يتناول الكاتب آلية المناورة التي تقول الحرية وهي تستبطن عبودية غير مرئية، متمثلة في قوائم اختيار تتيح فسحة ليست أكثر من آلية للهيمنة وسيطرة ثقافة الاستهلاك المقنع التي تدعي على نحو زائف حماية الحرية الشخصية كما الحريات العامة.

القوائم: وهم حريتنا الفردية

مقابل القوى التي تتحكم بنا دون أن ندري

عـمّـار المأمون

 

يحدثنا الفرنسي ميشيل فوكو في مقدمة كتابه الكلمات والأشياء (1966)، عن انبهاره بقائمة الكائنات المتخيلة التي يكتب عنها بورخيس في موسوعة صينيّة ما، ويرى أن الدهشة والفظاعة تكمن لا في هذه الكائنات المتخيلة، بل بالمساحة التي جمعتها، وهي النص المكتوب الذي رتبها وصنفها، وقصّر المسافة بينها حد المستحيل، فلا وجود لها في هذا الشكل، إلا في قائمة بورخيس السحريّة.

ذات الانبهار نراه عند أومبيرتو إيكو في كتابه لا نهائيّة القوائم (2006)، إذ نراه مسحوراً بمكتبة بابل التي اخترعها بورخيس، والتي تحوي قوائم كتب لا نهائيّة، لنراه ضائعاً في سديمها، متسائلاً أين ممكن أن تتسع كل هذه الكتب.

هذا السحر المرتبط بالقائمة وقدرتها على الجمع والتصنيف والترتيب، يجعلها أقرب لوسيط، بين المعقول واللامعقول، بين المتناهي والمحدد والدقيق، وذاك المتخيّل الفانتازي.

ولا تقتصر هذه "الوساطة" التي تمتلكها القائمة على الأدب ومتخيلاته، بل تحضر من حولنا دائماً، في المطعم، والمقهى، والبنوك، بوصفها تصميمُ عصريّ، مغرٍ، مرتب ومنظم، يخفي ورائه منطقاً وعقلانيّة وإتقاناً تتمثل بالبنيّة الاستهلاكيّة التي أنتجتها، هي البوابة المزخرفة التي تفصل هرميّة الإنتاج وقسوته عن دعة الاستهلاك غوايته.

* * *

قوائم الهيمنة
هذا الحضور المستمر للقوائم بوصفها وسيطاً، يخفي ورائه وظيفة جوهرية للقائمة، والخيارات التي تحويها، هي وسيلة تتبعها بنى القوة وتقنيات الإنتاج، لخلق الإحساس لدينا بالسيادة الذاتية على أنفسنا، عبر منحنا وهم الاختيار، وأنّنا كأفراد أحرار، ننتقي ما نأكل، وما نشتري وما ندفع ثمنه. كأنها غرضٌ سحريّ يخفي وراءه سياسات الاستهلاك، لنحدق فقط بما تقدمه لنا، كوسيط بين وهمنا عن حريتنا الفرديّة، والقوى التي تتحكم بنا دون أن ندري.

عكس قائمة بورخيس، قوائم الآن شديدة العقلانيّة، مبنية بدقة كي توجهنا دون أن نعلم، وتدغدغ فينا الحس بالسيطرة.

هي تبني غرورنا بأننا أصحاب القرار، ولا نخضع للأنظمة الرأسماليّة، بل أفراد واعون ومدركون، ونختار بكامل إرادتنا البيتزا مع الباباروني عوضاً عن البيتزا بالأنناس، نحن مستهلكون أحرار بخياراتنا، نفعّل دورها الوسيط، وتأسرنا سحريتها، التي تكمن بالتنقل بين ما هو موجود عليها، وتجاهل ما لا تحويه، فالمتعة لا تنحصر بما سندفع ثمنه ونأكله، بل بتصفح خيارتها "المرئية"و"المصنّفة" بدقة.

القائمة كغرض سحريّ
كوسيلة لخلق الوهم، لابد من صيغة طقسيّة لتقديم لقائمة، لنشعر بحرية الخيار التي تخلقها، هذه الصيغة لا تنتمي لمضمون القائمة، بل للقائمة ذاتها كعلامة نفسرها، قادرة على توليد سلوك ما، وكأننا نتورط في لعبة نربح فيها في البداية، ثم لابد من خسارة.

هذا الطقس نراه بوضوح في المطاعم، إذ تعطى لنا بلطف، ويناقشنا النادل بمحتواها وأفضل ما فيها، مولداً علامات تخلف لدينا الوهم بلحظة حرّة نقرر فيها ما سنأكل، فنحن نقع في شرك النادل، الذي "يؤدي" لنا خالقاً ظروف الاختيار.

ينتقد هذ الأداء بشدة جان بول سارتر في كتابه الوجود والعدم (1943)، متسائلاً عن طبيعة الطقس الذي يقوم به "النادل" والدور الذي يؤديّه، إذ نقرأ:

"لنشاهد هذا النادل في المقهى، حركته سريعة، مفرطة في الدقة، مفرطة في السرعة... ينحني بلهفة نحو الزبون، صوته وعيناه يوحيان باهتمام، ومراعاة شديدة لطلب الزبون".

هذه الطقوس نشارك بها طوعاً، نختار من القائمة بـ"حرية" ما نريد، ذات الشيء في البنك، حين نطلب قرضاً، ونتصفح الخيارت أمامنا، أي واحدة من هذه الخيارات في القائمة ستزتنزفنا أكثر، يبتسم الموظف وهو يقدمها لنا، ناصحاً إيانا بالأفضل لـ"وضعنا"، يقدم لنا الماء أو القهوة، وأحياناً، يذهب ليترك لنا وقتاً ومساحة للاختيار.

تتيح القائمة لبنى الاستهلاك والهيمنة الاقتصادية، أن تتخفى وراء طقوس وقوائم، توهمنا بأننا نسيطر على الوضع، وأن ما نختاره مناسب لنا جداً، وخصوصاً أن الموظف/ النادل قدم لنا كل اهتمامه، فهذه الطقوس المسرحيّة تخلق "الإيهام" الذي يغطي العقلانيّة الشديدة للعالم الخفيّ وراء القائمة، وعلاقات الإنتاج الهرميّة والمضبوطة جداً، لنرى أمامنا عناوين لمّاعة في سبيل أن نستهلك أكثر ونحن راضون ومبتسمون، كوننا قمنا بخيار "عقلانيّ" بعد عمليات المقارنة والحساب، واخترنا قرضاً بنكياً لشراء منزل سنسد ثمنه خلال 25 عاماً.

تقنيات القوائم والاستهلاك أصبحت شديدة التعقيد حالاً، كون الاستهلاك أصبح موجهاً بصورة فرديّة، لكل منا قائمة خاصة به، ولن نتحدث هنا عن أنظمة جمع المعلومات والمراقبة والإعلانات الموجهة، بل أبسط من ذلك، ما يحدث في ستاربكس، فبعد أن تستعرض القائمة، وتختار الكافية لاتية قليلة الدسم، بنكهة الفريز، يطلب النادل اسمك، ليكتبه على الكأس، واسماً الشراب المخصص لك وحدك دون أي أحد، فاسمك عليه، أشد تجليات السيطرة هي حين يوضع اسمنا على شيء، وكأنه امتداد لنا ولسيادتنا الذاتيّة.

ويُقال أن الخدعة أشد مكراً، إذ يخطأ النادل بكاتبة الاسم متعمداً، كي تضحك، ومن حولك، غواية اللعب هذه معديّة، تستهدفك ومن حولك ليأتوا ويختاروا ما يريدون، بانتظار أن يخطأ النادل بكتابة الاسم، كي نضع صورة الكأس على الانسنتغرام، وننال الرضا الذاتي، هذا الطقس "الاستهلاكي" أساسه القائمة، التي أصبحت محتوياتها مخصصة لنا بدقّة، وتقدم لنا فقط ما يريده "المُنتِج"، مستغلة اللعب والفكاهة لغوايتنا وتمكين وهمنا بالخيار المستقل.

القائمة في درجة الصفر
سواء في البنك، في المطعم، أو في شركة التأمين، تستدعي القائمة كـ"علامة" الغياب، هي دليل مرئيّ على الخفيّ، تحيل إلى بنية لا تحضر داخلها، لكنها تُنتجها، هي أشبهُ بجدار فاصل بين فضاء الإنتاج (اللامرئي) الذي قد يثير القرف والاشمئزاز في ماكدوندلز، وبين مساحة الاستهلاك (المرئيّة) اللطيفة والمنظمة، والمصممة كي نختار وندفع ونستهلك.

هي الفاصل بين السيارة التي نريد، وسلسلة الحجوزات والعقود التي ستستعبدنا لبضع سنوات. فالقائمة تخفي وراءها علاقات القوة والهيمنة التي نظن أننا نتفادى قسوتها حين نتوهم بأننا "نختار" ما نريد، وتخلق لذة تغذي الوهم بأننا نتحكم بنقودنا.

تشكل القائمة في ظل طغيان الاستهلاك والإعلانات الموجهة مسبقاً، تقنيةً بديلةً عما يفعله أمازون عادة، هي تحافظ على سحر استقلال الخيار، وأننا عن سابق إصرار وتصميم، قمنا بشراء "iPhone" جديد، فالخيارات التي تتيحها القائمة تحررنا من سطوة الإعلانات الموجهة، أو تلك التي تظهر بوجهنا خارج ساعات الاستهلاك، سواء ونحن نقرأ مقالاً أو نشاهد فيلماً أو غيره.

هي وسيلة للفلترة الوهميّة في ظل أطنان الإعلانات، كونها تعطي للخيار معنى، مع ذلك، ما زالت الخدعة قائمة، والتي تتضح في الاستهلاك الالكتروني، فقائمة الطعام على شاشة الهاتف، تتغير بين شخص وآخر، حسب مكان السكن، والعمر والجنس، وتاريخ الاستهلاك، فنحن أمام قوائم ذكيّة، تشبه تلك التي يتحدث عنها بورخيس، والتي تتغير في كل مرة نطلب طعاماً صينياً، أو نشتري أغنية.

القائمة والمواطنة الاستهلاكيّة
أهم ما تخفيه القائمة، هو احتمالات اللاشراء، لا يوجد صيغة تحضر فيها القائمة دون استهلاك من نوع ما، وهنا تبرز المنافسة في صناعة القوائم، أي منها قادرة على إبراز وأخفاء عناصر مثيرة أكثر، وهذا ما نراه في الانتخابات السياسيّة، فقوائم المرشحين وما يروجون له، تتلاعب دوماّ بذلك، لنغدو كمواطنين أشبه بمستهلكين، نختار ما يناسبنا من القائمة، وما تحويه من ميزات.

وهنا يكمن تأثيرها على مفاهيم المواطنة، هي تضعنا في خانة، لا بد فيها من التصويت، بعد ذلك، لا تهم النتيجة، فالبنية التي أنتجت القائمة لن تتغير، هناك فقط سحرية طقس أن نختبئ في حجرة التصويت، ونختار بـ"حرية " المرشح الذي نريد.

القائمة كفعل ذاتي
أبرز القوائم التي تنتشر بيننا، هي تلك التي تعطي الوهم بأننا نحن قمنا بإنتاجها، كقوائم "أفضل المبيعات"، والتي نشارك نحن نظرياً بخلق تصنيفاتها وترتيب عناصرها، كونها ترتبط مباشرة باستهلاكنا. فكلما اشترينا أكثر، كلما تغيرت القائمة.

وما يجعلها إشكاليّة، ليس فقط دفعها لنا لاستهلاك وملاحقة المرتبة الأولى، بل الإحساس الذي تخلقه بأننا نساهم بصناعتها وبأن هناك الآلاف غيرنا الذين أجمعوا على أن هذا الكتاب في المرتبة الأولى، هي تساهم بجعلنا ندخل في "الإجماع" على منتج ما، والترويج له على أنه الأفضل، فهي تخلق نوعاً من الأمان والثقة لدينا، بأن هناك آخرين، ذوي خيار حر في مجتمع الاستهلاك، أجمعوا واشتروا هذا الكتاب لجودة محتواه.

لكن، يكفي أن نعلم أنّ كتباً كـ"السر" و"twilight" و"fifty shades of gray" وصلت إلى قائمة أفضل المبيعات، ليتضح كيف تنتج هذه القوائم.

(عن رصبف22)

 

(صحافي سوري مساهم في عدد من الصحف والمجلات العربية، حاصل على ماجستير في الإعلام وليسانس نقد ودراسات مسرحية)