هائم في شوارع المدينة، من مسلكٍ إلى مسلكٍ أضيق. ضاقت في نفسي الدنيا كما ضاق بي البشر وزاد الاختناق وانطمست ملامحهم من حولي وغلفها السواد. كانوا كأشباح الليل وغدوت أنا منهم سجين نفسي والظلام . تكابدت الغيوم في صدري وأثقلها التفكير، وما عاد قلبي مزاراً إلا لأمسية النواح ولم يعد يعشق إلا كلّ أضداد الفرح.
تمضي الأيام سراعا تعزف ترانيمها على الرمادي والأسود، حتى نسيتُ كل لون، ومابين دمعة وأخرى سكنت روحي، توسدَتْ الأرض وتدثرت بالرمال، تُخبئ نفسها وتفتش عن قطرة مطر. ومن يا ترى في الكون يعرف قطرة المطر؟
همست لي نفسي: "ما خلقتُ إلا لأشقى، فلا نعيم إلا عند مائك يا كوثر". وعن جنة، رحتُ أبحث عن جنة، عن أرض خضراء، عن مصدر فرح وقطعة من السعادة. كنت أراها وحولها سور يضمها وداخلها وجهوه تضحك و ألاف الأنوار تضيء لتُنير عتمة السماء فتضحك الأرض ويضحك الإنسان، وأنا بينهم أجري وأضحك، فأين أنتِ يا جنة؟
بقيتُ أسير بلا هدي، بطيء الخطى، أتأمل حزن المدينة فأُجزم أن ما هي إلا مرايا لقلبي أألفها وتألفني إلى أن رأيتها فأخرستْ كل صوت داخلي. كانت تسير أمامي بثياب رثة ومظهر بائس، تبعتها خطوة تلو خطوة. لم أميز كل ما مرت به قدماي حتى توقَفَتْ في منتصف الطريق تراقبُ وجه السائرين ثم عبرتْ الشارع لتجلس على أحد الكراسي ممسكةً بصندوق مُلئ معظمه بالعلكة والحلوى تسرح بخيالها .
شعرتُ بالحسرة عليها أكثر مما شعرته على نفسي. وجه صغيرة بريء جميل كقطعة القمر، يدان صغيرتان تضمان الدنيا وما فيها، وعينان لوزيتان تبحثان عن شيء مفقود، إنها تبحث مثلي. حاولتُ الحديث إليها لكن نفسي امتنعت فلغة العين والروح أصدق من اللسان فاكتفيت بمراقبتها، راقبتها علّها تجد ما تبحث عنه.
رأيتها بعد وقتٍ تضحك إلى سيدة تجلس بجوارها، تعجبت، منذ متى والسيدة هنا؟ لا أدري، وكم من الوقت مضى وأنا أفكر ولم ألحظ قدومها وجلوسها إلى جانبها؟
ضمتها السيدة إلى صدرها، قبلتَها ومسحتْ على رأسها. ضحكت الطفلة بصوتٍ عالٍ والعيد يسكن عينيها، ألقت الصندوق من يديها وكأنها لم تعد تراه، لقد وجدت شيئا تبحث عنه من مدة طويلة، شيء ملأ روحها فأعاد توازن الكون في عينيها. رأيتها تعبر سور الجنة، تجتازه بفرح. ضحكتُ وقالت لي روحي وهي تدغدغني: "وفي الدنيا لكَ أيضا جنة".
لمعت عيناي فرحاً ومضيتُ مسرعاً لأجد جنتي.