب من الحروب، والشهير في الحي الروسي كلّه باعتباره الرجل الأول والأخير الذي تمرّد على بوريا وظلّ حيّاً حتى الآن. بادرتُ بإلقاء التحيّة عليه، ففوجئ بي كما لو كان ظهوري في هذا المكان مفاجأةً سعيدةً بالنسبة إليه، ثم اقترب مني بتيشورته الأحمر، وغمرني، برفق وليونة، بعضلاته الضخمة المتحجّرة على صدره وذراعيه. وكان من الواضح أن حرارة استقباله لي تشي بمودة قديمة تربطه إليّ شخصيّاً، برغم أنني لم أذكر، في تلك اللحظة، أين نشأتْ هذه المودّة الخاصة، وكيف تعمّقتْ إلى هذه الدرجة. لكنني سعدتُ بها على كل حال، كما لو أنني أستحقها فعلاً. ثم خطر لي، وأنا أنظر إليه، أنه، بجهامته الفريدة وسمعته المهيبة، جدير بالاعتماد عليه عند الشدّة. وكان الآن يمنح ليزا، من وجهه العالي، ابتسامةَ ترحيب خجولة وقصيرة، بينما لا تعكس عيناه الصافيتان شيئاً من وجهها الفظيع السابق قبل دخولنا الكباريه. كان كيانه المتين الهائل كلّه نظيفاً تماماً من أيّ مأخذٍ على ليزا. التفتُّ إليها، وأدركت على الفور الأثر البليغ الذي تركَهُ فينا معاً خفرُ ابتسامته وصفاء عينيه وضخامةُ كُتَله المتراصّة بإتقان بعضها فوق بعض داخل بنطلونه الأسود وتيشورته الأحمر. لم أعد الآن أميّز شيئاً شاذّاً، على وجه الدقّة، في وجهها الحاضر، حتى ابتسامتها التعسّفية المخضّبة بالدم لم يعد لها أثر فظّ ملموس. وكان يستحيل طبعاً تفويت عصام إلى حال سبيله، فلابدّ من إشراكه، بكلّ أثقاله الناجعة، بإطلالتنا على اللجنة التي تكمن لنا الآن في الداخل من كل بد. سوف نُدخِله معنا، فكّرتُ، وسوف يمتصّ أولاً بأوّل، بجسده الحجريّ الهائل وعينيه الصافيتين، كلَّ ملاحظاتهم، إن حدثت، على وجه ليزا.
- حَ تدخل معنا.
قلت له بلهجة الواثق المُخَوّل، وأنا ألوذ، وليزا، بظهره المتين المرصوص، وأدفعه أمامنا مثل متراس شاهق من أكياس رمل.
- لوين؟؟
قال ملتفتاً نحونا برأسه فقط.
- عَ اللّجنة.
قلت، وقد صارت ليزا تساعدني في دفعه أمامنا مثل مدحلةٍ سوف ندحل بها، بعد قليل، كل أعضاء اللجنة.
- أي لجنة؟؟
- حَ تشوف بعينك.
أجبت، وقد صار عصام يستجيب لإلحاحنا، بابتسامته الخجولة الحائرة، وهو ينزل أمامنا ببطء على درَجٍ قصير ينتهي عند باب مغلق. وإذ هّمَّ، كأنما، أن يلتفت إلينا برأسه مرةً أخرى، ليستوضح، ربما، ما الذي نريده منه بالضبط، وجد نفسه أمام الباب مباشرة، ففتحه. دحمناه إلى الداخل بمقدار ما حرّرَنا من درفة الباب الثقيلة، فانطبقتْ وراءنا. الإضاءة في الداخل لم تكن كافية، لكنّ تيشورت عصام ملأ أعيننا بحمرته الطاغية، فلم نعد نرى شيئاً سواها- كنّا الآن، ليزا وأنا، محجوبين تماماً وراءه عن أنظار اللجنة المفترضة التي خرجت، لابدّ، من كمينها، وجلست أمامه في مكان ظاهر لملاقاتنا في هذه اللحظات. ثم بدا الصمت المطبق وراء تيشورت عصام ثقيلاً علينا، كما لو كان يتخلّق في الهواء الراكد من تلقاء نفسه، ويحشو الفراغ الهائل من حولنا بقطن أحمر مندوف كثيف وخانق. وكان يمكن لتمخّط أحد أعضاء اللجنة أن يبدّد هذا التكميم المحكم، لكنّ أحداً لم يتمخّط، ولم يسعل، ولم يسأل عصام عن سبب وقوفه عند الباب، أو عمّا إذا كان قد صادفَنا في المدخل على سبيل المثال. اضطررتُ أخيراً إلى مدّ رأسي من وراء ذراع عصام. البست فارغ، الكراسي شاغرة كلّها في الصالة الكبيرة وفي البلكون، والطاولات عارية من أغطيتها. فخرجنا من وراء عصام بحذر، واستلمتْ ليزا مكانها الآمن بيني وبينه.
- المعلّم أرتين في البيت.
قال عصام بلكنة العارف بأدق تفاصيل حياة المعلّم أرتين، ثم سبقنا إلى إحدى الطاولات، ودعانا للجلوس، فجلسنا.
- شاي إلا قهوة؟
خيّرنا عصام بصوتِ رجلٍ له يد طويلة في المحل، فازداد إيماني بوجه ليزا. لكننا لم نكن نريد في تلك اللحظات إلا شيئاً واحداً فقط- أن لا يتركنا عصام وحدنا مهما كان السبب، لأن اللجنة تستطيع أن تنبق علينا في أي لحظة وتستفرد بنا في غيابه، ولأن شيئاً لا يضمن لنا، برغم المودة التي خصني بها في المدخل، أنه إذا غاب الآن فسوف يعود بعد قليل.
- لا تعذّب حالك أخ عصام.
قلت، وكان بودّي لو أتوسّل إليه لكي يبقى، أو أقيّده إلى طاولتنا بجنزير من الجنازير، فلا أحرّره منه إلا بعد دخول اللجنة اللعينة. لكنه لم يترك لي فرصةً لإقناعه بالبقاء.
- قهوة!
قرّر عنّا، واتجه في الحال إلى فرجةِ ستارةٍ مُسدلة في صدر البست، وغاب فيها.
استندتُ إلى الطاولة بكوعيّ، وأطبقت على أذنيّ براحتَيّ، وأغمضت عينيّ. صرت أهيّئ روحي، في ظلام جفوني، لمقابلة اللجنة من دون عصام، فهو بالنهاية غير ملزم بالعودة إلينا مادام لن يحزر مقدار حاجتنا الماسّة إليه. ثم إنّ المودة القديمة التي غمرني بها سيظلّ محتفظاً بها كاملةً، هناك وراء ستارة البست، حتى ولو كبستْنا، هنا، اللجنةُ في هذه الدقيقة. أما القهوة التي وعدنا بها فيستطيع إرسالها مع غرسون البوفيه، أو مع أيّ شخص آخر. لكنني، قلتُ، في كل الأحوال لن أسلّم ببساطة، لا، لن أسلّم بعدم قبول ليزا في الكباريه. وسأجد، أنا بالذات، ما أفعله مع اللجنة، لأن أعضاءها في نهاية الأمر ليسوا وحوشاً بأنياب ومخالب، إنهم بشر مثلنا حتماً، حتى ولو تكشّفوا عن نفوس حاقدة مقززة لا تطاق. ثم إن وجه ليزا لن يظلّ مرعباً إلى الأبد، ناهيك عن التحسينات الملموسة التي أضْفَتْها عليه عضلاتُ عصام قبل دقائق. فتّحت عينيّ، والتفتُّ نحو ليزا الجالسة إلى جانبي لأتأكّد من استمرار وجود تحسينات عصام في غيابه، فهالني اختفاؤها التام وعودةُ وجه ليزا إلى ملامحه المدمَّرة السابقة، وقد اخترقتْها من جديد ابتسامتُها المتعرّجة الحمراء.
- حتى ولو سحب عصام كل تحسيناته معه إلى البوفيه!
وجدتُني أرفع صوتي من شدّة ضيقي. وانتظرتُ، كأنما، صدىً لكلماتي في الصالة الكبيرة والبلكون، ولم أسمع شيئاً. ثم خيّل إليّ أن اللجنة تتلصص علينا من الفرجة التي ابتلعت عصام وراء ستارة البست، فتابعت كلامي العالي، وأنا أنظر ناحيتها بطرف عيني:
- ما المشكلة، يا ليزا ما المشكلة؟؟ إن وجهك المدمَّر مؤقّت في نهاية الأمر.
ثم أكّدتُ، بجرأة أكبر وحدّة أعلى، وأنا أركّز على مخارج حروفي:
- وجهك المدمّر.. لن يُخَلِّد.. على طاولات الزبائن.
ثم كأن الغضب قد أخذني، فأكّدتُ هتافي:
- الويسكي المغشوش أصلاً سيصرع الزبائن من أول كأسين، وسيصبح وجهك، بعد ذلك مباشرةً، فائضاً عن الحاجة.
ثم تراءى لي أن لغطاً خفيضاً قد نشب وراء ستارة البست، فآثرت أن أقطع حديثي لأفهم شيئاً منه، لكنني انزلقت من جديد إلى توضيح آرائي الحازمة للّجنة، اللئيمة الجبانة المتلصصة علينا، لأزيد من حدّة خلافها الخفيض الغامض الذي بدأ يتسرّب إلينا:
- ولا تنسي يا عزيزتي أن نصف العاهرة في الكباريه لسانها الحلو.
وهنا انطبق فجأةً باب الصالة ورائي. التفتُّ، وإذا برجل مؤنّق شديد البدانة جامد عند الباب ينظر إليّ من عينين صغيرتين مطَمَّرتين بلحم أحمر سميك مُغَضّن يتداعى عليهما من كل الجهات.
- أقول نصف العاهرة في الكباريه لسانها الحلو.
كررتُ كلامي بإصرار إلى الرجل البدين، بينما بدأ يدبّ بين الطاولات حتى توقّف أمامي يتأمّلني، كما لو كنت فكرة عويصة اعترضتْ طريقه الآن بالضبط. كانت جثته المعرّمة بالشحوم قد قطّعت أنفاسه فجعلتْها مسموعةً رغم قِصر المسافة التي مَشِيَها إليّ.
- العاهرة في الكباريه- تابعتُ شارحاً له بصوت أخفض- تحتاج، كما هو معروف، إلى حنكتها أكثر من حاجتها إلى وجهها. أعني الحنكة المحبّبة، لدى المستفيدين من أرباح الكباريه، في تأجيل نصفها السفلي ريثما يفرغ البار من قناني الويسكي.. والبيرة إذ شئت. والزبون، حتى قبل أن يعمى من السُكْر، لا يرى ولا يراقب من أول السهرة إلا نصفها السفلي صدّقني! هل لاحظت المفارقة؟ إذاً ما قيمة وجهها بالمقارنة مع لسانها الحلو أو مع ركبتها أو جزء مدروس من مؤخرتها إذا اقتضت الضرورة؟؟ أنت نفسك تستطيع أن تُقَبِّع رأسها بسلّة مهملات، وتتعامل مع ما تبقّى منها بكثير من المداراة والاحترام، بخاصة إذا كانت تعرف أنّ ما تبقّى في جيوبك سيكفي لتنزيل زجاجة ويسكي أخيرة على طاولتك.
وكنت أريد أن أشرح له التناسبَ العكسي بين قدرة الزبون على تنزيل الويسكي وبين قدرته على تحريك يده أو رجله أو أي عضو آخر من أعضائه في نهاية السهرة. لكن الرجل البدين قاطعني بنزق وبلغة روسية ركيكة متسائلاً، وهو يلهث، عمّا أريده بالضبط. أدركتُ الآن فقط أن روسيّته المهشّمة قد فوّتتْ عليه الكثير مما قلته له قبل قليل. وكنت أستطيع، برغم ذلك، أن أتجاهل معرفته الضعيفة بهذه اللغة، وأتابع بها فكرة التناسب العكسي لولا ظهور عصام في فرجة ستارة البست.
- يا هو! مين هَيْ الجحش؟!
سأل الرجلُ البدين اللاهث عصاماً بلهجة المتحرّق على إجابة فورية وشافية.
لم يجب عصام، كأنه لم ير الرجل البدين لكي يجيب عن سؤاله. أشار إلينا، أنا وليزا، لنادل وراءه يحمل فنجاني قهوة وكأسي ماء، وقد بدا راضياً عن نفسه. وكنت سعيداً ومأخوذاً بعودته أخيراً إلى درجة أنني تنازلت عن الفكرة العزيزة التي أردت شرحها قبل قليل، ونسيت، في غمرة ذلك، فنجانَ القهوة الذي وضعه النادل أمامي. لم أعد الآن أكترث باللجنة ولغطها الذي انقطع، على أي حال، بظهور عصام. ولن أبالغ، مادام موجوداً، بأهمية ما يمكن أن يفعله معنا أعضاؤها المتطلّبون، وربما المتعنفصون والأوغاد أيضاً، لا فرق.
- أهلين معلّم أرتين!
قال عصام أخيراً موجِّهاً ترحيباً بارداً إلى الرجل البدين.
فهم المعلّم أرتين الآن أننا في حماية عصام، وأن عصاماً مستاء من سؤاله غير المهذّب فوق ذلك، فلم يجرؤ على إعادته عليه، ما هيّج، على ما يبدو، لهاثه من جديد وهو في مكانه- تلفت حواليه يبحث، كأنما، عن أحد يصبّ عليه شتائمه التي جعلت وجهه المغضّن الأحمر الكبير قرمزياً. لم يجد أحداً. كان كل شيء في الصالة والبلكون يستقوي بوجود عصام الكثيف والراسخ، فنخر المعلّم أرتين نخرة طويلة حاول، ربما، في أثنائها أن يضمّنا، ليزا وأنا، إلى لائحة المنغّصات غير القليلة التي تعترض، من وقت إلى آخر، حياةَ الكباريه الحافلة بالرجال والنساء المصطهجين السكارى. لكن وجودنا في مثل هذا الوقت المبكّر بالنسبة إلى كباريه، مضافاً إليه صحونا التام واحتفاء عصام بنا، هو، في واقع الأمر، تنغيصٌ من نوع خاص لابدّ قد لاحظه المعلم أرتين. وعليه الآن، كصاحب مصلحة، برغم غلاظتنا البادية في عينيه الصغيرتين، أن يُسَلِّكنا في عقله بالمحاكمات الآليّة السريعة الشاقة التي يجريها عادة عند كلّ موقف مقلق أو سخيف أو غير مفهوم. وبذلك يتجنّب احتمال الخسارة الموجعة بتنازله سلفاً عن احتمال أيّ ربح في الغيب. إن حاجة المعلم أرتين إلى مثل هذه المحاكمات الذهنية الذليلة لا يمكن تمويهها طبعاً، وأفضل دليل على ذلك شحومُه المكوّمة أمامنا على نحو اعتباطيّ وهائل. إن أي عابر سبيل لا يحتاج إلى ملكات خاصة لكي يكتشف، من نظرة متفحّصة واحدة، أن المعلّم أرتين حين يأكل إنما يأكل ببال مرتاح وضمير ميّت، وأنه حين ينام لا يعاني أي معاناة من الكوابيس التي تزور عادةً أصحاب الكباريهات في الحي الروسي، فما الذي يدعوه اليوم لاستدراجها. وهكذا فقد وجدتُ في استيعابه المفترض لنا، المرير والمتعالي، نوعاً من حماية نومه الهنيء واطمئنانه الغذائي العزيز على قلبه، مادام عصام يعتبرنا كلّ هذا الاعتبار. إذاً الفرصة مواتية لي أيضاً في هذه اللحظات بالذات لأفيد من هضمه الاضطراري لوجودنا في تمرير وجه ليزا بسلام من بين مخالب اللجنة المتربّصة بنا في مخبئها حتى الآن.
- واللجنة معلّم أرتين، وين اللجنة؟؟
بادرتُ المعلمَ أرتين بصوتٍ نحاسيّ رنّان، كما أطالبه، دون عنعنةٍ أو تأجيل، بتسديد كمبيالة مستحقّة عليه.
التفت المعلم أرتين إلى عصام مستفهماً، ومزرّراً عينيه على ضيقه الشديد من رنيني الفظ.
- أي لجنة؟؟
أومأ له عصام بكتفيه أنه لا يعرف.
وكما لو أنه انتبه فجأةً إلى لهاثه المتواصل حتى الآن، توجه المعلّم أرتين إلى طاولةٍ قريبةٍ من حدّ البست، وغَيَّبَ أحدَ كراسيها في شحوم مؤخرته، متكوّماً فوقه. أطرق قليلاً، ثم رفع رأسه ببطء مصوّباً عينيه عليّ بصبرٍ نافد، وهو ينتظر منّي هذه المرّة أن أتفضّل عليه، وأوضّح له أيّ لجنة أقصد.
- صديقي عبدو..
- بسْ!
قاطعني حالاً، وقد فتح كفّه السميكة في وجهي. ثم أردف في الحال:
- وينو البنت؟؟
أشرتُ إلى ليزا.
فوجئ المعلم أرتين، كأنما، بإجابتي، فثبّت عليّ نظرةً مرتابةً حادةً قبل أن ينزلق بها إلى ليزا- صار يتفحّصها مندهشاً، كأنه يلاحظها إلى جانبي لأول مرّة منذ دخوله الصالة، أو أنه لم يكن ليتصوّر أن الحديث، الذي فتحه صديقي عبدو معه، يمكن أن ينطبق عليها بحال من الأحوال. عاد وأطرق برأسه. صفن طويلاً، كأنما بحشرة طويلة ذات قوائم لا تحصى تمشي بصعوبة بالغة في عقله الوعر وبين وبر الموكيت على الأرض في وقت واحد. ثم صار وجهه الكبير قرمزيّاً من جديد. وكنا، ليزا وأنا، لن نفهم أن يكون قد توصّل، ربما في هذه اللحظة، إلى نتيجة لا نرضى عنها. وأردتُ في الحال أن أوحي له، بصورةٍ من الصور، بأننا لن نستسلم يا معلّم أرتين بسهولة كما يمكن أن تتوقع، غير أنه سبقني الآن بعينيه المفعّستين، إذ رفعهما أخيراً عن الحشرة المتخبّطة بين أفكاره المشعّثة. ثم اتجه بهما ببطءٍ معذِّبٍ ثقيلٍ إلى السقف، ومن هناك انقضّ فجأةً على عصام:
- عصام!.. شو؟؟
كان كل ما يعرفه عصام، من الموضوع الذي يُستمزَج رأيُه فيه الآن، أنه، تبعاً لما سمع ورأى في الدقائق الأخيرة، متعلّق بليزا. وكان لابدّ قد استنتج، من ملامح المعلّم أرتين القرمزية ونخيره المتواصل، أن هذا الأخير قد اتخذ قراراً سلبيّاً بهذا الشأن، وأنه ما كان ليأخذ رأيه، مفترضاً إلمامه المفصّل بما يجري، لولا ثقتُه ببداهة قراره، وعشمُه على تحكيمه ضميرَه بصفته إبناً بارّاً للكباريه، وعارفاً بأصول الكار، برغم الحماية التي يبسطها صراحةً عليّ وعلى ليزا صاحبة العلاقة.
وهنا رأيتُ أن أتدخّل فوراً، مستفيداً مرةً أخرى من حرص المعلّم أرتين على نظافة فراشه من الكوابيس، لأشرح لعصام لبّ المشكلة قبل أن يحكم عليها. غير أنني، حين التفتُّ إليه، وجدته منهمكاً بالإجابة الصحيحة التي أجهزتْ على المعلّم أرتين، وسحرتْني.
لقد برهن عصام في تلك اللحظة على أن المسألة، برغم جهله بها، لا تحتاج إلى تحكيم ضميره، فقد بدا، ببساطة، سعيداً جداً بحمايتنا من المعلّم أرتين دون أن يهتمّ بسبب وجودنا هناك. كان يعيش أمامنا حقيقةً ملتبسةً بالنسبة إلينا جميعاً، أنا وليزا والمعلّم أرتين على الأغلب، على اختلاف مشاعرنا نحوها، لكنها حقيقة واضحة بالنسبة إليه فقط، حقيقةٌ مخلوقة من أجله ومكتملةٌ به ولا تتسع لأحد سواه، ولا يريد، وربما لا يستطيع، شرحها أو تبريرها لأحد أياً كان. حقيقةٌ طالما عاشها عندما حطّم أرقامه القياسية رقماً وراء رقم في الرماية ورفع الأثقال، وعندما هجر فجأةً أرقامه هذه بلا سبب مفهوم، وعندما حارب في الجبهة وأصبح بطلاً للجمهورية، وعندما رفض التطوّع بالجيش واختار بدلاً من ذلك حماية كباريه المعلم أرتين. وكذلك عندما محضني، اليوم في المدخل، مودّتَه الصريحة القديمة، برغم أنني لا أذكر منها شيئاً قبل لقائه، فقد كنت، مثل كثيرين في الحي الروسي، أسمع بعجائبه وأراه من بعيد لا أكثر. كانت الآن حقيقتُهُ الشخصيّةُ، تلك، تسطع في عينيه، وتملأ كيانه الهائل كلّه بانحيازه السافر إلينا، انحيازاً كاملاً حارّاً مدهشاً وعصيّاً على التفسير، فانتقلتْ، كأنما، شحنته القوية سريعة الانتشار من الأرض التي يقف عليها إلى كل شيء. كان فم عصام المطبق يقول "لمَ لا؟"، وحاجباه المفرودان يقولان "لمَ لا؟"، ويداه المكتّفتان المتحدّيتان تقولان "لمَ لا؟"، وتيشورته الأحمر يقول "لمَ لا؟" والكراسي الشاغرة، والطاولات العارية، والبست، والبوفيه وراء ستارة البست، ولمبات النيون الرفيعة في سقف الصالة، ودربزين البلكون، ودرفة الباب الثقيلة، والدرج القصير قبل الباب، والموكيت، وحشرة المعلم أرتين بين وبر الموكيت وفي عقله الوعر، كانت كلّها تردّد مع فم عصام المطبق وحاجبيه ويديه وتيشورته الأحمر: "لمَ لا؟" "لمَ لا؟" "لمَ لا؟" "لم لا نقبل ليزا عاهرةً في الكباريه؟ لمَ لا نقبلها؟ لمَ لا؟ لمَ لا؟ لمَ لا؟" ثمّ ارتفع صوتي فجأةً مثل أكّوردٍ ختامي فوق كل الأصوات الحماسية الخفيّة القوية المنشدة والمتحالفة بلا هوادة مع ليزا أياً كان وجهها:
- لمَ لاااااا؟
أدّيتُ، كأنما، بباصٍ رخيم وحازمٍ، فسكت كل شيء في الصالة من بعدي ماعدا الغضب المسموع الذي ظلّ ينغر في قلب المعلم أرتين- كان الآن يميل إلى الوراء مستنداً إلى ظهر الكرسي المُغيَّب فيه، وقد رفع وجهه القرمزي بعينيه المغمضتين باتجاه السقف من جديد، وهو يحنّ، ربما، إلى أيامه الذهبية البعيدة عندما كان لا يستحكمه شيء، أو أحد.
* * *
II
قبل أن يظهر بوريا في الحي الروسي كان المعلّم أرتين يشتري راحة باله من أكبر أزعر في شارع الملاهي بعاهرة عجوز تجالسه ساعة من الزمان في آخر الليل مع مشروبه ومصروف جيبه لا أكثر. لكنْ مع ظهور كلاب الشوارع الميتة، التي بدأت تُرمى بخاصة على أبواب منازل أصحاب الكباريهات، أصبحت راحة البال تكلّف الكثير. ثم أصبحت لا تطاق بعد أن شاع اسم بوريا الرهيب مع حاويات القمامة التي بدأت تظهر فيها جثث كبار زعران الحي الروسي المشهود لهم بالجرأة والقسوة والصلف. فهِمَ الجميع، من أصحاب المحال إلى الناجين من الزعران القدامى، أنْ لا مكان بعد الآن للارتجال في هذا المجال، وأن هنالك جهة وحيدة يُتفاهم معها، هي بوريا لا غير. لم يعد هنالك حدود بين مناطق نفوذ فارضي الخوّات البائدين، فالحي الروسي كلّه أصبح في قبضته هو، والأزعر الجديد لا يستقلّ، إذا فكّر بالاستقلال، إلا مكوّماً في حاوية قمامة على ناصية شارع، فهو الآن مجرّد موظف صغير قوي البنيان براتب مقطوع وساعات عمل محددة. وعليه في أثناء ذلك أن يكون نظيفاً مهندماً حليق الذقن دون قطرة كحول واحدة في أوقات الخدمة، وأن لا يتورّط بـ"مهامّ" إضافية غير مُكَلَّف بارتكابها أصولاً، ودون أي استعراض للقوة أو الفهلوة أمام السكان وعليهم. إنه الآن يعمل عند بوريا، وبوريا لن يسمح بتلطيخ سمعته بإهانات عشوائية لا غاية منها سوى ترهيب الناس بلا فائدة، أو برشاوٍ جانبيّة سخيفة من هذا وذاك، أو بالتسكّع عند أصحاب المصالح بهدف تناول الطعام مجاناً وسماع عبارات التملّق، أو حتى بافتعال المهاترات المجانية مع شرطة السير والنجدة وعناصر أمن العاصمة الحكوميين. وقد لاحظ الناس فعلاً، بعد ظهور بوريا في الحي الروسي، أن تحسّناً ملموساً قد طرأ على أخلاق الزعران وسلوكهم في الشوارع، حتى في الأوقات المتأخرة من الليل. بل يمكن القول إن الحي الروسي صار يتمتع بأمن وسلام لم يتمتع بهما أبداً في عهد الزعران القدامى. صار الآن بإمكان العجائز الأثرياء والنساء من كافة الأعمار أن يتجوّلوا في أيّ وقت وفي أمان تام، حتى ولو كان بعضهم مستهدفاً من بوريا، لأن بوريا لا يُحَصّل حقّه باعتداء في طريق عام إلاّ عند الضرورة القصوى، ولأن الجميع، سكّاناً ووافدين، فهموا، مرةً وإلى الأبد، أن حقّ بوريا لا يموت. وقد عزّز بوريا صورته كجنتلمان معاصر بنشاطاته الاجتماعية الخيريّة، فأسّس على أنقاض المقبرة الاعتباطية الوحيدة في الحي مقبرةً عصرية منظمة بطاقم من موظفيه الزعران المهذّبين العارفين بطقوس الموت في الديانات الشائعة يشرفون على الميت حسب دينه منذ لفظه أنفاسه الأخيرة إلى آخر حجرة على قبره. وذلك لقاء مبلغ يحدّده بوريا تبعاً لحال الميت وأهله. ثم حرص في السنوات الأخيرة على إرسال عشرات البابانويلات عشية رأس السنة يوزّعون الحلوى والهدايا على أطفال الحي. ورغم أن أحداً هنا لا يصوم في رمضان، باستثناء عناصر دوريات الشرطة والأمن القادمين من العاصمة القديمة، فقد صار بوريا يقيم موائد الرحمن لهم، وللمتسوّلين من كافة الأديان بمن فيهم المسلمون الفاطرون السافرون منهم والمقنّعون، وللسكارى النهاريين الوافدين والمحليين المعدمين، أو المطرودين من زوجاتهم قبيل غروب الشمس. وفي صبيحة عيد الأضحى أصبح بوريا يضحّي بثورين يوزعهما على المحتاجين. ويقال إنه يرسل المعونات إلى العجائز المرضى المقطوعين في بيوتهم، وإذا دعت الضرورة يستقدم لهم الأطباء والممرضات على حسابه. وقد أصبح أصحاب الكباريهات والمطاعم والسينمايات والنوادي الرياضية والسيرك والبقاليات وصالونات الحلاقة والأفران والأكشاك والبسطات على الأرصفة وعربات الخضار، بالإضافة إلى المبغى والعاهرات المتجولات على الأرصفة والشحاذين وماسحي الأحذية، أصبح كل هؤلاء يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم بلغاتهم المختلفة كلما وجد بوريا باباً جديداً لأعمال الخير. فالخير والرحمة والمحبة والتعاون والإحسان لم تعد تعني لكثيرين منهم، في عهد بوريا، سوى المزيد من محاصصته بأرزاقهم قليلةً كانت أم كثيرة.
لقد ظلّ المعلّم أرتين، كباقي أصحاب الكباريهات، من أكبر الممولين لأعمال بوريا الخيرية الكريهة حتى عاد عصام من الحرب إلى الحي الروسي. أما لماذا اختار عصام كباريه المعلّم أرتين ليخرجه وحده من سلطة بوريا، فذلك سؤال مازال يحيّر الكثيرين. وكان ذلك، طبعاً، حدثاً مشهوداً ضجّت به شوارع وزواريب الحي الروسي كلّها، فقد وُجد أخيراً الرجل الذي قال لبوريا: لا.
كان بوريا يعرف عصام قبل الحرب منذ أرقامه القياسية بالرماية ورفع الأثقال. وقد استدرجه، ولم يستجب، مرات عديدة، للعمل معه ليس لأنه رامٍ يقظ ويعرف كيف ومتى يستخدم جسده القوي فقط، بل ولأنه فوق ذلك شخص محظوظ في تجنّب الضربة المباغتة. وبوريا، يقال، يتطيّر من المحظوظين الأقوياء حين لا يكونون من رجاله المقرّبين. ومع نجاة عصام المتكرّرة من كلّ ما أراد بوريا أن يباغته به قبل الحرب ازداد وقع عصام لدى سكان الحي الروسي بصفته بطلهم المسالم، حتى الآن، والمتفرّغ، حتى الهبل، لرياضتيه الحبيبتين. لكنه حين دخل، بعد الحرب، إلى مكتب المعلم أرتين في الكباريه لأول مرة حاملاً بإحدى يديه قطته الصغيرة غزال في محفظة قماشية، وباليد الأخرى حقيبةَ تنك فيها بدلان داخليّان وعدة حلاقة وفرشاة أسنان ومنشفة صغيرة، لم يكن صعباً على المعلّم أرتين أن يلقف معنى الزيارة، فلم يصّدق عينيه- لقد قرّر عصام أخيراً تحدّي بوريا. ثم لم يصدّق المعلم أرتين أذنيه حين طلب عصام، مقابل عتقه من سلطة بوريا، غرفةً صغيرة يسكنها وغزال في الكباريه، مع تكاليف طعامه وطعامها، بالإضافة إلى لِتْرٍ يوميٍّ من عصير الكريفون.
ومنذ ذلك اليوم ينتظر سكان الحي الروسي على أحرّ من الجمر ساعة المواجهة التي ستكون رهيبة بالتأكيد بين بوريا وبطلهم عصام. لكنّ انتظارهم طال كثيراً، فازداد المعلّم أرتين بدانةً، في هذه الأثناء، وصار صديقاً حميماً لغزال عصام- يلاعبها في غيابه، ويأخذها بنفسه إلى عيادة الطبيب البيطري لتأخذ لقاحاتها المناسبة، وتخضع لكشفٍ طبيٍ عام كلّ ثلاثة أشهر. وغالباً ما يطعمها من أطايب مازوات المطبخ في الكباريه، ويشرف شخصياً على حمامها الأسبوعي، ويحلو له أن يقهقه في أثناء ذلك عندما تموء بين رغوة الشامبو مستنجدةً به من يدي عصام المُحْكمتين. ثم أصبح لا يسمح، حتى لعصام إذا كان مشغولاً بشيء سواها، بإخراجها من الكباريه لأنه يخشى عليها، كما يقول، من روح القطط التي تحب التسكّع، فتغيب عن ملاحظته، وتقع في أيدي أناس لا يستحقون لمسها. وسرعان ما شاع بين الزبائن والفنانين أنّ غزال، التي َتَتَبسْتَنُ في الكباريه، إنما هي قطة عصام ومدللة المعلّم أرتين في وقت واحد، فلا أحد يتقارشها، ولو بكلمة، حين تتخطّر بين الطاولات في الصالة، أو حين تتمطّى وتتثاءب على البست بين أرجل الراقصات والمطربين والعازفين.
وكان عصام قد شغل غرفة بين غرف مكياج ومشالح الفنانين والفنانات والعاهرات في الكواليس. ويقال إنه استطاع بسرعة قياسية أن يكسب ودّهم وثقتهم جميعاً إلى درجة أن أيّاً من الفنانات أو العاهرات لا تنقز ولا تلوذ بأي حاجز أو ستارة إذا فتح عصام عليها الباب فجأة وهي تحلق عانتها على سبيل المثال.
وكان أن وقعت عازفة العود رشيدة المغربية في حبّه فترة طويلة دون أي إشارة من ناحيته تنمّ عن مبادلتها المشاعر نفسها، فنحلت وقلّ طعامها حتى أغمي عليها ذات مساء. خاف عليها عصام آنذاك خوفاً شديداً إلى حدّ أنه قبّلها من فرقة شعرها حين عادت إلى وعيها. وصار منذ ذلك اليوم يتقاسم معها مخصصاته من عصير الكريفون على مرأى من الجميع، ويحمل لها العود حين تصعد إلى البست، ويساعدها في النزول منه، ويحتفظ، أحياناً، بيدها الصغيرة بين أصابعه عدة خطوات في الدهليز الطويل الواصل بين البست والكواليس على ذمة الثرثارة النمشاء إيفانوفا، إحدى خادمات الكباريه. لكن ما حدث بعد ذلك كان دراماتكياً على غير انتظار، ذلك أن رشيدة المغربية استمرّت في نحولها برغم الكريفون. لقد تبيّن لها، على ذمة إيفانوفا، أن عصام يستطيع أن يعيش من دونها، وإذا شاء يستغني بسهولة حتى عن يدها، فلا يمسك بها أحياناً في الدهليز. إنه، برغم تلميحها المتكرّر بحاجتها إلى أن تسمع اسمها بصوته ولو همساً، لم ينطق به حتى الآن، ويشرد دائماً بأظافره المقلمة كلما وجهت إليه الكلام، ولا يلاحظ أنها تأتي من أجله إلى الكباريه قبل موعد نمرتها بساعات، وأنها تمرّ من أمام باب غرفته عشرات المرّات في اليوم لكي تصادفه خارجاً منها. ثم إنه، تتابع إيفانوفا، لم يحزر أنها أصبحت منذ مدة طويلة تكره الغرفة التي تستأجرها عند الأرملة آزنيف، لا لسبب إلاّ لأنه لم يطرق بابها حتى الآن، لم يخلع حذاءه الرياضيّ في عتبتها، لم يتسطّح ببنطلونه وتيشورته على سريرها، ولم يملأ غسّالتها قط بغسيله الوسخ. وذات ليلة انفجرت رشيدة بالبكاء، وطلبت من عصام أمام كل الحاضرين من الفنانين والفنانات أن يأخذها، الآن وفوراً، إلى غرفته لتشرب معه عصير الكريفون على انفراد، فهي لم تعد، لم تعد، لم تعد تطيق أن تشربه هنا أمام الجميع، هل فهمت؟ لم يتحرّك عصام من مكانه، تقول إيفانوفا، ظلّ جامداً يحمرّ من الخجل إلى جانبها، وينظر إلى كأس العصير بين يديه. وكان الحاضرون يلومونه بعيونهم، وينتظرون منه أن يفعل شيئاً سريعاً من أجل رشيدة. لكن رشيدة دعيت، في هذه اللحظة، إلى البست لتقديم نمرتها، فقطعت نشيجها الحار ونهضت. وضع عصام كأس عصيره على طربيزةٍ إلى جانبه، ونهض هو الآخر. حمل العود بيده اليسرى وترك يده اليمنى طليقةً لاحتمال أصابع رشيدة. وفي الطريق إلى البست تراكمت على رشيدة زميلاتها الفنانات والعاهرات يقبّلنها، يجففن دموعها، يمسحن كحلتها عن خدّيها، يطلينها بالمكياج من جديد على عجل بقدر ما يسمح به الدهليز، القصير الآن، المفضي إلى البست. مشى عصام وراءهن مطرقاً مثل مذنب كبير. ولم يجرؤ حتى على النظر إلى وجه رشيدة حين استلم أصابعها منهنّ بيده اليمنى في نهاية الدهليز. لكنه، حين خرج بها إلى البست وسلّمها العود، لم ينزل، كعادته، إلى الصالة ليجلس إلى طاولته القريبة من أنظار المعلّم أرتين ريثما تنهي وصلتها، بل انتظرها هنا وراء الستارة تماماً في أقرب مكان إليها. غير أنه لم يسمع عزفها هذه المرّة، فما وصل إليه بعد لحظات كان صوت العود وهو يرتطم، بقوة ، بخشب البست، فأزاح الستارة- كانت رشيدة مكبوبة على وجهها، وأصابع يدها اليسرى الرفيعة ملويّة بين مفاتيح العود المقلوب. سارع إليها، فيما قامت الفنانات والعاهرات المُوَلْوِلات من طاولات الزبائن في الصالة وهرعن إلى البست. انحنى عصام فوقها، وعكمها بين يديه مثل بنت صغيرة ميتة. وبينما نزل بها إلى أرض الصالة، وشقّ طريقه باتجاه باب الخروج بين الفتيات المفجوعات بها، كان المعلّم أرتين قد وقف متثاقلاً من وراء طاولته، وهو يوزّع بأصابعه الغليظة إشارات صارمة على الفنانات والعاهرات كي يعدن إلى طاولات الزبائن بلا إبطاء. فهم عصام في المستشفى أن رشيدة أصيبت بشلل نصفي وغير قادرة على الكلام نتيجة جلطة في الدماغ، فنامت يومين في العناية المشددة، ثم ثلاثة أيام في عنبر النساء. كان عصام في هذه الأثناء، بالإضافة إلى زيارات زميلاتها القصيرة، مرافقها المواظب الوحيد. وقد قضى تلك الفترة ماشياً في الكوريدور، أو واقفاً على بابها، أو مطارِداً الممرضات والأطباء المناوبين بأستلته عنها، أو غافياً في أحيان نادرة على أحد الكراسي القريبة من باب عنبرها. وكان أمراً مفروغاً منه بالنسبة إليه أنه، بعد تخريجها من المشفى، لم يأخذها إلى غرفتها في منزل آزنيف، بل إلى غرفته في الكباريه. وقد فعل ذلك، على الأغلب، ليس لأن الأطباء قد قللوا من احتمال تحسّنها في المستقبل، أو لأن رشيدة بلا أقارب في الحي الروسي، فيما تحتاج الآن إلى رعاية خاصة، بل لأنه هو نفسه، ربما، اكتشف أخيراً حاجته إلى شخص محدّد يشاركه حياته. في مساء ذلك اليوم خطبها لنفسه من المعلّم أرتين، فانفجر هذا بالضحك، وظلّ يضحك حتى ملّ عصام من وقوفه في مكتبه، فخرج غاضباً. وأراد، عندما عاد إلى رشيدة في غرفته، أن يخبرها بما حصل في مكتب المعلّم أرتين، لكنه لمح دموعاً بين ملامح وجهها الجامدة. ولسببٍ ما خيل إليه أنها أصبحت طرشاء أيضاً، فجعل يستفسر منها بصوت عال، بمعونة أصابعه فترةً طويلةً، عن سبب بكائها، لكنْ دون جدوى. وكان صوتُه العالي قد لمّ الفنانات على بابه قبل أن ينتبه إلى الرائحة الخانقة في غرفته، فاكتشف الآن فقط سبب بكائها بسهولة. حملها بين ذراعيه وخرج بها من الباب متّجهاً إلى الحمام، وهو يبتسم لزميلاتها الفنانات المستطلعات. ومنذ ذلك اليوم، تقول إيفانوفا، صار عصام يحفّضها عندما يضطر إلى الابتعاد عنها أكثر من ساعتين، ولا يسمح لأحد، حتى لها هي الخادمة، بمساعدته في تنظيفها وتحميمها وتلبيسها وتمشيط شعرها وقص أظافرها، وحتى في مكيجتها بالمناسبات الشخصية والعامة.
* * *
III
فتّح المعلّم أرتين عينيه أخيراً. بدا مثل مستيقظ من غفوة طويلة، فتلفت بعناء ملحوظ، وهو يتعرّف، بصعوبة وذهول، على الأشياء من حوله. ثم زاد من تشتُّتِه أن نظراته القلقة المستطلعة اصطدمت بي، فكرّش ما طاوعه من وجهه الأحمر السميك المتداخل أصلاً، ولم يفهم شيئاً حتى لمح عصام إلى جانبي. توقف عنده كما يتشبّث من بعيد بمعنى أمين لِما يحيط به، وظلّ كذلك حتى استعادنا جميعاً. انتقل الآن بنظراته النزقة فوراً إلى ليزا، وأشار لها بسبّابته الغليظة الآمرة أن تصعد إلى البست. نهضت ليزا من جانبي بتدلّهٍ ملحوظ، وتوجهت إلى هناك بخطوات خفيفة. لكنها لم تستطع، بعد جلوسها الطويل، أن تموّه عرجها، ما جعل المعلّم أرتين يشعر، ربما، بضيق إضافيّ في صدره، فسحب نفساً طويلاً مسموعاً ظلّ يزفره حتى وقفت ليزا أمامه. إلا أنني، مع ذلك، لم أعد خائفاً عليها، بل قلقاً لا أكثر. وكانت ليزا الآن أقرب ما تكون إلى حقيقتها. كأن رسوخ عصام العميق في صفّنا لم يعد يُحيجها إلى أيّ زيف، فأصبحت، مع مرور الوقت، انتفاخاتُ وجهها المطلوسة بالمكياج بحاجة صريحة أكبر إلى التفسير، بخاصة وأن ابتسامتها المتورمة الحمراء كانت الآن تزيد كثيراً من التواء ملامحها الصادقة.
سألها المعلّم أرتين، بروسيّته المفكّكة، عن عمرها.
- أربعة وعشرون.
بادرتُ بالإجابة عنها. وكنا قد احتفلنا معاً بعيد ميلادها الرابع والثلاثين منذ شهر ونصف.
استطاع المعلّم أرتين أن يرفع حاجبيه بغتةً، من باب احتجاجه على الرقم، فصوّبتْه ليزا على الفور:
- خمسة وعشرون.
قالت، وهي تؤنّبني بالتفاتة سريعة.
ظلّ المعلّم أرتين معلّقاً حاجبيه برغم الرقم الجديد. ثم تذكّر، كأنما، حشرته ذات الأرجل الغزيرة، فأنزل بصره إلى الأرض، ودقق النظر في عقله. وهنا تنحنح عصام، فلم يجد المعلّم أرتين شيئاً بين وبر الموكيت- عاد إلى ليزا، وطلب منها، بضيق ونزق واضحين، أن تعرض عليه شيئاً من رقصها.
لم تستجب ليزا طبعاً، بل التفتت إليّ تلومني بعينيها الشاخصتين وشفتيها المنتفختين المنفعلتين:
- أرأيت؟؟
كانت ليزا قد قررت، قبل عدة أشهر، أن تسجّل نفسها في دورة تعليم الرقص الشرقي في المركز الثقافي الروسي بدمشق، فاختلقتُ لها آنذاك أعذاراً كثيرة لكي لا تفعل، لا لأنني أعادي الرقص الشرقي، بل لأن الدورة تجري بين السابعة والثامنة والنصف مساء، وهو الوقت الذي يختاره بوريا، إذا شاء، أو أحد رجاله، لكي يمدّ رأسه الكبيرة في كوّة الكشك. وقد كنت دائماً، ومازلت، أفضّل رؤية بوريا بحضور ليزا.
ولكنْ ألم يخدعني صديقي عبدو؟ لابدّ أنه قد خدعني، فطلبي منه كان واضحاً- أن يشغّل ليزا في الكباريه عاهرةً حصراً وبكل ما تحمل هذه الكلمة من مداليل وأبعاد. إذاً ما مناسبة الرقص الذي سأل عنه الآن المعلّم أرتين؟!
- ليزا لا ترقص على البست- قلت محتدّاً- بل تستطيع، حسب ظنّي، بفطنتها وبداهتها السريعة، أن تؤدّي بجسمها حركات خليعة وفاسقة عند الضرورة على طاولة الزبون لإثارته، أو في سريره، إذا لزم الأمر مثل أي عاهرة حقيقية مكتملة. ولكن ذلك، في كل الأحوال، لن ينتمي لا من بعيد ولا من قريب إلى فنّ الرقص الشرقي. هناك، نعم، راقصات محترفات وعاهرات أصيلات في وقت واحد، لكن تاريخ أي كباريه في منطقتنا، وأنت الأعرف به يا معلّم أرتين، يشهد على وجود العاهرات الخالصات أيضاً. ولعلمك فإن ليزا، بإمكاناتها وميولها، يمكن أن تصبح من الصنف الأخير فقط. وإذا كان صديقي عبدو قد فهّمك غير ذلك فهو مخطئ.
وكان المعلّم أرتين في أثناء كلامي لا ينظر إليّ، بل إلى ليزا بانتباه شديد.
- أنا من الصنف الأخير فقط.
أكّدتْ له ليزا بمودّة وإخلاص وصوت دافئ وخفيض.
الْتَوَتْ تجاعيد المعلّم أرتين الثخينة بصعوبة، فارتسمت على وجهه، بالكاد، ظلال بعيدة لابتسامة ساخرة. ثم، بالسبابة الغليظة إياها، أومأ لها بأن تخلع ثيابها.
استقبلْنا، ليزا وأنا، إيماءته الأخيرة هذه بارتياح بالغ على اعتبارها تنازلاً عن مطلب الرقص التعجيزيّ، وانتقالاً مباشراً إلى لبّ العمل الذي ستقوم به ليزا في الكباريه.
لا أذكر أنني رأيت ليزا دون ألبسة. كنت أرى، أحياناً، جزءاً من فخذيها إذا انشمرت تنورتها دون قصد، وقد يقع نظري عرضاً، أو أترصّد وقوعه في بعض الأحيان، على إبطيها الحليقين دائماً حين ترفع ذراعيها في فصل الصيف لسبب من الأسباب. وكانت الآن قد شلحتْ معطفها، ولم تعرف أين تعلّقه، فنهضتُ من محلّي في الصالة، وسارعت إليها على البست. تناولت المعطف من يديها، ووقفت على مقربة منها انتظر القطع الأخرى. شعرتُ، وأنا أحمل معطفها، كأنني أحملها هي بين ذراعيّ، فضممت المعطف إلى صدري. وكنت سعيداً بالشوط الطويل الذي قطعناه معاً حتى وصلنا أخيراً في هذه اللحظات إلى صلب الموضوع الذي جئنا من أجله إلى الكباريه. كما كنت على يقين من أن ما يفصلنا عن قبول ليزا رسمياً في عملها الليلي الجديد لا أكثر من دقائق معدودات. الآن سوف تمحو ليزا بجسدها البديع وجهَهَا النزيه المشوّه من رأس المعلّم أرتين. جسدها، الذي تخيّلتُه دائماً لا يقاوم، سوف يفحمه الآن ويدفعه، ربما، لأن ينهض بكل جثمانه الشحيم اللحيم، ويتأكّد بأصابعه مما يراه، فيدسّها تحت إبطيها ليقتنع بأن عرقها حقيقيٌّ وحارٌ، ثم يزحف بها فوق ثدييها، ويتثبّت من تماسك لدونتهما، وقد يختبر انتصاب الحياة في حلمتيها بين إبهامه وسبّابته.
بدأتْ ليزا تُملّص جذعها الأبيض، الأبيض، من بلوزتها الضيقة. كنت فخوراً بها الآن، وأردتُ، كأنما، أن أستعجلها إلى تفنيد هواجس المعلم أرتين الظالمة بحقها. غير أنني نقزت فجأةً في مكاني، فقد ظهر كعب حذاء زوجها السابق كحليّاً على خاصرتها، خاصرتها التي من ناحيتي، هذه التي لا يراها المعلّم أرتين، ولا ينبغي له أن يراها الآن بأي حال. ثم لم أنقز مرة أخرى، بل نجحتُ، برغم كل شيء، بأن أقلّل على الفور من أهمية كعبٍ كحليٍّ جديد ظهر لحسن الحظ على ضلوعها من ناحيتي أيضاً. المهم أن تكون ناحية المعلّم أرتين من ضلوعها نظيفةً من أيّ كعوبٍ زرقاء، وأن لا يُبَرِّمها الآن، كما يمكن أن يبرّمها زبائنها المنتظَرون في المستقبل فوق الطاولات، أو على الأسرّة. تناولتُ بلوزة ليزا، وأنا أحاول أن أخرج بشيء إيجابي من وجه المعلّم أرتين- لم أظفر إلا بتداعي المزيد من غضون وجهه فوق محجري عينيه المطموستين، فاعتبرتُ أنه، بهذه الطريقة، يركّز، ربما، بصيص نظره العميق على جمالات ليزا. ومع سحّاب بنطلونها، الذي فتحته الآن، توقعتُ أن يكون لكيلوتها الزهريّ، ثم لفخذيها البيضاوين، أثر ملموس على توضيح موقفه المشوّش حتى الآن، لكنْ عبثاً- لقد أصرّ على غموض ملامحه القرمزية السميكة رغم كل شيء. التفتُّ، عندئذٍ، إلى عصام أستعين به في جلاء موقف المعلم أرتين وتصويبه قبل النطق به.
كان عصام جالساً إلى الطاولة، وعيناه نصف مغمضتين، وهو ينود من شدة النعاس. لكنه شعر، كأنما، بحاجتي الماسّة إليه، فثبّت رأسه بصعوبة بين كتفيه:
- شو؟؟
سألني بعينين حمراوين وصوت متحشرج بالنوم.
لم أجب، فقد ناولتني ليزا بنطلونها، وباغتني، في هذه اللحظة الفاصلة، أنني لمحت ذلك البريقَ الحادّ الأخّاذ النادر الذي يظهر في عينيها عندما تغضب بحق، وقبل أن تنفجر بالصراخ بثوانٍ معدودة. لم أفهم السبب، وما كان بوسعي على وجه السرعة أن أتلافى أمام المعلّم أرتين شيئاً من غضبها الذي سيهدم حتماً كلّ ما أنجزناه في الكباريه حتى الآن. كانت شفتاها المتورمتان المرتعشتان الآن مطبقتين بجهد بالغ على كلامها الجارح القريب، وعيناها المتّقدتان كامنتين في نقطة واحدة على حافّة البست، وقد كمشت قبضتيها بِمحاذاة فخذيها العاريتين.
رفع المعلّم أرتين كفّه، وفقش بأصابعه الغليظة فقشةً متسلّطة حادّة تطالبها بشلح ما تبقى من ألبستها.
ظلّت عيناها تتقدان على حافة البست، وكذا فمها ظل يرتعش بشفتيها المتورّمتين، لكنّ قبضتيها، كما لم أتوقع، استجابتا دون تردّد لفقشة المعلم أرتين، فتحلحلت أصابعها ببطء، وزحفت إلى كيلوتها الزهري، سحّلتْه، وظلّت تنحني معه حتى خلّصته من قدميها. لم ألاحظ عانتها الخرنوبية الطويلة إلا بعد أن ترددتْ قليلاً قبل معالجة شنكل سوتيانها. وهنا بالذات أحدث المعلم أرتين صوتاً مُكَمَّماً مبتوراً تناهى، كأنما، من أعماق شحومه الدفينة، فيما تباعدتْ فجأةً غضونه المتراكمة عن عينيه الصغيرتين، فظهرتا محملقتين مذهولتين لأول مرة.
كان سوتيان ليزا قد سقط على الأرض.
ومع بريق غضبها، الأخّاذ المتواصل في عينيها فقط، بدا محيّراً ظهور ابتسامتها المتعرجة الحمراء من جديد، فيما شعرتُ بإرهاق مباغت شديد، فلم تحملني قدماي. بدت لي الكراسي في الصالة بعيدةً جداً، فجلستُ، في الحال، على حافّة البست. ثم أغمضت عينيّ، وأنا أخفي وجهي بين ركبتيّ.
كانت ليزا بثدي واحد.
ما أردت أن أرفع رأسي وألتفت إلى المعلّم أرتين لأتحقق من نصره علينا في اللحظة الأخيرة بالضربة القاضية. إن كل شيء في صفّه الآن- الصالة والبلكون والسقف والموكيت. حتى عصام لن يجد الآن ما يقوله، فرأسمال العاهرة جسدها، وجسد ليزا ناقص. ناقص. إن الزبون لا يفتح زجاجة الويسكي في الكباريه لكي يمرس في آخر الليل ثدياً مقطوعاً أياً كان امتلاء الثدي الآخر. للعاهرة ثديان تامّان دائماً وأبداً مهما أبعد عصام أصابع بوريا عن الكباريه ومهما تغنّجت قطته غزال بين يدي المعلّم أرتين ومهما رفع البراز من تحت رشيدة المغربية ومهما خصّني بمودّة قديمة لا أذكرها. العاهرة ليست متسوّلة لكي تستدرّ النقود بثدي مقطوع. العاهرة إنسان كامل وجذّاب بالضرورة.
تصوّرتُ في الظلمة بين ركبتيّ مقدار الوحشة التي تحاصر ليزا الآن، وقد خذلها الجميع حتى أنا، فرفعت رأسي بصعوبة.
كان عصام واقفاً بين الكراسي في الصالة، وقد أدار ظهره لنا مكتّف اليدين منكّس الرأس ينظر بثبات إلى مكان بين فردتي حذائه.
نظرت إلى ليزا. كانت ما تزال عاريةً تماماً على البست تنظر بأملٍ متهالكٍ إلى المعلّم أرتين، وهي تصون ابتسامتها الذابلة الحمراء المتعرّجة بين ملامحها المدمّرة.
أردت، كأنما، أن أفعل الآن شيئاً لي، لأن الندم لن يفيدني إذا عرفت بعد فوات الأوان أن شيئاً كان بوسعي أن أفعله، ولم أفعله- كأن أعزّز أملها الركيك بأيّ سندٍ آخر، ولو كاذباً، بعد خسارة عصام، أن أحلف، مثلاً، للمعلّم أرتين أن ليزا ستنجح حتماً في فترة قياسية بتحويل ثديها المقطوع إلى نقطة لصالحها، فهي لن تخلع سوتيانها أمام أحد بأيّ حال، وسوف يضاعف من غوايتها صمتُها حين يلحّ الزبائن على معرفة السبب. ولا تنسَ، يا عزيزي، أن بعضهم سوف ينجذب حتماً إلى مسحة الحزن الشفّاف الذي ستبرع ليزا بإظهاره لمن يثمّنه، فيقضي سهرته معها عفيفاً نظيفاً بكثير من الويسكي والتأمّل وقليل من الّلمس والأسئلة. لكنني لم أعرف كيف ألتفت إلى المعلّم أرتين وكيف أراه لأقول له شيئاً من كلّ ذلك. أدرت ظهري إليه، وأنا أنهض، وأقترب من ليزا على البست.
قرفصتُ أمامها، التقطتُ كيلوتها الزهري الزهيد، فضمّتْ قدميها فيه، وصعدتُ به إلى مفرق فخذيها. ثم وقفتُ، علّقتُ شنكل سوتيانها بين لوحَي كتفيها، كما لو كانت بثديين اثنين تامّين. وحين أنهيتُ تلبيسها وجدتني أستطيع، برغم كل ما حدث، أن أراها أمامي ليزايَ التي اعتدت عليها، فابتسمتُ لها من قلبي كأن المعلّم أرتين لم يكن وراء ظهري أبداً.
على الدرج القصير وراء درفة الباب الثقيلة أمسكت بمرفقها لأخفّف، ربما، من شعورنا المشترك بالخيبة.
ماذا ستفعل ليزا الآن لكي تفتّت قواها في الوقت المهدور بين الثانية عشرة ليلاً والثالثة صباحاً؟؟ قلت في نفسي.
- سوف أتعلّم قيادة السيّارات.
أجابت ليزا بحزم، ونحن نخرج من باب الكباريه.
* * * * *
ما حدث البارحة في بيت عمي
عنق أبيض طويل في المقعد الأماميّ ظلّ يشغلني منذ فتّحتُ عينيّ. كنت، كأنما، أحتمي به، فلا أرى سواه ولا أفكّر بغيره. عنق كامل، تحت شعر مرفوع يدوّم في الأعلى بشرائط وماسات دقيقة متناثرة بين خصاله ودبابيس، كان يشعّ أمامي في العتمة الباهتة والصمت المريب من حولي. إنه أقرب ما يكون إلى ذلك العنق الذي منحه فلنتين سيروف للأميرة أولغا أورلوفا في واحدة من أجمل لوحاته. وما كنت، الآن، لأصدّق بسهولة أن يكون هذا عنق زوجتي بالمقارنة مع وجهها الجديد المنيع الصقيل القاسي الذي اكتشفتُه في أول المساء، فخيّل إلي، طيلة الطريق، أنني في منام جميل من مناماتها القديمة لا أكثر- كان عنقها، الآن، متاحاً لي بلا حدود، كما لو أنها لم تبتسم، قبل قليل، لقذال الرجل الأجعد الأسود أمام سحّاب بنطلون الكوافير في صالون منزلنا. ثم لم أستطع لجم رغبتي العارمة بالتحقق من طواعية هذا العنق السيروفيّ لي، هنا على الأقل، فهممتُ أن أمدّ أصابعي إليه. لكنّ السيارة الطائرة بنا توقفت فجأةً، فوجدتني، مثل مُنْتَزَع من نوم زوجتي اللذيذ. ومع أنها لم تكن تحلم بي هذه المرة، فقد خيّل إليّ، بعد ترجّلها من السيارة مباشرةً، أنني أسمع بوضوح، من كل مناماتها الماضية التي أحفظها عن ظهر قلب، هديرَ قاطرات الديزل فقط، وهي تخبّ، ورائي هذه المرة، فوق عشب قريب. ثم ظهر عنقها أمام عينيّ من جديد، وقد أضرمتْ نورَه مصابيحُ الرصيف، فبدا، بالقياس إلى الحرص المُحْكَم الذي أُخرجتُ به من السيارة أمام بناية عمي، استثناءً فريداً في تلك الشدّة، وخروجاً لا يصدّق على المألوف بالنسبة إلى الاحترام المبتذل البالغ الذي كان رجال أشدّاء متشابهون لا أعرفهم يبدونه لي بسخاء. تبعتُ عنقها الساحر الذي بدأ يتقدمني، وهي تشقّ بصعوبة، بين زحام الوجوه المُعَدّنة التي طوّقتنا خارج السيارة، ممراً ضيقاً نحو درج البناية. غير أنها ما لبثت، عند باب أهلها الكبير الذي انبلق في تلك اللحظة على مصراعيه، أن تريّثتْ قليلاً، ثم انزلقتْ ورائي بخفّةٍ مسرحية، فرأيتُني أمامها بغتةً. التفتّ إليها- كان وجهها متحجّراً على ابتسامة فولاذية مسدودة. لم يكن هنالك بصيص ولا ثلم ولا نسمة هواء. ثم كان عليّ أن أدرك بسرعة أن كلّ شيء من حولي إنما يدعوني إلى الدخول فوراً قبل أيّ شخص آخر، فتقدّمتُها، ودخلتُ.
المزهرية العالية لم تكن في مكانها المعهود في نهاية الكوريدور العريض الذي يفضي إلى صالون الاستقبال. في كل زياراتي، الاعتيادية النادرة الماضية التي قمت بها دائماً تحت إلحاح رجاء، كان يخيّل إليّ أن ما يساعدني على تحمّل عمّي في بيته هو البطّ. المزهرية العملاقة أراها عادةً إلى يميني ما إن يُفتح الباب لي وأدخل، والبطّ، عندئذٍ، يحلّق، كأنما من أجلي، في سماء خزفية حليبيّة على بطن المزهرية. وكنت دائماً، في دخولي المتباطئ، أحرص على شحذ قواي قبل رؤية عمّي، فأمرّ بأصابعي مروراً هيّناً فوق السماء المحدّبة الناعمة، الباردة في غالب الأحيان، متحسّساً، بشغفٍ، رُقْيَتي المجرّبة بطةً بطةً.
كان الآن في مكان المزهرية رجلٌ متخشّب أقصر منها، يُبدي لمروري احتراماً عنيفاً لا يُطاق، فتعلّقتْ أصابعي في الفراغ، لحظةً خائبةً هذه المرة، أمام جاكيته الأسود المحشو بالعضل. ثم تابعتُ دخولي، وأنا أشعر بالخطوة الطويلة المُبيّتة البكماء التي تأخّرتْها زوجتي عن ظهوري الآن في صالون الاستقبال.
إلى هناك، حيث جلس عمّي في كل زياراتي الماضية، نظرتُ فلم أجده. تلبّثتُ متحيّراً في مكاني حتى عثرت عليه واقفاً يبتسم بين أثاث أتعرف إليه لأول مرة. تابعت طريقي إليه بخطوات مترددة قصيرة، ثم وجدتني أتسمّر، فجأةً، تحت أضواء الثريّا الكبيرة في منتصف الصالون.
كأنني فهمت، الآن فقط، ما حدث ويحدث من حولي منذ استيقاظي من قيلولتي المتأخرة حتى الآن. ثم ما أردتُ أن أُسلّم بما فهمتُه برغم كل شيء. حاولتُ، لكي أكون مسؤولاً عن خطوتي القادمة على الأقل، أن أستبعد أولاً، وأكذّب، بكل طاقتي، أن يكون عمي قد فعلها أخيراً وقام، أو سيقوم الليلةَ، بانقلابه العسكريّ بِاسْمي، وبِاسْمي أُزهقت، أو ستزهق، قبل أو بعد ساعات، الأرواحُ مرةً أخرى في شوارع العاصمة القديمة، وأن عليّ، ربما بعد قليل، أن أنتقل، بقوة الرجال المنتشرين في الخارج، بأيديهم المُحكمة وصدورهم المرصوصة ورؤوسهم المقفلة، إلى القصر الجمهوري، لأوجه كلمة قصيرة إلى الشعب السوريّ عبر شاشة التلفزيون أطمئنه فيها على مستقبله السعيد في عهدي الجديد المؤبّد.
صرت أتعرّق في مكاني، وأنا أكاد أسمع وجيب قلبي. وكان أشدّ ما أثّر بي أن أكون الآن وحيداً إلى هذه الدرجة بينما لا تفصلني عن رجاء سوى خطوة طويلة قاتلة واحدة. التفتّ إليها أختبر، بكلّ كياني المهتوك، حبَّها لي للمرة القاصمة الأخيرة. كنت عاجزاً، برغم كلّ محاولاتي المضنية الماضية في إنقاذها من الكآبة، أن أتصور، في تلك اللحظة القاسية، أنها تفضّلني، بالفعل، سفّاحاً على أن أكون كما أنا- رجلاً لم يعرف حتى الآن كيف ومتى يمارس في بلاده معرفته بالأدب الروسي العظيم.
عرّضتْ رجاء ابتسامتها الفولاذية في وجهي، لتمتصّ، ربما، تريّثي المباغت في منتصف الصالون، وهي تتجاهل، برأس أنفها الشامخ المدبّب، وحشتي الكاملة، وتخترقني، بعينيها، إلى هدفها الثابت القديم المنشود. ثم ما عدتُ احتمل يأسي منها، ولا النظر إليها أكثر من ذلك، فأشحت بعينيّ عنها إلى الأرض. وفي الحال تدفّقتْ من ورائي تمتمتُها، خفيضةً منفعلةً وحازمة، فيما كانت يَدُها، التي طالما قادتني إلى هناءاتي في لُدوناتها العميقة، تدفعني الآن بظهري إلى الأمام.
هاهو عمّي، مايزال واقفاً ببذلة بيضاء، وهو يزرّر عينيه عليّ، ويغمرني بابتسامة فخورة متوتّرة ظلّ محتفظاً بها منذ ظهوري. إلى جانبه كان رجل ضخم ببذلة كحليّة يميل برأسه باتجاه حماتي، التي تجاوره بمودة صريحة وتصغي إليه بعينيها الرامشتين وفمها نصف المفتوح، وهو يُدخل في أذنها همساً متصلاً طويلاً.
صافحتُ عمي، وانتظرنا معاً حتى انفجرت حماتي بالضحك تحت شاربي الرجل، فانفجر عمي بالضحك على أثرها- لم أعرف، في الضيق الذي كان يمسك بخناقي، ما الذي أضحكه بالذات. ثم ما لبث الرجل الضخم، وقد ظننتُ ممتنّاً أنه لم يلاحظني حتى الآن، أن دَلْدَلَ في أذن حماتي همسةً قصيرةً إضافيةً أغرقتها بمزيد من السعادة، ثم التفت إليّ، دون غيري، بوجهِ مستشارٍ أمين، ليُخَطِّئَ ظني ويصافحني بحرارة بروتوكولية مدروسة. وإذ بدا لي أنه محضني، في هذه الأثناء، انحناءةً قصيرةً، تعزّزتْ لديّ على الفور هواجسي بالانقلاب المنجز. لم أَعِ من كلمات عمي المقتضبة التي قدّمه بها إليّ سوى انطباع واضح واحد، هو أن عمي واثقٌ من أنني أعرف جيداً مَن يكون هذا الرجل الضخم ذو الشاربين الغليظين المثبَّتين بالـ gel، إما لأنه غنيّ عن التعريف، أو لأنني، ببساطة، التقيت به مرات كثيرة، كما يمكن أن يعتقد عمي بسهولة مادام قادراً على إدراج هذه اللقاءات بتواريخها الدقيقة في مفكّرته الخاصة بمستقبلي. ثم زاد من شعوري الفظّ بالانتهاك والتشتّت أن هذا الرجل، حين توجه إلى رجاء، صافحها ببشاشة زائدة تنمّ عن معرفة سابقة أكيدة، وباحترامٍ بدا لي مضاعفاً عن سابق إصرار.
وكنت الآن قادراً، من شدّة إحباطي، أن أتخيّل حتى الأشياء من حولي- الطربيزات، المقاعد، الستائر، ورق الجدران، اللوحات، الصمديّات، والثريّات، تعاملني برهبةٍ مموّهةٍ بلطفٍ استثنائيّ مقزّز. ثم بدا لي أنّ كلّ اعتراض من ناحيتي قد يكون، الآن، متأخراً جداً وفي غير محلّه، فشعرتُ، كأنما، برضوضٍ مؤلمةٍ تحت بذلتي الأنيقة لم أعد معها قادراً على الوقوف أكثر من ذلك.
لجأت إلى أول مقعد لاقاني، وتداعيتُ فوقه. ثم انتبهت فجأةً إلى بصيص أمل كانت حماتي تبعثه في روحي، فقد كانت قهقهتها الفاضحة، المستمرّة حتى الآن، الشيءَ الوحيد الذي لا يكترث بي فعلاً، والشاهدَ الأوحد، في تلك اللحظة، على نفسي التي أعرفها وأحبها عندما أكون في الحي الروسي. لكنني تسبّبتُ فوراً بفقداني هذا البصيص، فقد بدا جلوسي المفاجئ في أعين الحاضرين، كما لو كان تبرّماً من تضييع الوقت، ودعوةً مباشرةً إلى الجلوس، والانتقال بلا إبطاء إلى الغاية التي من أجلها يلتئم هذا اللقاء.
اقترب عمّي مني بابتسامته نفسها، الفخورة والمتوتّرة، وجلس إلى جواري بحذرِ مرافقٍ متمرّس. وبادر الرجل الضخم إلى شغل مكانه، وقد اتّسم وجهه فجأةً برصانةٍ ثقيلةٍ دفعت حماتي إلى التخلّي فوراً عن قهقهتها السعيدة اللامبالية بي، وهي تجلس إلى جانبه على مقعد مزدوج، وتطمئنّ، بنصفِ التفاتةٍ رزينة، على استقرار ابنتها رجاء إلى جواري من الجهة الأخرى.
ساد صمت قصير شغله عمي بسعلتين رمزيّتين في قبضته، كما لو أن الأوان قد حان الآن فعلاً لحديثٍ مهمٍ وددتُ بكل جوارحي أن لا يبدأ أبداً. وبينما أشعل الرجل الضخم سيجارة، ورفع رأسه نافثاً مجّته الأولى في الهواء، استطاعت حماتي أن تسبق الجميع بالنظر إلي، ثم انضمّ إليها عمّي يسبرني بعينين متوقّدتين بقلق وسرور بالغين. وعندما نظر الرجل، بدوره، إليّ يروزني بعينين مستطلعتين مراوغتين، فوجئتُ بأصابع زوجتي تحطّ برفق فوق كفي على المسند. نظرتُ إليها- كانت ابتسامتها الفولاذية الآن تكذّب ملامحي، ملامحي الأصلية المهزومة التي أشعر بها فعلاً منذ استيقاظي، وتروّج لي أمام الرجل، وبقناعةٍ لا تطاق، ملامحَ أخرى متشامخةً وظافرةً ما ظهرتُ بها قط.
وكنت لا أريد أن تقع عيناي في عينيّ أيٍّ منهم، فانزلقتُ أنظر إلى السجادة بين قدميّ، وظللتُ مثل مُتَخَفٍّ بين زخارفها حتى خيّل إليّ أنني لمحتُ، في أثناء جلوسي، "جزيرة فالام" معلّقةً على الحائط المقابل. وكنت، مع الإرباك الذي يعتريني في تلك اللحظة، لن أحدّد بوضوح ما إذا كان عمّي قد تمكّن فعلاً من السطو على لوحة أرخيب كْوِينجي هذه، لأن متحف تْريتيكوف في موسكو، على حدّ علمي، لا يبيع مقتنياته. رفعتُ رأسي، لأتأكّد على الأقل من أنني لم أتوهّم ما أوحى إليّ بـ"جزيرة فالام" على الحائط المقابل، لكنّ زوجتي نبّهتني، في تلك اللحظة، بضغطة خفيفة على يدي إلى الرجل الضخم- كان قد بسط، الآن، أصابع كفّيه باتجاهي، وهو يمطّ شفتيه بابتسامة متنكّرة بشاربيه الراسخين.
- مبروك العضوية العاملة في الحزب.
قال الرجل بقرارٍ ودودٍ جرشٍ كاشفاً، كأنما، عن ظهوري الأول، أمام زوجتي وأهلها، على سلّم المجد الذي طالما انتظروه.
- وبِقِدَم عشر سنوات.
أضاف، بعد صمت قصير، بنبرةٍ بدا معها كأنني، بذلك، قد ولدت مرةً أخرى.
وكنت، في تلك اللحظة، مستعداً فعلاً لأن أتقبّل، وأثمّن عالياً ولادتي الجديدة، التي أخبرني بها الآن بعد حصولها بعشر سنوات، إذا كان الأمر سينتهي، الليلةَ على الأقل، عند هذا الحد. لكنّ وجهه، كما بدا لي، كان ما يزال محتقناً بأخباري "المجيدة"، فتمنّيت، من كلّ قلبي، أن لا تخرج عن إطار سيرتي الذاتية، التي لا يكلّ عمي عادةً من تنقيحها وتوثيقها والإضافة عليها من قبيل مآثر اجترحتها في الماضي دون أن أشعر أو أذكر أو أتخيّل، وأن لا تتعلّق هذه الأخبار بأحداث جديدة عنيفة تزكم الأنوف ارتكبتُها اليوم مثلاً في أثناء قيلولتي، أو يمكن أن أرتكبها، بصورةٍ من الصور، في الساعات القريبة القادمة.
كانت حماتي قد عبّرت عن مفاجأتها السعيدة بمستقبلي، المبدوء كما تبيّن لها للتوّ منذ مدة طويلة دون علمها أيضاً، بشهقةٍ قصيرةٍ جعلتني أنتبه لأول مرة إلى ازرقاق الكريم على وجهها شديد السمرة، بينما شبكت ابنتها أصابعها الباردة بأصابعي. وكان عمي في هذه الأثناء يداري غبطةً محترسة، وهو يستنطق، بمرارة، ردّةَ فعلي. لكنّ الرجل الضخم لم يترك له وقتاً كافياً لتقصّي ملامح وجهي بعد الأخبار الأولى عن حياتي العملية الناجحة التي اعترف بها أخيراً- أخذ نفساً عميقاً، وهو ينظر إلى حماتي التي شهقت سلفاً، وفجّر، مع أصابع رجاء التي هزّت كفّي هزّة اعتزاز خفيفة، خطوتي التاليةَ التي خطوتُها، على حدّ قوله، البارحةَ بالذات في مؤتمر الشعبة عشيّة مؤتمر الحزب.
- إن الحزب..- تابع الرجل رافعاً حاجبيه ومجعِّداً جبينَهُ- لا يعقد مؤتمره القطري، كما هو معروف، إلا بعد...
- هزّة أرضية.
بادر عمي، تلقائياً وبإخلاص، ليسعفه، كأنما، بتعبير مختزَلٍ وبليغ. ثم أدرك، في الحال، المفارقةَ الكاريكاتورية التي انزلق إليها دون أن يقصد، فلم يفلح إلا في اللحظة الأخيرة بكبح قهقهته التي كادت تفلت منه إلى الآخر.
- إن الحزب..
كرّر الرجل ممتصّاً زلّة عمّي بقطبة سريعة بين حاجبيه، وهو يطْمَئنّ، بطرف عينيه، إلى حماتي- كانت الآن في حيرة ظاهرة، فلم تعرف، على الأغلب، كيف تربط بين الهزة الأرضية التي تفَضَّلَ بها زوجها العزيز وبين مؤتمر الحزب، ولم تفهم لا مناسبة الضحك المبتور، ولا علاقة كلّ ذلك بما سمّوه، قبل قليل، مؤتمرَ الشعبة المتعلّق بصهرها.
- لا يعقد مؤتمره، كما هو معروف، إلاّ..
وهنا التفت الرجل الضخم إليّ ليلقي، كأنما، عليّ درساً في كيفية التغلّب على الإحراج الذي يسبّبه عادةً تغنّي بعض المغرضين باستغناء الحزب عن مؤتمراته.
- إلاّ.. في لحظات التقاط الأنفاس النادرة التي تتيحها بصعوبة مشاغلُ الصراع العربي الاسرائيلي التي تعرفها جيداً، فالأمة حين تكون في خطر داهم دائم يصبح الالتزام بعقد مؤتمرات الحزب في مواعيدها نوعاً من تبديد طاقات الأمة، وحرفِها عن معركتها الرئيسية. لكنّ الحزب..
تريّث الرجل من جديد، وقد رفع، في الوقت نفسه، رأس سبّابته الغليظة باتجاه عمي يُعفيه سلفاً من تزويده بأي تعبير بليغ آخر، فقد بدا كأنه سيعثر بنفسه على الصياغة المناسبة لفكرته الجديدة. وكاد، كأنما، يتابع كلامه لولا حماتي التي تنحنحت فجأةً، فقدّر، ربما، أنها ما تزال عالقةً بالهزة الأرضية السابقة، وأن أحداً لن يضبط حنقها من حيرتها إذا استمرّت أكثر من ذلك. رفع، عندئذٍ، يده الأخرى وحطّ برؤوس أصابعه فوق كتفها الشحيم العاري لثوانٍ قليلة، فابتسمتْ على الفور.
- لكنّ الحزب لا يستطيع، من الناحية الأخرى، أن يستفيد من الخطر الداهم في الليل والنهار لكي يدير ظهره كلّياً لمؤتمراته، لأنه لن يجد مهرباً في النهاية من الالتفات، من حين إلى حين، إلى قواعده العريضة برغم كلّ شيء. وغالباً ما تكون هذه الالتفاتة..
التفتت حماتي الآن إلى الطربيزة المجاورة، ومدّت يدها باتجاه إبريق الماء، فتابعها الرجل بعينيه، وهو يواصل كلامه، وكذلك فعلنا أنا وعمي ورجاء.
- استجابةً لشعارات جديدة لا يجرؤ على تداولها عادةً إلاّ نشطاء الحزب إذا كانوا..
كنا الآن جميعاً، على خلفية الكلام الذي أصبح الرجل الضخم يستظهره ببطء وصعوبة من تحت شاربيه المتصلّبين، نصغي بانتباه إلى بقبقة الماء الذي تصبّه حماتي في الكأس، ونراقب، بفضول جماعيّ لافت، كيف تتشكّل الفقاعات وتتفجّر بلا توقّف أمام أعيننا داخل الزجاج.
- الأشدّ طموحاً وقدرةً من سِواهم على إيصال أصواتهم إلى القيادة في اللحظة الحزبية التاريخية المناسبة..
قال الرجل، وقد سبقنا الآن إلى الخيبة التي تملّكتنا، كأنما جميعاً، حين امتلأت كأس حماتي قبل أن تنفد حاجتُنا غير المفسّرة إلى البقبقة والفقاعات. وإذ بدأتْ تشرب بكلّ جوارحها شرعنا ننصت مباشرةً، بالفضول نفسه والانتباه نفسه، إلى قرقرة الماء في حلقها. وكان الرجل الضخم الآن قد شعر، ربما، بعبء الحزب ومؤتمراته على إنصاتنا المخلص إلى الماء المتسلسل في حلق حماتي كهديل حمامة، فكفّ عنهما مبدئياً حتى نهاية القطرة الأخيرة.
- وفي طليعة هؤلاء..
تابع الآن كلامه مباشرةً بعد الكأس الفارغة التي أعادتها حماتي أخيراً إلى سطح الطربيزة.
- كان هذا الرجل.
أردف، وقد أشار إليّ فجأةً بسبّابتيه معاً، كمن حفظني عن ظهر قلب، وقد أصبحتْ الفرصة مواتيةً، الآن فقط، لأن يميط اللثام عن أسرار جرى التحفّظ عليها فترةً طويلة، ربما لدواعٍ حزبيةٍ محضة.
- لقد عرف هذا الرجل دائماً كيف وأين ومتى يبذل الجهد والوقت. ولم يكن في يوم من الأيام من أولئك المنتظرين الفرص تأتي إليهم من تلقاء نفسها، بل كان دائماً المبادر إليها بنفسه، بخاصة في السنتين الأخيرتين، فكنتَ تراه في حركة مستمرة لا تكلّ ولا تلين بين القيادات من طرف، والقواعد من طرف آخر، دون أن يغيب عن باله لحظةً واحدة ما يدور في الشارع من أفكار وأحداث وميول بين كلّ فئاته الاجتماعية المختلفة. ولذلك كان من الطبيعي، بعد مداخلته الهامة في مؤتمر الشعبة الذي جرى بالأمس، أن يحصد أعلى الأصوات بين المندوبين الآخرين إلى مؤتمر الحزب القطري القادم الذي سينعقد بعد شهرين.
وهنا رفع عمّي يده المجاورة لي، وانقضّ براحتها على مسند المقعد الذي يجلس عليه، مُحْدِثاً صفقةً خفيفةً حازمةً، كما لو أن شيئاً ضرورياً كان عليه أن يحدث منذ مدّة طويلة، فحدث الآن. التفتُّ إليه، فألفيته يستنطقني بحواسّه المحمومة كلّها، وأنفُه المحمرّ المرتعش يحذّرني، فوق ذلك، بجلاء- إن موقفاً متسرّعاً، من طرفي، مخالفاً لحساباته في هذه اللحظات الدقيقة سوف يدمّر بضربة واحدة كل مساعيه الحثيثة المضنية في السنوات الماضية. ثم إنه، إذا أردتُ الحقيقة، وقد شمختْ أرنبتُهُ الآن إلى الأعلى ناشقاً بها نشقةً سريعةً وحادّة، لن يسمح لي بعد الآن بأيّ ارتجال أو استهتار أو تقاعس. وكانت حماتي، في هذه الأثناء، تشخص إليّ ولا تصدّق نجاحي المذهل الذي فهمتْه الآن من ملامح زوجها، فيما كانت رجاء، من شدّة حماستها لي، تخنقني من أصابعي.
وكان طبيعياً بالنسبة لي، بعد الأصوات الكاسحة التي أحرزتها في مؤتمر الشعبة، أن أصاب بالغثيان، لكن ما أنقذني منه كان الرجل الضخم نفسه- مال فجأةً فوق طربيزةٍ مجاورة، وجعل يفعّس ببطءٍ واسترسال سيجارته المنتهية في منفضة الكريستال. وكان واضحاً، لي على الأقل، من همودِهِ، ثم سَنْدِهِ رأسَه، بعد ذلك، إلى ظهر المقعد، أنه لن يتابع الحديث عني أكثر من ذلك، كأنما من باب الحيطة أو الحرص عليّ أو على مهامي من أذى الضوء الزائد. ثم إن المرور السريع، الذي مرّه بما يمكن تداوله من أخباري، المعروفةِ على كل حال لدى المعنيين بالشأن العام، إنما كان كرمى لأهل البيت فقط. وإذا كان لابدّ من إضافة شيء آخر بهذا الخصوص حتى نهاية السهرة فلن يَعِدهم، على الأغلب، إلا ببعض الخواطر عن نهفاتي، ربما، أو أسلوبي الحاذق في تحمّلي كلامَ خصومي إلى الآخر دون أن أنفجر في وجوههم، أو طريقتي المميزة في تقليم أظافري، أو حتى تفضيلي أضلاع العجول الصغيرة في شوربة العدس، ولا أكثر من ذلك.. لا أكثر.
وجدتني أخيراً، وأنا أستعيد زمام نفسي لأول مرة منذ دخولي، أجرؤ على تمليص أصابعي من قبضة زوجتي برغم ملامحها المنيعة المعتزّة بي بلا حساب- كأنني أردتُ، بكلّ طاقتي، أن أُوصِل إليها أنني قد بدأتُ، الآن بالذات، أشذّ، عامداً وبإصرار، عن كل ترتيباتهم المسبقة المتعلّقة بي في هذه الليلة على الأقل، بل أنني سعيد، كما لا يمكن أن تتوقّع هي قبل دقائق. ثم ابتسمتُ لها كما أبتسم لها دائماً، مخترقاً، كأنما، وجهها القاسي إلى وجهها الرضيّ القديم الذي طالما أحببته.
وما كان عمّي ليفوّت، طبعاً، بوادر الغثيان على وجهي بعد انتدابي إلى مؤتمر الحزب قبل قليل، فبدا الآن، بأنفه المرتعش نفسه، يستوعب انفراجَ أساريري المتأخّر كثيراً بوصفه مصدراً غامضاً لقلقٍ جديد بالتأكيد. لن يفهم طبعاً أنني سعيد أخيراً مثل ناجٍ من مذبحة ظننتُها ناجزةً عند وصولي، فقد تأكّدتُ، لتوّي فقط، أن هذا الرجل الضخم، ذا الشاربين المصبوغين المثبّتين بالـ gel والمستمتع الآن بالاسترخاء إلى جانب حماتي المفتونة بنفسها، لن يتبرّع لنا، بعدُ، بشيءٍ أهمّ من الأصوات الكاسحة التي رفعتني إلى مؤتمر الحزب. وهذا يعني، تلقائياً، أنني، في قيلولتي اليوم، لم أقم، بعدُ، بأيّ انقلاب، ولم تسفك، بعدُ، في العاصمة القديمة قطرة دم واحدة في سبيلي، ولن تسفك قطعاً في الساعات المنظورة القريبة على الأقل، وأنني، إلى ذلك، إذا كان مكتوباً عليّ أن أُقْدِم على انقلابي في كل الأحوال، فلن أتلطّخ به، حسبما فهمت من كلامه، قبل مؤتمر الحزب. أنا لا أعرف فعلاً ما الذي يفعلونه عادةً في مؤتمرات الحزب. ولا أريد، في حقيقة الأمر، أن أعرف ما إذا كانت الانقلابات العسكريّة تُطبخ فيها حسب الأصول والأعراف المتّبعة. إن شيئاً لا يُلزِمني بالانشغال، منذ الآن، بما سيجري معي هناك، فأنا، مع جهلي المطبق بمثل هذه الأشياء، لن أتوصّل، مهما حاولتُ، إلى أي تصوّر عمليّ أو مفيد. سوف ننتظر جميعاً هذا الرجل الذي يجلس معنا الآن، وسوف يحدّثنا، لابدّ، عن ذلك بالتفصيل المملّ في الوقت المناسب. ولكنّ مؤتمر الحزب، أياً كانت طبخته، لن يحدث قبل شهرين، شهرين كاملين من الحرية والهواءِ النظيف والحي الروسي ورجاء، ربما، بثدييها العزيزين المتناومين أبداً وبكل أعماقِها الحبيبة الزلقة الدافئة ومناماتِها الساحرة التي لا تنضب. ثم إذا كان الحزب يحتاج فعلاً إلى هزّة أرضيّة ليعقد مؤتمره، تبعاً لبلاغة عمي، فإنه يستطيع تأجيله، إذا اقتضى الأمر، بسبب اتّساع ثقب الأوزون على سبيل المثال. إذاً لا أحد بقادر فعلاً على البتّ نهائياً بأيّ شيء، فكل شيء ممكن ومستحيل بالدرجة نفسها مادام كلّ شيء عندنا لا يخضع لأي قاعدة أو ناموس. أما الآن فكل ما في الأمر هو أن عمي قد أنجز، في أغلب الظن، كلّ الخطوات المتأنّية المُكلفة الممكنة على طريق مستقبلي الدمويّ. لكنه وصل، على ما يبدو، بطموحه الجامح المدروس، إلى الحدّ الذي لن يكون معه قادراً على القيام بأي خطوة جديدة من دوني. وعليّ أن أفهم بسرعة ودون أخطاء، كما ينوّه لي بوضوح حاجباه المتشنّجان الآن، الآليات المعقّدة لسلوكي القادم. سوف يكون عليّ مثلاً أن أتقبّل، من الآن فصاعداً، الرجالَ المُعَدَّنين الذين جاؤوا بي إلى هنا بوصفهم الترجمة الفورية لحرصه، المتوافَق عليه حتماً مع جهات نافذة، على سلامتي البيولوجية من أي طارئ في هذين الشهرين الحافلين بسكون ما قبل العاصفة. وتبعاً لمنطق عمّي في الحذر الأسود فإنه، في أغلب الظن، لم يأت بهذا الرجل الضخم في هذه الليلة إلا ليعرفني عليه عن كثب بصفته ضحيتي المحتملة الأولى مادام سيكون أول من سيأخذ بيدي على السلّم المتسارع الخطر. ولابدّ أن هنالك رجالاً آخرين من العيار نفسه تُرِك بعضهم في الظلّ بمثابة قوى صديقةٍ نائمةٍ في ملعب الخصم، وبعضهم الآخر مازالوا يحافظون حتى الآن على مسافة حذرة كافية بينهم وبين عمي في انتظار نتيجةٍ أكثر ثباتاً لجهوده في الحركة الخفيّة التي لا تُحْزَر ولا تهدأ عادةً على درجات سلّم السلطة الرهيب. لكن هؤلاء المتريّثين لن يفاجؤوا، في كل الأحوال، بوجودي على هذا السلّم المجيد الوعر إلا بالقدْر الذي يزيل عنهم شبهة التهاون، أو التواطؤ، معي أمام ضحاياي المحتملين الكبار من أقراني الطموحين في مغامرة الصعود إلى قمة السلّم. أما قبول هذا الرجل الضخم بأن يكون عرّابي الحزبي المباشر في صعودي المبيّت السريع، بعد أن جعلني الآن في غضون دقيقتين أنفق عشر سنوات من الحياة الحزبية المحنّكة المزدحمة بالمهام والنجاحات، فهو بحدّ ذاته نوع من المباركة المقنّعة، أو من باب أخذ العلم غير المعلن بما سيجري على يدي، وربما طريقة غير مباشرة بالإسهام المتعمّد بمستقبلي الدفين في رأس عمي منذ سنين. لكنّ هذه الخدمات، تبعاً لحاجبَيْ عمي المتشنّجين حتى الآن، لن تُغفَر له في كل الأحوال، وسوف يدفع ثمنها هو نفسه عندما سيطالب طبعاً، في وقت معلوم، بحصّةٍ لنفسه من مستقبلي. وبما أن مستقبلي، بالقياس إلى خبراتٍ سابقةٍ مُشابهةٍ في بلادنا، لا يمكن أن يتسع لأحدٍ سواي، فإن هذا البدين المسترخي الآن إلى جانب حماتي لن ينجو حتماً من طائرة، مروحية في أغلب الظن، ستسقط به من كلّ بد، نتيجة خلل فنّي في أقرب فرصة مُتاحة.
كان الجميع الآن صامتين من حولي، كما لو أنهم، منذ مدّة طويلة، ينتظرون مني، أنا بالذّات، أن أقاطع الصمت المترهّل الذي أصبح محرجاً لكلّ واحد منهم. وبرغم قابليتي الواضحة لأن أهنأ بصمتي أكثر من ذلك، فقد قدّرتُ، من باب اللعب ربما، أن الرجل الضخم، بعد أن أثبتَ لنا جميعاً معرفته الدقيقة بي ومواكبته لنشاطي السياسي اللافت، يرغب، لابدّ، بالتعرّف، فيزيائياً، إلى صوتي، فأنا منذ ظهوري في بيت عمي لم أنبس أمامهم بجملة مفيدة واحدة. وربما كان ينتظر أيضاً جلاء موقفي من خطواتي الهامة التي خطوتها حتى الآن، والتي تعرفت إليها، على لسانه، في هذه الليلة.
- شكراً.
خرجتْ من فمي أخيراً كما لو أنني أشفق عليه، بصوتٍ مسموع، من نهايته غير السعيدة التي سأصمّمها، أصولاً، بنفسي.
استرخى عمّي، الآن فقط، في مقعده متنفّساً أخيراً ملء رئتيه. ثم كأنه لم يعرف كيف يعبّر عن سعادته الكبيرة بشكري الذي باغته، فوجد نفسه يدعو الجميع إلى طاولة الطعام، الجاهزة منذ دقائق، في الجهة الأخرى من الصالون. وفي الطريق إلى هناك تمكّن، لثانيتين ربما، من وضْع راحة يده على كتفي بطريقة أشعرتني بأن الأمر يتطلّب، من الآن فصاعداً، استنفارَ قواي كلّها في المكر والإقدام والقسوة. وربما طالبتني، مبدئياً، أن أُبدي شيئاً من التجهّم الرسميّ، في هذه اللحظات بالذّات، بمثابة مسافة قصيرة، ملموسةٍ ولبقةٍ قدر الإمكان، تفصلني إلى الأمام، أو إلى الأعلى، عن الجميع بمن فيهم الرجل الضخم.
لابدّ أن شكري، على اقتضابه، قد برهن لعمّي على أنني اقتنعت أخيراً بأن معركته التي أتلف في سبيلها الكثير من المال والجهد والأعصاب أصبحت الآن معركتي قبل أن تكون معركة أي شخص آخر. لقد كان، الآن، كما لم أره قط، واثقاً فعلاً بأنني قد خطوت أخيراً بنفسي، كما لم أفعل أبداً بمحض إرادتي، خطوتي العمليةَ الفاصلة الأولى على طريق مستقبلي المُبيّت الذي طالما سمّيته قذراً.
لم أكن واثقاً، على كل حال، ممّا إذا كنت قد شكرت الرجل الضخم بهذه الدرجة الكبيرة من العمق، لكنني لم أشعر بالضيق أبداً حين حرص عمي على إفساح الطريق أمامي إلى الجلوس إلى طاولة الطعام قبل ضيفه. بدا الأمر لي كما لو أن شيئاً لافتاً لم يحدث، وإذا حدث فإنما يعود إلى تحرّقِ عمي الخاص إلى سلطتي المنشودة. غير أن مشاركة الرجل الضخم نفسه في الحرص على أفضليّة جلوسي قبل الجميع جعلتني فجأةً ألتاث بشكري فعلاً.
عليّ إذاً، لكي أفهم ما يجري في داخلي على الأقل، أن لا أنفي شكري العميق نفياً قاطعاً، وإلاّ فإن عليّ أن أغادر منزل عمي فوراً لكي أنجو بكرامتي، أو ما تبقّى لي منها بعد أخباري الحزبيّة المجيدة. هل سيمنعني الرجال الذين جاؤوا بي إلى هنا؟ حسنٌ، هذا عملهم- أن يمنعوني، ثم يعيدوني بالقوة نفسها إلى مكاني. ولكنّ عمّي، عندئذٍ، لن يكون بمقدوره أن يسيء فهم شكري لهذا الرجل. كنت أستطيع طبعاً أن أجنّب روحي كلّ هذا اللّغط، الناشب بي الآن، بأن لا أشكره أصلاً، فما الذي دعاني إلى ذلك فعلاً، وبمثل هذا العمق المريب؟! هل أنا سعيد حقاً بانتدابي الكاسح إلى المؤتمر؟ وإذا كان هذا الانتداب، فرَضَاً، يُسيءُ لي ولا يشرّفني، فلماذا لم أبقَ صامتاً على الأقل؟ ألأنني حرصتُ على اللباقة وحسن السلوك الاجتماعي في يوم يبدو مصيريّاً، فعلاً هذه المرة، في دخولي لعبة القتل والغدر والمال الملوّث والضغينة الجبانة والقلق الرخيص والدهاء التافه؟ أم أن شكري، العميق حقاً في هذه الحال، لم يكن سوى تتويج لما سمّيته، منذ سنتين على الأقل، إنقاذاً بريئاً لزوجتي من كآبتها، بينما لم يكن، في واقع الأمر، سوى عمليّة نقلٍ، تدريجيّ معقّد وطويل، لمستقبلي إيّاه، القذر والدمويّ، من رأسها ورأس أبيها إلى رأسي بالذات، وها قد آن الأوان لأن أُقرّ بذلك لنفسي قبل أيّ شخص آخر؟! ناهيك، طبعاً، عن معدّات صديقي عبدو الصينية التي نجحتْ، كأنما، بتفريغي، على مدى عملي في ورشته، من محتواي الأصلي، أو تمكّنتْ، على الأقل، من أن تطمر، تحت قرقعة بواريها ومضخاتها وصواميلها، كلَّ الكتّاب العظام الذين طالما شغلوني. إذاً سأكون كاذباً إذا ادّعيت، في هذه اللحظة، حاجتي الماسة إلى مغادرة منزل عمّي، فأنا لا أشعر فعلاً بأيّ خدشٍ في كرامتي. ومادامت مكاشفتي مع نفسي قد وصلت إلى هذا الحد، فإنني، فوق ذلك كله، بدأتُ الآن أرتاب أصلاً بأن أحداً قد أرغمني فعلاً على المجيء إلى هنا. لعل شيئاً استثنائياً لم يحدث اليوم بعد قيلولتي المتأخرة، ومن المحتمل جداً، بل من الأرجح والأقرب إلى المنطق والحقيقة، أنني استيقظت، كما أستيقظ عادة في مثل ذلك الوقت، ملتصقاً بزوجتي تحت الغطاء، استمتعتُ، كما أفعل في كل مرة، ببربراتها المعتادة مع ثدييها، ثم أدهشني حتماً حلم فاتن جديد، من أحلامها، روته لهما قبل أن أنهض من السرير وأسبقها إلى الحمام. وعندما لحقت بي كنت أوشك طبعاً على الانتهاء من حمامي، فساعدتني بشطف بقايا رغوة الشامبو عن جسمي، ثم لبستُ برنسي وخرجتُ من الحمام، وفي طريقي إلى غرفة النوم لابدّ أنني توقفت قليلاً في باب الصالون، ولم أجد هناك أحداً سوى الكوافير مع أحد صبيانه. باختصار- إن ما يمكن حصوله اليوم لا يمكن، نظرياً على الأقل، أن يختلف عن كل ما يحصل عادة في منزلنا قبل زيارة بيت عمّي. وإذا كنت، قبل كل زيارة إلى هناك، اعتدتُ أن أُبدي تمنّعاً، مصطنعاً كما تكشّف لي الآن، فإن ذلك لم يكن، ربما، سوى وسيلة ملتوية لحفظ ماء وجهي القديم الآسن، أعني شرفي الذي أنهكتُه، مع الأيام، من شدةِ حرصي على خلوّه من أي ذرة غبار. ومادام الأمر ممكناً جداً على هذه الشاكلة، ولابدّ أنه كذلك حقاً، فمن غير المستبعد أبداً أن أكون قد اخترعت، في حقيقة الأمر، كلَّ تفاصيل الكابوس الذي عانيت منه اليوم منذ استيقاظي من قيلولتي، والذي انتهى، تبعاً لما خُيّل إليّ، بجلبي التعسفيّ من المنزل إلى بيت عمي. وما يؤكّد ما أذهب إليه في هذه اللحظات هو أنني لا أستطيع، بالنظر إلى المشاعر والأفكار الجديدة التي تعتريني الآن، أن أنفي، نفياً قاطعاً، علمي المسبق بضرورة حضوري إلى بيت عمي في هذا المساء بالذّات، وبطبيعة الملابسات الفاصلة التي ستجري هنا بمشاركتي هذه المرّة. وعليه فقد فهمت، منذ لحظة استيقاظي على الأغلب، استحالة تعايشي، بعد الآن، مع ذلك الشرف القديم المنهك، فكان لابدّ، إذاً، من وضع حدّ نهائيّ له بصيغة كابوس يبرّر انتقالي إلى شرف حيويّ آخر أنكرته طيلة حياتي. أما شعوري القاسي بالتشتّت والانتهاك، في أثناء ذلك كله، فيمكن اعتباره طبيعياً، إذا لم يكن شعوراً مسرحياً خالصاً، أو خليطاً من المسرحة والحقيقة والأوهام، ويمكن فهمه، في نهاية الأمر، بمثابة تحية وداع مؤثرة وأخيرة ألقيتُها وانتهيت على كل ماضيّ، المزيف كلّه ربما، الذي عشته قبل رجاء. أعني قبل مستقبلي الذي بدأ منذ دقائق، أو منذ عشر سنوات، بعلمي أو بدونه، ما الفرق؟؟ لا فرق.
إنني أشارك الآن، بضمير نائمٍ أو جديد، شركائي أو ضحاياي القادمين الجالسين إلى هذه الطاولة، نخباً يرفعونه على شرفي في هذه اللحظة. أرفعُ كأسي، كما أطلّ عليهم من شرفة، وأثبّتها قليلاً في الهواء ريثما أُنهي ابتسامتي الفاترة القصيرة التي يمنحها عادةً الرئيس لمرؤوسيه حين لا يرى فيهم إلا خونةً مأجورين سيغدرون به حتماً في اللحظة الحاسمة المناسبة. تبدو زوجتي إلى جانبي راضية عنّي، وأرى نفسي في عينيها قد صدّقتُ، حتى أنا، ملامحي الظافرة التي بدأتْ بترويجها قُبيل عضويتي العاملة بقليل، فصرت الآن، تبعاً لمعطياتي الجديدة، أدّعيها بعفوية وطلاقة. بل غدوت، فوق ذلك، مُطْلَق اليدِ، كأنما، في أن أُضيف، وأُبدّل، وأُعدّل، بنفسي هذه المرة، ما أشتهي من أعمالي وصفاتي وعاداتي وطبائعي التي أنفقوا في تأليفها سنوات طويلة. لن يعترضوا الآن، أعتقدُ، حتى على نكاتي السمجة، إذا قرّرتُ فجأةً أنني أملك حسّاً عالياً بالدّعابة، بل سوف يضحكون معي ملء أشداقهم. وإذا أَمَرتُ الآن بإزالة العشاء من على الطاولة، لكي نلعب بالورق مثلاً، فلن يتأففوا من غِشّي السقيم البارد الذي سأمارسه معهم بصراحةٍ معيبة، بل سوف يستحسنون، بلا توقّف، حذاقتي الكبيرة في التغلّب عليهم بسهولة. وبسعادةٍ لا توصف سوف يتحوّلون، كلّهم، إلى فقهاء في تفسير سلوكي الشاذ ونزواتي- سوف يُذكّرونني، مثلاً، بحوادث جرت معي في الماضي لكي يثبتوا لي أنني حين أنتشي بالخمرة، أو حين أنعس أو أغضب، أحبّ، كما يمكن أن أفعل بعد قليل، أن أطلب مثلاً من أحد الجالسين إلى مائدتي، أينما فُتحتْ، أن يقف ويُقلّدني حين أغصّ بطعامي أو حين أقرأ خطاباتي أمام المرآة أو حين أنام مع زوجته أو ابنته دون أن أخلع حذائي أو شيئاً من ملابسي. وكنت في تلك اللحظة، مع صلاحياتي الاستثنائية التي بدأتُ أخيراً أتذوّق أطايبها سلفاً، مؤهّلاً لأن أدّعي لنفسي المزيد والمزيد من مزايا كانت ستُشعرني بالعار، المزيف ربما، لو خطرت ببالي قبل شكري العميق.
إلاّ أنني، في ذروة إحساسي بامتيازاتي الجديدة هذه، تذكّرتُ فجأةً، كما تخطر بك ذكرى أليمة على غير انتظار، لوحةَ أرخيب كْوِينجي، تلك التي خيّل إلي أنني لمحتها قبالة مقعدي السابق في الجهة الأخرى من الصالون. كان حضورها المباغت الآن واضحاً بي على نحوٍ غريب، إلى درجة أنني ميّزتُ، دون أن ألتفت إلى الوراء لأتأكّد من وجودها على الحائط، شجرتي البتولا والصنوبر الناهضتين من بين الألواح الصخرية في مقدّمتها، والشفقَ الأولَ البرتقاليّ المخيم فوق الغابة المعتمة البعيدة، والطائرَ الوحيد الذي يفرد جناحيه فوق ما يشبه مستنقعاً أخضر داكناً تشرف عليه الشجرتان.
وكان أرخيب كْوِينجي كلّه، في تلك اللحظات الفاصلة، لا ينقصني طبعاً، فطلبتُ من كبير الخدم، الذي يحوم حول الطاولة، المزيدَ من الجبن المشوي. من كل مطبخ بيت عمي، الزاخر باللحوم والشحوم وصنوف المازوات والمقبّلات، أحببت دائماً الجبن المشوي بالطريقة التي تتفنّن بها طبّاختهم العجوز أمينة.
وكانت حماتي الآن تتناول، من إناء كريستاليّ محجّر، جوزاً أخضر مُفَقَّشاً ومنقوعاً بين مكعبات الثلج، تزيل عنه غشاءه الرقيق، ثم تخفيه على هينتها، كِسرةً وراء كِسرة، تحت شاربي الرجل الضخم إلى جانبها. وفي هذه الأثناء كان عمي منهمكاً حتى أذنيه، وكأس الويسكي بين أصابعه، بمقارنةٍ موضوعيّةٍ لافتة بين الإفـ16 والميغ29، منوّهاً بالقوة التدميرية وسرعة التعامل الدقيق مع الأهداف المعادية لدى الأولى، ثم بالقدرة الفائقة على القتال الجويّ والمناورة التي تتمتع بها الثانية بصورة لا تُضارع.
وإذ استبطأتُ وصول المزيد من الجبن المشوي وجدتُني أستطيع ببساطة أن أغضب، غير أنني فكّرتُ أن الحيثيات المنطقية كلّها إنما تستثني، بلا أدنى شك، أن تكون تلك اللوحة لأرخيب كْوِينجي، مهما حضرتني الآن تفاصيلها حيّةً ونابضةً وعصيّةً على الزوال. إن الوصول إليها عملياً مستحيل في موسكو مع كلّ زوار المتحف، وأفواج التلاميذ ومعلّماتهم، الحريصات على منع أصابعهم الصغيرة من لمس التحف الفنية المعروضة، ثم الدليلات المتجوّلات اللاّهجات، طيلة النهار في القاعات والممرات، بِسيَرِ الفنانين وقصص لوحاتهم. ناهيك عن المُراقِبات الوقورات الجالسات كتماثيل حيةٍ على كراسيهنّ عند كلّ مدخل وزاوية ومنعطف.
ثم انتبهتُ إلى أن زوجتي لا تشاركنا الشراب، برغم فخرها المتنامي بي. وأردتُ، كأنما، أن أقترح عليها كأساً من البيرة على الأقل، لكنّني رأيتُ أن أقاطِع، قبل ذلك، حديثَ عمي عن الطائرات، وأسأله أن يجيبني، مباشرة وبلا مواربة، عمّا إذا كان يعلم أن لوحة أرخيب كْوِينجي، التي تزيّن الجانب الآخر من صالونه، مسروقةٌ من متحف تْريتيكوف. وهنا، قُرْبَ "المتحف" على رأس لساني، تماماً عند المخبز الذي يجاوره في موسكو والذي اعتدتُ في طريق عودتي من زيارة لوحاتي المفضّلة أن أشتري منه خبزه الأسود المُنَكّهَ باليانسون، وصلَ الجبنُ المشوي إلى الطاولة في زورق خزفيّ كبير، فلم أجد ما أقوله- مددت شوكتي إليه بصبرٍ نافد، نقلتُ ما يقرب من نصفه إلى صحني، ثم جعلت ألتهمه بشهيةٍ عالية.
كانت أصابع حماتي الآن ترفع جوزة مقشرة إلى الفراغ- لم يكن شاربا الرجل الضخم في مكانهما السابق، فقد عاد عمّي، قبل ثوانٍ فقط، على رؤوس أصابعه، إلى موضوع الحزب. كأن تدقيقاً مهمّاً نغّص عليه انهماكه بالطائرات الحربية فجأةً، فتركها تضمحلّ في الهواء، وبادر إلى الرجل الضخم يستمزج رأيه بصوت خفيض، فمال إليه هذا بِأُذنه من فوق كرشه العالية.
وكنت، عندئذٍ، ألتفت إلى زوجتي وأسألها، من بين الجبن المشوي الممزّق في فمي، بنبرةٍ غريبةٍ عليّ، عمّا إذا كانت ترغب باحتساء شيء من المشروبات. تلكّأتْ بإجابتها ولم أنتظر موافقتها- أردتُ، كأنما، مداعبتَها بالويسكي الذي تكره طعمه، فوضعتُ كأساً أمامها، وشرعتُ أملؤها به، وأنا، لسببٍ لا أفهمه الآن ولا أريد أن أفهمه، أبالغ في ذهني بالإجراءات الأمنية الليليّة المشدّدة حول متحف تْريتيكوف.
ثم تعبتْ حماتي من أصابعها المرفوعة بالجوزة عبثاً، فأعادتها حانقةً إلى مكانها بين مكعبات الثلج، وهي تبربر لنفسها بكلام ناقم غير مفهوم. ومع حنقها الصريح هذا بدأتُ أضيق بخواطري السخيفة عن اللوحة التي تشوّش عليّ سلطتي الجديدة على الطاولة على الأقل، فأصغيت إلى بربرة حماتي حرّاً، كأنما، من كلّ ما يخطر بي من أوهام. لكنّ يدها، التي أمسكت الآن بشوكتها، كانت قادرةً، فكّرتُ، بحركةٍ سريعةٍ حازمةٍ واحدة، أن تفعل، وإن بصورةٍ فظّةٍ، شيئاً حاسماً بي، وربما من أجلي. انتظرتُ. انتظرتُ حتى غزّتْ شوكتها، بِغِلٍّ واضحٍ، في صدر قطاةٍ صغيرةٍ محمّرةٍ ومحشوةٍ بالرزّ والمكسّرات. وكان بوسعي، من جملة احتمالاتٍ متناقضةٍ كثيرةٍ عندئذٍ، أن أشعر الخذلان.
- لن أشعر بالخذلان.
قلتُ في نفسي بحزمٍ واضح.
- لا، ليس بالضرورة.
قال الرجل الضخم، المائل إلى عمي، فجأةً بصوت مجلجل، فرفعت حماتي حاجبيها عن عينيها الحمراوين، في محاولةٍ يائسةٍ لحزر الشيء الغامض الجديد الذي لا ضرورة له. ولم تتوصّل، طبعاً، إلى نتيجةٍ مُرْضية، فأنزلتْ، بنزق، حمولةَ شوكتها في صحنها، وصار ثدياها يترجرجان مع حركة سكّينها المتشنّجة في صدر القطاة- كان زوجها المصون يستطيع، لو أراد، أن يُشركها من البداية في حديثه الجانبي الخافت المستمرّ مع الرجل الضخم.
وكانت رجاء قد ثبّتتْ، عند حركة سكّين أمها المتشنّجة في صدر القطاة، ابتسامةً دبلوماسية مقتضبة على شفتيها، وهي ترفع بسبّابتها فمَ القنّينة، التي مازلت أملؤ منها كأسها الطافحة، فتوقفت بقعة الويسكي عن التمدد على غطاء الطاولة الأبيض النظيف. وكانت الآن خواطري السخيفة، بالتوازي مع كل ما يجري من حولي، تنغر بي وتستحضر في رأسي لوحات أرخيب كوينجي، التي أحفظها عن ظهر قلب، متعاقبةً أمامي على شريط متحرّك فوق كل الأشياء من حولي، فأصبحتُ أرى، أينما نظرتُ، الليل الأوكراني، وبقع القمر في الغابة، ونهر الدنيبر في الصباح، وليلة مقمرة على نهر الدنيبر، وغابة البتولا، وغيمة فوق المياه، وجزيرة فالام مرة أخرى وأخرى وأخرى. غير أنني لم أستسلم، حاولتُ، في غمرة هذه الأعمال المدهشة، أن أصغي، بكلّ قواي، إلى رجاء التي توجّهت إليّ بالكلام. كانت تتابع بقلقٍ ظاهرٍ النهمَ العصبيّ الذي مازلت أمضغ به الجبن المشوي، لكنني تمكّنتُ، برغم كل شيء، أن أسمع، بوضوح كامل، اعتذرَاها لي، لأنها لن تستطيع أن تشرب كأس الويسكي التي سكبتُها لها، فهي منذ فترة قصيرة فقط لا تتناول المشروبات الكحولية.
- مؤتمرات الشُعَب حصراً.
أردف الرجل الضخم بصورةٍ بدت معها مؤتمرات الشُعَب على وجه حماتي مثل حُكمٍ مُبرم، أو داءٍ عضال لا شفاء منه، فسحبتْ شوكتها فجأةً من صدر القطاة. وفي الحال صعد الدم إلى رأسي، وصرت أشعر بنبض قلبي المتسارع في صدغَيّ. وإذ سندتْ حماتي شوكتها بصوت حادّ متَحَدٍّ مسموع إلى حافّة صحنها، محتجّةً على هذه المؤتمرات الإضافية التي تجري من وراء ظهرها، كان واضحاً، بالنسبة لي، أنها ستخرج الآن حتماً على أصول اللياقة والتهذيب، وأنها سوف تضع فوراً حدّاً فظّاً لتجاهل وجودها. وكان صحني، في تلك اللحظة، قد فرغ تماماً من الجبن المشوي، فوجدتني، بالفظاظة المتوقّعة نفسها، أسبق حماتي إلى الغضب دون تردّد، محرّراً نفسي أخيراً من قيدٍ ثقيلٍ ما عدت أطيقه أكثر من ذلك. وبكلّ سلطتي الجديدة، التي لن أتخلّى عنها، صرختُ بأعلى صوتي:
- حتى ولو كانت اللوحة لأرخيب كْوِينجي!
توقفتْ فجأةً ضوضاء العشاء من حولي، وانتبه إليّ الجميع مبهوتين.
كانت حماتي قد ابتلعت غضبها الوشيك، وجعلت الآن تحملق بي، كأنما من الخوف، فتابعتُ كلامي العالي، وأنا أنظر إليها كما أنظر إلى أرخيب كْوِينجي:
- إنه في نهاية الأمر ليس أكثر من رومانسيّ بائت في وقت كانت فيه الرومانسية عبئاً على الحياة وفن التصوير. عندما يموت غويا وتورنر وجيريكو و دولاكروا لن يشفع لكِ، حتى العجوز أيفازوفسكي في أن تستمدّي سماواتكِ المضطربة من سماواتهم. فأنت لن تجترحي في كل الأحوال إلا ما يمكن أن يفخر به غراب أبيض يحتضر منذ ولادته ولا يموت.
وكانت حماتي، على وقع بعبعتي المتواصلة، تهزّ لي رأسها بقوة، كأنها تتوسّل إليّ أن أكفّ عن ازدرائي الرهيب بها وأن أسكت في الحال، فهي توافقني تماماً فيما أذهب إليه إلى درجةٍ خيّل إلي، مع كلّ هزةٍ من رأسها، أنها لن تكون أقل تشدّداً مني تجاه أيّ شيءٍ متخلّفٍ عن زمانه.
- حتى النقاد الكبار من التشكيليين الروس- تابعتُ بصلفٍ أقسى- لم يَفُتْهم أن يلاحظوا أن ما فعله كْوِينجي لا يتعدّى عملياً الشطط الذي لا ينتهي في دراسة الظلام، وأن ما تلقّاه من مديح مريديه وأصدقائه كان لا أكثر من ليبرالية رخيصة.
وكنت على يقين، اللحظةَ، من أنني، بازدرائي المُعلن لأرخيب كْوِينجي، قد ثبّتُّ صورتي المتسلّطة الجديدة التي هزّها في داخلي، رغماً عني، حرصي الشديد على لوحته المسروقة من الضياع. وكان عمّي والرجل الضخم، بعد بَتْري المباغت لحديثهما الجانبي، يلتفتان إليّ بتفهّمٍ وخضوعٍ ظاهرَين، كأن ما سمعاه مني، بغضّ النظر عن موضوعه التشكيليّ، كان لا يخرج أصلاً عما ينتظرانه مني، بل لا يعدو عن كونه بروفة جنرال ناجحة على سورةٍ من سورات غضبي التي لا غنى عنها في مستقبلي المنظور، والتي ينبغي أن يعتادا عليها منذ الآن.
- وأنا عندما كنت في الصف الثامن خطبني مليونير من فنزويلا.
ساهمتْ حماتي فجأةً بصوت متحمّس مبهور، كما لو أنها تأخذ هي الأخرى، بهذه الحادثة من ماضيها، مأخذاً لا يُدحض على أرخيب كْوِينجي، وتتغلّب، في الوقت نفسه، على رهبتها التي لم تعد تحتملها، وهي تختبر رضاي بابتسامةٍ مستعطيةٍ عصبيةٍ وملتوية. ثم كأنها أدركت في الحال أن خطيبها الفنزويلي البالي، الذي نبشته خصيصاً من أجلي، لن يحميها، مهما ناصرني، من ازدرائي العنيف الذي قد أواصله في أيّ لحظة، فوجدتْ نفسها تستقوي عليّ سلفاً بنقطة ضعفي التي تعرفها جيداً:
- رجاء!
هتفتْ بكل جوارحها كما تُكَمِّمُ فمي بإحكام، وهي تستطلع وجوه الحاضرين مثل مضطرةٍ إلى ارتكاب خطأ في تسلسل أحداث هذه السهرة. ثم أخفضت رأسها، علّقت عينيها الكسيرتين على حافة صحنها كما تفعل ضحيةٌ مؤكّدةٌ لكلّ هؤلاء الرجال الأجلاف الجالسين من حولها. ثم أردفت بصوت خفيض، وهي ترتعش كلّها من الانفعال:
- رجاء بنتي.. حامل!
التفتّ إلى رجاء، فإذا هي تعود الآن إلى وجهها العزيز القديم الذي أحبه. كانت تبتسم لي، كما لو أننا لم ننم، بعدُ، قيلولة الظهيرة، وأن شيئاً لم يحدث، بعدُ، معنا من كلّ ما حدث حتى الآن. وددت، بكل جوارحي، لو أقف، في الحال، على ركبتيّ، وأحضن ردفيها، وأتحسس، براحتَيْ كفّيّ وشفتيّ، بطنَها العارية، لكنني لم أستطع. لم أكن قادراً، كأنما، على التحلّل، بسهولةِ وسرعةِ عودتها إلى وجهها القديم، من كلّ ما طرأ عليّ في هذه الليلة. وكان أرخيب كوينجي، الذي شوّهتُه بلا رحمة، ما يزال عالقاً على رأس لساني، وكان عليّ أن أتابع ازدراءه، لأحمي امتيازاتي الجديدة من أيّ خلل ممكنٍ في أيّ لحظة، لكنني لم أستطع أيضاً. كأن الحياة الحبيبة المفاجئة النابضة الآن في رحم رجاء قد أعادت إليّ، في هذه اللحظات الحرجة الحاسمة، إحساسي بنفسي القديمة التي ما عرفتُ غيرها قبل ميولي العنيفة وأعمالي المجيدة التي ألّفها، من دوني، عمّي وهذا الرجل الضخم.
- لا، لم يكن أرخيب كْوِينجي مجرّد صدىً باهتٍ لمن سبقوه من الرومانسيين العظام- وجدتني أقول لرجاء بصوت مختلف خفيض، كما لو أننا وحدنا تحت غطائنا الخفيف فوق سريرنا في المنزل، وأنا أهرتم لها هرتمةً حارةً ضروريةً سريعةً متواصلةً- ما أراد كوينجي أن يكون مثل كثيرين، لا يحصون حتى في يومنا هذا، مخلصاً أعمى لسحر الانطباعية المتفشيّة كالنار في تلك الأيام، فهرب بفنّه إلى الأمام، إلى أفقٍ رمزيّ، بِكْرٍ، متنوّعٍ، ملغزٍ، ومثيرٍ بحضور النور الفريد في أعماق متفاوتة من الظلام، وأحياناً إلى تجريدٍ مبكّرٍ تخرج فيه الألوان على مسوّغاتها الظاهرية، فلا تعود تلتزم بتمييز سطوح الأشكال وحدودها المعهودة في الواقع. أما ليبراليّته الرخيصة، التي تبجّحتُ بها قبل قليل، فكانت مجرّد طعنةٍ سخيفةٍ في ظهره ادّعاها في مقالٍ نشرَهُ تحت اسم مستعار أحدُ أقرب أصدقائه الرسامين. دوستويفسكي نفسه خاف ذات يوم على معاصره أرخيب كوينجي من سوء الفهم. كان ذلك في معرض الفنون الجميلة في فيينا، عندما خاف على "جزيرة فالام" نفسها من أن لا يفهمها المشاهدون الأوروبيون، فماهية الإنسان الروسي، قال، سوف تستعصي عليهم وتفقد في تلقّيهم سماتها الرئيسية، بسبب عزلة روسيا في العائلة الأوربية وعدم حاجتهم إليها وخوفهم منها.
تابعت هرتمتي الحارة لرجاء، وكنت أودّ أن أكشف لها ولنفسي مرةً أخرى وأخرى، بصوتي الحارّ المرتعش الخافت، المزيدَ من أهمية كوينجي، الإنسان والمصوّر وأستاذ فن التصوير في أكاديمية الفنون في بيتربورغ، لكنّ صوتاً متردّداً نشازاً جرشاً تناهى إليّ فجأةً، وأعادني، كأنه اقتلعني من تحت غطاء سريرنا الخفيف، إلى طاولة الطعام في بيت عمي.
- مبروك!
قال الرجل الضخم.
وكان واضحاً من تهلّل نظرته إليّ أن بهاء الخبر السعيد بوليدي القادم قد خوّله، كأنما، بأن يُطلعني على فرحته التي ما عاد قادراً على الاحتفاظ بها في فمه أكثر من ذلك. ثم خيل إليّ أن وجنتيه اللحيمتين محشوّتان، بعدُ، بالكثير من التهاني والأماني المكرّسة لي ولكلّ ذريّتي من بعدي، لكنّ ملامحي، التي لم تهضم "مبروكه" حتى الآن، جعلتْه، ربما، يُحجم عن دلقها أمامنا في اللحظة الأخيرة، فاكتفى بإضافة ابتسامةٍ ممسوكةٍ بحذر تحت شاربيه الفاحمين. وكانت حماتي تستقرّ مطمئنةً إلى جواره، كالمتأكّدة من أنني لن أعود إلى ازدرائي العالي بها بعد الآن، بينما لم يكفّ عمي، في هذه الأثناء، عن النظر إليّ نظرة العارف سلفاً بكل شيء، وهو يداري، بغضون وجهه المنكمشة حول أنفه الأحمر المرتعش، سعادةً مدروسةً غامرة.
وكان مفهوماً، وغاوياً بالنسبة لي في تلك اللحظة، أن أخرجهم جميعاً من بالي، وأعود إلى هرتمتي الحميمة مع رجاء. لكن الابتسامة المحترسة الممسوكة حتى الآن تحت شاربي الرجل الضخم، والسعادة المدروسة المتريّثة في وجه عمّي، ذكّرتاني، بوضوح حاد، بسلطتي الجديدة عليهم جميعاً، وجعلتاني أشعر بخوف مفاجئ ماعهدته في حياتي: من أن أكون أباً في هذا الوقت بالذّات. وقد كنت الآن أباً كاملاً لطفلٍ كاملٍ ينمو حقيقةً وفعلاً في بطن رجاء على المقعد المجاور. ثم لم أفهم، تحت وطأة هذا الخوف المباغت، كيف سوّغتُ ميولي إلى فتنة التعسّف والمال والسعار والدم في هذه الليلة العجيبة. لكنني، الآن، ما كنت لأسلّم، في كل الأحوال، بمستقبلي المرسوم مهما استسلمتُ لفتنة هذه الميول الجذابة السوداء. فكان لابدّ من حماية طفلي، قبل كل شيء، من غواية مستقبلي الوطنيّ التقدميّ الرهيب بأي ثمن.
- ما الذي تفعله عندك جزيرة فالام؟
توجّهت فجأةً إلى عمي، أستنطقه بصوت ٍقويّ آمرٍ أخرق.
لم يجب، بدا كما لو أنه لم يفهم سؤالي.
- كيف وصلتْ لوحة أرخيب كوينجي إلى حائط صالونك من متحف تْريتيكوف؟
كرّرتُ، وأنا على يقين من أنني لن أتلقّى من عمّي إجابة شافية تجعلني أكثر اطمئناناً على طفلي ورجاء، لكنّ مجرّد سؤالي عن جزيرة فالام ورغبتي العارمة بتَرْدادِهِ، عالياً وآمراً وأخرق، كان يُشعرني من جديد بالمسافة التي فصلتني دائماً عن عمي، ويمنحني، في آن، إحساساً عميقاً بأنني زوجٌ محبٌ فعلاً، وأبٌ كاملٌ للمرة الأولى في حياتي.
- أجبني!
تابعت صراخي.
كان عمي والرجل الضخم، الآن، في ذهول كبير.
لابدّ أنهما ما استطاعا، ولا أرادا، بعد كلّ جهودي السياسية المثمرة والمُكْلِفة التي بذلاها عني على مدى سنوات، أن يصدّقا أنني أبذّر وقتي وأعصابي الآن على أشياء غامضة من قبيل غويا، وكْوينجي، وجزيرة فالام، واستعصاء الإنسان الروسي على الفهم في فيينا، حتى لكأنني لم أعد أشعر بسلطتي الفتّانة المنظورة الغاشمة، كما يمكن أن يتوقعا وكما ينبغي لي أن أفعل قبل حمل رجاء. غير أن حماتي، على خلافهما، كانت تنظر إليّ بتفهّمٍ وتعاطفٍ كبيرين، ربما لأنني كنت الشخص الوحيد الذي قبضها على محمل الجد حين وجّهتُ إليها، دون الآخرين، ازدرائي الظالم لأرخيب كوينجي. وما كنت الآن طبعاً في وارد التأسّف أمامها على ما بدر مني آنذاك، ولعلّي خشيتُ من أن تفهم اعتذراي حَطّاً من قَدْرها وانتقاصاً من جدارتها بالاحتقار أو الاحترام أو حتى المحبة.
عدتً أنظر إلى زوجتي، وقد بدأ يتعاظم ضيقي من وجودي في منزل عمي حتى الآن، وإذا بي أفقد مرةً أخرى وجهها الرضيّ العزيز القديم الذي كنت استعدته لتوّي. كأنها أصيبت بعدوى ذهول عمي والرجل الضخم، وتعوّذِهما المُسبَق ممّا يهجس في صدري في هذه اللحظات. أو أنها تعمّدتْ العودة إلى وجهها المنيع الصقيل القاسي، لأنها لم تعد تلحظ في وجهي أيّ أثر للملامح الظافرة التي روّجتْها لي، والتي تبنّيتُها بنفسي بعد شكري العميق للرجل الضخم. وبذلك تشير صراحةً إلى أنها، برغم طفلنا، لن تتخلّى عن مستقبلي، مهما تجاهلتُه. لكنني الآن أقوى من أن أشوّه أرخيب كْوِينجي مرةً أخرى من أجل ميولي المفاجئة الجذابة إلى التعسّف. إنني، اللحظةَ، أقرب إليّ عندما أكون في الحي الروسي، ولن أخرج من هذا المنزل إلاّ للأبد، ومعي طفلي، ورجاء نفسها، وجزيرة فالام.
لن يتنازل عمي، طبعاً، عن النجاح الذي بدأه واعتقدَ أنه قد حققه معي في هذه الليلة لأول مرة بفضل الرجل الضخم. إن هذري عن الفنّ لن يعني بالنسبة إليه، ولا يمكن أن يعني، سوى محاولةٍ يائسةٍ، لن تكون الأخيرة مني، كما يمكن أن يتوقّع، لحلحلةِ آماله التاريخيّة المضروبة حول عنقي بإحكام.
كان، إذاً، لابدّ من عبدو.
لن يفتح لنا طريق الخروج من هنا سالمين من الرجال المتينين المُعَدّنين في الخارج، إذا كانوا موجودين فعلاً، سوى صديقي عبدو. لن يترك عبدو مسوّغاً واحداً لدى عمّي، ريثما يستفيق من صدمته الطويلة، للإمساك بنا وإرغامنا على العودة إلى هنا. صديقي عبدو، وليس الكتّاب والمصوّرون الكبار الراقدون تحت معدّاته الصينية المكدّسة في روحي، هو وحده القادر على دحر عمي في هذه الليلة. وحده يستطيع تفنيد وتبييخ وتحويل أيّ حديث عن مؤتمرات الحزب والصراع على سُلّم المجد والسعار والدم والامتيازات والدهاء التافه إلى مجرّد ماء فاسد يحتاج إلى معالجة طويلة ودقيقة قبل استخدامه في المدابغ وسقاية الدواب ودورات المياه في الحدائق العامة. رجاء نفسها لن تدرك خطل مساومتها معي على وجهها العزيز المفقود إلا بعبدو. عبدو الذي أسهر معه يومياً، دون انقطاع، في خمارة آكوب في العزيزية أو في كباريه من كباريهات الحي الروسي، والذي أخفيته عنها وعنهم جميعاً طيلة حياتي معها- لم أجد لحظةً مناسبةً واحدةً لأن أعترف لها بعملي في ورشته دون تبعات وخيمة على مشاعرها نحوي. ما كانت أصلاً لتتصور آنذاك أنني كائنٌ بيولوجيٌّ يحتاج مثلاً إلى التخلّص، في أوقات محددة، من فضلاته، فكيف لها أن تتقبل بسلام أن أكون، أنا السفّاح الممكن المحبوب إبن الشعب وأبوه الأبديّ المحتمل، مجرّد صانعٍ أو أجيرٍ أو متدرّبٍ أو مهرّج عند صديقي عبدو؟؟ لكنني، بعبدو صديقي ومعلمي، سوف أثبت لها الآن، دون إبطاء، أنني، في أحسن الأحوال، لن أكون سوى ذلك الرجل الذي لم يعرف حتى اليوم كيف ومتى يمارس في بلاده اختصاصَهُ بالأدب الروسي العظيم.
- صديقي عبدو بدأ طالباً في كلية الزراعة ومشرفاً على نموّ الحشيش في ملاعب كرة القدم في وقت واحد، ثم انتهى واحداً من ألمع معلّمي معالجة المياه الفاسدة في المنطقة.
بدأتُ الكلام كما أميط اللثام عن وجهي.
- وأنا شخصياً أعمل في ورشته منذ فترة طويلة.
تابعتُ كأنني لم أنتهك، بعدُ، صورتي الاستثنائية في رؤوسهم.
- اليوم مثلاً، بعد عودتنا من ضاحية المهندسين على طريق إدلب، ذهبنا، عبدو وأنا، بتكليفٍ خطّي مسبق من مجلس المحافظة، إلى المسبح البلدي، لا لكي نسبح طبعاً، بل لكي يعاين معلّمي عبدو، وأنا تحت يده، الماءَ المستعمل، ويجعله صالحاً لسباحة البشر في دراسةٍ مفصلة. وقد تبيّن له، ولي من بعده، أن الأمر، نظراً إلى ضخامة حوض السباحة وكثرة روّاده من أولاد المعدمين وذوي الدخل المحدود، يحتاج إلى أربعة فلاتر ضخمة، استطاعةُ كلّ منها 120 متراً مكعباً في الساعة. والاكتفاء بفلتر واحد هنا من باب اختصار التكاليف، أو حتى بفلترين، سوف يؤدي في غضون ساعات إلى ارتفاع ضغط دخول الماء في حوجلة الفلتر. وعندئذٍ لن يجدي تكرار غسيل الفلتر بعكس دارة دخول الماء إليه وخروجه منه، لأن تراكم العكارة الشديد فيه سيفوق تحمّل أي فلتر في العالم. وللتخلّص من الجراثيم المتفاقمة نتيجة بول السابحين وتعرّقهم وفطرياتهم المتقادمة اقترح صديقي عبدو على مجلس المحافظة أن يشرف دورياً، وأنا معه، على معايير استعمال الكلور شديدة الدقة، ومن ثم على التحقق الدوري من درجة الـP.H في المسبح، وهي الحد الفاصل بين قلوية الماء وحموضته. لا ينبغي بالتأكيد، يردّد معلّمي عبدو دائماً أمام المياه الآسنة، أن ترتفع درجة الـP.H عن نسبة 7,6 ولا أن تنخفض عن 7,2 فإذا نقعنا، الآن على سبيل المثال، عمّي وهذا الرجل الضخم في مياه بركة حامضية سيصابان فوراً بحكّةٍ أقرب ما تكون إلى حكّة الجرب، أما إذا كان ماؤها عالي القلوية فسوف تنمو عليهما الطحالب بعد مدة قصيرة من الزمن.
وعند "الطحالب" بالذات أُغمي على زوجتي، فسقطتْ إلى الأرض في الحال. كان ثوبها، المشمور الآن عن فخذيها المنفرجتين، يُظهر بعضَ كيلوتها الأبيض المخرّم، وقد تسرّبت من تحت حدّه الناصع شعيرات ملتوية من عانتها المضيئة. وما كنت في هذه اللحظات لأنتبه إلى فجيعة عمي المحقّقة بي أخيراً، ولا إلى الجهل ونكران الجميل والتعجرف التي أتخبّط بها، لابدّ، في عيني الرجل الضخم، ولا، حتى، إلى الدفء الذي أظنه مستمراً، وحقيقياً لأول مرة، في نظرة حماتي إليّ. كنت أستطيع، فترةً طويلةً، أن لا أرى سوى رجاء، جميلةً بلا حدود، مكتفيةً بذاتها كما لم تفعل قط، مستقلّةً عن الجميع حتى عني وكلّ ما يتعلّق بي، حرّةً مثل ميّتةٍ منذ لحظات، ملقاةً هكذا على السجادة بحيادِ منديلٍ نظيفٍ، نظيف. ظللتُ في مكاني أتملّى بها لثوانٍ كنت قادراً على جعلها دهراً من السعادة لولا الرجل الضخم الذي حطّ فجأةً بكفّه الضخمة على مقربةٍ شديدةٍ من حدّ كيلوتها الأبيض النّقيّ، وجعل، من هناك حصراً، يوقظها من غيبوبتها المهولة. وكان طفلي الآن على بعد سنتمترات قليلة من أصابعه الغليظة الفظّة المتحفّزة، وما كنت لأحتمل أياً من احتمالات حركتها الممكنة التالية، فنهضتُ. نزلتُ بكفّي فوق كفّه، واقتلعتها كما أقتلع عنكبوتاً سامّةً ضخمة- رميتُ بها وراء ظهري، ثم انحنيتُ فوق رجاء. عكمتها بين ذراعيّ، ونهضت بها. تلفت من حولي- كانت حماتي تنتحب على صدر عمّي، وعمّي واقفاً ينظر إليّ من وراء رأسها بحقدٍ وعجزٍ ما لمحتهما قطّ على وجهه. أمّا الرجلُ الضخم فكان يجعّد ملامحه ويركّز، كأنما، قواه كلّها في إشعال سيجارةٍ مطفأةٍ عنيدةٍ لا تشتعل في فمه.
وفي اللحظة الأخيرة، قبل أن أتحرّك برجاء باتجاه "جزيرة فالام" في الجهة الأخرى من صالون الاستقبال، خيّل إليّ فجأةً أن المضيّ قدماً في مستقبلي، بالنسبة لهذا الرجل الضخم وآخرين كثيرين ربما من أمثاله، لم يكن في الواقع إلا لعبةً مربحة يلعبونها جميعاً في رأس عمي ولا تتعدّى سواه، فما يهمّهم في حقيقة الأمر لا يمكن أن يعني سوى المضيّ قدماً في نهبه الطويل المنظّم مادام مريضاً بالسلطة الغاشمة إلى هذا الحدّ. ثم لم يعنِ لي شيئاً أن يكون عمّي أكبر ضحيّةٍ لِوَهْمِهِ العضالِ بي، فما كان يخصّني من كلّ هذا المنزل كنت أحمله بين ذراعيّ نهائياً وبلا رجعة.
لكنّ "جزيرة فالام" لم تكن هناك.
تلبّثتُ للحظاتٍ أمام الجدار العاري الذي توهّمتها معلّقةً عليه طيلة الوقت، ثم تابعت طريقي.
كانت المزهرية العملاقة في مكانها المعهود في الكوريدور المفضي الآن إلى باب الخروج، والبطّ الحليبيّ يحلّق كالعادة، إنما دون جدوى الآن، في سمائه المحدّبة الخزفية الباردة. أما الرجال المتينون المُعَدَّنون فلم يكن لهم، فوق ذلك، أيّ وجود، لا في المنزل، ولا على درج المدخل، ولا في الشارع.
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل.
* * * * *
ما حدث البارحة أمام حديقة الحيوانات
I
عندما خرجنا من الكباريه كان الظلام قد حلّ في الحي الروسي منذ وقت طويل. ليزا، إلى جانبي على الرصيف، تمشي كأنها لا تشعر بي، وتتحيّن، ربما، اللحظة الأنسب لأن تفلت مني وتضيع بين ازدحام المارة. كنت ما أزال أمسك بيدها. لن أتشبّث بها طبعاً إذا قررتْ فعلاً الهرب مني في أي لحظة. في كل الأحوال لن تغيب عن عينيّ مهما ابتعدتْ. شعرتُ فقط، ولا بدّ أنها شعرت أكثر منّي، بثقل قبضتي، المُحْكَمة كأنما بلا غايةٍ أو معنى أو فائدة، حول مرفقها الرهيف. كانت الآن كما لو أنها امرأة أخرى تختلف كلياً عما كانت عليه قبل قليل، تتبختر بين المارة رشيقة، فاتنةً، واثقةً من أنها، في كل خطوة، تجذب إليها، من اليمين والشمال، نظرات لا تحصى من المعجبين وحتى المعجبات، فلم يعد، ظاهرياً بالنسبة لي، مفهوماً، ولا مناسباً ربما، تخفيفُ الخيبة الأكيدة التي خرجنا بها من الكباريه.
لم أبادر، مع ذلك، إلى حلحلة أصابعي عن مرفقها- لم أجرؤ. اعتبرتُ، لسببٍ ما، اختلافها اللافت السريع نوعاً من المكابرة الزائلة لا أكثر، وانتظرتُ، بصبرٍ نافد، أن تكفّ حالاً عن تجاهل أحداث يومنا المؤسفة حتى الآن، وأن تجهش، إذا شاءت، إلى صدري مثلاً، بنوبة بكاءٍ صريحٍ وعاصفٍ ومريح.
لن تبكي، قلتُ،
إذاً لن نصل إلى الكشك بسلام.
توقّعتُ أن تلتفت إليّ فجأةً، فلا تفهم، على سبيل المثال، ما الذي أفعله معها في مثل هذا الوقت، وما الذي يجعلني ألزق بها إلى هذه الدرجة أمام الناس، ثم إلى متى تسكت عن ألاعيبي التي ما عادت تطيقها، والتي أصبحتْ، لابدّ، مكشوفةً في هذه اللحظات بالذّات، فأنا لست زوجها، ولا عشيقها ولا أمها ولا أباها ولا حتى شريكها بالكشك، لكي أخنقها بكلّ هذه الصحبة البغيضة المتواصلة في الليل والنهار.
وكنت لن أتردد حتماً بقبولِ، وتجاوزِ، انفجارها في وجهي في الشارع، بكلّ ما يخطر ببالها الآن من مساوئي المحتملة. لكنها تعرف، وأنا أعرف، أن ذلك لن يحقق لها رغبتها القديمة، في كلّ الأحوال، في أن تكون عاهرةً ناجحةً في كباريه محترم، ولا حتى على أرصفة الحي الروسي مادامت لن ترتضي لنفسها إلا ممارسة العهر الكامل على أصوله الخالصة من أي شائبة. لا، لم تكن تلك المرأة التي يمكن أن تقبل، لهذا السبب أو ذاك، بعبث الشبّان المتعجرفين المخمورين بها في شوارع آخر الليل، ولا حتى بشفقة ذوي النفوس الخضراء عليها من العابرين العجائز الأخيار المتهافتين البكّائين الميسورين. أصلاً، ما كانت ليزا تسعى إلى المال عندما ذهبنا إلى الكباريه لمقابلة اللجنة، ولا، ربما، إلى إرضاء رغباتها الجنسية. لقد كان غرضها المباشر، على حدّ علمي، تفتيتَ قواها العنيدة النافلة، بعهرٍ جيّدٍ مُعتَبَرٍ ومُجْهِدٍ، بين الثانية عشرة ليلاً والثالثة صباحاً لا أكثر. كانت تريد ببساطة أن تنام أولاً، ما إن تضع رأسها على المخدة، نوماً دسماً متّصلاً عميقاً دون مقدمات مملّةٍ طويلةٍ من الأفكار الملتوية والهواجس المتداخلة والطاقة المهدورة في الفراش بلا طائل ولا حساب. ناهيك، ثانياً، عن بريق العهر وغموضه، ولذّة اكتشاف أسراره، كما يمكن أن يجري في مخيّلةِ امرأةٍ مُحبةٍ للحياة مثل ليزا. أما الآن، بعد أن فشلت وساطة صديقي عبدو، وانحسرتْ عنّا حماية عصام، وانتصر علينا المعلّم أرتين بالضربة القاضية في الكباريه منذ دقائق فقط، فمن غير المفهوم أن تبدو ليزا، منذ خروجنا من هناك، كأنها، نفسها، فوجئت، مثلي تماماً، بثديها المقطوع. وأن شيئاً، على كل حال، لا ينقصها الآن إذا كان نجاح أي عاهرة حقيقية في الدنيا يمكن أن يتوقف أيضاً على شيء آخر أهمّ، أو أقل أهميةً، من محتويات كيلوتها.
ثابرتُ على سيري صامتاً إلى جانبها، وأنا أنظر إلى الجهة الأخرى من الشارع، كأنني لا أعيّر خطواتي على سرعة خطواتها. وقد بدأتُ، بالنظر إلى رشاقتها التي تؤكّد عليها في كل خطوة، أرتاب فعلاً بوجود أيّ أثر للمرارة في نفسها.
- لن أتعلّم قيادة السيارات.
قرّرتْ ليزا فجأةً بصوتٍ حازمٍ مرتفع، كأنما بعد تفكير طويل. ثم حثّت خطواتها المتدفقة، وقد أخذها شيءٌ من تصميمٍ حماسيّ غريب. وإذ انتقل إليّ مزاجها الجديد المختلف، وأنا أنظر إلى امرأة تعثرت على الرصيف المقابل، التفتّ إليها، فرأيتها الآن جميلةً كما شاءت، وكما عرفتها دائماً.
- سائق السيارة لا يفعل شيئاً أصلاً سوى الجلوس والنعاس وراء مقوده طيلة الوقت.
قلتُ مُسايراً تصميمَها الغامض، كما لو أن هواجس رأسها تحدث في رأسي أيضاً، فنظرتْ إليّ كالمُتفاجئة بوجودي إلى جانبها حتى الآن.
- ولا تنسي غلاظة شرطة السير!
تابعتُ أهدلُ إلى جانبها بفخر، وقد وجدتُ في انتقاصي من قيادة السيارات مسوِّغاً مباغتاً وناجعاً لقبضة يدي المعلّقة حتى الآن حول مرفقها بلا معنى، فلم أعد أشعر بها. ثم أردت أن أعزّز جدواي أكثر فأكثر في عينيها بالزفت الرديء أيضاً، والمطبّات، والمستنقعات الصغيرة الآسنة، وسوء الخدمة في محطات البنزين، والنزول إلى دِرْك الشتائم الزَّنِخَة التي يبرع بها عادةً سائقو الميكروباصات والشاحنات الصغيرة، ثم حوادث الاصطدام التي لا غنى عنها على الطرقات، ومن ثم تكسير العظام والجروح والدماء الحارّة المرشوقة عشوائياً فوق المقود المفعّس والزجاج الأمامي المحطّم، وبعد ذلك كلّه انتظار سيارات الإسعاف التي لن تأتي بالهيّن. لكنّني، برغم رغبتي القوية بتعزيز صورتي في عيني ليزا، لم يتسنّ لي، للأسف، أن أتغنى بأيٍّ من مآخذي، تلك، على قيادة السيارات، فقد قاطعني فجأةً ظهور رئيسة بتروفنا، أفغانيّة فيكتور إيفانيتش المدلّلة- نبعتْ أمامي، كأنما، من العدم، ودسّت نفسها، بدالّةٍ واضحة، بيني وبين ليزا، وهي تبصبص بذيلها، وتحمحم بأصواتٍ مستعطيةٍ متقطّعةٍ متوتّرة. وإذ نظرتُ إلى الوراء، لأعرف أن صاحب الكفّ التي شعرتُ بها الآن على كتفي كانت لفيكتور إيفانيتش، فقدتُ ليزا.
- كنت أبحث عنك.
بادرني فيكتور إيفانيتش متلهّفاً.
- أين ليزا؟!
سألته.
- صالح!
أجابني كما يخبرني بمصيبة حدثت للتوّ.
- أين ليزا؟؟
كرّرتُ بصوتٍ أعلى، وأنا أتلفت من حولي، وأتحاشى، في الوقت نفسه، رئيسة بتروفنا قدر الإمكان.
- صالح لم يظهر حتى الآن.
تابع فيكتور إيفانيتش شاكياً بصوتٍ أعلى، وهو يتلفت معي.
وكان لا يمكن أن أخطئ ضحكتها عندما تكون استعراضيةً وعاليةً ومزيفةً بإتقان، فانبرمتُ ناحيتها، وألفيتها على بُعد بضعة أمتارٍ عني، تتابع ضحكتها العابثة أمام شابين مبتسمين لا أذكر أنني رأيتهما معها من قبل.
- وأول ثلاثاء في الشهر يصادف غداً!
تابع فيكتور إيفانيتش متحرّقاً، وقد أفلح، في اللحظة الأخيرة، بالتقاط كمّ جاكيتي السميك وشرع يهزّه وراء ظهري. وفي اندفاعتي السريعة بين زحام المارّة نحو ليزا تعثرت قدماي، برغم حرصي، ِبرئيسة بتروفنا، فنبحتني نبحةً قويةً من شدّة غيظها، على الأغلب، من سوء ظنّي بها، أو بسبب اكتراثي غير الكافي بفيكتور إيفانيتش. اقشعرّ بدني اشمئزازاً منها ربما. وكانت ليزا قد عرفتْها، لابدّ، من نباحها الحانق عليّ، فنظرتْ ناحيتها بحنان أصليّ، في غمرة مرحها المصنوع المستمرّ مع الشابين. ثم كادت، كأنما، تناديها باسمها لولاي- لمحتْني، في اللحظة نفسها، مندفعاً حتماً باتجاهها برغم كل شيء، فسمّرتني فوراً في مكاني بقطبةٍ حادّةٍ سريعةٍ بين حاجبيها، ثم أدارت ظهرها لي بجلاءٍ وحزم- ابتعدْ، لا تتدخّلْ!
لن أتدخّل، قلتُ لظهرها المبتعد عني بين زحام المارّة بمصاحبة الشابين الغريبين، لكنْ لن أبتعد.
وكانت رئيسة بتروفنا ماتزال تقف في طريقي، وهي ترمش أمامي بعينينها العنيدتين، وقد حبست لسانها الأحمر وراء أنيابها الطويلة الصفراء.
- مجلة الحائط!
غمغم فيكتور إيفانيتش متحسّراً بصوتٍ مستعطفٍ ضعيف، وقد حزر الآن اضطرابي من قرب رئيسة بتروفنا مني، فنزل بأصابعه الثخينة المجعّدة فوق عنقها، وشدّها من طريقي.
لا أشمئزّ من الكلاب، بل أخافها. قلتُ في نفسي، وأنا أتعقّب ليزا محافظاً على المسافة نفسها التي فصلتْها عني قبل قليل. وكنت لا أريد أن أعترف، لفيكتور إيفانيتش مثلاً، بقصة خوفي القديم من الكلاب، ولا أن أفلت ليزا من ملاحظتي بسبب جواري، الذي لا فكاك منه على ما يبدو، مع رئيسة بتروفنا- كان واضحاً أن فيكتور إيفانيتش لن يتركني، ومن ثمّ لن تتركني، ما لمْ أستجب للغاية التي جاءت بهما إليّ. وكانت رئيسة بتروفنا الآن راضيةً جداً عن نفسها تتبختر بيني وبينه بخطمٍ فخورٍ مرفوع، فقدّرتُ لحظةَ غفلتها عني، وانتقلتُ، كأنما دون قصد، إلى الجهة الأخرى، فصار فيكتور إيفانيتش يمشي بيني وبينها.
دخلتْ ليزا مع الشابّين إلى سوبر ماركت، فوجدنا أنفسنا ننتظرها تلقائياً على الرصيف قرب عمودِ نورٍ معدنيّ حجبتُ به نصف وجهي، وأنا أترصّد خروجها بالنّصف الآخر.
أبدى فيكتور إيفانيتش الآن تسامحاً ظاهراً نحوي بأن أعفاني من إلحاحِ عينيه، فحوّلهما عني أخيراً. مال فوق رئيسة بتروفنا، وبدأ يمرّ بأصابعه فوق رأسها وتحت حنكها، ويحذّرها، بلطفِ زوجٍ عجوزٍ محبّ، من مخاطر النزول من الرصيف إلى عرض الطريق.
غمغمت رئيسة بتروفنا ممتنّةً بصوتٍ متقطّعٍ مبلوع، وأقعت على قدميها الخلفيتين إلى جانب حذائه. ثم لم تمض دقائق معدودات على اطمئنانها هناك حتى شبّت فجأةً على قوائمها الأربعة، وجعلت تشدّه وراءها بسيرها الجلديّ المُمَلَّخ الطويل، نابحةً، في الوقت نفسه، نبحاتٍ ودودةً متلاحقةً، باتجاه السوبر ماركت.
كانت ليزا قد ظهرت على الرصيف من جديد. وإذ فهمتْ، لابدّ، أنها المعنيّة بالنباح الاحتفاليّ الودود لم تعد قادرة على تقطيب حاجبيها هذه المرّة حين رأتنا، أنا وفيكتور إيفانيتش، نقترب منها بخطوات متردّدةٍ مثل مذنبين كبيرين وراء شفيعتنا رئيسة بتروفنا- ابتسمتْ لها، ولنا معها على الأغلب، ابتسامةً صريحةً صافية. وعندما اقتربتْ من حدّ الرصيف، وأشارت إلى سيارة تكسي، ألقت علينا نظرةَ عطفٍ سريعةٍ ظنّتْها، ربما، ستكون النظرة الأخيرة في هذا اليوم. لكنّ رئيسة بتروفنا، مع وقوف السيارة، تمكّنت من الوصول إلى يد ليزا، ودسِّ خطمها، الرطب حتماً، تحت أصابعها، فانحنت فوقها وقبّلتها قبلةً سريعة بين عينيها. وكنا، أنا وفيكتور إيفانيتش، نبتسم، في هذه الأثناء، بكلّ طاقتنا ابتسامتين عريضتين مُسْتَرْضِيتين، ونتشبّث معاً، برغم مضضي الخفيّ، بِسَيْر رئيسة بتروفنا المرخي بيننا على الرصيف.
فتح أحد الشابين باب السيارة الأماميّ، وانضم فيه، فتبعته ليزا وجلست في حضنه. وفي الحال حاولت رئيسة بتروفنا القفز إلى حضنها، لكنّ فيكتور إيفانيتش كان قد فتح باب المقعد الخلفيّ، فسبقتْه إليه. ثم وجدتُني أجلس إلى جانبه تلقائياً، وقد حرصتُ، من باب اللباقة ربما، على ترْك الباب مفتوحاً إلى جانبي للشاب الآخر الذي ظهر، لتوّه فقط، من باب السوبر ماركت. كان يحمل أشياءً في كيسٍ بلاستيكيّ ملوّن وضعه في حضنه، إذ جلس الآن إلى جواري، ثم طبق الباب، فتحركت السيّارة.
- أوتوستراد المزّة.
حدّد الشاب، الذي يجلس تحت ليزا، المكانَ الذي نذهب إليه.
- رئيسة بتروفنا لا تنسى!
قال لي فيكتور إيفانيتش بصوتٍ فخورٍ عارفٍ متحشرجٍ خفيض، كأنما ليشرح لي ماذا يعني أتوستراد المزة عندما نكون، أنا وهو ورئيسة بتروفنا، في سيارة واحدة مع ليزا وشابين غريبين. وكنت لا أريد أن أبعث في ذهني أوتستراد المزة القديم الذي أعرفه. لقد شغلتني الآن صورته الجديدة التي تشكّلتْ في داخلي مع وجودنا الغريزيّ المكثَّف والمباشر في السيارة، والذي استطعت، بفضله، لا أن أتصور الطرق المعروفة المؤدية إلى هناك، بل أن أكتشفها، من هذه الزاوية غير المشروطة بشيءٍ مسبقٍ أو معلوم، وأُفاجأ بها كأنني ما مررتُ بها قط.
- وليزا أيضاً لا تخطئ!
استطرد فيكتور إيفانيتش في شرحه المتحشرج العارف الخفيض من باب الإحاطة، ربما، بحالنا الجذّابة، إنما من وجهٍ بديعٍ آخر. وكنت، في تلك اللحظة، أشبَهَ ما أكون برئيسة بتروفنا برغم كل شيء- وحدها كانت تكتشف معي الشوارعَ، التي نمضي فيها، من النافذة التي تجاورها، بفضولٍ متوتّرٍ لافت. كل شيء- المحلات المتعاقبة، المصابيح وقد تحوّلتْ إلى خطوطٍ مستمرّةٍ مضيئة، شرفات المنازل الطائرة، المارّون الفارّون، كلّهم، في عكس الاتجاه، ومعهم، بالسرعة نفسها، الشحاذون المقعدون وكابينات الهواتف وأكشاك الصحف ومناضد أوراق اليانصيب وأشجار الأرصفة وياسمين الأسيجة وآرمات الأطباء والنوادي والمدارس، ثم ضوءُ إشارات المرور الأحمر الذي يأتي فجأةً ويثَبِّتُ، من وقتٍ لآخر، هذا العالمَ الهارب من حولنا- كل شيء كان يتنصّل الآن من صورته المحفوظة المنطقية المُحكَمة الراكدة، ويتحول أمام أعيننا، جميعاً ربما، إلى رموزٍ موحية وإشاراتٍ دالّة وإحالاتٍ جريئةٍ إلى ظرفٍ مرنٍ، حرٍّ من حصافةِ وقسوةِ وتكرارِ التفكير الدارج بقوة الاستمرار، وممكنٍ الآن فقط، فيما كان مستحيلاً تماماً قبل أن نركب هكذا في السيارة.
- لأن المرتديلاّ التي تفضّلها رئيسة بتروفنا من النوع الرخيص كما تعلم!
أردف فيكتور إيفانيتش مضيفاً، كأنما، مزيداً من الدلالات غير المألوفة على ما تتلقّاه حواسّنا من النوافذ. وكانت المسافة، التي قطعناها، في العالم الطازج المختلف السريع المتبدّل بنا، كافيةً، بالنسبة لي على الأقل، لأن يظلّ محسوساً، بكلّ مرونته الاستثنائية، عندما توقفت بنا السيارة بطلبٍ، لم أسمعه، من أحد الشابين.
نزل الشاب الذي يجاورني، وهممتُ بالنزول وراءه مباشرةً، لكنّ رئيسة بتروفنا رمت بنفسها قبلي إلى الخارج. وكانت، بمرورها الثقيل فوق ركبتيّ وبذيلها الذي لامس وجهي، قادرةً طبعاً على إفساد انطباعاتي الأولى عن أوتستراد المزة الجديد، فحرصتُ، بعد نزولي من السيارة، أن أتجنّب، من الآن فصاعداً، الاحتكاكَ بها بأي وسيلة.
ما كنّا، في طفولتي بالرقة، نطلق أسماءً على كلابنا المتشابهة الشاردة في الشوارع. وكان يمكن لرئيسة بتروفنا، المتغطرسة هذه، أن تكون مجرّد كلبةٍ ضالةٍ هناك، دون إسم ولا كنية ولا مأوى ولا صاحب. وكنت مستعداً في تلك اللحظة، دون أن أكفّ عن ملاحظة ليزا، لأن أحطّ من قدر رئيسة بتروفنا أكثر من ذلك لولا فيكتور إيفانيتش. كأنه شعر، الآن، بكلّ الكلاب الشاردة التي كمنتْ لي وطاردتني في دَرْبات الرقة المظلمة منذ عشرات السنين، فجعل، بقوة حاجته الماسّة إليّ في هذا اليوم، يجهد ورائي بالسيطرة على رئيسة بتروفنا- أمسك بها فجأةً من طوقها بإحكام، فلا يكون ثمة مجالٌ لأن تتمسّح بي مرةً أخرى. وقد زاد ذلك طبعاً من كَلَبها البهيميّ عليّ، إنما دون جدوى لحسن الحظ.
كنت الآن أمشي في أثر ليزا المائلة على ذراع الشاب الذي جلستْ فوقه في السيارة. وكان الشاب الآخر قد تجاوزهما مع كيسه البلاستيكيّ الملوّن، ووقف الآن ينتظرهما أمام باب بنايةٍ تجاور السفارة الكندية. تريّثتُ وراءهم حتى دخلوا جميعاً، ثم تركتهم يبتعدون عني خطوتين، أو ثلاث، قبل أن أتبعهم بهمّةٍ ولهفةٍ وتيقّظ.
صعدتُ الدرج، على هَدْيِ الطقطقةِ التي تتدفّق من حذاء ليزا ليس بعيداً عني، مأخوذاً بالدربزين المنزلق تحت راحة يدي، والإضاءةِ الكافية لتمييز الغبار الخفيف على الجدران والبلاط. وعند الطابق الثاني فقط تمكّن فيكتور إيفانيتش من الّلحاق بي، فلم يعد يفصله عنّي سوى بضع درجات. بدا الآن بنفسجياً من شدّة الغضب، كأنما من رئيسة بتروفنا التي أنهكته، وما انفكّت تشبّ، دون كللٍ ولا جدوى، إلى الأمام من قبضته العجوز المتماسكة حتى الآن.
- الناس في النهاية لا يعذرونك!
هتف بي فيكتور إيفانيتش فجأةً، بصوت غاضب تردّد صداه في البناية كلّها. ثم ظلّ ينظر إلي ساخطاً، في إشارةٍ منه، ربما، إلى أنني، بِجُبني الكريه الواضح، الذي لن أتخلّى عنه طبعاً، أُرغمه على عراكٍ متعبٍ ومؤلمٍ وغير مشرِّف مع الأنثى الوحيدة المتبقّية في حياته رئيسة بتروفنا، ثم أكافئه على ذلك بتجاهلي الكلّي حتى الآن لما سعى ويسعى، من أجله ورائي، ربما منذ الصباح.
توقفتْ ليزا مع الشابين في الطابق الثالث أمام باب إحدى الشقق، فتوقفنا نحن أيضاً.
ضغط أحد الشابين الجرس، وتوقّعنا جميعاً، في صمتٍ مطبقٍ لا يقطعه سوى لهاث فيكتور إيفانيتش ووحيف رئيسة بتروفنا، اقترابَ خطواتِ مَنْ سيفتح لنا الباب بعد قليل.
- ثم الأطفال، ماذا ستقول للأطفال؟
تردّد صدى فيكتور إيفانيتش في البناية كلّها من جديد، ونحن ننصت، بكلّ حواسنا، إلى الباب المغلق أمامنا حتى الآن. لن يفتح أحد، قلتُ في نفسي، فضغط الشاب الجرس مرةً أخرى، وأخرى، وأخرى. عبثاً. تبادل الشابان النظر، ثم أمسك أحدهما بيد ليزا، سحبها باتجاه الدرج، وصعد بها إلى الأعلى. تبعهما الشاب الآخر، وكذلك فعلْنا، أنا وفيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا، بلا تردّد. ومع وصولنا إلى الطابق الرابع فحّمَ فيكتور إيفانيتش من شدّة السخط والإجهاد. لم يعد بإمكانه الآن أن يصعد الدرج ويلجم عنّي، في الوقت نفسه، عزيزتَه العنيدة رئيسة بتروفنا. لكنه تمكّن، في اللحظة الأخيرة، من أن يصل إلى ذراعي، فقبض، بيده الطليقة، عليها، واستند إليها لكي لا يسقط، ما اضطرّني إلى التوقف أيضاً. كان وجهه أكثر تجعيداً مما عهدته، ومختنقاً بدم كحليّ ومغسولاً بالعرق.
كانت ليزا قد غابت الآن عن عينيّ، فحاولتُ جاهداً أن أميّز وهس خطواتها المبتعدة بين لهاث فيكتور إيفانيتش العالي، ولم أستطع. وما كنت، طبعاً، لأسمح بضياعها مني بهذه السهولة- نترتُ ذراعي من قبضة فيكتور إيفانيتش، وصعدت قفزاً إلى الأعلى.
حرتُ في الطابق الخامس بين ثلاثة أبواب مغلقة. وكنت مستعداً لأن أطرقها جميعاً لولا حسّها، جاءني حسّها من مكانٍ بعيدٍ أعلى. ثم قادني الدرج الصاعد إلى باب حديدي وحيد نصف مفتوح أفضى بي إلى سطح البناية- قمر ومداخن وصحون ستلايت وخزانات ماء.
- ليزا!
صرختُ.
- أنا هنا.
لاقتني بصوتها من مكان قريب.
تجوّلتُ ببطء بين أشباح المداخن والصحون الضخمة، وأنا أصادف أشياء مختلفةً غامضةً معطوبةً، لابدّ، ومهملةً في الظلال هنا وهناك. ثم شدّني إلى ليزا سِيلُوّيتُها واقفةً تنظر إلى سماء مليئة بالنجوم إلى جانب خزان ماء بلاستيكيّ أسود.
اقتربتُ منها.
كان الشابان منهمكين بِفرشِ سريرٍ، عسكريٍّ على الأغلب، شبه محطّم، بقطع غير مفهومة من كرتونٍ رطبٍ، ربما، أو مِزقٍ من خرق.
لمحتني ليزا الآن، وقد بدا الشابان راضيين عن السرير، فدنت منه، وجلستْ على حدّه بحذر. ثم حاولتْ، كأنما، أن تترحرح في جلوسها عليه، فقرقعت تحتها صواميله وعزقاته المحلولة المتبقية، ثم هوى بها فجأةً إلى الوراء- انقض عليه الشابان في اللحظة المناسبة، ومنعاه من السقوط، بينما نهضت ليزا، وقد حلّق فوقنا ضحكها عالياً، ولذيذاً.
قرّب الشابان السرير المخلّع من خزان الماء الأسود، وسنداه إليه، فبدا الآن أكثر استعداداً لاستخدامه. وإذ تردّدتْ ليزا بالجلوس عليه من جديد، أردتُ أن أختبر متانته بنفسي قبل أن تجلس، لكنّ رئيسة بتروفنا حالتْ فجأةً دون ذلك. لقد ظهرت أمامي وحدها، في تلك اللحظة، دون أي أثرٍ وراءها لفيكتور إيفانيتش- إذاً سيكون لها الآن من السطوة ما يبيح لها التصرّف على هواها بلا أيّ رادع، وهذا ما أقدمتْ عليه في الحال- اقتربت مني، كما تقترب عادةً من صحن المرتديلا الرخيصة المهرّمة التي تقدمها لها ليزا أحياناً على باب الكشك، وجعلتْ تتشمم فردتي حذائي بإمعانٍ ونهمٍ واضحين. ثم بدأتْ، بعد ذلك، تمرّر خطمها فوق بنطلوني، فشعرتُ بحرارة أنفاسها فوق ركبتيّ قبل أن ترفع رأسها إلى الأعلى لتريني عينيها المتلامعتين بضوء القمر. وكان معيباً طبعاً أن أستنجد بليزا، المطمئنّة الآن في وسط السرير، والمشغولة بزجاجةِ كونياكٍ رديء بدأتْ تتبادلها فوراً مع الشابين، فوجدتني أرتجف، كلّي، في مكاني. ثم خيّل إليّ أن رئيسة بتروفنا ستقف الآن على قائمتيها الخلفيتين، وتتسلّق إليّ حتماً، ومادام فيكتور إيفانيتش مختفياً حتى الآن فسوف تكون بِطولي طبعاً، وربما أطول مني، وسوف تشلح قائمتيها الأماميتين على كتفيّ، ثم تدلع لسانها المشقّق الحارّ الليّن الزنخ اللزج، وتلعق به وجهي. وكدْت، من هول الصورة الموشكة، أن أغمض عينيّ وأرفسها عنّي بكلّ قواي لولا فيكتور إيفانيتش الذي ظهر، أخيراً، مثل مخلّصٍ إلى جانبي- امتدّت يده، بدرايةٍ ومحبةٍ وحزم، إلى عنقها حالاً، أمسك بطوقها، وشدّها إليه، مُبَرْبِراً إليها بكلماتٍ حميمةٍ وخفيضة.
كان الكيس البلاستيكي الملوّن قد فُرش قرب أقدام ليزا والشابين على الأرض، دون أن أنتبه، تحت كومتَيْ قضامة حلوة وفستق مملّح وبضع تفاحات خضراء صغيرة.
- كلما تعرّفتُ إلى رجل جديد أحببتُ زوجي السابق أكثر.
قالت لي ليزا، وقد أنزلتْ من فمها قنينة الكونياك، وناولتها لأحد الشابين.
- الأفضل أن نستريح، ولا نتأخر.
قال لي فيكتور إيفانيتش، ثم بيده لفت نظري إلى صندوقَيْ خضار بلاستيكيين فارغين قرب باب السطح. أتينا بهما بصورةٍ آلية، قلبناهما على فَمَيْهما، الواحد بجوار الآخر، في مواجهة ليزا والشابين، وجلسنا.
- ليته ظلّ زوجي حتى الآن!
قالت ليزا، وهي تقضم تفاحةً في يدها، وتنظر إليّ، وربما إلى فراغٍ يقع ورائي مباشرةً.
- في كل الأحوال أمامك، في هذه الليلة، عمودان طويلان كاملان تركهما صالح في حديقة الحيوانات- قال فيكتور إيفانيتش وهو ينظر إلى حذائي- عندما نزل صالح من غرفته في الصباح لم يعرف كيف يُصَبّح عليّ، ولا حتى على رئيسة بتروفنا. لكننا لم نتوقّع منه أبداً أن يخرج قبل أن ينهي عمله. والآن، كما ترى، لا شيء يضمن لنا أنه سيعود قبل صباح الغد. وأنت طبعاً لن تخيّبني، أنا متأكّد. أنت أصلاً لا تقلّ عن صالح، وربما تتفوّق عليه بالحرب العالمية الثانية، وهي لبّ الموضوع.
ركن أحد الشابين قنينة الكونياك عند رِجل السرير، ثم وضع كفّه، كما لو عفواً، فوق فخذ ليزا، بينما نهض الثاني، اقترب من حدّ السطح المشرف على البناية المجاورة، وجعل يدخّن- كان العلم الكندي، هناك، يحجب عنّا القمر ونجوماً كثيرةً كلّما حرّكه الهواء.
- أحلى أيام زواجنا كانت عندما أصابني المرض.
قالت لي ليزا.
- صالح لا يطرح الأسئلة. صالح أفضل منك من هذه الناحية، فهو يعمل ما أطلبه منه فقط. إذا شئتَ أستطيع أن أشرح لك الآن، قبل أن ترى العمودين، معنى وسبب الحرب العالمية الثانية في حديقة الحيوانات غداً.
اقترح عليّ فيكتور إيفانيتش.
- لا تعذّب نفسك، لا أريد!
قلتُ.
- لم يكن على سرير مرضي في المستشفى زوجي فقط، بل كان أمي وأبي أيضاً.
تابعت ليزا، لي، حنينها إلى زوجها السابق، وقد مالت بجذعها إلى الوراء لتمكّن الشاب، الذي يجلس بِلِزْقها الآن، من دسّ أصابعه تحت بلوزتها، وتدليك بطنها البيضاء المنيرة الضامرة.
- أردت أن أقول إن الأحداث، مهما كانت عظيمة، لا تحتاج إلى سبب لكي تحدث في مجلة حائط، وهي، كما تعلم، تحدث عندنا دائماً متأخرةً جداً وفي وقت واحد- في أول ثلاثاء من كل شهر. والحرب العالمية الثانية هنا، مثلها مثل تشريح الأبوبريص الذي يقع إلى جانبها تماماً، ومثل حياة سوفوكليس التي تبدأ مع نهاية عمودها الثاني المليء بالقتلى عندما يدخل الجيش الأحمر برلين ويوقع المارشال جوكوف على حائط الرايخ بإصبع طبشور، هل تذكر؟
كان الشاب، في هذه الأثناء، قد سطّح ليزا بمعطفها على السرير، دون أي اعتراضٍ منها. نزع حذاءها، ورماه إلى الأرض، ثم استلقى إلى جانبها، ولفّ ذراعه حول رأسها. وإذ حاول، بعد لحظات، الزحف بيده الأخرى إلى صدرها، أبعدتْها بقوةٍ وسرعةٍ وحزم. لكنها أبدتْ استحسانها على الفور، وربما علامات استمتاعها الشديد، حين نزل بيده نفسها، وحشر أصابعه الخمسة تحت سحّاب بنطلونها، وجعل يعبث بها.
- عندما أكّد لنا الطبيب، بعد كومة تحاليل، العواقب السيئة التي ستترتب على أي تأجيل لعمليتي الجراحية- تابعت ليزا وهي تنظر إلى الشاب المنهمك بها- لم يعد بي زوجي إلى البيت، أخذني في ذلك المساء إلى السينما، كأنني لن أدخل المستشفى في صباح اليوم التالي. ثم تعشّينا في مطعم، كما كنا نفعل عشية عيد زواجنا، الذي لم نحتفل به منذ ولادة لينا وبدءِ كذبِهِ المكشوف عليّ بمناسبة وبلا مناسبة. وفي طريق عودتنا من المطعم إلى البيت جرش لي بصوته الخشن أغنيةً عربيةً جميلةً لم أفهم منها كلمةً واحدة. ثم قلّد لي، كما أحببتُ دائماً، أصوات الغربان التي كانت توقظنا كلّ صباح في شقتنا القديمة المطلّة على حرش كثيف في موسكو. وعندما وصلنا إلى باب بنايتنا في مساكن برزة، انتبه إلى أن أباه، مُصلّح الدراجات العجوز، لم يغلق دكانه بعدُ، فمسّى عليه من بعيد بصوتٍ عال، ثم ضمني إليه. وكما لم يفعل قط قبّلني من فمي أمامه، نكايةً ربما بأمه التي سينزل عليها خبر القبلة حتماً في هذه الليلة مثل كابوس. بعد ذلك أدار ظهره لأبيه وشفته السفلى المتهدّلة من شدّة الذهول، ثم حملني بين ذراعيه، وصعد بي، ولم ينزلني إلاّ فوق سريري في غرفة نومنا.
- ما أردت أن أصل إليه يا عزيزي هو أن الحرب العالمية الثانية، بغض النظر عن الضحايا والدمار، لا يمكن أن تختلف عندنا، نحن القائمين المخلصين على مجلة الحائط، عن قصيدة الشهر مثلاً، أو عن أي حيوان آخر من الحيوانات التي نركّز عليها عادةً إما لشعبيتها بين الزوّار، أو لأننا لم نستطع اقتناءها حتى الآن في الحديقة كالظربان، أو لأننا لا نستطيع الاستغناء عنها بأي حال مثل كلمة العدد. أنا، بالمناسبة، أكتب كلمة العدد دائماً- استدرك فيكتور إيفانيتش بشيءٍ من الفخر- أنقلها عادةً بأمانة كاملة من صحف روسية وعربية قديمة، وأحياناً يطعّمها لي صالح بالملابس الكردية التقليدية والأغاني الآشورية الشعبية من باب الصدق والتنويع ولفت النظر.
وكان الشاب قد نزّل لتوّه سحّاب ليزا، فرفعت الآن جذعها إلى الأعلى لتُسَهّل عليه تحرير مؤخرتها من البنطلون. وربما ضاقت لهفةُ الشاب بطول الوقت، أو أن الدِقّة، وربما اللباقة، قد خذلته في لحظةٍ شديدة الحماوة عليه، فسحب الكيلوت مع البنطلون، خلّصهما من رجليها بكثيرٍ من السرعة وقليلٍ من الفظاظة، ثم رمى بهما، فوقعا بقربي.
- عرّاني في تلك الليلة بيديه، كما لم يفعل طيلة زواجنا.
أردفت ليزا باعتزازٍ قديمٍ حميم.
التقطتُ بنطلونها وكيلوتها من الأرض، طويتهما، ووضعتهما في حضني. وكان الشاب، بألبسته الكاملة، يستقر، الآن، على ركبتيه ومشطيْ قدميه بين فخذييها العاريتين.
- وددْتُ في تلك اللحظات السعيدة لو أخفي وجهي من شدّة الخجل- تنهّدت ليزا- كانت عانتي طويلةً جداً طولَها الآن. ما كنت أعرف أنه سينام معي في تلك الليلة، لأنظف جسمي من أجله، كما كان يحبّ. كان قد مرّ عليّ ما يقرب من عام ثقيل دون أن يلمسني. وقد ظللتُ في الشهور الأولى، قبل أن أيأس من قدومه المباغت إلى فراشي، أواظب بانتظام وبلا جدوى غالباً، على تنعيم حالي. ثم شيئاً فشيئاً لم أعد أجد في المرّات المتباعدات، التي يظهر فيها بين ذراعيّ، مبرراً لمواظبتي تلك، فأهملت زغبي في كل أنحائي. صرتُ أفضّل على زوجي، النادر البارد المتأفّف الكاذب، العادةَ السرية التي لا تشترط عليّ شيئاً لممارستها. وقد فهم ذلك، وربما انتظره مني، فهجرني، بعدئذٍ، صراحةً، إلى امرأة أخرى، وربما إلى نساءٍ كثيرات شعرتُ بهنّ دائماً في أناقته قبل خروجه في أول المساء، وفي ازدرائه الصامت بي بعد عودته إلى البيت، مكدّراً دائماً، في آخر الليل، حتى جاء مرضي. مرضي المميت فقط أعاده إليّ فجأةً حيّاً حاراً وكاملاً في تلك الليلة... يا إلهي، ماذا فعل بي في تلك الليلة، في تلك الليلة...
ثم لم تكمل ليزا كلامها، فقد مال الشابّ فوقها، وسَدَّ فمها بشفتيه.
- ولا تنسّ- أردف فيكتور إيفانيتش- أنك بمجلة حائطنا، إنما تخاطب الصغار قبل الكبار، أعني أنّنا، على غير ما ينتظره منّا بعض العجائزالمبجّلين من قلّة الحياة في عروقهم، يجب أن نبتعد عامدين متعمّدين عن تعليم الأطفال الشعورَ بالهول إزاء ما يسمونه الموت وملحقاته المعروفة، فالأخلاق السامية المتعالية على آلام البشر وأخطائهم لا تلزمنا يا صديقي.
- في تلك الليلة نام معي كما لم ينم أحد قبله أو بعده.
تابعت ليزا الآن، وقد أفلت الشاب شفتيها.
- نحن، في النهاية، لسنا رجال دين ولا نشتغل في كنيسة، بل في حديقة حيوانات.
تابع فيكتور إيفانيتش.
- في المستشفى لم يتركني لحظةً واحدة.
تحسّرت ليزا، وهي تخلّل بأصابعها المضيئة شعرَ الشاب الفاحم. وكان القمر يُضرم على خلفية خزان الماء الأسود، ببياضٍ حليبيٍّ كثيف، فخذَها القريبة منّا، وساقَها وقدمها المعلّقة في الهواء، وأجزاء متفرّقةً تظهر وتغيب من رِجْلها الثانية، المرفوعة والمحجوبة عنّا بمعطف الشاب الدامس المتموّج فوقها بلا توقّف.
- ثم إن الأحداث، كل الأحداث، لا نسوقها لقرائنا في حديقة الحيوانات لكي نضرب لهم مثلاً يتّعظون به. نحن أصلاً لا نريد لهم أن يتّعظوا سلفاً من أي شيء في العالم، لأن كل الأحداث، بالنسبة لنا في مجلة الحائط، ميتة ولا قيمة لها قبل أن نختارها لهم. ومن هنا لا يعنينا في شيء ما هي هذه الأحداث ومتى حدثت في الواقع وأين ولماذا. نحن الذين نبعث فيها حياتها الجديدة، على طريقتنا هذه المرة، ونحمّلها غاياتٍ مغايرةً لغاياتها البالية الأولى، عندما ننسّقها لزوّارنا الصغار قبل الكبار في مستطيلٍ ملوّنٍ واحدٍ لا يقلّ إثارةً وفتنةً عن زرافتنا الوحيدة في الحديقة.
وكانت ليزا قد ارتفعت بحوضها فجأةً، وجعلت ترواغ به، بمرونةٍ وحذاقةٍ وحذرٍ شديد، حوضَ الشاب الغائب في عتمة الألبسة، كأنها تداري في اللحظة الأخيرة سوءَ تدبيرٍ بَدَرَ منه ربما، فانبرتْ، في الحال، تُطيل ما أمكنها، بما تملكه من المعرفة والطيبة وحُسنِ الأداء، طعنةً مهولةً نهائيةً أفلتت منه قبل الأوان.
- في الليل، عندما يشتدّ الألم بي، كان يقرأ لي، مع إبرة الممرّضة المسكّنة، القصائدَ التي أحبُّها من مارينا تسفتايفا وسيرغي يسينين حتى يرجع النوم إليّ. وكان يسعدني، حين أصحو، أن أراه واقفاً قرب النافذة يفتّت خبزةً للعصافير، أو مستفسراً عنّي لدى طبيبٍ أيقظتني لمسة يده على جبيني، أو نائماً على كرسيّه بجوار سيروماتي المعلّقة.
قالت ليزا، كأنما لنجمةٍ بعيدةٍ محدّدةٍ ميّزتْها الآن، بصوتٍ مرتعشٍ ضعيفٍ مفعمٍ بشجنٍ رهيف، وقد خمد الشاب تماماً فوقها.
- أعني أن علينا أن نفعل كل شيء يا عزيزي لكي لا يفرّق الطفل بين حيوانات الحديقة ومجلة الحائط فيها.
شال الشاب نفسه، بتثاقلٍ واضح، من بين فخذي ليزا، ثم جلس قرب قدميها مقطباً جبينه كما لو أنه يعاني من مغصٍ مفاجئ أو من ذكرى حادثةٍ أليمة. تناول قنينة الكونياك، غبّ شيئاً قليلاً منها، وأعادها إلى مكانها قرب رِجل السرير. ثم كأنه لم يعرف ماذا يفعل بنفسه، فأخرج علبة تبغ من جيب معطفه، واستلّ سيجارة منها. وما إن أشعلها وبدأ يدخّن حتى نهض، وابتعد عن السرير، مقترباً من سطح البناية المجاورة حيث وقف الشاب الثاني.
ظلت ليزا وحدها في السرير، مستلقيةً على ظهرها دون حراك. وكنّا الآن جميعاً، أنا وفيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا والشابان والسرير وخزانات الماء والمداخن وما تناثر وتصبّر وانطوى وتجعّد من الأشياء الغامضة المهملة على السطح هنا وهناك، كنّا، كأنما، مطموسين بالظلام، عاجزين عن ترك أثرٍ ملموسٍ واضحٍ من القمر على أشكالنا المتشابهة الداكنة، فما كان يصلنا من ضيائه كنا نمتصّه عبثاً طيلة الوقت، دون أن ندري ونقصد، فيرسب فينا بلا معنى، ويضمحلّ، كأنما، هباءً باهتاً في ألواننا المظلمة الخانقة الراكدة. لم يكن ثمة فينا ما يعكس الضياء، كأننا مردومون جميعاً بفراغٍ أسود بلا قاعٍ ولا نتوءات. هي وحدها، ليزا الساطعة، برِجْليها المنفرجتين العاريتين على سطح السرير وبطنها المكشوفة ووجهها وأصابع يديها، بعيداً عن أيّ حائلٍ أو حجابٍ أو فكرةٍ مسبقةٍ مغلقة، كان لديها، في تلك الليلة، ما يدلّ، بوضوح باهرٍ وأخّاذ، على وجود القمر فوق رؤوسنا.
- أحياناً تبدو لي كل الحيوانات بلا استثناء مجلات حائط دون أن تكون، بالضرورة، محشورةً كلّها في مستطيل ملوّن، ومعلّقةً على حائط في حديقة.
قال فيكتور إيفانيتش.
وكان الشاب الثاني قد اقترب من السرير، وجلس الآن، مثل مُحرَجٍ، على حافته القريبة من رأس ليزا.
- بعد خروجي من المستشفى- تابعت ليزا، كأنما، لنجمتها البعيدة إياها- أعادني زوجي بسرعةٍ لا تُصدّق إلى جحيم كذبه عليّ، وتأنّقه لسواي، ونُدْرته الحامضة في فراشي.
استلقى الشاب الثاني إلى جانبها، ولفّ ذراعه حول رأسها. وإذ حاول، بعد لحظات، الزحف بيده الأخرى إلى صدرها، أبعدتْها بقوةٍ وسرعةٍ وحزم. لكنها أبدتْ استحسانها على الفور، وربما علامات استمتاعها الشديد، حين نزل بيده نفسها، إلى عانتها، وجعل يعبث بها.
- خذ رئيسة بتروفنا! ماهي رئيسة بتروفنا في الواقع؟؟ رئيسة بتروفنا، إذا استثنينا أنني لا أطيق الحياة بدونها، هي مجموعة معلومات حيّة، تاريخيّة وبيولوجية، منسّقة ومُبَوّبة بأجمل صورة، مثلها مثل أي مجلة حائط مميزة.
تابع فيكتور إيفانيتش.
- وكان لا بدّ من الكشك..
ثم لم تكمل ليزا، فالشاب الثاني كان، بألبسته الكاملة، قد استقرعلى ركبتيه ومشطَيْ قدميه بين فخذيها العاريتين، ومال، الآن، وسدّ فمها بشفتيه، وجعل يتموّج فوقها بلا توقّف.
- أنا نفسي مجلة حائط!
أكّد فيكتور إيفانتش.
- كان لا بدّ من فتح الكشك على الرصيف، لأعيش وأملأ وقتي به، فلا أفكر بزوجي بعد أن تركته.
أكملت ليزا الآن وقد تحرّر فمها، وارتفعتْ بحوضها فجأةً، وجعلت ترواغ به، بمرونةٍ وحذاقةٍ وحذرٍ شديد، حوضَ الشاب الغائب في عتمة الألبسة، كأنها تداري في اللحظة الأخيرة سوءَ تدبيرٍ بَدَرَ منه ربما، فانبرتْ، في الحال، تُطيل ما أمكنها، بما تملكه من المعرفة والطيبة وحُسنِ الأداء، طعنةً مهولةً نهائيةً أفلتت منه قبل الأوان.
- وأنت مجلة حائط، وليزا وهذا الشابان أيضاً!
- لا أستطيع، ولا أريد، أن أنسى أيامي الحلوة القليلة التي عشتها معه في المستشفى، ولا تلك التي عشتها معه في التوبلي ستان بموسكو قبل أن نتزوج. تلك كانت أجمل أيامي معه، أردت أن أحتفظ بها حيةً كما هي، ما أردت تشويهها بوجودي الاضطراريّ المُهين في بيته بخاصة بعد أن علمتُ بزواجه من امرأة أخرى. كان لا بدّ من الطلاق، وتشويهِ صورتي عند ابنتي الوحيدة لينا، كما يفعلون الآن في الليل والنهار. ثم إنني لم أعد امرأةً كاملة لكي أدّعي لنفسي رجلاً كاملاً، فقد خرجتُ من المستشفى بثدي واحد فقط، كما أصبحتَ تعرف الآن.
قالت ليزا، وقد لفتت رأسها إليّ فجأةً. وكان الشاب قد خمد فوقها منذ لحظات، فشال الآن نفسه عنها متثاقلاً، وجلس قرب قدميها مقطباً جبينه كما لو أنه يعاني من مغصٍ مفاجئ أو من ذكرى حادثةٍ أليمة.
- والآن يا عزيزي حان الوقت لنتحرّك، فالعمل الذي ينتظرك في حديقة الحيوانات لا يمكن تأجيله أكثر من ذلك. وأنت ستقوم به حتماً، أنا واثق، المهم أن تنتهي منه قبل شروق شمس الغد- أكّد لي فيكتور إيفانيتش- لا مفرّ لك. احكمْ بنفسك، فصديقي صالح، الذي هو صديقك أيضاً، قطعني في أحرج اللحظات، وما لي غيرك.
- كان عليّ أن أقضي حياتي كلها على فراش الموت لكي يحبنّي زوجي.
قالت ليزا، وهي تبتسم للشاب الأول الذي كان قد ابتعد منذ لحظات عن حدّ السطح، واقترب الآن من السرير من جديد، ووقف عند رأسها.
- وأنا لا أطلب منك في النهاية بناء برج بابل جديد. كلّ ما أريده منك في هذه الليلة، يا صديقي العزيز، أن تترجم عمودين كاملين، عن يوم النصر على النازية، منشورين في عدد قديم من البرافدا، عندما كانت برافدا. ألم تترجم أنطون تشيخوف منذ فترة قريبة؟؟ حسنٌ، إنّ دخول الجيش الأحمر إلى برلين سيكون أسهل عليك من أنطون تشيخوف، صدقني! لقد كان بوسعي، طبعاً، أن أوفر على نفسي كلّ هذا الّلهاث المعيب وراءك، وأقوم، أنا، بهذه المهمة. أنا أتقن قواعد اللغة العربية أفضل منك كما تعرف وتعترف منذ أن كنّا في موسكو نعمل معاً في "أنباء موسكو". لكنني في واقع الأمر.. كيف أشرح لك؟ هل تذكر فولوديا، شريكي الدائم آنذاك بِفودكا الحادية عشرة صباحاً؟ تلك الزجاجة اليومية اللعينة التي..أعني ذلك الرجل القصير النحيف الذي كان يجلس أمامك مباشرةً في غرفة مترجمي الجريدة، هل تذكره؟؟ هو أيضاً، مثلي، لا يمتلك دائماً، برغم شطارته المشهودة، سلامةَ إحساسك بتوليفات العربية المجازية. وأنا، الآن، في آخر أيامي يا عزيزي، ولا أريد أن أغامر بمعرفتي الناقصة في مجلة حائط لا تقلّ أهميةً، بالنسبة إليّ، عن رئيسة بتروفنا نفسها.
همهمتْ رئيسة بتروفنا، إذ سمعت اسمها، من باب الإشارة، ربما، إلى استحسانها أقوال فيكتور إيفانيتش وتشجيعِه على قول المزيد.
- أنتِ جئتِ مع من؟؟
فجأةً قاطع الشابُّ الأول، وبنبرةِ نشازٍ واضحة، التناسبَ الذي كان تحقّق، حتى الآن، بصعوبة، بين أمزجتنا وهمومنا المختلفة على سطح البناية، موجهاً كلامه إلى ليزا بشعور العارف، وربما المتبجّح سلفاً، بجوابها، وقد عقد جبينه بحذرٍ شكليّ، فبدا نافلاً.
- معك.
أجابت ليزا ببداهة، وقد تجلّست مأخوذةً بجدّية الشاب المفاجئة في طرح سؤاله. ثم تلفتت من حولها بحثاً، كأنما، عن كيلوتها وبنطلونها، وربما، أيضاً، عن إجابةٍ أخرى قد تكون أكثر إرضاءً للشابّ، ولم تجد.
قمتُ، وناولتها الكيلوت مع البنطلون، ثم عدتُ إلى مكاني.
- وفي حضن من جلستِ في السيارة؟؟
تابع الشاب.
- في حضنك.
أجابت ليزا بسهولة شديدة، وهي ترتدي البنطلون. ثم كأنها ارتابت بجوابها، بعد ارتدائها الحذاء، فعادت إلى السرير، جلست على حرفِهِ، وثَبَّتتْ نظرها، مثل مذنبةٍ محتملة، على تفاحة صغيرة مبتعدة عن بقية التفاحات المجتمعات فوق الكيس البلاستيكي الملوّن.
- وفي أذن من همستِ عبارات الحب طول الطريق؟؟
سأل الشاب بحدّةٍ هذه المرة، وقد تخلّى تقريباً عن حذره الفائض، فبدا كالحانق.
- همستُ لك.
أجابت ليزا بصوتٍ خاضعٍ، متردّدٍ قليلاً، وخفيض. ثم نقلتْ عينيها الحائرتين من التفاحة الشاردة الصغيرة إلى وجهي مباشرةً، لتتأكّد، ربما، مما إذا كانت أصلاً قد نطقت بحرف واحدٍ في السيارة، ومما إذا كانت تفهم الآن أسئلة الشاب بصورة صحيحة.
- وبأيّ صفة قدّمتُ إليكِ هذا الشاب؟؟
رفع الشاب صوته أخيراً، مشيراً إلى الشاب الثاني الجالس إلى جوارها على السرير، وقد أسفر الآن عن ما يشبه غضباً مباغتاً لم أفهم مناسبته، دافعاً فكَّه إلى الأمام، ومُكشّراً شفته السفلى عن صفِّ أسنانٍ بدتْ، لي على الأقل، وربما لِليزا أيضاً، قويّةً، مشحوذةً، وأطول من المعتاد.
لم تجب ليزا. خشيتْ، ربما، أن تزيد من توتّر شابٍّ، لا تعرفه على الأغلب، بإجابةٍ قد لا تكون صحيحةً ولا منتظَرة. لكنها التفتتْ إلى الشاب الثاني، وتمعّنتْ به كما لو أنها تراه للمرة الأولى. ثم عادت، بعد قليل، تنظر إليّ بعينين مُستفهمتين مذعورتين، كأنها لم تتوصّل إلى شيءٍ محدّدٍ مفيدٍ وآمنٍ في وجه الشاب الثاني، وأنها الآن تبحث، في عينيّ بالذّات، عن حقيقة الصفة التي قُدّم بها هذا الأخير إليها لكي تنطق بها دون ذيول. لكنني لم أجد في نفسي ما يسعف ليزا بأيّ حقيقة جاهزة تنفعها في هذه اللحظة، فنظرتُ بدوري إلى فيكتور إيفانيتش مستطلعاً، وألفيته يكمن لي بعينيه المتيقّظتين، كأنما، منذ فترةٍ طويلة:
- مشينا؟؟
سألني متهلّلاً، ومتّخذاً هيئةَ، وهِمَّةَ، من سيهبّ من مكانه، إذا شئتُ، لنمشي فوراً إلى حديقة الحيوانات، بينما فزّتْ إلى جانبه رئيسة بتروفنا على أربعتها مستعدّةً، هي الأخرى، للانطلاق، وناظرةً إليّ بسؤاله المتهلّل نفسه.
- بصفته صديقي أليس كذلك؟؟
لقّن الشابّ الأول ليزا بالإجابة المطلوبة عن سؤاله السابق، إنما بمزيدٍ من الغضب المحيِّر، وإن لاح لي في صوته العالي، الآن فقط، شيءٌ مُبيّتٌ في نفسه لم أعرف كيف أصوغه لِليزا فوراً بالكلمات. وربما ما أردتُ تحديده لها، إذ لن يسرّنا في الغالب، ولن يكون لديّ على الأقل ما أفعله إزاءه. ثم إنه سينزلق إليه ربما، حالاً، أو بعد قليل.
- نعم، بصفته صديقك.
سلّمت ليزا للشابّ بالإجابة التي اقترحها عليها فوراً. وبدا واضحاً أنها لم تعد تجرؤ على النظر إليه. ظلّتْ، بلا جدوى طبعاً، تستمدّ من وجهي، الفارغ تماماً الآن، ما يمكن أن تنظّم به خواطرها المشوّشة، فشعرتُ أنني أخدعها بصمتي. وكان لا ينبغي لي أن أخدعها، أو ألتبس عليها، في وقتٍ حرجٍ ومُحبِط، فوجدتُني أقول لها، بصوتٍ حازمٍ مسموع، مشدّداً على مخرَج كلّ حرف:
- لا تنتظري شيئاً مني بهذا الخصوص يا ليزا، فأنا لا أعرف تماماً ما يدور في رأس هذا الشاب. وما أخمّنه..
- وإذا كان صديقي كما تقولين، فكيف تنامين معي، ثم تنامين معه بعد ذلك؟؟!
صرخ الشاب، وقد سبقني إلى استخلاص ما كان يبيّته في نفسه بلا مواربة أمام ليزا.
أصبح الشابان الصديقان الآن يترصّدان، بصبرٍ نافدٍ، وجه ليزا في انتظار اعترافها بالخطيئة، فيما كانت تنسحب، بعينيها الكسيرتين، بعد أن يَأَّسْتُها مني، إلى أصابع كفّيها المستسلمتين فوق ركبتيها المضمومتين.
لن تجد، ربما، ما تقوله، قلتُ في نفسي، والتفت إلى فيكتور إيفانيتش أستمزج رأيه بما إذا كانت ليزا قد نامت مع الشاب الثاني أيضاً.
- نامت.
أكّد لي فيكتور إيفانيتش بكلّ نزاهة. وكانت رئيسة بتروفنا تُقلّد سحنته الصادقة بكلّ طاقتها، ففهمتُ أنها من رأيه أيضاً.
- وأنت ماذا تظنّ؟؟
أردف فيكتور إيفانيتش يسألني دون اهتمام كبير.
- أنا لا أذكر أنها نامت مع الشاب الثاني.
أجبتُ.
- أنت تحبّها.
- وأنت؟؟
- أنا أقْبَلها دائماً كما هي.
- لماذا نمتِ معه؟؟
أعاد، الآن، الشاب سؤاله فوق رأس ليزا بصيغةٍ مختزلةٍ، وبفظاظةٍ أكبر.
رفعت ليزا رأسها أخيراً، ونظرتْ مباشرةً في عيني الشاب الأول.
- لم أنم معه.
قالت بصوت متوازنٍ، هادئٍ، وواثق.
- نمتِ معي!
أكّد الشاب الثاني، وقد فوجئ بإجابة ليزا، ثم فزّ من جوارها، وصار يرفع سحّاب بنطلونه كما يشهر دليلاً لا يفنّد.
- لم أنم.
كرّرتْ ليزا بالهدوء نفسه، والثقة نفسها.
- أرأيت؟؟
التفتُّ إلى فيكتور إيفانيتش.
- لا، لم تنم معه.
اعترف فيكتور إيفانيتش مبتسماً، راضياً كأنما، بأنه لم يكن على حق منذ لحظات. وكان إقرارُهُ الصريح بخطئه هذا قد انتقل فوراً إلى عينَيْ رئيسة بتروفنا وذيلها، حتى خُيّل إليّ أنها سوف تقفز الآن إلى حضن ليزا من شدّة رضاها عنها. غير أنها ما لبثت أن توفّزت فجأةً في مكانها، ونبحتْ نبحةً غاضبةً عالية.
كان الشاب الأول قد صفع ليزا صفعةً قويّة أسقطتها من على السرير، وكوّمتها فوق كيس التفاحات الملوّن.
- ألم تنامي معه؟!
ظلّت ليزا مكبوبةً على الأرض، دون أن تتحرّك أو تنبس بحرف. لكنّ وجهها، الملتصق بسطح البناية، لم يشِ لي بأي شعور بالألم أو المهانة أو الشكوى. كانت عيناها مفتوحتين صافيتين وشاردتين، كأنما، بشمسٍ تشرق أمامها فقط، وفراشاتٍ، ربما، وعصافير وسنونوّات لا تحصى ترفرف من أجلها على مدى النظر.
- ألم تنامي معه؟؟!
كرّر الشاب الأول بصوتٍ أعلى، وقد رفسها في بطنها.
لم تُجب ليزا.
نبحتْ رئيسة بتروفنا.
- ومعي ألم تنامي؟؟!
رفسها الشاب الأول من جديد، إنما بين فخذيها.
نبحت رئيسة بتروفنا.
- لم أنم معك.
ردّت ليزا، فجأةً، بصفاءٍ وبداهةٍ وهدوء، دون أن ترفع خدّها عن سطح البناية.
- لم تنم مع أحد.
أكّدتُ لنفسي مزهوّاً بِليزا.
- لا، لم تنم.
أكّد فيكتور إيفانيتش راضياً من جديد.
وكانت رئيسة بتروفنا الآن تنبح بكلّ جوارحها دون توقف.
- لماذا لا تصرخ ليزا من الألم؟
سألتُ فيكتور إيفانيتش.
- تحمّل العذاب ينظّف الإنسان من أوخامه.
- هي سعيدة، إذاً، بآلامها الآن.. كالمسيح.
- لا تستطيع ليزا أن تكون مسيحاً.. على الأقل لأن شعرها أسود.
لاحظ فيكتور إيفانيتش توخّياً، كأنما، للدقّة لا أكثر.
وكانت رئيسة بتروفنا، مع مشاركة الشاب الثاني صديقَه برفس ليزا، قد ابتعدت عن فيكتور إيفانيتش، واقتربت الآن من الشابين تنبحهما معاً بضراوة واضحة.
- القديس سيباستيان في لوحات كلّ الفنانين الذين رسموه، لا يشعر، هو أيضاً، بالسهام الكثيرة المغروزة في جسده، كأن شيئاً لا يدعوه أبداً إلى الصراخ من الألم، حتى لتكاد تظن أنه يبتسم لك.
قلتُ، وأنا أتمنّى أن تتمالك رئيسة بتروفنا نفسها، فلا تتورّط بالانقضاض على أحد الشابين، لأن ليزا ذاتها، فكّرتُ، لن تكون راضيةً عن ذلك في كل الأحوال.
- ليزا لا يمكن أن تكون إلا ليزا، والقديس الذي استندتَ إليه الآن ليس روسياً على كل حال.
قال فيكتور إيفانيتش سعيداً، كأنما، بعرقلة غايتي من تطبيق القديس سيباستيان أيضاً على ليزا.
وما كنت، طبعاً، لأسلّم بأيّ حدودٍ عرقيةٍ بين الآلام التي توحّد البشر في كل مكان. ومن أجل أن أفسّر، لنفسي على الأقل، آلام ليزا الخرساء، كما يليق بها وكما يجدر بي أن أفعل، كنت مستعداً طبعاً لأن أطبِّق عليها قدّيسين شهداء آخرين ممن تعرّفتُ إليهم في تاريخ الفنون الجميلة. غير أن نباح رئيسة بتروفنا، وقد تحول الآن إلى عويلٍ متّصلٍ رهيبٍ لا نهاية له، قد أشعرني بالضيق الشديد، فوجدتني أساير شروط فيكتور إيفانيتش باستعمال القدّيسين.
- حسنٌ، ألا تعرف أحداً من شهداء القديسين الروس؟ أنا لا أعرف منهم غير القيصر نيكولاي الثاني.
سألت فيكتور إيفانتش، وأنا أتفقّد بطرف عيني استمرارَ الصفاء المدهش في وجه ليزا وخلوَّه حتى الآن من عكارة معاناتها المتواصلة.
- لقد ولدتُ في ثورة أوكتوبر وعشت فيها سبعين عاماً، ولم أتعرّف إلى أيّ قدّيس. والآن لا أشعر، كرئيس تحرير مجلة حائط في حديقة حيوانات، بأيّ فراغٍ روحيّ يضطرني إلى ملئه بأناس مطعونين بالسهام يبتسمون فوق صلبانهم.
وكنت الآن لا أسمع كلام فيكتور إيفانيتش، بل يمنعني عويل رئيسة بتروفنا من تخيّلِ سهامٍ مغروزةٍ في جسد قيصر روسيا الأخير، وقد تعلّق عارياً يكاد يبتسم على خشبةٍ في مدخل متحف الإرميتاج. كان عويل رئيسة بتروفنا يبعث في رأسي هندام القيصر العسكريّ المشنشل بالذهب بكلّ نياشينه وبنوده وكتّافيّاته وحاشيته من الأمراء البرّاقين من حوله، فلا يعود ثمة معنى لآلام ليزا الخرساء التي أُلصقُها عليه الآن، والتي تحلّى بها القديسون الشهداء دائماً في لوحات الفنانين عبر العصور، وفي عزلتهم بكتب التاريخ على رؤوس الجبال وفي قلوب المغائر والصحارى، إلى جوار الأسود المتآخية، بفضلهم، مع الأرانب. وكان السيد نيكولاي الثاني لا يلزمني قطْعاً بوصفه قيصراً في تلك اللحظات على ظهر بناية في أتوستراد المزة بدمشق، ففهمتُ أن رئيسة بتروفنا، بعويلها العنيد، إنما تعرقل، هي الأخرى، غايتي من تطبيق القديسين على ليزا. وبذلك لن تكون ليزا الآن سوى امرأةٍ خاطئةٍ فعلاً، وما يقوم به الشابان لن يكون سوى نوعٍ من تأديبها وردّها إلى جادّة الحق والصواب. وكانت فكرة ردّ الإنسان، أيّ إنسان، من جادّةٍ إلى أخرى قد أصابتني في حياتي دائماً بالغثيان. لكنّ عيني ليزا كانتا ماتزالان صافيتين، كأنما من أجلي. كأنها حزرتْ مقدار الألم الذي كان يمكن أن يسبّبه لي ردّها إلى جادّة الصواب، فأرادت سلفاً، بصفائها المستمرّ وهناءةِ تعاليها النبيل فوق ألمها الجاري، أن تؤيّد تأويلي لها دون الاستعانة بالقدّيسين الذين يصادرهم منّي فيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا الواحد تلو الآخر. وإذا كنت الآن أهدف، من ناحيتي، إلى تصديق وتدعيم سعادتها المحضة بتساميها على صغائرنا جميعاً، فإنما لكي أفرّغ، أولاً، عويلَ رئيسة بتروفنا من مضمونه، فلا يُفسد على ليزا شعورَها بالتضحية من أقصر الطرق وأكثرها إذلالاً، وبلوغَها، في آن، نشوتَها القصوى مقلوبةً على بطانتها. ومن ثم لن يتأثر الشابان برئيسة بتروفنا، مهما بحّتْ صوتها بالعويل، ولن يتوقفا عن رفس ليزا قبل أن يغمى عليها على الأقل.
لكنّ الشابين، على عكس ما حسبتُ وتمنّتْ ليزا في غالب الظنّ، توقّفا عن رفسها فجأةً، ثم ابتعدا عنها مسرعَينِ باتجاه باب سطح البناية الحديدي نصف المفتوح، وغادرا.
توقفت رئيسة بتروفنا أخيراً عن العويل، وعادت، تلهث لهاث المُنافِح الغيور الشجاع الذي قام بواجبه على أكمل وجه، إلى مكانها بجوار فيكتور إيفانيتش.
لم تكن ليزا الآن تنظر إلى شيءٍ يقع ورائي على السطح، بل إليّ حتماً، كما لا يمكن أن تنظر إلى أحدٍ سواي.
نهضتُ من مكاني.
اقتربتُ منها.
قرفصتُ أمامها.
لم أجد في عينيها أثراً لأيّ شمسٍ تشرق، ولا لفراشةٍ واحدةٍ ترفرف.
كانت ملامحها تشي بشيءٍ واحدٍ يشبه الانتهاء من ورديّةِ عملٍ صعبٍ، لا أكثر.
- خذني من هنا!
قالتْ لي بصوتها الطبيعيّ عندما ترسلني إلى دفع فاتورة الكهرباء، أو إلى المركز الثقافي الروسي في وسط العاصمة لشراء دهنِ خنزيرٍ مملّح.
* * *
II
خرجنا إلى رصيف أوتوستراد المزة، وقد اشتدت البرودة، وتوارى القمر والنجوم في سديمٍ مضطربٍ أسود.
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل.
- في كلّ مرة أذهب فيها مع رجال غرباء يجب أن تأتي معي!
قالت لي ليزا بجدّ وتصميمٍ، وبشيءٍ من الرجاء، ثم انفجرتْ بضحكٍ عالٍ سعيدٍ تردد صداه في الشارع العريض شبه المقفر من حولنا. وفي الحال وجدنا أنفسنا، أنا وفيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا، ننزلق، نحن أيضاً، إلى الضحك العالي، كأننا معنيون، تلقائياً، بما أضحك ليزا دون أن نعرفه. ثم بدا الأمر كما لو أننا، جميعاً، كنا ننتظر، بصبرٍ نافد، أن نضحك، هكذا، من أعماقنا لا أكثر، فلم نعرف كيف نسيطر على صخبنا المفاجئ المرح حتى توقّفتْ أمامنا بمحاذاة الرصيف شاحنة لا أخطئها.
كانت شاحنة صديقي، ومعلّمي في ورشة معالجة المياه، عبدو. في صندوقها كان ما يزال، منذ الصباح، مرجل تدفئة مركزية متآكل كنا، عبدو وأنا، قد أتينا به من مزرعة أحد التجار في ضاحية المهندسين على طريق إدلب.
نظرتْ إليّ ليزا، ثم فيكتور إيفانيتش، يستوضحان منّي خطوتنا القادمة. ولم أكن لأنتظر، طبعاً، إذن عبدو بصعودنا، فأشرت لهما أن يتبعاني، وسبقتُ ليزا إلى صندوق الشاحنة لآخذ بيدها.
قفزت رئيسة بتروفنا في أثرنا، ولبثتْ في مكانها ريثما تأكّدتْ من صعود فيكتور إيفانيتش.
- إلى الحي الروسي؟
صاح عبدو من نافذة الكابين.
- إلى الحي الروسي.
أجبته بصوت مرتفع، وأنا أساعد ليزا بالجلوس فوق سطح المرجل.
كانت رئيسة بتروفنا قد حاولت التسلّق إلى ظهر كابين عبدو، فمنعها فيكتور إيفانيتش، خوفاً عليها من السقوط على الأغلب، وحشرها بجوار حذائه تحت دكّةٍ خشبيةٍ، جلس عليها، تستند إلى جانبي صندوق الشاحنة بين مضخّات معطّلة وأكياس إسمنت أبيض وبواري وعكوس بلاستيكية كثيرة مبعثرة ومصبّرة بالطول وبالعرض.
تحرّك بنا عبدو. وعلى هوى طيرانه المباغت قفزتُ إلى سطح المرجل، وجلستُ إلى جانب ليزا، كما لو أنني أستطيع عادةً أن أقفز، ببساطة، وأجلس في هذا المكان بأيّ وقتٍ أريد.
كان ثمة في المرجل البارد تحتي، مع الهواء القويّ الذي بدأ ينسف شعري إلى الوراء، ما أشعرني فجأةً بأنني شخص مفيد ووقتي ثمين. وكانت البواري والعكوس المبعثرة، التي أستطيع إذا شئتُ الآن أن أرتّبها أمام ليزا بمهارة وسهولة، تعزّز إحساسي بجدواي ومشغوليّتي الدائمة، وكذلك يفعل الإسمنت الأبيض والمضخات المعطّلة وهذا الكابين الذي يجلس فيه عبدو، وهذه الدكّة التي يجلس عليها فيكتور إيفانيتش وتندسّ تحتها رئيسة بتروفنا. ثم خيّل إلي أنني، من دون شاحنة عبدو ومحتوياتها العمليّة، ما كنت قادراً، ربما، حتى على الضحك الذي ضحكناه هكذا على الرصيف قبل قليل، ولربما بدوت، من دونها، في عيني ليزا أقلّ شأناً من أن تمحضني، كما تفعل الآن، هذه النظرات المليئة، ربما بالإعجاب، وربما بالتّودّد الصريح المباشر. وكان فيكتور إيفانيتش، هو الآخر، قد أوجد لنفسه فرجةً بين البواري البلاستيكية المُتلاطمة من حوله، وجعل، من هناك، يخصّني بابتسامةٍ طويلةٍ فخورةٍ بي على الأغلب، كما لو أن معلّمي عبدو غير موجود، وأنني، من مكاني على سطح المرجل، أقود بهم الشاحنة الطائرة بنفسي إلى الحي الروسي. وكانت رئيسة بتروفنا تكرّر، بقوة، ملامح فيكتور إيفانيتش ومشاعره نحوي، وكلما أُتيحت لها فرجة خاطفة ووقعت عليها أضواء الشوارع السريعة المتعاقبة، كانت تنظر إليّ، من مكانها الخانق، بفضولٍ كلبيٍّ أصليٍّ جديرٍ بالملاحظة، وربما بالتقدير.
بدأت أطبطب على ظهر المرجل بدالّةٍ، عليه، بادية. وكان يملؤني بالرضا أنه، مع كلّ طبّةٍ من أصابعي، يُرَجّع لي، من جوفه الصدئ الفارغ، صدىً ودوداً أجشّ لا أسمعه من سرعة الشاحنة وجعيرها، لكنني أشعر به يتردّد في جسمي كلّه. وكدْتُ، من شدّة غبطتي بوضعي المفاجئ المميز الآن، أظنّ أنني نائم، وأنني أمسك، في نومي، بِراحتَيْ ليزا وأعدّ لها سلاميّات أصابعها التي لا تنتهي أبداً. لم تكن مكانة ليزا، بالنسبة لي في تلك اللحظة، لتقلّ بشيءٍ عن مكانة المرجل المتآكل، وكلِّ ما تحمله الشاحنة حولي من دلالاتٍ موحية وأدواتٍ ضرورية للحياة الحقيقية المباشرة والعمل المثمر. ولربما ما شعرتُ بأهمية كلّ ذلك، بهذا الوضوح الصارخ، لو لم أكن، أصلاً، جالساً إلى جانبها. وإذ تشبّثتْ يداها، الآن، بذراعي لكي لا يقتلعها الهواء البارد القويّ، رأيت، وأنا أُحْكم قبضة يدي الثانية على حدّ صندوق الشاحنة، أن أصوغ لها أفكاري الحارّة عنها بالكلمات، فوجدتني، بعد تردّدٍ قصير، أُخاطبها بحماسةٍ وانفعال:
- عندما تترسّب طبقة الكلس على جدران المرجل يزداد تسخينه. والارتفاع الكبير بدرجة الحرارة يزيد طبعاً من معدّل اهترائه. بعد ذلك يأتي الأوكسجين..
ثم ظننتُ أنني أردتُ أن أقول لها شيئاً آخر. لكنها كانت، في هذه الأثناء، تنظر إليّ بعطفٍ شديد، كما لو أنني أقول تماماً ما تودّ سماعه مني، فتابعت هتافي:
- .. الأوكسجين المنحلّ في الماء، عندما يأتي، يُسرّع بدوره من عمليّة التآكل، وكذلك يفعل ثاني أكسيد الكربون..
ثم لم أجد ما أتابع به حاجتي الماسّة إلى صوغ مشاعري الحارّة نحو ليزا، فسكتّ. وكان صوتي قد ارتفع فوق الهواء القويّ وجعير الشاحنة، كأنني تألّمت أمامها دون مواربة، وأعترفتُ لها، دون خجل، بضعفٍ عزيزٍ لا غنى لي عنه.
- الوقت مازال مبكّراً- أجابتني ليزا بعد تريّثٍ قصير- لكننا استطعنا تكوين فكرة واضحة. في المرة القادمة سنبحث عن الرجال الغرباء بعد منتصف الليل.
ثم سكتت، كما لو أنها لم تجد ما تتابع به حاجتها إلى صوغ أفكارها، الحارّة ربما، عن نشاطنا المشترك القادم بعد منتصف الليل. لكنّ صوتها كان قد ارتفع، على كل حال، فوق الهواء وجعير الشاحنة من أجلي على الأغلب، وقد أسبلت عينيها الآن، كما لو خَفَراً من رئيسة بتروفنا وفيكتور إيفانيتش، وربما مني.
وكان فيكتور إيفانيتش ما يزال يفخر بي من بين البواري، إنما، الآن، بعينيّ خالةٍ عجوزٍ تتجاهل، بصورةٍ خرقاء، اضطرابي واضطراب ليزا. وما كان بوسعي الآن أن أنكر مشاعري أو أؤكّدها أمامه، فقد شغلني صديقي عبدو- هتف بنا من نافذته فجأةً بكلماتٍ غامضةٍ بدّدها الهواء البارد، ثم صار يخفّض من سرعة الشاحنة حتى تمكّنتُ من الوقوف على ظهر المرجل، ولاحظتُ أننا نصعد الآن ببطء إلى جسر فيكتوريا.
- عصام ورشيدة!
هتفتُ.
فزّت ليزا واقفةً إلى جواري فوق المرجل، ونهض فيكتور إيفانيتش متثاقلاً من مكانه المزدحم. وبينما قفزت رئيسة بتروفنا، تستخبر بنباحها من تحت الدكّة، إلى ظهر الكابين، أوقف عبدو الشاحنة.
كان عصام يقف الآن على الرصيف الضيق مبتسماً أمامنا تحت أضواء الجسر، وقد بدت رشيدة المغربية بين ذراعيه مثل دمية صغيرة. كان عودها، الذي تقبض عليه بيدها اليمنى، يستلقي في حضنها ويستند إلى صدره الواسع، وأذيالُ ثوبها، الرقيقِ بالقياس إلى ليلةٍ باردة، تنزلق عن جوربيها القصيرين وحذائها النظيف، وتنسدل من تحت شالها الصوفي السميك باتجاه ركبتيه البعيدتين. كانت مندهشةً، كأنما، من مصادفتنا، فرفعت حاجبيها عن عينين صغيرتين لامعتين مكحّلتين دون إفراط، وقد انفرجت شفتاها القرمزيّتان عن أسنان بيضاء دقيقة، وما يشبه ابتسامةً تلقائيةً متعالية.
كان المكان بجوار عبدو لا يتّسع لعصام، بجهامته المعهودة، مع رشيدة وعود رشيدة. ولأنه لا يكون حيث لا تكون، فقد اتجه بها عصام مباشرةً نحونا في صندوق الشاحنة، وصعد، دون أن يُقلقها، برشاقةٍ لافتةٍ لا تتناسب مع ضخامة أطرافه. وكان فيكتور إيفانيتش قد جذب زينائيدا أفناسيفنا إلى مكانها بجانب حذائه تحت الدكة، فحطّ عصام ذراعيه، مع رشيدة وعودها، على ظهر الكابين، وقد التصق بنافذته الخلفية، وانحشكت رِجلاه مثل عمودين بين البواري والعكوس والمضخات المعطّلة وأكياس الإسمنت في أرض الصندوق.
* * *
III
لم يكن ثمة داعٍ لأن يشرح لنا عصام أيّ شيء. كل الحي الروسي يعرف أن عصام يُنَزّه رشيدة وعودها كلّ مساء، ولا يعود بهما إلاّ في منتصف الليل، مع بداية البرنامج في كباريه المعلّم أرتين. وكانت خادمة الكباريه العجوز إيفانوفا لا تتوقّف، طيلة الوقت، عن تزويد سكان الحيّ بتفاصيل هذه النزهات اليومية وغيرها من دقائق الحياة بين عصام ورشيدة. وإذا كان الكثيرون لا يصدّقونها تماماً فإنهم، أنفسهم، ينقّحون، في الغالب، أخبارها ويضيفون عليها، ثم يتناقلونها فيما بينهم بحماسةٍ وسرور- لقد عادت الحياة مثلاً إلى يد رشيدة اليسرى بعد حادثة سقوطها على البست وإصابتها بشلل نصفي، فأنا أسمع، منذ فترة طويلة جداً، عزفاً على العود يتسرب، تقريباً كلّ صباح، من باب الغرفة المغلق على عصام ورشيدة، صرّحت إيفانوفا لمعلّمة اللغة الروسية المتقاعدة ناتيلاّ لفوفنا على شرفتها منذ أيام. ولابدّ أنها تعزف له في الأوقات المتأخرة من نزهاتهما الليلية عندما يقلّ الناس تحت أشجار الربوة والحديقة العامة وعلى ظهر قاسيون وتحت السور القديم والقلعة وفي أزقّة القيمرية. أما رِجْلها اليسرى فلم تتأخر كثيراً عن شفاء يدها، لكنها لا تستعملها الآن على راحتها إلاّ دون شهود وفي غياب عصام. وإذا أخطأت ومشت أمامه خطوتين مهزوزتين دون مساعدة تراها تغضّن وجهها فوراً من الألم، وقد تسقط من طولها فجأةً كما فعلت البارحة. هذه البارحة. الربّ أعلم بها على كل حال، فقد يكون ألمها حقيقياً، إنما ليس من رجلها، هذا مؤكَّد، بل من خوفها، إذا شفيت في عينيه تماماً، أن لا يجد ما يفعله من أجلها. لن تكون ممنونة، بعد الدلال، لأن يعود بها عصام إلى معاملته الباردة الأولى عندما كانت لا تنال منه سوى كأسٍ عصير من كريفونه الساخن أمام أعين الجميع في الكباريه. أنا لا ألومها. إن أي امرأة في الحي الروسي، حتى أنتِ يا ناتيلا لفوفنا، كانت ستفعل، ربما، ما تفعله رشيدة لكي يبقى عصام مقتنعاً بحاجتها الأكيدة إليه. لا أظنّ أنّ أيّاً منهنّ كانت لتتخلّى، بسهولة، عن أصابعه الحنونة في تلبيسها وتشليحها وتدليك ساقيها وفخذيها وتحميمها وفَرْكِ فرجها ومؤخرتها يومياً بالماء الفاتر والصابون، ولا عن ذراعيه في حملها، وضمّها إلى صدره الهائل المتين أمام غيرها من النساء في شوارع العاصمة القديمة كلّ مساء. الناس على كل حال، خصوصاً النساء، لن يصدّقوا الآن أن تمشي رشيدة إلى جانب عصام في الشارع كأي امرأة في الحي الروسي. لن يفهموا، إذا مشت فعلاً، وجود عصام إلى جانبها في الليل والنهار. قصدتُ أنهم سوف يستكثرونه عليها، ولن يقبلوا أن يكون بينهما شيء أعمق من الزمالة البريئة في الكباريه. لكنّهم يتفهّمون دائماً، ويفضّلون كالعادة، أن يروها كسيحةً، كما هي الآن، بين ذراعيه. وربما لهذا السبب، من يدري، لا تستجيب رشيدة لإلحاح عصام على الزواج منها- لا تريد أن تخسر عطف الناس، ولا رفقة عصام. تابعت إيفانوفا حديثها لصبري صاحب دكان الموالح في شارع الملاهي وجاره عبد الأحد مصلّح الأقفال. ما حاجتها أصلاً إلى الصيت السيّئ لفراش الزوجية الذي تعرفانه جيداً، أنتما الاثنان، والذي يمكن أن يشكو منه ذات يوم حتى عصام، كما يفعل خيرة الخائنين الآخرين من أزواج الحي الروسي. الأوراق الرسمية لن تلزمها في شيء مادام عصام، برجلها المشلولة إلى الأبد، سيبقى مقصّراً أمامها، ومتلهّفاً إلى رضاها طيلة الوقت. غير أنها، وأراهن على ذلك برأسيكما، لا تمانع أبداً، بل تودّ وتنتظر، أن تلد، هكذا، من عصام بنتاً ترث عنها سوسة العزف على العود في كباريهات شارع الملاهي. لا أنسى دموعها في ذلك الصباح، قالت إيفانوفا لشرطي المبغى في كولبته ببحسيتا وهي تقطب له زرّ ياقته المقطوع، عندما دخل عليها عصام سعيداً يحمل بين يديه حفيد المعلم أرتين كما يحمل كنزاً عثر عليه في الطريق. لا أعرف طبعاً ما إذا كانت رشيدة قادرةً على الإنجاب، فهي تعيش مع عصام في غرفة واحدة منذ سنوات دون أيّ أثرٍ حتى لطِرْح واحد في سلّة التواليت التي أفرّغها كلّ صباح. لو كان لبطنها ثمرة فعلاً لكان الجميع رأوها تَتَبَسْتن الآن مع القطة غزال فوق أدراج الكباريه وفي مكتب المعلّم أرتين وبين طاولات الصالة وعلى البست بين أرجل الراقصات والمطربات. أما أن يكون عصام قد امتنع حتى الآن عن معاشرتها كامرأة، فشيءٌ لا يمكن تأكيده، مع أنني لا أنفيه بقوة، أردفت إيفانوفا تقول لوصفي أفندي على درج الحركة النسوية في الحي الروسي، صحيح أنك إذا عرّيت رشيدة لن تجد أمامك على السرير أكثر من كومة عظام قليلة تحت جلد أزرق، لكن لا تنسَ أن عصام رجل شهم وبطل وغريب أطوار. ثم إنه في عزّ شبابه وفي قلبه مُسايَرة وتقدير ورحمة يعرفها الجميع، ومع امرأة تسوحُ أصابعُه يومياً في خفايا جسدها بهدف التشطيف والمعك والتمسيد والتّنعيم قد لا يضبط أعصابه دائماً مهما كانت جلداً على عظم. وانزلاق الأصابع هنا من غايةٍ إلى أخرى شيء مفهوم، كما تعلم ياعزيزي وصفي أفندي من خبرتك هنا في اجتماعات الحركة النسوية، بل مطلوب ومرغوب غالباً، وهو أسهل عليكم، أنتم الرجال، من شربة ماء، وأغلى على قلوبنا، نحن النساء، من الكلام الحلو حتى لو جعلنا أجمل نساء الأرض. الرجال ما كانوا يوماً أنبياء، تابعت إيفانوفا وهي تتناول فنجان القهوة من أرملة الحلاق كيفورك، ولن يكونوا كذلك، مهما بدوا لنا زاهدين. ونحن النساء، إذا تمسّكنا بالفضائل، ما الذي سيتبقى لنا من الرجال عندئذٍ سوى ضجرهم منّا وقسوتهم علينا؟ الخطيئةُ، يا عزيزتي، قوّادتُنا المجرَّبة إلى قلوبهم، والمُفضّلة في أعينهم جميعاً، حتى حين نتظاهر بها فقط. ورشيدة تعرف هذا الدرس أكثر مما تعرفين وأعرف، ولن تتنازل عن رِجْلها المشلولة في عيني عصام ولا عن رفضها الزواج منه ولا طبعاً عن رغبتها بوريثة عودها من نسله، إلا إذا عاد إليك المرحوم كيفورك من بين الأموات، وعدتُ، أنا الآنسة العجوز النمشاء، إلى صباي البعيد لأهدره من جديد في أحضان الرجال الملائكة والشياطين.
* * *
VI
تحرّك عبدو بنا من جديد.
انزلقت الشاحنة من رأس جسر فيكتوريا بسرعة لافتة، وما إن تعالى جعيرها في الشارع حتى انشمرت أذيال ثوب رشيدة عن ساقيها، وجعلت ترفرف بقوّة.
انحنى عصام بجذعه كلّه فوق كابين الشاحنة يحمي رشيدة من الهواء البارد، وقد عكمها كلّها، مثل جنين منكمش، بين صدره وذراعيه المضمومتين إليه. ومع اندلاع أذيال ثوبها، في هذه الأثناء، فوق كتفيه وغمْرِها رأسَه، تمكّن عصام في اللحظة الأخيرة من التقاط عودها الذي طار، الآن فقط، من أصابع يدها النحيلة.
وكانت ليزا قد عادت تتشبّث بذراعي على سطح المرجل. لكنّ ثوب رشيدة، الذي ظلّ يضطرم في الأعالي، مَدَّنا، كأنما، أنا وليزا، بجسارةٍ مُباغتة، فالتصقتْ بي والتصقتُ بها، كما لو ذهبنا في حلمٍ هنيىء مشترك. ثم ظهرت رئيسة بتروفنا من بين البواري مثل تتمّة متوقّعة لجسارتنا، فلم يرغمها فيكتور إيفانيتش، هذه المرة، على العودة إلى مكانها الخانق الآمن تحت الدكّة، بل وسّع لها، بصعوبةٍ وإصرار، فرجةً ضيقةً بين ركبتيه، انحشرتْ فيها، ثم رفعت خطمها، ودسّتْه راضيةً أخيراً بين كفّيه.
وكنا لن نتذمّر، باستثناء عبدو على الأغلب، من الطريق لو طالت بنا على هذه الحال حتى الصباح. لكنّ الشاحنة، على عكس رغباتنا في صندوقها، سرعان ما بدأت تخفّف من سرعتها على مشارف أنوار الحي الروسي وضوضاء ليلِهِ في ساعة الذروة.
لاحت لنا أخيراً من بعيد، اعتياديةً كما نعرفها دائماً، بوابةُ حديقة الحيوانات. واعتيادياً بدا اقترابنا المتباطئ منها حتى توقفت بنا الشاحنة أمامها تماماً. وكان اعتيادياً، أيضاً، أن نبادر حالاً إلى النزول مادمنا وصلنا الآن. لكنّنا، كما لا يمكن أن يتوقع أحدٌ منّا، جمدنا فجأةً في أماكننا بصندوق الشاحنة مثل مبلوسين- لقد انبعث أمامنا في تلك اللحظة، مثل ضوء مباغت قويّ، اليقينُ المغبرّ القديم بأسوأ الاحتمالات التي ننتظرها منذ سنين، وأكثرها إثارةً، لما يمكن أن يحدث الآن أخيراً، الآن الآن، أو بعد لحظاتٍ لا أكثر.
كانت سيّارة الفولغا السوداء الوحيدة في الحي الروسي، والتي يعرفها الجميع جيداً، شحّطتْ دواليبها فجأةً، وتوقّفتْ أمامنا في عرض الطريق. ثم تدفّق، من سيارتين توقفتا معها بالطريقة نفسها، رجال أنيقون تناثروا من حولنا بسرعةِ وثقةِ ممثلين يشغلون أماكنهم على خشبةٍ يحفظون تفاصيلها عن ظهر قلب.
ومع خمود الصخب العارم في الشارع فُتح باب الفولغا، وترجل منها بوريا. ظلّ متلبّثاً أمام بابها المفتوح، ينظر باتجاهنا من وراء نظّارته المعتمة، على بعد أمتار قليلة من الشاحنة.
وكان سيل السيارات قد انقطع من جهتي الشارع، لكنّ أحداً من السائقين، على غير عوائدهم، لم يطلق زمّوراً واحداً، استجابةً، كأنما، لكلمة سرّ تفشّت بسرعة البرق على طول الشارع وعرضه. ترجّل الركّاب والسائقون دون تبرّمٍ أو تلكّؤ أو صخب. تجمهروا، كأنما على رؤوس أصابعهم، مع المُترقّبين المُتهيّبين الآخرين الغارقين فجأةً في خَرَسٍ مُطبقٍ مريبٍ من المارّة، وأصحاب المحلاّت، ومقامري الكشتبان، وعواهر الأرصفة، وبائعي اليانصيب، والنشّالين، وبائعات الأمشاط والعلكة والأزرار والسجائر وفُوَط النساء، وموسيقيين متأخرين عن كباريهاتهم مع فوتلاراتهم المحشوّة بالكمنجات والأعواد والطبلات، وآخرين غيرهم من المتسوّلين الكتعان والعرجان والعميان، والمهرّجين المشردين، والسكارى المبكّرين، والوافدين الليليين من العاصمة القديمة، المتحلّقين من حولنا الآن، كلّهم، صفّاً بِلِزْقِ صف، وقد تركوا، بغريزة الحفاظ على الذات، المسافةَ التي لا تُشعر بوريا بعبء وجودهم عليه. وكذا على الشرفات ومن النوافذ وكوّات سلالم المباني من الجانبين شرعت تطلّ علينا عجائز يتراكمن، برفقٍ ظاهرٍ، وراء نظّاراتهنّ ومونوكلاتهنّ، إلى جانب أصص فخارية وأطفال وخنانيص وحراذين بيضاء وسلالات بيتوتية متنوعة من الكلاب والقطط.
لقد مضت سنوات ولد فيها كثيرون، ومات كثيرون، تزوج آخرون، طلّقوا، تعادوا، تصادقوا، أثْروا، نزلوا إلى الحضيض، ظهر موسيقيون جدد، لاعبو سيرك، نجارون، حلاقون، معلمو مدارس، قوادون، ولصوص. وفي حديقة الحيوانات مات، في هذه الأثناء، صقرٌ ونعامة وضبعان وثلاثة وعول، وظهر ذئبان وعقاب أبيض وزرافةٌ وآكل نمل وسحليّتان. حتى رئيسة بتروفنا فقدت الكثير من وبر فروتها، وثقُلَ سمعُ فيكتور إيفانيتش، وتأكّدتْ غضنةٌ طولانيةٌ قصيرة بين حاجبي ليزا. وبكلمة واحدة - لقد شهد الحي الروسي ما لا يُحصى من الأفراح والأحزان والنزوات والحماقات حتى كاد بسطُ عصام حمايتَه على كباريه المعلم أرتين، بعد عودته من الخدمة الإلزامية في الجيش، يفقد معناه لدى الكثيرين، فخُيّل إليهم، منذ مدّةٍ طويلة جداً، أن اللحظة الفاصلة بينه وبين بوريا، تلك التي انتظروها طويلاً، قد لا تأتي أبداً.
وحده المعلّم أرتين، دون الأحياء والأموات في الحي الروسي، كان، طيلة تلك الفترة، المستفيد الأول والأخير، ودون مقابل عملياً، إلاّ إذا كانت الغرفة الصغيرة، التي يشغلها عصام ورشيدة في الكباريه+ أكلهما + تدليل غزال = فعلاً، من حيث الربح والخسارة، إنقاذَ المعلم أرتين من كوابيس بوريا المُكْلِفة. والمعلم أرتين يثمّن، طبعاً قبل غيره، راحة البال، والمال، التي أصبح يعنيها عصام بالنسبة إليه منذ عودته تلك من الجيش. لكنّ عصاماً ظلّ يتصرف كما لو أن شيئاً هاماً لم يحدث منذ منذ قرّر العيش عنده في الكباريه. وبرغم لهفة سكان الحي المتقادمة إلى اعتباره بطلهم الأوحد، كان عصام يخذلهم غالباً، كلما الْتَقوه، بكلامه القليل واحمرار وجهه، أحياناً، من الخجل، واهتمامه بأشياء لا تليق أبداً بهالة البطولة التي يصرّون على حبسه في داخلها، كأن يظهر على شرفة الكباريه لينشر على حبل الغسيل كيلوتات وسوتيانات وشلحات رشيدة الحمراء والزرقاء والصفراء، مع أن الآنسة العجوز إيفانوفا تستطيع أن تنهض بهذا الشرف على أكمل وجهٍ، وبامتنان كبير. أو أن تراه، بكل جهامته ومكانته المُقَدَّرة بين الناس، يحمل قطتَه غزال من بيت إلى بيت، ليستنظف لها، بنفسه، هاروناً مناسباً عندما يشعر بحاجتها الماسّة إلى المعاشرة، مع أن أيّاً من فتيان الحي الروسي كان سيسعد حتماً بأن يصبح قوّاداً حريصاً على إسعاد الخانم غزال. إلا أن سكان الحيّ، مع كلّ ما يُحرجهم ويحيّرهم دائماً في صغائر سلوكه، وبغض النظر عن انتصاراته القديمة، بالرماية ورفع الأثقال، التي تابعوها دائماً برؤوسٍ مرفوعة، لم يكونوا، وربما لن يكونوا، قادرين على نسيان أنه كان أول وآخر رجل في الحي الروسي وقف في وجه بوريا حين رفض العمل لحسابه قبل خدمته في الجيش، وحين سحب، وهذا الأهم، كباريه المعلّم أرتين من تحت سلطته المباشرة. بوريا، السيد الذي لا يُضارَع على مقدّرات الحي الروسي كلّه، لا يجرؤ أيٌّ من رجاله الآن على الوقوف، مجرّد الوقوف، بباب الكباريه منذ نزل فيه عصام. وإذا كان الناس لم يدركوا حتى الآن ما إذا كان عصام قد أقدم على ذلك لغايةٍ عزيزةٍ مبيّتةٍ في نفوسهم، أم أنه لم يهدف أصلاً إلى شيءٍ آخر سوى الحصول على عملٍ يطعمه وسقفٍ يؤويه، فإنهم يفضّلون على الأغلب، ويتمنّون، أن عصاماً كان واعياً تماماً لجبر خواطرهم في مأثرته التي اجترحها. إنهم، في كل الأحوال، لم يتخلّوا عنه، حتى الآن، بوصفه وصمةَ عار، وإن بهتت مع مرور الأيام، على جبين بوريا، ووسامَ شرف، وإن تراكم فوقه الكثير من غبار السنين، على صدورهم جميعاً. وكذا الآن لن يتخلّوا، على الأغلب، عن كلّ المعاني الحارة، التي فترَتْ هي الأخرى بالتقادم، والتي طالما حمّلوها لّلحظة الفاصلة المنتظرة، رغم كل شيء، تلك التي بدأت أخيراً في هذه الليلة الباردة، مع وصولنا بشاحنة صديقي عبدو إلى حديقة الحيوانات.
ولكن لماذا صمت بوريا كلّ تلك السنوات؟ ما الذي جعله يوقّت لحظة صدامه مع عصام في هذه الليلة بالذات؟ إن حركة عصام اليومية معروفة ومكشوفة للجميع، وعودته الآن من نزهته مع رشيدة تحدث غالباً في مثل هذا الوقت، منذ أصيبت بالشلل النصفي قبل سنوات. هل لعبتْ شاحنة عبدو، في هذه الليلة، دوراً في حسابات بوريا؟ أنا أعرف أنني لا أعني شيئاً محدّداً في رأسه، ولكنني، مع ليزا ورشيدة وفيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا والمرجل المتآكل والدكة الخشبية والبوراي والعكوس والإسمنت الأبيض والمضخات المعطلة، قد نعني شيئاً ما بالنسبة لحركة عصام في اللحظة الحرجة الحاسمة. لا أعتقد أن يكون لصديقي عبدو، بالذات، مكان في بال بوريا في هذه اللحظات، ولا أظن أنه يعرفه، بدليل أنه ما خصّني يوماً بأيّ اعتبار. ولكنْ، بغض النظر عن مناسبة أو عدم مناسبة حيثيات عصام لبوريا في هذه الليلة، لماذا لم يمهل بوريا، نفسه أولاً، المزيد من الوقت مادام الوقت وافراً لدى الجميع؟؟ إن تقدير الناس لعصام أصبح في الحي الروسي، منذ مدّة طويلة، بحكم الغريزة والعادة، كالرغبة بالطعام بعد جوع، وكالنّظر إلى النار في المدافئ، والشرود بغروب الشمس، ومراقبة أسماك الزينة في الأحواض الزجاجية. فانجذابهم إليه ورغبتهم بالوقوف معه في الطريق ومصافحته والتمسّك بكفّه أطول فترة ممكنة وتكرارهم دعواتهم، التي لا يلبّيها عادةً، إلى أعراسهم وأعياد ميلادهم وأيام سميّيهم من القدّيسين، كادت، كلّها، تصبح منزّهةً عن الغرض، أي غرض. وإذا كانت رؤيته، بحدّ ذاتها، ماتزال تبعث فيهم إحساساً غامضاً بكرامةٍ قديمةٍ ما، فإن هذه الكرامة كادت، مع مرور الوقت، تتخلّص من أسنانها وتتحول إلى كرامةٍ محضةٍ دون ذيول أو ظلال، أعني لم يعد سهلاً عليهم ربطها تلقائياً بتفاقم بدانة المعلّم أرتين مثلاً. ومن ثم لم تعد كرامتهم، الموشكة عملياً على البِلى، تأخذهم، دون سبب جديد وجيه شديد القسوة عليهم، إلى مكانٍ، في مخيّلتهم، خطرٍ، ربما، على هيبة بوريا في نفوسهم. لقد بدا الأمر، منذ فترة ليست بالقصيرة أبداً، كما لو أن شيئاً ملحّاً لم يعد يبرّر كثيراً القيام، ربما، بأيّ خطوةٍ حاسمة. فليس ثمة ما يؤذي بوريا، بوضوح شديد، أن يكون عصام رمزاً أعزل لشيء مضيء عزيز قديم لم يمت، بعدُ، في النفوس برغم كلّ شيء. وليس ثمة ما يثبت للناس، بوضوح شديد أيضاً، أن بوريا قدرهم وقدر أولادهم النهائيّ في الحي الروسي. ولو أن بوريا أمهل لحظة صدامه مزيداً من غبار الوقت لتحوّلت، ربما، هذه اللحظة إلى مجرّد مباراة رياضية هامّة، بينه وبين عصام، يتصافحان في نهايتها دون أن تحمل نتيجتها، أيّاً كانت، طابعاً مأساويّاً. لكنها الآن، في هذه الليلة، مازالت تحمل من الرهبة أكثر، بما لا يقاس، مما يمكن أن تجلبه من التشويق لأيّ كان في الحي الروسي، بمن في ذلك بوريا نفسه.
كل شيءٍ كان، الآن، في جمودٍ كلّيّ وصمتٍ مهيبٍ لولا دويُّ سيارة بوريا المونوتونيّ، والبريقُ الصاخب في آلاف العيون المصوّبة، معظمها، على عصام.
لم يكن بوسعي، من مكاني وراء عصام على ظهر المرجل، أن أرى وجهه. لكنّ رأسه لم يكن ملتفتاً إلى حيث يقف بوريا إلى يسار الشاحنة، بل متّجهاً إلى حيث يسثقرّ حذاءُ رشيدة النظيف المتدلّي من فوق ساعده الأيمن في فراغٍ قريبٍ من ظهر الكابين. لم تبدُ رشيدة، باستلقائها الراسخ بين ذراعيه، عبئاً عليه، كما لو كانت، هي وعودها، قطعةً مُلازمةً من دفاعاته المجرّبة عن نفسه، مهيّئةً للاستخدام، كأيّ سلاح، في أيّ لحظة. ولو تحرّك الهواء الآن، فكّرتُ، وتململَ شالُها الذي يغطي أصابع يده، لحدث، ربما، الشيء المتوقَّع الرهيب.
وكان بوريا واقفاً، هو أيضاً، كالتمثال، فعصام، كما يعلم بوريا جيداً، يُحْسِنُ، هو الآخر، إساءةَ الظن، عند الشِدَّة، بالحركة النافلة في خصمه، ويتعامل معها بكفاءةٍ مشهودةٍ وسرعةٍ وحزمٍ معروفين. وإذا كان بوريا يتطيّر، كما يُقال، من الرجل المحظوظ حين لا يكون من رجاله، فإنه يدرك، أفضل من أي شخص آخر، أن عصاماً لم يكن رجلاً محظوظاً فقط حين نجا، قبل خدمته العسكرية، من كلّ محاولاته في تصفية الحساب معه في زواريب الحي الروسي. وهو، إلى ذلك كلّه، ليس أعزل من المشجعين الآن، فبوريا يعرف، بلا ريب، أن هذا السواد الهائل من الناس، وإن كان لن يجرؤ حتماً على مجرّد التفكير بمدّ يد العون إلى عصام إذا احتاجها، لم يحتشد، برغم البرد الشديد، بمثل هذا الإخلاص وهذا الحرص، إلاّ لكي يخاف، أولاً، على حياة عصام، ويصفّق ويهلّل له في آن، ولو في قلبه. وهذا، وإن كانت رصاصة الخصم المُحْكَمَة لا تعبأ به أبداً، له حسابً معروفٌ في ثبات القلب والقَدَم.
والآن، وقد بدا كلّ شيءٍ معدّاً تماماً لبدء اللحظة الحاسمة المؤجّلة بين عصام وبوريا، كان على أحدٍ، منهما على الأقل، أن يبادر، برغم كلّ شيء، إلى كسر السكون المهيمن الثقيل.
أحدٌ لم يتحرّك.
الأنفاس المتلاحقة، المُضْرَمَة بالبرد بخاراً حاراً، كانت، وحدها، تحلّق فوق الرؤوس الجامدة. كأنهم، كلّهم، آثروا، الآن فقط، البقاءَ الآمن المُضْني، ما وسعهم ذلك، في الانتباه والتربّص. كما لو أنّ كلاًّ منهم احتاج فجأةً إلى موازنةٍ دقيقةٍ وأخيرةٍ بين حجم النتيجة وحجم المجازفة بالأمل الأخير، مادام التراجع عن المواجهة أصبح بعد الآن أقرب إلى المستحيل. وكان يمكن لسقوط أصيصٍ من على شرفةٍ، أو صفقِ نافذةٍ قويّ، أو نحيبٍ امرأةٍ عالٍ مفاجئ، أن يملأ جمودَهم، الفائضَ الآن، بمعنىً مشرّفٍ ما. وما كانوا، في تلك اللحظة المنشودة القاسية، ليطيقوا، بأيّ حال، مرارةَ الشعور بالتخاذل، فوجدوا أنفسهم مستسلمين، كأنما، للشجاعة أخيراً.
وعندئذٍ فقط،
تماماً قبل أن يتقلقل في مكانه بوريا، أو عصام،
بدأ ثلجٌ كثيف يتساقط فوق الجميع.
ثلج.
ثلج.
ثلج.
ثلجٌ نظيفٌ من الرياح والبروق والمطر. ثلجٌ خالص. غزير. خافت، كما لو أنه يتساقط في غرفة نوم. ثلجٌ لا يتقصّدك، لا يبلّلك، لا يغافلك، لا يحشرك، يعطيك متّسعاً كافياً لأن تعيه، فتميّز وتتأمّل كيف تترنح ندفه من الأعالي نحوَك، بطيئةً، مرحةً، حرةً، ومتماسكة. وحين يحطّ، لا يحطّ لكي يذوب، بل كي تراه كيف يبدو، الآن، وهو يتراكم، من أجلك، على الرؤوس، على القبعات، على الأكتاف، على الأغصان، فوق السيارات والباصات، على مظلات الدكاكين، وفوق أفاريز الشبابيك وحواف الدربزينات على الشرفات.
وإذ صار بوسع الجميع الآن أن يتنهّدوا من أعماقهم مطمئنين أخيراً بصوت مسموع، لم يعد، كأنما، لدى أيّ منهم، بعد الآن، ما يستحق المتابعة سوى الاحتفاء بالثلج القادم فجأةً، كأنما، من فراديسهم المستحيلة، في وقتٍ دقيق كانوا بأمسّ الحاجة إليه. كأنهم ما احتشدوا أصلاً أمام حديقة الحيوانات إلا لكي يستقبلوه، ويُمَكّنوه معاً من التراكم، ما شاء، فوق رؤوسهم وقبعاتهم المتقاربة ومعاطفهم المتلاصقة. وبدا، كأنما للجميع، أن بوسع بوريا الآن أن يحرّك يده إذا شاء، لأن عصاماً، بعد الثلج العزيز المتواصل، لن يسيء فهمها حتماً. وكذا إذا فعل عصام، فإن بوريا لن يستعين هذه المرة بأحكامه المسبقة، وسيفْهمُ، كرمى للضيف النادر الأبيض المتساقط، يدَ عصام ويأخذها على المحمل الحسن والنيّة الصافية.
وبالفعل لم يتأخّر بوريا عما كان منتظراً، ربما، منه، فقد حرّك رأسه أخيراً دون أيّ تبعات، ونظر إلى السماء دونما أيّ حساب، مُحَكّماً، بحرية تامّة، ندفَ الثلج من التراكم فوق ملامح وجهه ونظّارته السوداء.
وكان عصام قد رفع ذراعيه برشيدة من فوق ظهر كابين الشاحنة، واستدار بها نحونا في الصندوق. وكان يمكن لنزولنا، أنا وليزا وفيكتور إيفانيتش ورئيسة بتروفنا، أن يُسهّل كثيراً على عصام تقدّمه العسير من فوق الدكّة وبين البواري والمضخّات المعطّلة والمرجل. لكننا، لسببٍ ما، وجدنا أنفسنا نبقى في أماكننا، ونعرقل، كأنما عن سابق عمد، حركةَ عصام فيما بيننا، ونتابعها، في آن، بشغفٍ كبير. وإذ تخلّص من عقباتنا، ووصل أخيراً إلى غَلَقِ الصندوق، استغرقَنا ما يشبه الشعور بالخيبة، وربما بالأسف. كأننا وددْنا فجأةً، بإلهامٍ من الثلج المتساقط نفسه ربما، لو يُقلّع عبدو شاحنته، الآن، لنتابع نزهتنا مع عصام ورشيدة في شوارع العاصمة القديمة حتى الصباح.
كان بوريا مايزال ينظر إلى السماء حين نزل عصام برشيدة من صندوق الشاحنة برشاقةٍ بادية. وقبل أن يقطع المسافة الحرجة، التي تجمعه وبوريا في ساحة صغيرة يحدّها المحتشدون، احتاط الناس من أجله بممرّ شقّوه، بِهِمّةٍ وسرعةٍ وصعوبة، بين أجسادهم الحارة المشدودة المتراصة المتلهّفة إليه.
ظلّ بوريا ينظر إلى السماء، وقد بيَّضَ الثلج وجهه كلّه وكتفيه، بينما دخل عصام، برشيدة، في الممرّ الضيق الحميم الدافئ بين المحتشدين- تلقّفوه بحواسّهم كلها، مثل عائدٍ عزيزٍ، إلى قلوبهم، من قتالٍ شرس. وبدا لي من مكاني في صندوق الشاحنة أنهم راضون جداً عن أنفسهم، وهم يموّهون فرحاً ظاهراً ما كانوا قادرين على إعلانه، بالرقص والضحك والصخب، في حضور بوريا. كأن ما أنجزوه اليوم لم يكن بالقليل أبداً. فما حدث، بتدخّلٍ دقيق من الثلج القادم من فراديسهم المفقودة، لم يكن مجرّد توافق ضمنيّ، بينهم وبين بوريا، على تأجيلٍ آخرَ للصدام الذي طال انتظاره، بل هو أقرب ما يكون إلى ظفرهم، هم، بعصام في امتحان صعبٍ جديد. ومن عيونهم المتلامعة المُزرّرَة عليه الآن، كان واضحاً، من ناحية أخرى، أنهم أصبحوا أكثر استعداداً لأن يغضّوا النظر، هم أنفسهم، عن وصمة العار القديمة على جبين بوريا، حتى ولو فقد عصام شيئاً من بريقه- المهم أن يكون بوسعهم، إذا ذكروه، أن يشعروا بوجوده ولو على ظهر الكباريه ينشر كيلوتات رشيدة وسوتياناتها على حبل الغسيل.
ومع انشغال المحتشدين بعصام والتفافهم حوله تحت الثلج، فَقَدَ وقوفُ بوريا أمام باب سيارته المفتوح رهبتَه والكثيرَ من مناسبته. وكان يمكن لثلاث دقائق أخرى أن تُظهره، لمشاهدٍ لا يعرفه، مجرّد رجلٍ غريب الأطوار يقف في عرض الطريق. لكننا، في صندوق الشاحنة، كنا لا نريد أن نلفت نظره إلينا، فقد لا يغفر لنا وجودنا على مسافةٍ قريبةٍ منه، وهو يخسر، أمامنا مباشرةً، جدوى حضوره. لكنه، فكّرْنا، سيلاحظنا، في كل الأحوال، مهما تسمّرنا في صندوق الشاحنة، فبدأنا نستعدّ أخيراً للنزول، ببطء وصمت وحذر، كما لو أننا منهمكون بشؤوننا الخاصة لا أكثر.
لم تكن رئيسة بتروفنا قادرة طبعاً على تقدير موقفنا الحرج بشكلٍ سليم. لقد فهمت فوراً نيّتنا بالنزول، فتصرّفت مباشرةً على هذا الأساس فقط. كانت، لا بدّ طيلة الوقت، تنتظر هذه اللحظة، فلم تترك الآن لأصابع فيكتور إيفانيتش ما تفعله معها- انطلقت، مثل شرارة، من مكانها الضيق بين ركبتيه، بعثرت البواري البلاسيكية في مرورها العاصف، ثم قفزت إلى أرض الشارع قبل الجميع.
انتبه إلينا بوريا.
كنت ما أزال أنزلق من الشاحنة إلى أرض الشارع بحذرٍ وبطءٍ نافلَين بعد رئيسة بتروفنا، بينما جمدت ليزا بوقوفها الصريح فوق حافّة غَلَق الصندوق. لم يبد على وجه بوريا، الأبيض كلّه، ما ينمّ عن انشغالٍ محدّد بنا، فكاد، كأنما، يلتفت إلى جهةٍ أخرى كان عليه أن يتفقّدها. لكنه، لسببٍ ما، مسح براحة يده الثلج عن نظّارته السوداء، وقد سدّدها على وجه ليزا. وكما لو أنه تذكّر شيئاً التفت، بعدئذٍ، إلى باب سيارته المفتوح، وانضمّ فيه. مددتُ يدي أساعد ليزا بالنزول، لكنها ظلّت جامدةً في مكانها- كان بوريا وراء مقوده الآن ينظر إليها من نافذة الفولغا.
- في الصباح لن أرى الكشك في شارع الملاهي. سأراه، اعتباراً من الغد، على رصيف مكتب البريد.
قال بوريا.
ثم تحرّكت سيارته.
* * * * *
مـا حــدث البــــــارحة فـي كشـــــــــــــــك لـيزا
ما حــدث البــــارحة فـي خــــمارة آكـــــوب
ما حدث البارحة في المشفى الفرنسـي
حين وصلنا، أنا وليزا، إلى الكشك كان الغرسون، في خمارة آكوب، ينظر إلي، مثل مُباغَتٍ بي، كما لو أنه يراني لأول مرة في تلك الليلة، ويسجّل في دفتره الصغير، صندويشتَيْ سجق، لي ولصديقي عبدو، طلبناهما في اللحظة الأخيرة قبل أن نخرج. وكان الرجال والنساء والأطفال على طول شارع الملاهي في الحي الروسي قد خرجوا إلى الثلج، بمعاطفهم وقبعاتهم الفرو وكفوفهم الجلْد، يتقاذفون بكراته الباردة، يتضاحكون، يتزحلقون، ينكبّون بعضهم فوق بعض، متمرّغين على الفراش الأبيض النظيف الذي يغطي الأرصفة وعرض الطريق، سعداء، لاهثين، متوهجي الخدود والأنوف. وكانت زوجتي، قبل تساقط الثلج بقليل، قد نزفت في طريقنا إلى بيتنا من بيت عمي، فأسعفتها إلى المشفى الفرنسي. ثم بدأ الثلج الغزير يتساقط مباشرةً بعد إدخالها إلى غرفة العمليات، وقد تمكّن، بسرعة قياسية، أن يغطّي الزقاق الضيق الذي بدأتُ أطلّ عليه من نافذةٍ في الطابق الثاني من المشفى. كان الزقاق، في تلك الساعة المتأخرة من الليل، خاوياً، فمصابيحه لم تكن تضيء سوى رجل واحد على الناصية. لم يكن يلعب بالثلج، بل كان تحت الثلج جالساً على دراجة، ومستنداً إلى حاوية قمامة ينبشها على مهله، يفرز محتوياتها، وينسّق مختاراته منها في كيسين مُدَلْدَلين على جانبي الدراجة وصندوق بلاستيكي يستقرّ وراءه على المقعد الخلفي. كان الكوريدور الطويل ورائي خاوياً أيضاً إلا من عجوز تجلس، دون حراك، إلى جوار باب غرفة موارب. وكنت أستطيع، من مكاني عند النافذة، أن أترقّب ظهور زوجتي، من باب المصعد القريب، مستلقية على حمّالة. كان الطبيب قد طلب مني أن لا أشعر بأيّ قلق عليها، فتنظيف الرحم من جنين في أسابيعه الأولى عمل بسيط لا يمكن أن يشكّل أي خطر على حياتها. وكنت قد فكرت في بداية نزيفها في السيارة أن أتلفن لأمها، لكنّ ذكرى العشاء، الذي مازال عالقاً في ذهني، منعتني من ذلك، وربما خشيتُ، إذا فعلتُ، أن يرافق حماتي عمي، أو حتى الرجل الضخم.
- أنت لا تذكرني، ولكنني لا أنساك! أنا ابراهيم صيداوي!
قال لي الغرسون، وهو يضع، على الطاولة الصغيرة بيني وبين عبدو، صندويشتي السجق مقسسّمتين إلى قطع صغيرة في صحن واحد.
لقد أصبح الآن واضحاً، بالنسبة لي على الأقل، أننا لن نكون هذه المرّة قادرين على نقل الكشك إلى مكانه الجديد في الوقت الذي حدَّده بوريا. لكنني، كما لا يجدر بي أن أكون في مثل هذا الظرف، كنت سعيداً بذلك. ومع الأسف الذي شعرتُ به حين تفقّدتُ عجلات الكشك، العزيزة العاجزة المطمورة الآن تماماً بالثلج، لم أكن نادماً أبداً على رافعة أبو علي، العاجزة، هي الأخرى، عن الوصول إلينا في شارع الملاهي. كان يطمئنني أن الثلج قد وصل، الآن، إلى الحدّ الذي لن تكون معه بلدية الحي الروسي قادرةً، لا بخبراتها ولا بمعدّاتها، على أن تفتح لنا الطرقات قبل يومين أو ثلاثة أيام. ثم إن الناس، أنفسهم، لن يجدوا ما يساعدوننا به على وجه السرعة، فنحن، بالنهاية، لسنا أبطالاً في رواية من روايات القرن التاسع عشر في سهوب روسيا، لتُقدَّم لنا طواقم الخيول والوعول والكلاب والزحّافات.
- سنحتاج، بعد قليل، إلى شاحنة صديقك عبدو لسحب الكشك..
قالت ليزا بوجهٍ مشغول، وقد سبقتني بالدخول إلى الكشك، وانهدّتْ على كرسيّها الخيزران.
ابتسمتُ لها ابتسامةً خافتة، وأنا أطبق باب الكشك ورائي. وقبل أن أجلس على مقعدي إلى جوارها أغلقتُ كوّة البيع أيضاً. ثم مشيتُ في الكوريدور الطويل وراء رجلين يدفعان زوجتي، الخارجة الآن من قلب المصعد على حمّالة متحركة على عجلات، إلى غرفةٍ مضاءة صغيرة. وقفت عند الباب ريثما انتهى الرجلان من نقل زوجتي إلى السرير، وخرجا من الغرفة بخطوات خفيفة كتيمة. دخلتُ، ولاحظتُ كأساً نظيفةً مملوءةً بالماء فوق ما يشبه كومودينو معدنية تفصل بين السرير وبين الكرسي الوحيد في الغرفة. اقتربت من الكرسي وجلست عليه. ثم استطعت من مكاني أن أتابع، عبْر النافذة، كيف يتراكم الثلج فوق شرفةٍ، مطلّة عليّ، مضاءةٍ بمصباح على شكل كرة كبيرة تتدلّى من سقفها.
- أنا زميلك في المسرح الجامعي، هل تذكر "يحيا الكعب"؟ قدمناها معاً على مسرح سينما فريال في الجميلية.
قال ابراهيم صيداوي، وكان السجق لذيذاً، فطلب عبدو كأسي عرق أخيرتين، وبحث عن شيء في موبايله، ثم ركّب سمّاعتيه وقدمه لي.
- سنجرب العجلات أخيراً..- قالت ليزا- وإذا اعتذر عبدو فسوف نستأجر أي سيارة أخرى نعثر عليها. في كل الأحوال لن يكون الكشك أثقل من سيارة أجرة معطّلة. المهم أن نكون، صباح الغد، في مكاننا الجديد.
شعرتُ، في تلك اللحظة، بأن زوجتي تنظر إليّ، ربما منذ دخلتُ إلى الغرفة. ولسبب لم أفهمه، برغم المسرح الجامعي الذي أبرزه في وجهي مثل بطاقة هوية، كان ابراهيم صيداوي، بعد أن قدّم لنا كأسَي العرق، ينظر إليّ هو الآخر، من وراء الكونتوار الخشبي، بنظراتٍ، بدت لي حادّةً ومحيرةً، ففضّلتُ أن أتركها كما هي، دون تفسيرٍ أو تضخيمٍ أو اهتمام. لا بدّ أنه مخمور، قلتُ. وكنت، في الواقع، أتابع، بفضول كبير، قاقاً حطّ منذ قليل على دربزين الشرفة المضاءة البيضاء المتاحة لي من نافذة المشفى الفرنسي، وقد وضعتُ السماعتين في أذني، وبدأت أشاهد حفلة خيرية، أقامتها كنيسة الروم الكاثوليك، في موبايل صديقي عبدو.
- سوف نبتعد عن كباريهات شارع الملاهي- تابعت ليزا- لكننا سنجاور، على رصيفنا الجديد، مكتبَ البريد. سوف نستغني بالتدريج عن المشروبات الكحولية وروايات ماركيز دو ساد وصبغات الشعر وأعشاب التنحيف وحبوب منع الحمل والفياغرا وأقلام الكحلة والحمرة وفراشي المكياج والكيلوتات النسوية المختزلة. سوف نستبدل بهذه الأشياء مستلزمات الطرود البريدية من صناديق الكونتبلاك الخفيفة، وعلب الكرتون المتينة، وورق التغليف، وبكرات اللزّيق، وأقلام الفلوماستر الغليظة والرفيعة لكتابة العناوين.
وكانت زوجتي قد سعلت، في هذه الأثناء، سعلة خفيفة، وأردتُ، كأنما، أن أتناول كأس الماء من فوق سطح الكومودينو المعدنية، وأقدمها لها، وربما كنت قد قدّمتها لها بالفعل، لكنّني فوجئتُ، عندئذٍ، ببنت عبدو الصغرى تظهر أمامي في موبايل عبدو من وراء ستارة رمزية مقصّبة، وتتخطّى مجموعة من الموسيقيين الفتيان، وتقترب من الميكرفون في مقدمة منصّة قليلة الارتفاع في كنيسة الروم الكاثوليك. نظرتُ إلى عبدو الجالس أمامي في الخمارة- كان يراقبني بانفعال شديد، وينتظر، كأنما، أن أصل أخيراً إلى هذا المقطع بالذات. وهنا دخل الطبيب، فتركتُ القاق على دربزين الشرفة تحت الثلج، ووقفتُ، وكانت بنت عبدو، في هذه الأثناء، تهدي الأغنية التي ستغنيها الآن إلى أبيها. طمأنني الطبيب للمرة الثانية عن صحة زوجتي، بينما كان الموسيقيون الفتيان ينهمكون بآلاتهم في الكنيسة، وقال إن بإمكاني أن أخرجها غداً صباحاً من المشفى. لا أذكر إن كنت قد شكرته قبل أن يخرج، فقد ظهر فجأة وجه عبدو أمامي في الموبايل أيضاً، ولكنني أرجّح أنني قد شكرته، ورافقته، على الأغلب، إلى باب الغرفة، بينما كان عبدو يحجب بصلعته الكبيرة كلّ الموجودين في الحفلة الخيرية. كانت ابنته تغني له الآن من خارج الشاشة الصغيرة"لا تسألوني ما اسمه حبيبي"، وكان عبدو أمامي في كنيسة الروم الكاثوليك وفي خمارة آكوب يُغالب، في وقت واحد، رغبة قويةً وفخورة بالبكاء.
- وسيكون أمامنا على الرصيف المقابل أكبر نادي كمال أجسام في هذه الجهة من العاصمة- أردفت ليزا- سنوفر للأبطال الحليب كامل الدسم والطون واللحم المدخّن و الكافيار والعسل والمكسّرات وعصائر الفواكه الطازجة. وللرياضيين الكهول، المضطرّين إلى التخلّص من كروشهم المتفاقمة، سنوفّر التفهّم والحنان والتشجيع، وكذلك الشورتات الرياضية المناسبة لمؤخراتهم العريضة، وربما لن نتخلّى، من أجلهم على الأقل، عن أمشاط الفياغرا.
- في بروفة الجنرال كنتَ ميتاً من الجوع، هل تذكر؟ وما كنتَ تستطيع طبعاً أن تبتعد عن الخشبة خطوة واحدة، فأنت بطل المسرحية، كالعادة، وعندك حوارات مع الجميع. وكان طبيعياً أن أنتخي، أنا الكومبارس الدائم الخدوم، لأذهب في نصّ الليل إلى سيروب، وأشتري لك على حسابي الخاص صندويشة لحم خاروف وقنينة لبن عيران.
قال لي ابراهيم صيداوي من وراء الكونتوار بصوت مرتفع، ومترفّع، بصورة مزيفة، عن غبنٍ أسود لحق به، كأنما، طيلة حياته منذ تلك الليلة. وكنت، في تلك اللحظات، أستمتع كثيراً بتأثر عبدو بغناء ابنته في الكنيسة، وقد نجح، حتى الآن، في منع دموعه الفخورة بها من السقوط. ولعلّي، برغم كمية العرق غير القليلة التي شربتها، كنت قادراً، من أجل عبدو وابنته على الأقل، أن أمرّر، بسلام، صندويشةَ لحم خاروف لا أذكرها نبشها فجأةً غرسون نصف سكران أمام مجموعة سكارى مُطْفَئين من حولي. لكنّ ما حصل هو أن موتي من الجوع، الذي حافظ عليه ابراهيم صيداوي كلّ هذه السنين ليشهره أمامي في تلك اللحظة، قد أعماني فجأةً من الغيظ. وكان القاق على دربزين الشرفة قد حرّك، عندئذٍ فقط، رأسه باتجاهي، فخيّل إلي أنه قد لاحظني، وبدأ، بفضولي نفسه، ينظر إليّ من وراء زجاج نافذة المشفى، وينتظر مني، بصبرٍ نافد، أن أفعل شيئاً.
- سوف نضع طاولة أو طاولتين على الرصيف، وربما ثلاث، سنرى، وفوق الطاولات سنفتح مظلاّت ملونة كبيرة، لأن موظفات البريد الشابات سيجدن ما يشغلهنّ عندنا في أبطال الكمال الجسماني، ولأن الأبطال، الخجولين عادةً، سوف يحتاجون إلى قضاء وقت طويل عندنا لكي يتعلّموا كيف ومتى يبتسمون لهنّ بسهولة. وقد نضطرّ، من أجل ذلك، إلى عدم التخلّي عن المشروبات الكحولية أيضاً، حتى ماركيز دو ساد نفسه قد يكون مفيداً للبريد ونادي كمال الأجسام، وكذلك حبوب منع الحمل وصبغات الشعر وعدّة المكياج وربما الكيلوتات المختزلة أيضاً.
قالت ليزا بصوتٍ أصبح فجأةً يفصح عن كآبةٍ واضحة، وقد زاد من سوئي في عينيّ، في تلك اللحظات، أنني لم أكن أستطيع، بأيّ حال، أن أنكر عملي في المسرح الجامعيّ، فقد مثّلت فعلاً في "يحيا الكعب" وغيرها من المسرحيات، عندما كنت طالباً في قسم التاريخ. وإذا كنت لا أذكر المدعو ابراهيم صيداوي، فهذا لا ينفي أبداً أنه كان زميلي في المسرحية بصورة من الصور. ولم أستبعد، مادام كان قريباً مني إلى درجة صندويشة لحم خاروف وقنينة لبن عيران في نص الليل، أن يفاجئني أيضاً بما يمكن أن أكون قد ارتكبته فعلاً في تلك الأيام ونسيته، من تلك الأعمال التي يُفترَض أن يندى لها جبيني الآن. ثم أردتُ أن ألتفت إليه لأتحقّق من هواجسي الممضّة في سحنته على الأقل، ولم ألتفت- توقّعت أن يكون الآن متورّماً، كلّه، بأعمالي المشينة القديمة التي لا تحصى، وقد ضايقني، في الحال، أنني، بانسياقي العصبيّ مع كلامه وما يهدف إليه، إنما أتبرع له، أنا نفسي، بإساءة الظن بحياتي الماضية كلها، كما لو كانت سلسلة أحداث معيبة لا أكثر، مع أنها، كما ظننتُ دائماً وتعشمتُ وعملتُ، ليستْ كذلك تماماً. نعم إن لي عيوباً كثيرة قد لا أعرفها كلها، ومن يخلو منها في نهاية الأمر، ولكنْ ما مناسبتها الآن في الخمارة، ولماذا أسمح لكلّ هذه التداعيات أن تتشظّى بهذه الطريقة الكريهة في رأسي لمجرّد كلمات تلفّظ بها شخص مخمور لا أذكره على أقل تقدير، ولا أريد أن أذكره. كان عبدو يظنّ، بعينيّه السعيدتين المحمرّتين، أنني مازلت أتابع ابنته في كنيسة الروم الكاثوليك، فخطر لي، كمخرج بائس من ابراهيم صيداوي، أن أبرّر نفسي أمامه، وأعترف له بما يجري في داخلي، ولم أفعل. وكان القاق، من ناحية أخرى، على دربزين الشرفة ما زال يحضّني على أن أفعل شيئاً. لكنني كنت متأكداً تقريباً من أنني، في كل الأحوال، لن أتمكّن من كفّ يد ابراهيم صيداوي عن أيامنا المشتركة الماضية على الأقل، فهي جزء من ذاكرته أيضاً، وله مطلق الحرية، مادمت لا أصحّحه الآن، في أن يفرز وينسّق تلك الأيام، في هذه الليلة، على هواه. ثم آلمني أن أستسلم لشراكته المقيتة المباغِتة بأيامٍ عشتها، حقيقةً، في المسرح الجامعي دون أن أشعر به. ومن شدّة غيظي وجدتُ نفسي منقاداً، كأنما، لأنْ أتخيّله، وأراه بسهولة، أمامي في الحفلة الخيرية، جالساً في الصف الأول، وفي المشفى الفرنسي واقفاً في الكوريدور الطويل أمام باب الغرفة المفتوح على سرير زوجتي، وبأعلى صوته يقاطع غناء بنت عبدو، ويلمّ من حوله المرضى والممرضات والأطباء المناوبين في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وهو يلعلع ويلعلع ويلعلع بموتي التافه القديم من الجوع في بروفة جنرال هرّأتها الأيام، وبصندويشة لحم خاروف مهلهلة بالية أكلها العث والغبار كان قد اشتراها لي على حسابه، المقزِّز بصورة خاصة، في نصّ ليل لم يعد له وجود، ويعدِهم، ربما، بفضائح أخرى إذا لم أستجب في الحال لما يريده مني. ثم لم أعد قادراً على تحمّله أكثر من ذلك، وأردتُ، كأنما، أن أسكته الآن بكلّ قواي، فالتفتّ إليه أخيراً- كان مايزال ينظر إليّ، ويبتسم مزهواً من وراء الكونتوار، كما لو أنه على علمٍ تامّ بما يسببه لي من الألم في كنيسة الروم الكاثوليك وفي المشفى الفرنسي وفي الخمارة، فقمت من مكاني، واتجهت إليه.
- ماذا تريد مني؟
سألته، وأنا أرتعش من الانفعال.
- خمسمية ليرة!
أجاب ببساطة، محافظاً حتى الآن على الابتسامة المزهوة نفسها، فأخرجت محفظة نقودي، ناولته خمسمئة ليرة كما أسدّد ديناً قديماً كريهاً لا أذكره، وعدت إلى مكاني. شعرتُ بجفاف في حلقي، فتناولت الكأس، التي ماتزال مملوءة بالماء إلى جانبي فوق الكومودينو المعدنية، وشربت. ثم لاحظتُ اختفاء القاق من على دربزين الشرفة. نهضت من على الكرسي، واقتربت من النافذة. لم ينتقل القاق إلى أيٍّ من الشرفات الأخرى المتاحة لي الآن. لكن النافذة، من هنا أيضاً، كانت تطلّ على الزقاق الضيق نفسه، وصاحب الدرّاجة كان ما يزال، تحت الثلج الذي يردمه بلا هوادة، ملتصقاً بحاوية القمامة، يفرز، وينسّق مختارته في كيسيه على جانبي دراجته وفي صندوقه البلاستيكي وراءه على المقعد الخلفي.
- ومن أول مفرق إلى اليمين بعد الكشك سوف يتدفق إلينا حتماً تلاميذ المدرسة الابتدائية. إذاً سنركّز، أيضاً، على الدفاتر وأقلام الرصاص والمماحي والبرّايات وورق التجليد والصمغ والمساطر والفرجارات وأقلام التلوين ودفاتر الرسم والبوالين والبوظة والبوشار وألواح الشوكولا و...
ثم صمتت ليزا فجأةً،
غطّت وجهها بكفّيها المرتعشتين، تماماً كما فعلت ابنتها لينا في الصباح،
وانفجرت بالبكاء.
كنت أنتظر بكاءها الصريح منذ الصباح، فأصغيتُ إليه الآن، بكلّ جوارحي، حتى مالت إلى ساعدي،
ونامت..
انتهت
* * * * *
خليل الرز من مواليد الرقة 1956:
صدر له:
- سولاويسي، رواية، 1994 دار الحوار.
- يوم آخر، رواية، 1995، دار الحوار.
- وسواس الهواء، رواية، 1997، وزارة الثقافة.
- غيمة بيضاء في شباك الجدة، رواية، 1998، وزارة الثقافة.
- سلمون إرلندي، رواية، 2004، دار الينابيع.
- أين تقع صفد يا يوسف، رواية، 2008، وزارة الثقافة.
- بالتساوي، رواية، 2014، دار الآداب.
- إثنان، مسرحية، 1996، وزارة الثقافة.
كما صدر له في الترجمة عن اللغة الروسية:
- حكاية الزمن الضائع، ليفغيني شفارتس، قصص، 2004، وزارة الثقافة.
- مختارات من القصة الروسية لبونين وأندرييف وإرنبورغ ونابوكوف، 2005، وزارة الثقافة.
- مختارات لأنطون تشيخوف في مجلدين، 2007، وزارة الثقافة.