يتلفت هلعاً إلى امتداد أعوامه الأربعين، محاصراً بين قلب شبّ هواه وصرامة ناموس ابتدأ بالتفكك. يتلفت مقترباً من مدخل المحطة. ينظر إلى ساعته، ثمة فسحة من الوقت. وبغتة تنبثق من رحم الزحام، مغسولة بالعيون، تدنو مرحبة، فاتحة الذارعين، مندفعة بهبوب جسدها الصغير لتحتوي جسده المتعب الحزين، وتشرئب قاطفة قبلتين من شحوب الوجنتين.
يشتعل القلب بالهوى.
يشتعل الضعيف إزاء الهبوب.
قلت له: ـ الدرب معبد بالبهجات الصغيرة .. لكنه يا صديقي محفوف بالمخاطر!.
فقال: ـ ما ذنب الروح التي تكاد تستحيل خشباً.
قلت: ـ مغامرة أولها فرح .. وآخرها ندامة!.
فقال: ـ رجفة قلب .. يستنشق هبوب العطر الخفي لأنفاس أنثى برية .. يمد في العمر حولين .. ثم لماذا أفكر في الأواخر وأنا في الأوائل.
الجسد الناعم طيع بين ذراعيه، يعتنقه وسط الزحام، ينفخر من جديد في أتون عطرها الفريد عابراً خفقات العطر النسائي الخفيف ليذوب في ضوع اللحم، الأحشاء، الأعماق، التكوين، نبرة الصوت الرخيم، لفظ المفردة، بحر العينين الصفراوين الفاتحتين، العبق المنبثق من أصابع الكفين الصغيرين، وبشرة الوجنتين البارزتين، الجسد الناعم .. الناعم الصغير يستريح من شبوبه الخاطف ليحاذي أسفل كتفه. في أتون البهجة ذاك، في احتدام القلب الراعش، في باطن زحمة خانقة، ضاجة كان يسير وكأنه يطير. الأرصفة، وجوه البشر، الأبنية، المنعطفات، المحطات، الباصات، لون السماء في النصف بعد الواحدة ظهر نهار شتوي بارد، الخلق ... كل الخلق والموجودات حجبها سطوع بهجة قلبه الوسنان. بهجة استقلت بزمنها المطلق، تقول ما تقول، تشطب ما تشاء وتحي من تشاء. حلاوة حلم كامن في مجاهيل النفس يعود لأربع سنين خلت عندما وقعت بناظره المشدوه في بيت بعيد، ليس خيالاً .. ولا أمنية .. إنها تخطو الآن جنب جسده الحالم الخدران، ولا تكف عن الكلام بنبرة تطرب، وتميع كل جمد متبق من صقيع وحشة العزلة.
قلت له: ـ والعائلة يا فلان؟!.
قال: ـ وقلبي الفائر في ذلك الدوران بين الغرف والحمام، المرآة والرقاص، موقف الباصات، المحطات، الرأف فوق الحقول المتراميات، قلبي الملهوف.
في الأيام التالية حاول أن يعثر على الكازينو دون جدوى، فاضطر للعودة إلى نقطة الانطلاق، وتتبع مسارهما بولوج مدخل الزقاق المفضي إليها، لكنه يضيع في كل مرة داخلاً كازينوهات ليس لها ملامح المكان .. أيكون ما حدث مجرد حلم أو خيال؟ حاول أن يستعيد تفاصيل المسافة بين المحطة والكازينو، البشر المزدحمين، أشكال الأبنية، طعم الهواء، الروائح، الوجوه، الأصوات. حاول .. لكن انطفاء ما حوله يحدث بعد خطواتهما الأولى بقليل، تسبح الموجودات في الضباب، ويتألق حضورها الفيزيقي الطاغي، المبهر المشع، يضيء مساحاته في سورة مجنونة ماتعة خطفتهُ من كل تفاصيل عمره، وجه الزوجة المتصخر، الدائم التأفف، الملازم صمتاً قبرياً لا ينقطع إلا بصراخ شاكٍ متذمرٍ ينصب على أطفالهما الأربعة المحدقين نحوه بعيون محزونة مستنجدة من طوفان الصراخ المباغت الغامض العلة. يتذكر تفاصيل ما قبل اللقاء .. عجلات القطار تنهب الحقول المكسوة بالثلج بيسر وتبعده مسافة كافية عن أحزانه لتلج به من ضيق الزمن إلى مطلقه البهي، ليونة عجنت روحه المتعوبة الآفلة الجسد، ليونة الفتوة بشبوبها المتأجج، أمحتْ الأعمار والأزمنة وألقته في السورة المشعة القاتلة عاشقاً بريئاً مرتجفاً، تتناهبه الهواجس في المسافة بين الفجر ومنتصف الظهيرة.
هل هي قادمة؟!
وحده السؤال يهبط بكيانه إلى فراغ الهلع والموات. ينطلق في الزحمة مشغولاً بخاطرها المربك.
قلت له: ـ فكر ألفاً قبل الإقدام.
ـ أي ألف يا هذا .. أي ... والتواجد جوارها ساعة هو المبغى .. والمأمول.
لم نامت وحدها دون كل النساء؟ .. لم؟ لا يدري .. أسرار العشق أسرار .. وشؤونها إبحار لا رسو فيه.
كل ما مر قبل أن يحتويه ضوؤها كان واضحاً. الترجل عن سلالم عربة القطار الحديدية الثلاثة، الرصيف الطويل المنتهي بسلالم إسمنتية صاعدة. انعطافه نحو باب المصعد المفتوح ودس جسده بين الشيوخ، تحديق لائب بالساعة اليدوية .. خمس دقائق تفصله عن الموعد، هروعه نحو البنك القريب عبر الشارع الضيق المزدحم بالسيارات والمارة، وعودته المشدوهة المرتبكة، المحتدمة بهواجس مقيمة، قديمة عن انتظارات غير مجدية، وانصلابات في الأمكنة، بأفياء الحيطان، في المحطات والحدائق، تحت ظلال الأشجار، في المطارات والدول، في "الأوركادات" والجبال، في الصحاري .. في الساحات .. في ... في .. في .. أي مسافة عرضها ستة أمتار بين البنك ومدخل المحطة، مسافة العبور بين رصفين، مسافة أحيت تاريخاً من الخيبات والخسارات، وبينما هو في اللجة تلك .. وعيناه تلاحقان الوجوه والأشكال، انفصلت من رحم الزحام لتشب نحوه وتضيّع زمنه في سديمها المطلق المجنون. فمن لحظة احتوائها لطوله بين ذراعيها غاب في فضائها الساحر الرحيب، وأفقده ضوعها وضوؤها كتل الأشياء، ملامح الأمكنة، فضيع قدر المسافة، قسمات المارة، الطقس، معمار الأبنية.
على أي قارب من الحلاوة حمله ذاك الكيان الناعم السائر جواره؟
كل شيء تضبب وانمحت حوافه في رابعة النهار، وجنبها يمس جنبه مساً خفيفاً، فينأى به المس إلى عوالم أخرى لا يفهمها إلا متبحر في المحبة، عارف بأسرار العشق، ذاق تباريح الأشجان. أي غبار لفه ببهجته وأنساه سكون أجمل جسد عاشره قرابة ربع قرن؟ موات الجسد الأليف المتدثر، والطامس في بحر الإسفنج وحلكة ليل حجرة النوم الميتة. الاستلقاءة الهامدة للطول الرشيق المجاور لتمدده المحترق، الساهر المتشهي لماضي الجسد الحي، المترسب في غفوة موت ليليّ لا فكاك منه، وأصابعه الخاشية من الدنو، الأصابع العارفة بمناحي وينابيع الطول المسفوح جواره في الفراش، المسكون بالصمت والخفوت. الأصابع المسهدة، المرتعشة التي ياما سرحت بطلاوة سمرة البشرة الناعمة الزلقة التي كانت تبثق جمراً من المسام، أتون نار كان يذيقه ويأخذ أطراف أصابعه إلى مواضع احتدام الشهوة، مستدلاً بما يصدر عن موجه من أنات خافتات ورعشات. الأطراف التي كانت تستجلب للجسد الميت الغافي أعنف الآهات، وأعذب الصرخات عند بلوغ الذروات تستلقي عاجزة مستحيية في تسللها الوجل تحت ثوب نومها الملفوف بإحكام، تمسح بانزلاقها اليائس برودة الجسد الثلجي، تلح على مكامن النيران القديمة التي كانت تشبّ بمجرد المرور العابر، تترمد الأصابع وترتد خائبة من خمود التضاريس الرشيقة الباردة المنكمشة البشرة، فيتبعثر طوله الغاطس في غور الإسفنج، في رماد شهوته المتخافتة، في عتمة السرير تعود الأصابع منهكة حزينة. المشهد الليلي أفضى إلى أخيلة مرعبة، ففي آخر سفر للأصابع المترجية، المتأملة في الفضاء المحصور بين الثوب الشفاف واللحم، وبعد قطعها مسافة قدم أصابها الهلع فانسحبت متقززة وكأنها تلامس جثث زملائه الجنود القتلى في الملاجئ والعراء في ليل الجبهة الطويل. أجداث رجال العصابات في الجبل قبل موراتهم في الحفر الضحلة، ظلت ترتعش وترتعش وتر... فانسل ليلتها من السرير ليعب كأساً من الخمرة، ويسرح في ظلمة الصالة مصغياً لأنغام (Schubert) الحالمة، يتماهى في ظلال أشجار حديقة المنزل المتشبحة بانسكاب أضواء أعمدة الشارع الخافتة والمرئية من النافذة الزجاجية العريضة. يبحر في شؤون الأصابع مقارناً بين ملمس اللحم البشري البارد الداني، وملمس أنوثة الحجر الطافحة بأجساد نسوة المتحف الروماني العاريات العابقات بروائح الأزمنة المنقضية في سكون وصمت قاعات وأقبية وفسحات المتحف حينما أسفرت أصابعه في خلوة سانحة ممسدة صلابة الأنوثة الأبدية للنهود المنتصبة والخصور الضيقة والأرداف البارزة المليئة المكورة والمتسقة مع استدارات الأفخاذ الساحرة، والنظرات الحية الأبدية المنطلقة من عيون واسعات، حالمات، حنونات، ودودات. وجد الحجر النابض أكثر خيالاً وخصباً من خمود الجسد المفزع في قبر السرير المشترك الذي راح يتهرب منه منذ تلك الليلة، لينام في غرفة الأطفال أو الصالة، وعندما يضطر إلى المجاورة يتحاشى أي تماسٍ محتمل في غيبوبة الغفوة بلمّ أطرافه وملاصقة جدار زنزانة الليل السقيم.
أي غبار بهيج ضيعه؟
أي غبار كوني يلوذ خلف الأجرام الضائعة في يم كون الأنثى المفتوح؟
أي غبار؟
هل يعيش في فضاء وهم من أوهام مخيلته المشبوبة العنيفة؟
هل يسير في دروب وهمية، لازمنية امحت الساعة والمسافة، المعنى وواقعية الوجود المادي بكل أبعاده المحددة ببشاعة وجود بشري معطى، صلب مثل حجر أصم دون خيال.
هل ضياعه في المسافة المحصورة بين المحطة والكازينو في شارع المشاة يخصه دونها؟
ـ ألم تضع معي؟.
ومض السؤال بغتة وسط الزحام، فأطفأه طوفان البهجة الغامرة .. أسلم قياده الهش لليونة كائن مكث سنيناً في أثير خيالاته .. وها هو يطلع حياً من مدن الأحلام ويأخذ روحه المعانقة العدو والصديق، القاتل والقتيل، روح مسيح خدران. أخذته بوقعها العسلي ومالت لتدخل في كازينو انحفرت في سديم خدره بأرضيتها الخشبية البيضاء وكراسيها البيضاء، وستائرها البيضاء وندلها اللابسين بدلات بيضاء فذكرته بالمستشفيات والسجون رغم أناقتها الظاهرة.
قال: ـ أنجلس هنا؟
ورمته بعينيها الضاحكتين، وببداهة قلب صاف استدارت نحو الباب، لتبحر ثانية في موج البشر الهلامي المتداخل، الضاج، أخذته مخموراً.
ـ عماذا كنا نحكي؟
سأل نفسه مراراً ولم يعثر على شيء محدد رغم أنهما لم يكفا عن الكلام، الكلام كان ذريعة، كان أبسطه يستدعي البهجة فينغمران بالضحك الطفولي البريء، المندثر في أعماقه الحزينة منذ أزمنة لا يتذكرها. عماذا كانا يحكيان؟ يتبدد دوماً كلام المحبين من الذاكرة المخدرة باتقاد الحواس الفوارة، المختزنة للطعم، الرائحة، اللمسة، النظرة، أثر الكلام في الملامح والنبرة. متى كان للكلام معنى بين القلوب المنجذبة، النافذة من ثقب مطلقها الضيق إلى فساحة تحققه بمجاورة جسد المحبوب. الكلام ذريعة ليس إلا، الكلام صمت بحضرة المعشوق. الصمت كلام في روح العاشقين. الصمت ذاك ألذ صمت في الدنيا. صمت إبراهيم في سنة كونية مندثرة عندما كان رجل عصابات يجوب الجبال حالماً بعدالة أبدية ... مستحيلة، فتوة الأحلام قبل الترمد، وأدخلته آلهة الحديد الطائرة المزمجرة في مطلق عالم الظلمات، أولجته في غياب مكين، لينبثق من رحم الظلام، من فداحة الصمت إلى نسمة باردة وظلمة حية فيها أصوات، خرير نبع، تناد، في مكوثه الطويل بالعماء المؤقت، كان يتحسس الموجودات بالسمع واللمس، صوت إبراهيم، الزوجة الحادبة في عنفوانها القديم.
ـ ها... كيف حالك؟
لم يسمع من المحبوب إبراهيم إلا هذا السؤال، الصديق القديم الجالس جواره ليل نهار، كان يتخيل في عماه، وجهه الخلاسي الصامت، المنتظر، الصابر، يسقيه الماء بصمت، يقوده كل يوم إلى غرفة الحمام الطينية، يدلك جسده المسلوخ بأصابع حانية تمر مثل النسمة بأنحاء جسده المبقع بفقاعات الخردل، الأصابع الكريمة الممتعة تقول ما لا يستطيعه الكلام، يصعد به إلى المغارة، يجلس جواره بصمت، وعندما يطلب ماءً كان إبراهيم يحضن رأسه ويقرب الكأس حتى يلامس شفتيه ويسقيه بصمت. ما ألذ صمت المحبوب ... الصمت كلام .. الكلام صمت .. لا فرق، فالمجاورة في مطلق الانجذاب هي الغاية والمأمول، ما ألذ ثرثرة المحبوب.! لم يكفا عن المحاورة في ذروة الظهيرة واحتدام الزحام .. عماذا؟ لا يتذكر إلا كسراً من الأمكنة والوجوه، وأطرافاً لا معنى لها من الحديث، تقاطع طرق وأصابعها الرخصة تشير نحو كازينو تشغل ركن الشارع ما، تسطع الذاكرة لحظة الدلوف. الطابق الأرضي مكتظ. يتوجهان نحو السلالم الخشبية الهابطة من وسط السقف، والمحاطة بالطاولات المشغولة جوار الواجهات الزجاجية. تئز الأدراج الخشبية المعلقة أزيزاً مطرباً في ارتقائها المتأني ... الخلوة .. الخلوة .. مبغى العشاق .. تشمل أرجاء الصالة الفسيحة بنظرة خاطفة، وتأخذه إلى أقصى الزاوية البعيدة، إلى طاولة بكرسيين تجاور الواجهة العريضة المطلة على نهر البشر المتموج.
ما قيمة هذه التفاصيل؟ ما معنى هذا السرد؟
ماذا جرى في الوقت المحصور بين الربع قبل الثانية حتى الربع بعد الرابعة عصراً؟.
الطاولة الصغيرة تفصل بينهما، هي تظاهر الجدار، وهو يظاهر الرواد، وتحتها عبر الواجهة الزجاجية رؤوس البشر تخوض في قاع الشارع الضيق. وجد نفسه يغط في غبار سنة كونية مندثرة، حملته نبرة صوتها الساحر، يم عينيها الصفراوين الألقتين إلى أزمنة طفولته البعيدة، فرأى شموساً حارة، تفيأ بجدران بيوت طين، سبح بسواق تلفظ أنفاسها الأخيرة، تاه في حقول شاسعة تحيط بالمدينة، عبقته الروائح القديمة، ذاتها وهي تهب من أصابعها، ثيابها، رائحة زهر الرمان، رائحة الطين، رائحة الحناء، رائحة الجوري، رائحة نشارة الخشب بدكان أبيه النجار، رائحة المساجد، ماء الورد، البخور، رائحة القداح، رائحة البهارات في سوق المدينة المسقوف، رائحة الجت في الحقول، رائحة ثوب أمه، رائحة المسك والزعفران، الآس والهيل، يطوف ... يطوف... في فيضان العبق القديم الهاب من حناياها. يسرح به أريج العطور في استرخاءة كسلى بباحة جامع السوق وحلمه الغامض بأمكنة بعيدة، بنساء مجهولات يسكنّ غيب الأماني المؤددة، يحلم ويحلم في الظل الوثير بصبايا باهرات يتخلقن من خيالاته المفتوحة الغامضة وقتها.
هل هذي الجنية الجالسة إزاءه، المحدقة، القائلة كلاماً يشبه صمت إبراهيم إحداهن؟
الجنية الراخمة بشعرها الكستنائي المنسرح على منحدر الكتفين الضيقين الرانية إلى صمته الشارد، والمنصتة لعطر الكلام، القاطعة سيله الناعم، الناهضة عند فراغ كأسه، الهارعة نحو البار، والعائدة بكأسين.
ـ قلتُ، ما أشرب لكن صبري ... كأسه وحده .. عندي شغل.
اتكأت على مسند الكرسي، فتوهم كأس النبيذ الزجاجي بين بنانها الكامل خلاصة روحه، وهي ترفعه نحو شفتيها المضرجتين بدمه المسفوح، ضاحكة في باطن ضجيج الكازينو فانعكس فيه كستناء شعرها الفاتح، وارتج بالضوء الساطع من نور وجهها وتلعة عنقها، كان يتأملها ويبتسم، ونور مبسمه اجتمع مع نور أصابعها الناعمة، ونور النبيذ الأصهب الرقراق، وضوء القسمات المنتشية، ونبض نحرها، ونور ثغرها المأمول، ونور رعشته المكبوتة. نور يضيء نور. نور يضاف إلى نور. وفي بهجة الحواس المجلية وجدا روحيهما في نور الجنان، الغائرة في رفة خواطر وأحلام الإنسان. عماذا كانا يتحدثان؟ .. لا يحضره إلا فسحات الصمت، وتحديقته الحانية على أناملها الملتفة حول دمه المسكوب في جوف الزجاج، المرتقي صمت اللحظة حتى ساحل الطريتين الغضتين، وحافة الكأس الأتلع تستكين بين الشفتين المتلمظتين بطعم دمه المهدور، المنحدر في الريق، يتذكر تتبعه المسار المتمهل البائن بتموج تلعة العنق الأبيض الشفاف، الراجف بدمه المندلق في سخونة الأحشاء.
قلت له: ـ حدثني عن اللقاء.
قال: ـ ماذا أقول؟ ومن أي سكر أصحو؟ سكر اللقاء، سكر نور الجنان المجتمع في وجه المحبوب، سكر عبق الطفولة سكر صبايا أخيلتي القديمة الناهضة في حضور المعشوق الجالس قبالتي السادر، الراشف، الحائر، سكر النبرة الناعمة، الجاهدة لإخفاء دفين المشاعر بالكلام .. والكلام لتحاشي بوح الصمت والعيون. من أي سكر أصحو؟ أي سكر؟ وتقول عماذا كنتما تتحدثان؟.
عماذا وهو لا يتذكر الآن إلا لحظات تعطل الكلام، وإبحاره البعيد في استكانة الأصابع الصغيرة، الرخصة، المسفوحة على خشب الطاولة الضيقة، وكفه الضخمة تهبط مثل صقر لتضم الأنامل الناحلة الراجفة، لا يتذكر كيف أوجد سبباً معقولاً لمعانقة الروح المستيقظة بنحت الأصابع، من أي سكر يصحو؟ وظلال خدره انسرب إلى قسماتها ومفرداتها وعسل عينيها الناعستين اللتين سرحتا معه، فسواها طفلة وأخذها إلى ظل قديم أدمنه في ظهائر طفولته القائضة، ظل سدرة جوار بستان نخيل، توسدا التراب، تماسا في برودة الظلال، وأغفيا .. لما استيقظا كان الوقت قد انقضى، فأخذته تخوض به في الزحام إلى نقطة الانطلاق .. إلى محطة الافتراق. أخذته حالمة خدرانة، أصحاه خدر ملامحها وصوتها، أصحاه صحو سكران، صحو لذة، أبهجه خدرها ودعوتها:
ـ اتصل بي كلما سنحت لك فرصة.
قالتها نشوانة وهما يقتربان من بوابة المحطة القاصمة للذة المجاورة بقساوة انطلاق سككها الحديدية المفارقة.
ـ أوصلك للقطار. وأعطيك بوسة .. لا تنس الاتصال.
ـ لا.. لا.. أوصلك أنا .. لدي وقت.
عند موقف الباص اشرأبت على أطراف أصابعها، اعتنقته لافة ذراعيها حول جسده الضخم، أربكته الضمة للحظة صاحياً من كل السكر قبل أن يحيط خدرها الغامر، ملامحها المضرجة، بشرة وجهها الغضة، السارحة الدانية، هبوبها الساحر، وللحظة .. وللحظة خاطفة، أبدية، لازمنية، صارا كتلة واحدة، ضمتها الرقيقة، وعنف ضمته المحترقة، عصر طراوة الجسد الطفلي بين ذراعيه، فانسلت من بين ذهوله نحو الباص الموشك على المغادرة، وغابت في زحمته.
استكن طويلاً في وقفته وكأن الدنيا غادرته قبل أن يستدير حال غياب الباص في انعطافة الشارع، ويقفز صارخاً:
ـ يا هو وووووووووووووووووووووووووو.
وسط الزحام، غير مكترث بعيون المارة المستنكرة صراخه المبهم المجنون.
* سورية حسين: مغنية عراقية غجرية قديمة.