تكشف الباحثة الجزائرية أثر العلامات غير اللغوية على تلقي النص الأدبي، وكيف تساهم في تفكيك النص واستكشاف حدوده وتأويله، وبخاصة الحدّ الخفي منه ممثلا في بنيته العميقة بغية استكناه المعنى المنشود، وتدعو لضرورة العناية بها كآلية من آليات التداولية لنقد النص الأدبي وتحليله.

العلامات غير اللغوية وتداولية النص الأدبي

دلال وشـن

 

الملخص:
عدّ علم العلامات في فترة ما بعد الحداثة العلم الجامع المانع لجميع علوم اللغويات بما فيها: علم المعاني، الترجمة، التداولية، تحليل الخطاب والنقد الأدبي .. فبظهوره انتهى دور علم اللغويات، لأن علم العلامات يدرس العلامات اللغوية وغير اللغوية، واللغويات تدرس العلامات اللغوية فقط. والسيميوطيقا كما استخدمها جون لوك (1632/174) أوّل الأمر عن طريق استعارتها من اليونانية (simiotke)، وفي دراسته الشهيرة عن طبيعة الفهم البشري، ذهب إلى أنها تعني مذهب العلامات (doct of signs)، الذي يعرّفه بأنه النشاط الذي يختص بالبحث في طبيعة العلامات التي يستخدمها الذهن للوصول إلى فهم الأشياء أو في توصيل معارفه إلى الآخرين. ولا يخفى على أي دارس أن الذهن يستعين في ذلك النشاط بما هو غير لغوي إلى جانب العلامات اللغوية التي هي أصل اللغة، إذ تشكل العلامات غير اللغوية جزءا من بناء الخطاب وإنتاجه وتلقيه، وخصيصة لصيقة بالقدرة الخطابية للمتحاورين.

واستنادا إلى هذا ستعنى هذه المداخلة بالبحث في العلاقة بين العلامات غير اللغوية وبين كيفية تقديم المستعملين المعاني في استخدامهم للغة وفي سلوكهم (كلغة الجسد والملبس وتعبيرات الوجه).

  • كيف يساعد هذا النوع من العلامات القارئ أو المتلقي في عملية تفكيك النص واستكشاف حدوده وتأويله، وبخاصة الحدّ الخفي منه ممثلا في بنيته العميقة بغية استكناه المعنى العميق.
  • كيف للعلامات غير اللغوية أن تكون آلية من آليات التداولية لنقد النص الأدبي وتحليله، إذا علمنا أن هذا المنهج قد لقي معارضة شديدة من قبل البينويين والإنشائيين والأسلوبيين بسبب اختلاف طبيعته المتميزة بالانصراف إلى تحليل الكلام في بعده التواصلي والإنجازي، فيما أن الخطاب الأدبي قيمته في ذاته لا في وجوه استخدامه.

تمهيد:
إن الاتصال موقف سلوكي situation Behavioralينقل فيه مصدرsource رسالة Message إلى مستقبل أو مستقبلين Receiversللتأثير في سلوكهم، وقد قسّم الباحثون الاتصال تقسيمات عدّة من بينها:

(1) اتصال لفظي Verbal communication (عن طريق العلامات اللغوية)

(2) اتصال غير لفظي Non verbal communication (أي عن طريق العلامات غير اللغوية).

وإذا كانت اللغة المنطوقة هي الوسيلة الاتصالية المهيمنة على حياة أفراد المجتمع، إلاّ أنها ليست الوسيلة الوحيدة من وجهة نظر علم العلامات لتحقيق التواصل، لأن الإنسان يمتلك وسائل أخرى غير منطوقة تقوم بوظيفة التواصل مثل اللغة.[1] وإن اللغة من حيث إنها مجموعة من العلامات أو الرموز، هي الأصوات التي يحدثها جهاز النطق الإنساني، والتي تدركها الأذن، هذه الأصوات التي تؤلف بطرائق اصطلاحية في كلمات ذات دلالات اصطلاحية، وإن اللغة بهذا الاعتبار تشترك مع طائفة أخرى من النظم "يصدق عليها ما يصدق على اللغة من أنها تتكون من علامات اصطلاحية يستعان بها على توصيل دلالات اصطلاحية".[2] سواء اتسعت دائرة الاصطلاح أو ضاقت، وأيا كانت الحاسة التي يتجه إليها أو يخاطبها أي نظام منها.

ومن نتائج دراسة قامت حول تأثير الكلام في الآخرين، ظهر أن نسبة تأثير الكلمات والعبارات %7، وأن لنبرات الصوت 38%، وأن لتعبيرات الجسم الأخرى من عيون ووجه وأيد وجسم 55 %، وقيل إن التواصل غير اللغوي يمثل 60% من عملية التواصل، أما التواصل اللغوي فيمثل 40%، وهناك من بالغ فرفع نسبة الرسائل غير اللفظية إلى93% من التأثير الكلي للرسالة.[3] ولن نستطيع فهم اللغة فهما صحيحا من دراسة أصواتها وكلماتها وتراكيبها فحسب، ولكن لابدّ أن نتعرّف أيضا على طرائق الاتصال الإنساني التي تعين على فهم اللغة ومعرفة وظيفتها في التواصل بين الأفراد.

ولم تعالج وسائل الاتصال غير اللفظية معالجة علمية إلا منذ أوائل الخمسينيات من هذا القرن، حينما نشر عالم الأنتروبولوجيا الأمريكي Bird Whstell دراسته العلمية التنظيمية عن حركات الجسد عام 1952م في كتاب بعنوان "مدخل إلى علم الحركة الجسمية"، وتزامن هذا الكتاب مع أنشطة علمية أخرى قام بها علماء النفس والتحليل النفسي والاجتماعي.[4] وكان المنطلق الذي بدأ منه هو أن اللغة بوصفها نظاما لا تحدث مفردة، وإنما تصحبها نظم أخرى منها الحركات الجسمية. وقد اضطربت دلالة الاتصال غير اللفظي عند الباحثين وتباينت تعريفاتهم، ولذا عرّفه بعضهم بأنه الكلام من غير كلمات أو اللغة غير اللفظية، وبعضهم نظر إلى الاتصال غير اللفظي على أنه اتصال سلبت منه اللغة.

وأشار سالزمان أن مصطلح (الاتصال غير اللفظي) الحرفي، يشير إلى أي نقل للعلامات يجري إنجازه بوسائل أخرى غير الألفاظ المنطوقة أو المكتوبة، وإن صعوبة تحديد (غير اللفظي) إنما يرجع إلى تنوع مظاهره وتعدّد أشكاله وقنواته، فسالزمان قسّم أنظمة الاتصال غير اللفظي إلى أنظمة تنتج اللغة المنطوقة، وأنظمة تستقل عنها، وباستثناءات قليلة جعل أنظمة الكتابة تنتمي إلى النوع الأول نظرا لكونها تشتغل على أصوات الكلام.[5]

وقسّم بعض الباحثين الاتصال غير اللفظي إلى قسمين:

الأول: لغة الصمت، والثاني: لغة الجسد، وجعل تحت القسم الثاني أنواع عدّة منها: التعابير الجسدية والفيسيولوجية. وهناك تصنيف آخر للاتصال غير اللفظي بحسب القناة، أي بحسب الوسيط الذي تنتقل عبره العلامات، فتتعدد القنوات في عملية الاتصال، فالقناة التي تستخدم لغة الطبول قناة سمعية، في حين تستخدم علامات التدخين القناة البصرية، والمكفوفون يستخدمون اللمس مثلما يحسون بالحروف البارزة في نظام برايل، ويستطيع الصمّ والعمي أن يتعلموا قياس الحركات التلفظية بوضع اليد على وجه المتكلم ورقبته (طريقة تادوما).[6] ومهما يكن من أمر فإن الاتصال غير اللفظي يشكّل جزءا كبيرا من الحياة التواصلية بين البشر، فيساهم في إنتاج الخطاب وبنائه، كما يساهم في تفكيكه وتلقيه.

العلامات غير اللغوية وتحليل النص الأدبي:
ينبغي للدارس اليوم أن يتحلى بقدر كبير من المرونة في التعامل مع الأجناس الخطابية إزاء التغير الدّال في المفهوم وتطبيقاته وكذلك إزاء ازدياد الأنظمة العلاماتية التي تستخدم في الاتصال في الوقت الحاضر، فلم يعد الاتصال قاصرا على استخدام شفرة اللغة بل تجاوز ذلك إلى استخدام الصورة، والصوت واللون، والرائحة ... إلخ، ولذلك صار لزاما تجاوز التحليل اللغوي التقليدي للنصوص، والذي لم يستطع الإلمام بكل جوانب النصوص المعاصرة لاكتفاءه بشفرة اللغة، فتزايد الاهتمام بعلــم العلامــات أو العلاماتيــة أو السيميــوطيقــا أو السيميــولوجيـا (simiologie).[7]

إن الحديث عن العلامة يقودنا إلى الحديث عن السيمياء أو السيميولوجية إذ تنطلق السيميائيات بمختلف اتجاهاتها و أنواعها من مفهوم العلامة، بوصفها القاعدة التي ترتكز عليها الدراسات والتحليلات السيميائية جميعها. اقترح فرديناند دي سوسير اسم (la simiologie) أو علم العلامات المشتق من الكلمة اليونانية (sémeion) بمعنى علامة، للدلالة على ذلك العلم الذي يتخذ موضوعا له دراسة استعمال العلامات الاصطلاحية ووظيفتها في المجتمعات سواء كانت لغوية أو غير لغوية.[8] ويرى فيرث في كتابه القيّم (the technique semantics) أن أبرز ما يبين أهمية هذا العلم في نبوءة سوسير هو قوله في كتابه "محاضرات في اللسانيات العامة": "إننا إذا كنا قد استطعنا للمرة الأولى أن نحدّد لعلم اللغة مكانا بين العلوم، فما ذلك إلا لأننا وصلناه بعلم السيميولوجيا"

«Pour la premiere fois nous avans pu assigner a la linguistique une place parmi les sciences cest parce que nous lavans rattachée la sémiologie»[9].

فإذا كانت اللسانيات تتخذ اللغات الطبيعية موضوعا لها، فإن السيميائيات تتجاوز هذا المجال إلى دراسة مختلف العلامات داخل الحقل الاجتماعي، إذ إنها- السيميائيات- "تدرس الرموز اللغوية وغير اللغوية التي بفضلها يتم التواصل بين البشر" [10]، وهذه العلامات غير اللغوية ذات طابع وظيفي تقدم خدمة جليلة لعملية التواصل، وتظهر علاقة السيميائيات باللسانيات في علاقة التفسير بتعبير بنفينست، فانطلاقا من قدرة نظام ما على تفسير نفسه وغيره أو عجزه عن ذلك يمكن تنظيم الأنظمة السيميائية على مستويين:

(أ) مستوى الأنظمة التي تعجز عن تفسير نفسها بنفسها وتراها في حاجة مسيسة إلى وسائط سيميائية أخرى، مثل الصورة والرمز واللون.

(ب) مستوى الأنظمة القادرة على تفسير نفسها وغيرها وهو النظام اللغوي، وفي ذلك يقول تودوروف: "على الأقل هناك مسألة أكيدة وهي أن أي سيميولوجيا للصوت أو اللون أو الصور لا يمكن أن تصف الأصوات أو الألوان أو الصور، بل لابد لها أن تستعير ترجمان اللغـة ـ واسطة ضروريةـ وبالتالي فإن وجودها متعذر إلا بوساطة سيميولوجيا اللغة[11]. فعلى الرغم من أهمية العلامات غير اللغوية ووظائفها الجليلة في التواصل أو التحليل إلا إنها تحتاج إلى مفسر لها وهو اللغة.

إن السيميائيات علم واسع وشامل وجامع في طياته الكثير من العلوم فهو علم يبحث في اللغات والإشارات والتعليمات وانطلاقا من تعريف سوسير لها بأنها "علم يدرس حياة العلامات داخل المجتمع" حصل شبه اتفاق بين العلماء يعطي مكانة مستقلة للغة يسمح بتعريف السيمياء على أنها " دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية ومادامت العلامةـ في أصلهاـ قد تختلف فتكون لسانية (لفظية) أو غير لسانية (غير لفظية)، فإن السيمياء هي علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها أو أصلها، وهذا يعني أن النظام الكوني وبكل ما فيه من إشارات ورموز هو نظام ذو دلالة، فتدرس السيميولوجيا بنية هذه الإشارات وعلائقها في هذا الكون ومن ثمة توزّعُها ووظائفها الداخلية والخارجية"[12]. إن العلامة ظاهرة ثقافية تربط الكائن بكل ما يحيط به، أي إنها وسيلة تواصل بين الذات والعالم الخارجي، وعن طريقها يدرك الإنسان هذا العلم، وفي هذا المعنى يقول جيرو: "نحن نعيش بين العلامات وثمة علم دلالة عام يتناول بالتحليل مختلف النشاطات والمعارف الإنسانية"[13].

بناء على ما تقدم يمكن القول: إن كل كلمة علامة، ولكن ليست كل علامة كلمة، كما أنه ليس كل نص مجموعة من الكلمات أو الجمل المترابط من حيث المعنى والمبنى،" فالنص من وجهة النظر السيميولوجية هو مجموعة من العلامات المترابطة من حيث المعنى والمبنى، والتي تؤدي دلالة مكتملة قائمة بذاتها، وعلى هذا فإن الفيلم السينمائي نص، والمقطوعة الموسيقية نص، والتعليق على مباراة كروية نص، واللوحة التشكيلية نص، والإعلان التلفزيزني نص، والأغنية الشبابية نص، وخطبة الجمعة نص، والمسلسل التلفزيوني نص ... إلى غير ذلك، وكل نص من هذه النصوص يتكون من مجموعة علامات يمكن تناولها من زوايا عدّة."[14]

إن العمل الأدبي كما أكّد بارت سنة 1966 بمختلف مواضيعه هو رهان على التواصل، فهناك من ينتجه وهناك من يتلقاه، وإنه يفترض داخل التواصل اللغوي كل من ضمير المتكلم "أنا" وضمير المخاطب "أنت" من طرف بعضهما وبشكل مطلق. فلا يوجد نص دون منتج مرسل ودون متلق (أو مستمع) أو قارئ.[15] وهو الأمر نفسه الذي يلح عليه تودوروف إذ يرى أن العمل الأدبي خطاب في الآن نفسه، يحمل صورتي المنتج والمتلقي وهما خاصتان بكل عمل يقوم على التخيل.[16]

وإن كل تلك الأنواع من النصوص تحتاج في تحليلها ومعرفة مقاصدها، في تداولها وتلقيها إلى الاستعانة بالعلامات غير اللغوية، فالنص المسرحي لا يفهم مغزاه على خشبة المسرح إلا إذا تتبعنا كل العلامات غير اللغوية المرافقة لنصه، والمستعملة من قبل الممثلين في سياقاته المناسبة، والمسلسل التلفزيزني يحتاج أيضا إلى ذلك، والإشهار لمنتوج ما، أو الإعلان عن أمر ما، لا ينجز إلا بمساعدة العلامات غير اللغوية التي تشكل جزءا كبيرا من نصه، والنص الروائي لابدّ وأن يشير في متنه إلى هذا النوع من العلامات ليكتمل الحدث وتكون الشخصية الروائية ذات فاعلية في تسيير الأحداث ... وهكذا بالنسبة لجميع أنواع النصوص.

العلامات غير اللغوية وتداولية الخطاب:
ليس بوسعنا ونحن في هذا المقام أن نتطرق إلى كل التعريفات الواردة في حدّ التداولية، ولكن النتيجة الأكيدة التي أجمع الباحثون عليها هي أن موضوع التداولية هو دراسة اللغة أثناء الاستعمال، أي أثناء التداول والتخاطب بها، ولعلّ أوّل تعريف لها هو القول بأنها علم يبحث في علاقة العلامات بمستعمليها؛ أي إنها علم ينطلق من مسلمة مفادها أن بين المتكلم وبين العلامة التي يستعملها علاقة ما، وهي علاقة وطيدة بلا شك، كما أنه تعريف لم يفصّل في نوع العلامة المقصودة، وبذلك شمل العلامات اللغوية وغير اللغوية معا لأن كلتيهما تدخلان في إطار التواصل وتوظفان معا في تبليغ المقاصد؛ وبمعنى آخر، إن التداولية تهتم بالجانب الاستعمالي التداولي في العلامة لغوية كانت أم غير لغوية. وقد أصبح استغلال هذه النظرية في الحقل الأدبي محل اهتمام الدارسين نظرا لاهتمام النظرية بالجانب الاستعاري للكلام، وكذا بعض المظاهر الصوتية كالتنغيم ونبرة الصوت، وبعض المظاهر الجسدية كالإيماءات وغمزات العين وإشارة اليدين ... التي تتعلق بمقصدية المتكلم، وتتقاطع هذه المظاهر في شق كبير منها مع العملية الإبداعية.

فتعاملت التداولية مع أكثر الأشياء غموضا فيما يتعلق بالنص الأدبي وهو طرفاه، فمن الملقي؟ ومن المتلقي؟ وما العلاقة بين المخاطبات الموجودة داخل النص الأدبي؟ ومن المخاطب المقصود؟ وهل يكتفي المرسل بالعلامات اللغوية فقط أثناء تبليغ مقاصدها؟ أم أنه يستعين بغيرها من العلامات غير اللغوية في ذلك؟ وما أنواع هذه العلامات غير اللغوية المستعان بها؟ ... إلخ. كما تتعامل تداولية النص الأدبي مع السياق الذي غالبا ما يأخذ شكلا هلاميا، إذ ينفصل النص الأدبي عن السياق الذي يولد فيه، ويتأقلم مع سياقات أخرى قد تصل حدّ التناقض مع سياق إنتاجه، وتتدخل العلامات غير اللغوية في خلق هذه السياقات الجديدة لكل نص.

وإذا كانت التداولية علما حديثا تستثمر مفهوم العلامات غير اللغوية وسيميائيتها في دراسة الأعمال الأدبية وتحليلها وتداوليتها، بوصفها رهانات على التواصل ـ كما أشرنا. فإن الاهتمام بهذا الجانب كان من صميم اهتمامات العرب القدامى في اهتمامهم بالتواصل والحوار والتخاطب، أي باللغة وبكل ما يتعلق بها من قضايا.

ويعدّ الجاحظ (255ه) في كتابه (البيان والتبيين) من أكثر البلاغيين اهتماما بالتواصل الإنساني، إذ نراه يقف عند الشروط الواجب تحققها في تيسير السبل للناس كي يعبروا عن مكنوناتهم بأي طريق اختاروه، وقد كان الجسد عنده بوابة وأداة دلالية طيعة للتواصل الإنساني، حتى أضحت تشكل لغة قائمة بذاتها. فنظر إليه بوصفه وسيلة مهمة من وسائل التعبير غير المباشر، القادرة عن الإفصاح عما تخفيه الذات من معاني تجليها الحركات المشفرة، التي تتوزع دلالاتها وتختلف بحسب العضو الجسدي الذي يقوم بإرسال الرسالة الحركية[17].

وقد كان النص الشعري أغنى الخطابات الأدبية بالعلامات غير اللغوية وأكثرها اهتماما بها، بعدّها عنصرا مهما في التواصل، فكانت القصائد والأبيات تعج بالإشارات سواء كانت علامات عضوية مرتبطة بجسم الإنسان، مثل الرأس والوجه والجبين والحاجب والأنف والبلعوم والكف والذراع والركب، أم علامات أداتية غير عضوية مثل الملابس، والنار... إلخ. ومن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:[18]

أشارت بطرف العين خشية أهلها إشارة محزون ولم تتكلم

فأيقنت أن الطرف قال مرحبا وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم

فقد نابت العلامات غير اللغوية عن اللغة في التواصل بين الشاعر ومحبوبته، فكان التراسل ناجحا في هذا الحوار الصامت، الذي كان ترجمة للانفعالات والمشاعر الكبيرة. وهذا يؤكده قول شاعر آخر:

العين تبدي الذي في نفس صاحبها من محبــــة أو بــغض إذا كانـــا

والعيــن تنطــق والأفواه صامتــة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا

والجسد هو "موطن التعبير، وهو منتج للدلالة بما يأتيه من الحركة والإيماءة والإشارة، وبما يتضمنه من الصفات والهيئات والأشكال والألوان، فهو شبيه النص في قدرته على إنتاج الرمز والدلالة"[19]، وهذا يعني أن العلامات غير اللغوية هي نصوص موازية للنصوص اللغوية، ولها القدرة على إنتاج دلالات بالزخم نفسه الذي تقتدر به اللغة، ويكون ذلك محكوما بسياقات معينة.

إن الجاحظ يؤكد على أهمية الإشارة في إيصال المعنى، وفي هذا يقول: "وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد، أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الحال التي تسمى نصبة"[20]، وإن ترتيب الجاحظ لهذه الأصناف ترتيبا تنازليا يؤكد أهميتها في عملية التواصل، ومراتبها في تداول الخطاب، فيكون نجاحه (الحوار) وفاعليته على قدر الإشارة الموظفة في الخطاب المناسبة للسياق، "فماله صلة بالحواس أولى ترتيبا مما له صلة أبعد، فاللفظ في المرتبة الأولى، لأنه للسامع، والإشارة في المرتبة الثانية لأنها للرائي، والعقد في المرتبة الثالثة لأنها للرائي واللامس، والنصبة للرائي"[21].

ولأن الرؤية أهم ما في الحواس جميعا وأبلغها من حيث الاستعمال، فقد وسّع العرب من مجالها واهتمامهم بها، فكانت أكثر العلامات غير اللغوية ورودا في كلامهم وأشعارهم، كما في ديوان الخنساء مثلا، إذ نلحظ الحضور الوافر والقوي للعين مقارنة بغيرها من تعبيرات الجسد، فقد شكلت اللفظ المحوري للتعبير الجسدي لديها، لأنها نافذة الإنسان إلى الوجود، والوسيلة الأولى من وسائل هذا الإدراك، وهي أكثر أجهزة إرسال الإشارات الاجتماعية التي نمتلكها قوّة[22]. ويرى بعض الباحثين أن "إشارة العين عبارة عن نسق من الدلالات التي تعبر عن معان، وهي في أنساقها لا تختلف عن اللسان إلا باعتبار المادة. الكلام مادته الصوت، والعين مادتها الحركة والإشارة المناسبتان للمقام"[23]. وقد ارتبط هذا العضو (العين) في حياة الشاعرة بأحداث ملموسة آلمتها وأثرت في حياتها، فالبكاء ليس مجرد فعل عضوي للعين في استخراج الدموع، بل هو نوع من الوفاء لذكرى أخيها صخر، الذي تجسّدت فيه كل الصفات الكريمة والخصال الحميدة. تقول الخنساء:

أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميلا ألا تبكيان الفتى السيدا

وفي موضع آخر:

تبكي لفرقته عين مفجّعة ما إن يجف لها من ذكره ماقي

فاستعمالها لعلامة العين دون سواها من العلامات غير اللغوية سواء كانت جسمية أم غيرها، ساهم مساهمة فعالة وفاعلة في عملية تلقي المستمع ـ في عصور المشافهةـ أو القارئ ـ في مختلف العصور الأخرى إلى يومنا هذاـ لنص الخنساء، فيتمكن المتلقي من معرفة مقصدية الخنساء، ويشعر قيمة الحزن والألم العظيم الذي أحسته وتحسه منذ فقدت أخاها صخرا. وتقول أيضا:

يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل طلوع شمس

حيث تضافرت العلامة غير اللغوية (طلوع الشمس) مع الرؤية البصرية لتنقل للقارئ ما تثيره هذه العلامة في نفس الشاعرة، فيكون طلوع الشمس في كل يوم موعدا للحزن والبكاء بالنسبة للشاعرة، وتكون للقارئ علامة معينة، ووضعه في سياق النص وتلقيه بكل ما يحمل من مشاعر أليمة.

كما نجد عند لغويينا القدامى مصطلح "شاهد الحال" الذي استعمل للدلالة على كل الحركات والإشارات التي تساعد المتلقي على فك شفرات الرسالة الموجهة إليه فتكون له معينا على تحديد المعنى واستنباطه. يقول ابن جني (392ه):" فأمّا تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات الآراء قولا، فلأن الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول، أو بما يقوم مقام القول من شاهد الحال"[24]، بمعنى أن الإشارات الصامتة التي يغيب فيها الصوت قد تقوم مقام القول المنطوق، فتؤدي وظيفة التداول والاستعمال بدل اللغة المنطوقة.

ومن الأمثلة القرآنية الشاهدة على ذلك قوله تعالى "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت" (إبراهيم 17)، والمعنى أن إشارات عدّة، وأعراض كثيرة اجتمعت لتبليغه أن الموت قد حلّ، كتغير الوجه واصفراره، وقلة حركته، وهزال جسمه ... إلخ.

ومن الظواهر اللغوية التي أسهب فيها العرب وأولوها اهتماما بالغا ظاهرة الحذف، التي رأينا أنها تحتاج إلى الاستعانة بالعلامات غير اللغوية، لتوضيح المحذوف من الكلام؛ سواء وقع الحذف في النص المكتوب أو الخطاب المنطوق أثناء التواصل وتداول اللغة. فكل الخطابات والنصوص المكتوبة أو المنطوقة لابدّ وأن تحتوي على هذه الظاهرة، فيحذف المرسل شيئا من كلامه، ليعوّضه بمجموعة من المعطيات غير اللفظية تسدّ الفراغات الدلالية التي تظهر في الخطاب. ومن أمثلة ذلك: "سألناه وكان إنسانا ... وتزوي وجهك وتقطّبه، فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما أو لحزا أو مبخلا أو نحو ذلك"[25]، وفي حال حذف المرسل من كلامه شيئا، ولم يعوضه بما يحلّ محلّه ويؤدي غرضه من علامات غير لغوية، أدّى ذلك إلى فشل التواصل وانقطاع التداول والتفاعل الذي يجب أن يكون بين طرفي التخاطب. ويقع الإخلال بأحد أهم مبادئ التعاون في المحادثات الذي أقره غرايس، وهو مبدأ الوضوح، فالعلامات غير اللغوية من حركات وإشارات وإيماءات توضح ما غمض من خطاب المرسل بسبب الحذف.

ولقد كان الجاحظ ممن تفطنوا إلى دور العلامات غير اللغوية في عملية الإقناع والاحتجاج، ولذلك فإن استعمالها أمر مطلوب في المناظرات والسجالات، وفي هذا الصدد يورد قصة أبي شمرـ وهو أحد أئمة القدرية المرجئةـ الذي لم يكن يستعمل الدلائل غير اللغوية حتى أقنعه النظّام. يقول: "وكان أبو شمر إذا نزع لم يحرّك يديه ولا منكبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرّك رأسه حتى أن كلامه إنما يخرج من صدع صخرة. وكان يقضي على صاحب الإشارة بالافتقار إلى ذلك، وبالعجز عن بلوغ إرادته، وكان يقول ليس من حق المنطق أن تستعين عليه بغيره، حتى كلّمه إبراهيم بن بشار النظّام عند أيوب بن جعفر، فاضطره بالحجة، وبالزيادة في المسألة، حتى حرّك يديه وحلّ حُبوتَه، وحبا إليه حتى أخذ بيده. وفي ذلك اليوم انتقل أيوب من قول أبي شمر إلى قول إبراهيم"[26].

وفي هذه القصّة دلالة واضحة على أن العلامات غير اللغوية خير معين على التأثير في المتلقي وإقناعه، وقوله "كأن كلامه إنما يخرج من صدع صخرة" يعني افتقاره إلى الفاعلية والحيوية بسبب خلوه من الحركات والإشارات التي تجذب المتلقي وتزيد من تركيزه أثناء التخاطب وتعمّقه فيه وحسن تداوله وبالتالي نجاح التواصل.

ولعّل ابن حزم الأندلسي صاحب كتاب (طوق الحمامة في الألفة والألاف) أكثر من فصّل في فضل استخدام العلامات غير اللغوية عند العشاق والمحبين، ووظيفة كل علامة وإشارة، فكان من بين ما أورده باب عن الإشارة بالعين، بوصفها أوّل سهام الحب، عرض فيه مختلف الأغراض والمعاني من قبول ورفض، ووعد ووعيد وتهديد، وأمر ونهي، وتنبيه وسؤال وجواب، ومنع وعطاء، وتعبير عن فرح أو حزن، التي يتم التعبير عنها بالإشارة بلحظ العين، ولكل معنى من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ." فالإشارة بمؤخر العين الواحدة نهي عن الأمر، وتفتيرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها آية الفرح، والإشارة إلى إطباقها دليل على التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثمّ صرفها بسرعة تنبيه على مشار إليه، والإشارة الخفية بمؤخر العينين كلتاهما سؤال، وقلب الحدقة من وسط العين إلى الموق بسرعة شاهد المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين نهي عامّ"[27]. وكل هذه الأوضاع المختلفة للعين علامات غير لغوية يتواصل بوساطتها المحبون، فيعبرون بها عن المشاعر والأحاسيس التي تعجز اللغة عن التعبير عنها.

خلاصة البحث:
إنه وبعد البحث في وظيفة العلامات غير اللغوية ودورها في التواصل وتداول الخطاب، توصلنا إلى نتائج يمكن إجمالها في الآتي:

  • إن العلامات غير اللغوية التي هي جزء من اهتمامات السيمياء (الذي هو بدوره جزء من علم النفس العام وعلم الاجتماع) لها أبعاد نفسية واجتماعية تتعلق بالفرد ثم الجماعة المستعملة لها، وهو ما يعطي لكل نص أدبي أبعادا اجتماعية ونفسية، وتداوله تداولا ناجحا لأن في كل نص علامات لغوية ـ وهي مكونه الأساس ـ ومكونات غير لغوية داعمة للأولى تعاضدها في وظيفتها الدلالية التواصلية التداولية.
  • إن النص هو فعل أو حدث يحمل قوة انجازيّة معينة، ويفضي إلى إحداث أثر ما، كما أن هذا الحدث هو فعل تأثيري لحدث آخر، قد يكون نفسيا أو اجتماعيا، وتكون العلامات غير اللغوية جزءا من الفعل الإنجازي لتحقيق التأثير فكما أن هناك أفعالا لغوية هناك أفعال تنجز بعلامات غير لغوية تحقق إنجازا ولها أثر.
  • تشكل العلامات غير اللغوية مؤشرات سياقية، فكل نص يولد في سياق معين يحيل على كاتبه ومتلقيه ومناسبة تأليفه، غير أن العلامات غير اللغوية تزيد من فاعلية النص الأدبي لتمدّه بإمكانية العيش ضمن سياقات جديدة بعيدة كل البعد عن السياق الذي ولد فيه النص، فتساهم بذلك في إنشاء سياقات ممكنة أو متخيلة مما يضمن بقاء النص وخلوده، وتتضافر العلامات غير اللغوية مع عنصري الزمان والمكان لتبني إحالات مرجعية تسهم في تفسير النص وفك شفراته، فكل ما يقوم به المتكلم من إشارات أو ايماءات أثناء التواصل يساعد المتلقي في فهم النص وبناء تواصل ناجح وفعال، ويمكن أن يعوّض هذه العلامات غير اللغوية في النص النثري بعبارات شارحة مفسرة (الوصف مثلا)، كأن تكون بين قوسين مثل (أشارت بثوبها ... أو أضاء الغرفة لـ... إلخ) ليثبت أن الكلام والتخاطب لم يكن لفظيا، بل بإيماءة بطرف العين مثلا، أمّا في النص الشعري فإن هذه الإحالات المرجعية تعوض بالإحالات التخيلية التي تسمح ببناء العالم الممكن.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه العلامات غير اللغوية تدخل في علاقة مع الذات المرسلة والذات المتلقية حتى تنجح في تشكيل مرجعيات النص.

 

أستاذة محاضرة، جامعة الشهيد حمة لخضر، الوادي

sidiokba@hotmail.com

 

الهوامش:

[1]/ عفاف بنت عمر بن عبد الله العتيق، التواصل غير المنطوق في ديوان الخنساء دراسة في السيميائية العربية، مجلة الدراسات اللغوية، مج 16، ع1، محرم/ربيع الأول 1435ه، نوفمبر/ يناير 2014م، ص 151.

/ محمود السعران، علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، دت، ص63.[2]

[3]/ عفاف بنت عمر بن عبد الله العتيق، المرجع السابق، ص151.

/ أحمد مختار عمر، محاضرات في علم اللغة الحديث، عالم الكتب للنشر والتوزيع والطباعة، 1995، ص 119.[4]

/ محمد العبد، العبارة والإشارة دراسة في نظرية الاتصال، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2007، ص 100.[5]

/ محمد العبد، المرجع نفسه، ص 104.[6]

[7]/ جاب الله أحمد، العلامة والعمل المسرحي، محاضرات الملتقى الثالث السيمياء والنص الأدبي،19/20 أفريل 2004، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية جامعة بسكرة، ص 124.

/ محمود السعران، المرجع السابق، ص 65.[8]

/ De saussure , cours de linguistique générale, p 33 ;34.[9]

[10] / رابح بومعزة، كيفية تحليل البنية العميقة للنص الأدبي في ضوء المنهج السيميائي، محاضرات الملتقى الثالث السيمياء والنص الأدبي،19/20 أفريل 2004، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية جامعة بسكرة، ص 383.

/ رابح بومعزة، المرجع نفسه، ص383.[11]

/ عفاف بنت عمر بن عبد الله العتيق، المرجع السابق، ص 171.[12]

[13] / بيير غيرو: السيمياء، ترجمة: أنطون أبي زيد،ط1، 1984، منشورات عويدات بيروت، لبنان، ص،5.

/ جاب الله أحمد، العلامة والعمل المسرحي، ص125.[14]

[15] / مجموعة مؤلفين، طرائق تحليل السرد الأدبي دراسات، منشورات اتحاد كتاب المغرب، سلسلة ملفات 1992، ط1، الرباط، 1992، ص123.

/ المرجع نفسه، ص 123.[16]

[17]/ شهرزاد بن يونس، لغة الجسد في القرآن الكريم مقاربة سيميولوجية لحركتي العين واليد، مجلة العلوم الإنسانية، قسنطينة، الجزائر، ع43، مج ب، جوان 2015، ص 206.

/ ديوان عمر بن ربيعة، تحقيق عبد الرحمن المصطفاوي، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2007، ص 265.[18]

[19]/ آمال النخيلي، شعرية الجسد في الشعر العربي القديم من الجاهلية إلى القرن الثاني، دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 2012، ص 42.

/ الجاحظ (أبو عمرو بن بحر)، البيان والتبيين، تقديم وشرح علي بوملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2012، ص 82.[20]

/ عبد الفتاح الحموز، سيميائية التواصل والتفاهم غي التراث العربي القديم، دار جرير، عمان، الأردن، ط1، 2011، ص 139.[21]

/ عفاف بنت عمر بن عبد الله العتيق، المرجع السابق، ص 153.[22]

[23] / محمد كشاش، لغة العيون حقيقتها مواضيعها وأغراضها مفرداتها وألفاظها، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، 1999، ص 28.

[24]/ ابن جني (أبو الفتح عثمان)، الخصائص، تحقيق عبد الحميد هنداوي، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ج1، ص .73/74.

/ ابن جني، المرجع نفسه، ص 252.[25]

/ الجاحظ، المرجع السابق، ج1، ص 75.[26]

/ ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والألاف، ضبط سعيد عقيل، دار الجيل، بيروت، 2004، ص 52.[27]