يكشف الباحث التونسي هنا عن تداخل الخطابات وتغلغل استراتيجيات الفنون الأخرى في قصص الكاتب التونسي المرموق عزالدين المدني، كاشفا عن الجدل الخلاق بين البنية وما تسعى القصص للتعبير عنه من ناحية، وعن إضافات المدني لجنس القصة القصيرة من ناحية أخرى.

تداخل الخطابات والفنون في القصة القصيرة التونسية

«خرافات» لعز الدين المدني نموذجا

عبد الرزاق الحيدري

 

مقدمة:
تميز الكاتب عزالدين المدني[i] بتجربته الإبداعية المتفردة سواء بالنظر إلى المجالات التي تناولها إذ توزعت بين الأدب والصحافة والدراسات النقدية أو من خلال توظيف الأشكال التراثية المتنوعة في كتابة القصة القصيرة و المسرح[ii] وفق رؤية فنية جمعت بين التراث والحداثة وهو ما أكسب نصوصه دلالات جديدة ومتنوعة.

وفي هذا الإطار تعتبر مجموعته القصصية الموسومة بـ"خرافات"[iii] نقلة نوعية هامة في تاريخ الأدب التونسي عامة وفن القصة القصيرة خاصة. وتكمن وجوه التميز في أن صاحبها رفض التقيد بالقواعد الكتابية المحددة لهذا الجنس وتمرد على القوالب الجاهزة التي لا تستقيم – حسب رأيه- مع الممارسة الإبداعية باعتبارها توقا مستمرا نحو التجديد وخروجا عن المألوف. ومن ثمّ لا تستمد هذه الأقاصيص قيمتها الجمالية من توفر الخصائص الفنية الرئيسية لهذا الجنس ولا من المواضيع التي عالجتها فحسب، بل من سعي صاحبها إلى التساؤل والانطلاق نحو المجهول بتجريب صيغ جديدة أقامت جسورا بين عالمي الأدب والفن.

ورغم القيمة الفنية لهذه المجموعة القصصية فإنها لم تحظ بالدراسة الكافية مقارنة بالدراسات النقدية التي اهتمت بنشأة القصة القصيرة التونسية[iv] ومراحل تطورها سواء على مستوى الشكل أو المضمون.

في هذه الورقة العلمية الموسومة ب" تداخل الخطابات والفنون في القصة القصيرة التونسية: "خرافات" لعزالدين المدني أنموذجا" سنحلل الخطابات والفنون التي استلهمها المؤلف لينتج نصوصا تحتكم إلى تقنيات فنية غير مألوفة كما سنكشف عن القضايا التي طرحتها هذه المجموعة.

  1. التفاعل بين الخطابات:
    وظّف عزالدين المدني في هذه المجموعة أنواعا أدبية استلهمها من التراث خاصة مما يكشف عن رغبته في البحث عن التجريب والتطلع إلى استكشاف أشكال تعبيرية جديدة متحررا بذلك من البنية التقليدية التي تقوم على مقدمة وتأزم وتوازن. فغايته كانت البحث عن الشكل المناسب لتبليغ المضمون. ومن أهم المصادر التي استلهمها الكاتب لتأليف مجموعته القصصية نذكر:
    1. الخرافة:
      تفيدنا المعاجم بأن الخرافة هي "أسطورة أو قصة قصيرة ذات مغزى أخلاقي ومغامرة غير عادية وجذابة"[v] وهي " الحديث المستملح الكذوب"[vi]. وردت هذه اللفظة بصيغة الجمع في العنوان الرئيسي للمجموعة (خرافات) وحضرت في عنوان النص الأول:" فتوح اليمن أو خرافة رأس الغول"[vii] بالإضافة إلى التصدير الذي حدد تعريفها:" الخرافة: الحديث الباطل مطلقا (القاموس)".

تكتسي هذه العناصر أهمية باعتبارها "نصوصا موازية" للمتن القصصي و"عتبات نصية" اضطلعت بوظيفة التأسيس للنص وتحديد انتمائه الأجناسي إلى الخرافة كما أبرمت ميثاق قراءة معين مع القارئ[viii] وخلقت لديه أفق انتظار محدد. وبالإضافة إلى ذلك أحالت على قصدية المدني الذي يبدو متمردا على الشكل التقليدي للقصة القصيرة ومتملصا مما سيرويه في المتن في نفس الوقت ذلك لأنه اختار تفسيرا لغويا يعتبر الخرافة ضربا من الباطل والكذب وسكت عن المعنى الآخر الذي يعتبر الخرافة حديثا مستملحا.

وتدور أحداث هذه الخرافة الشعبية حول قصة "العجوز الوافرة" مع "رأس الغول" الذي ادّعى النبوّة وطغى وتجبر وقتل زوجها وبناتها ونكّل بها فلجأت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتستقوي به فأجارها وتكفل "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه بالقضاء على "رأس الغول" في معارك ضارية "ولكن لم تكد تطلع شمس هذا اليوم المشؤوم حتى استشهد الإمام علي بن أبي طالب متأثرا بجروحه البليغة وحوله الحسن والحسين وبعض الفرسان والحراس"[ix]. ومن ثمّ كانت النهاية مفاجئة وتميزت بـ"حدّة المنقلب" وهي خاصية تحيل على كتابة القصة القصيرة التي غالبا ما تنغلق بلحظة اشتداد (un moment de renforcement) تتأزم فيها الأحداث وتتعقد لا بلحظة ارتخاء (un moment d’affaiblissement).

كسرت هذه النهاية أفق انتظارات السامعين وصدمتهم وولّدت لديهم ردود فعل عنيفة علّق عليها الراوي بقوله:" وإن أنسى فلا أنسى ما جرى للمداح يومئذ عقب السرد. فلقد هاجت عليه الحلقة فقذفته بالحجارة وضربته، ولكمت غلامه، وعبثت بقرده، ومزقت بنديره الداوي شر تمزيق. لأنها لم ترض بالخاتمة فيما يبدو"[x].

من هنا جاز لنا القول بأن عزالدين المدني قد نهل مادته الحكائية من التراث الشعبي والأدب الشفوي غير أنه لم يحافظ على نفس المادة المستنسخة بل غيرها مما يدل على أنه تعامل معها "باعتبارها مادة ثقافية يمكن تحويلها، أو منجما معرفيا يصلح التنقيب فيه أو حقلا دلاليا ثمة حاجة إلى أن يقلب ويعاد حرثه"[xi].

كما توفرت في هذه القصة الشعبية عناصر شدتها إلى جنس الخرافة باعتبارها مغامرة غير عادية تثير الدهشة والعجب: ففي المستوى الحكائي أدرج المدني شخصيات خرافية مثل "المخارق الملقب برأس الغول" الذي ادعى النبوة وابنه "المقلقل" " و"الربّ فراش" الذي أمر"رأس الغول" بمقاتلة "اليربوعي" لأنه يعارضه في الأمر، وينازعه في الحكم، ويشاغبه في النظام، ويؤلب عليه الرعاع والسفلة والداصة الهجناء والأبناء، ويحمش الفتنة[xii]. كما حضرت شخصيات تراثية إسلامية مثل "الرسول صلى الله عليه وسلم" و"علي بن أبي طالب" و"الزبير بن العوام".

وبالإضافة إلى ذلك اتسمت الأحداث بالطول والتعدد وانتظمت وفق ترتيب تصاعدي خطي غابت عنه الاسترجاعات والاستباقات فضلا على أنها قامت على المبالغة. يقول الراوي واصفا إحدى المعارك بين الجيشين:" ثم حمل الإمام علي كرم الله وجهه حملة هاشمية على الأعداء، ومعه المسلمون يهللون ويكبرون فقتل مائتين. ومازال الدم يبذل، ونار الحرب تشعل إلى أن قرب الليل، فرجع كل فريق إلى مكانه. وكان الرابح في ذلك اليوم الإمام علي كرم الله وجهه، لأنه قتل من الكفار أربعة ألاف فارس وسبعمائة"[xiii].

وفي المستوى الخطابي حافظ المدني على شكل الراوي في القص الشفوي المستمد من التراث التونسي إذ استدعى شخصية شعبية جسدها "المداح"[xiv] الذي كان يروي قصصه في الساحات والمقاهي أمام حلقة من السامعين لتسليتهم. مثل "المداح" همزة الوصل بين خارج الخرافة وداخلها، بين عالم الواقع المرتبط بالزمن الحاضر حيث يقدم العرض للجمهور وعالم التخييل المحيل على أحداث ممتدة في الزمن الماضي البعيد فنسج بذلك علاقة تفاعل بين الحكايتين. كما نقل أطوار الحكاية عن سلسلة من الرواة وهم "الشيخ أبو الحسن" و"ابن إسحاق" و"ابن العباس" وشخصيات مشاركة في الحكاية مثل "العجوز الوافرة" بالإضافة إلى راو عليم مضمر يروي بضمير الغائب والذي يمكن أن نعتبره قناعا للمؤلف.

وبذلك تجاور صوت "المداح" مع أصوات الرواة والشخصيات الخرافية والتراثية. اضطلعت تلك الخطابات المنقولة بوظيفة السرد والتعليق وأضفت سمة الدينامية على عملية القص فكسرت خطية السرد ورتابته وجعلت الجمهور يتابع الأحداث بحيوية ومتعة.

قام هذا النص الخرافي على التعدد الصوتي الذي يعني أن "أي قول يقال يشمل على أصوات وآراء منسوبة إلى آخرين غير الذي قال القول"[xv] وهو أسلوب قديم يحضر في رواية الأخبار والأحاديث وغيرها وقد حقق به المؤلف وظيفة الإيهام بالواقع أو ربما سعى بواسطته إلى جعل العهدة على عاتق من روى. ومن ثمة تغدو هذه الخرافة في بعدها الشكلي خاصة نموذجا للتفاعل مع التراث الذي " لا يمكن أن يكون منتجا إلا إذا كان يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع واقعه أي الواقع الذاتي الذي لا يزال يتفاعل مع التراث باعتباره امتدادا ثقافيا وروحيا"[xvi].

أما إذا نظرنا إلى بنية هذه القصة الشعبية فإنها تنسجم مع البنية العامة للخرافة التي تنهض على ثلاث مراحل رئيسية: وضع البداية وسياق التحول (الإساءة، النقص وسد والنقص) ووضع النهاية. اتسم الوضع الأول في "خرافة رأس الغول" بحالة من التوازن حيث يقول الراوي ناقلا أقوال العجوز الوافرة وهي تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:" "أنا امرأة يقال لي الوافرة بنت الصوام اليربوعي. كان زوجي سيد قومه وعشيرته"[xvii]. كانت العجوز تعيش مع عشيرتها صحبة زوجها وبناتها في حالة من السكينة إلى أن تعرضت للإساءة حين مرت "بماء على مقربة من منازل ملك ظالم يلقب برأس الغول، وهو طاغية مشرك يعبد الأصنام"[xviii] فيعتدي على زوجها اليربوعي وعائلتها ويقبض عليهم فينكل بهم ويقتل زوجها ويذبح بناتها ويسجن باقي الرجال. أما العجوز فقد قطع ذوائبها وعلقها في عنقها وعلق رؤوس بناتها في عنق بعير[xix]. ولدت هذه الإساءة لدى العجوز حالة من النقص سعى الرسول إلى سدها وترميها حين ثأر لها من "رأس الغول" وأعاد إليها حالة التوازن من جديد.

دفعت النهاية المفاجئة التي انغلق بها النص المؤلف عزالدين المدني إلى التعليق عليها ومعارضتها بالاعتماد على مراجع تحيل على الخطاب التاريخي .

1-2) الخطاب التاريخي:
ورد هذا الخطاب في الدور الثالث من "خرافة رأس الغول" وقد اضطلع به المؤلف لتكذيب رواية المداح وتعويضها بالرواية التاريخية. يقول عزالدين المدني معلقا على هذه الخرافة:" سمعت هذه الخرافة الشعبية من أحد المداحة في أيام صباي. [...] وهذه رواية غريبة لم أظفر بها من بين ما وقع في يدي اليوم من الطبعات التي تروي هذه الخرافة"[xx].

يؤشر هذا المقطع إلى رغبة المدني في التنصل مما نقله عن المداح واستمع إليه في صباه. ولذلك توصل بعد قراءته للمراجع التاريخية الإسلامية إلى أن ما رواه المداح خاطئ. يتابع المدني:" ومرت أعوام على تلك الحادثة. ودخلت المعهد، ودرست التاريخ الإسلامي، فتبين لي أن ما رواه المداح جله خاطئ. وطالعت كتاب "فتوح البلدان" "للبلاذري" حتى وصلت إلى هذه الصفحة: أمر الأسود العنسي ومن ارتد معه باليمن"[xxi] . يستند المؤلف في هذا المقطع على براهين وحجج استقاها من مرجع تاريخي مستعملا أسلوب المعارضة حين أبدل شخصية "رأس الغول" بشخصية تاريخية مرجعية هي الأسود العنسي" الذي "تكهن وادعى النبوة فاتبعه عنس. [..] واتبعه أيضا قوم من غير عنس، وسمى نفسه رحمان اليمن"[xxii]وتمرد على الأنبياء إلى أن قتل. كما دعم المدني حججه بكتب "المغازي والسير" التي تحدثت عن فتح اليمن وكيفية قتل علي بن أبي طالب. يقول المؤلف:" وطالعت أيضا كتبا جمة عن علي بن أبي طالب وقد أثبتت كلها ما يلي:"أن عليا لم يلق مقاومة في طريقه إلى اليمن [..] وأنه يقتل في اليمن بل اغتاله عبدالرحمان بن ملجم كما هو معلوم"[xxiii].

كشفت هذه الأدلة عن بطلان رواية المداح الذي أخرج النص عما هو متعارف عليه في القصة. ومن ثمة جاز لنا القول بأن هذا النص الأدبي قام على التركيب بين الخطابات (أي الجمع) وتداخل البعدين التخييلي والمرجعي ذلك لأن المؤلف قدم في مرحلة أولى القصة- الخرافة على لسان "المداح" ثم عارضها ودحضها في مرحلة ثانية مستندا على المراجع التاريخية. حضر المؤلف في هذا القسم حضورا مباشرا باحثا عن أسباب تحوير نهاية الخرافة ومستعيدا جزءا من حياته بأسلوب السرد الاستعادي الذي يحيل على كتابة السيرة الذاتية حيث يلوح عزالدين المدني شغوفا في صباه بسماع الخرافات، مترددا على حلقات المداحة "بباب جديد، ونهج المر، وباب الجزيرة". وحين دخل المعهد أصبح قادرا على التمييز والتمحيص متتبعا تطور الحكاية من المشافهة إلى التدوين.

وبذلك تكشف قصة "فتوح اليمن أو خرافة رأس الغول" عن سعي المدني إلى تجريب أسلوب جديد يقوم على دمج وتضايف ما هو من جنس التراث الأدبي والتخييلي مع ما هو تاريخي وواقعي.

    1. الحكاية الشعبية:
      لم تتجسد النزعة التراثية في مجموعة "خرافات" من خلال "خرافة رأس الغول" التي وظف فيها عزالدين المدني أشكالا قصصية منشدة إلى التراث الشعبي والتاريخي فحسب، بل حضرت كذلك في أقصوصة أخرى موسومة ب:" مدينة النحاس"[xxiv] وهو عنوان استلهمه المدني من "حكايات ألف ليلة وليلة".

تدور أحداث هذه الحكاية حول أحد العيون (الجواسيس) الذي سقطت به طائرة مع مجموعة من الركاب في جزيرة نائية ومجهولة. يسجن أهل الجزيرة الركاب ويأخذونهم إلى مدينة "ليس بها ديار، بل معامل، ومتاجر، ومغازات، وشوارع، ومداخن، وسيارات رابضة على الأرصفة، وحدائق.."[xxv]. وأثناء الزيارة يلاحظ (الجاسوس) "أناسا يعملون في حوانيت من زجاج بحذر بالغ"[xxvi] ويكتشف أن "مدينة النحاس " هي مركز للتجارب النووية ثم يخبر "وزير الدفاع" بالأمر فيتكفل بإرسال مجموعة من الجواسيس لجمع المعلومات حول هذا المركز ولكنهم انتهوا إلى الفشل الذريع والموت.

ولئن صاغ المدني أحداث هذه الحكاية بطريقة لا تستجيب للمقومات الفنية للأقصوصة[xxvii] وأثار قضايا معاصرة لا صلة لها بالنص الأصلي فإنه أخرج المحتوى الجديد في شكل قديم يحيل على أسلوب "ألف ليلة وليلة". ومن مظاهر المحاكاة تقسيم حكاية "مدينة النحاس" إلى مجموعة من الليالي تبتدئ بـ "الليلة السابعة والثمانين بعد المائتين (مكرر)" وتنتهي ب" الليلة السادسة والتسعين بعد المائتين (مكرر)".

كما حضرت في النص شخصيات تراثية تنقلنا أسماؤها مباشرة إلى حكايات"ألف ليلة وليلة" مثل شخصيات "شهرزاد" و"شهريار" و" دنيا زاد". ولم يقتصر حضورها على الاسم فحسب بل امتد إلى طريقة روايتها للأحداث التي هيمن عليها الأسلوب القصصي الشعبي المتسم بالتشويق. يستهل الراوي الحكاية بقوله:" قال الملك شهريار لزوجته شهريار:" ما أطيب حديثك، وألطفه، وأعذبه. وإني لأحب أن أسمع خرافة طريفة تزيل عن بالي شواغل اليوم".

فقالت شهرزاد:" سمعا وطاعة يا مولاي، ألم تسمع بخرافة مدينة النحاس؟ فهي أمتع الخرافات المملوءة بالأعاجيب، والعفاريت، والشياطين، ما سمع بها بشر قبلك، يا مولاي. لقد وقفت عليها في مطالعاتي الجمة المنقوشة في لوحة الزمان"[xxviii] . قام هذا المقطع على ثنائية الطلب والاستجابة التي طبعت بنية الحكاية الشعبية. كما حافظت الشخصيات على نفس الأدوار إذ اضطلعت شهرزاد بوظيفة الراوي وشهريار بوظيفة المروي له.

وبالإضافة إلى ذلك استلهم المدني الافتتاحية من الحكاية الشعبية إذ غالبا ما تستهل شهرزاد الحكي في "مدينة النحاس" بعبارة "...بلغني أيها الملك السعيد"[xxix] عاقدة "ميثاقا حكائيا مع المتلقي [..] وهي من أكثر العبارات الاستهلالية الدالة على أن شهرزاد لم تنشئ حكايتها وإنما اقتصرت على نقل ما ذكره غيرها..."[xxx]. كما ينغلق القص مع نهاية كل ليلة بعبارة مسكوكة وراسخة في هذا الضرب من القص التراثي وهي:" وأدركت شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح"[xxxi]. ومن ثمة نتبين أن هذه الصيغ الأدائية المتواترة في بداية النص ونهايته تشده إلى جنس الحكاية الشعبية.

من هنا جاز لنا القول بأن هذه الأشكال التراثية بتجلياتها الخرافية والتاريخية والحكائية تنزل مجموعة "خرافات" في مرحلة التجريب التي قامت على تيارات متنوعة من أهما "تيار استحياء التراث العربي التقليدي، التاريخي أو الشعبي حتى يضفّر الكاتب عمله بشرايين الفولكلور، أو يبتعث الحكاية الشعبية، ويمتح من رصيد غني في الذاكرة الجماعية للناس"[xxxii]. فالعناصر التراثية الموظفة لم تكن مجرد أدوات للزينة والتوشية بل أصبحت مكونا عضويا في نسيج النص الذي اتخذ بواسطتها شكلا فنيا جديدا.

    1. القصة القصيرة:
      حضر هذا النوع القصصي في قصة "اختلاس"[xxxiii] التي قامت على تقنيات جديدة تنسجم مع الكتابة القصصية الغربية الحديثة ومن ثمة تخلى عزالدين المدني عن الأساليب الفنية المستلهمة من الأنواع التراثية القديمة ( الخرافة، الحكاية الشعبية، الخطاب التاريخي).

في هذا النص يتابع المدني مسيرة بطله (ع) وهو يتجول في البطحاء وأثناء هذه الرحلة التي تمت في النهار والليل تعترضه أحداث شتى مثل حادثة البائع المتجول وحادثة المقامرين واعتداء قطاع الطرق عليه واسترجاعه لأيام الدراسة والشباب. يقول الراوي:" لم يدرك "ع"، [..]، كيف تذكر على حين غفلة، أنه تعلم إصلاح الساعات من العطب يوم كان صبيا. كيف طفت هذه الذكرى في نفسه؟"[xxxiv]. وفي موضع آخر يقول:" لم ينتبه كيف تذكر على حين غفلة صاحبه أحمد الذي يعيش منذ سنوات في بلا الغربة..."[xxxv]

لم تنتظم الأحداث وفق نظام خطي سببي بل وردت مشتتة ومنغلقة إذ تمحورت حول شخصية البطل الذي كان ينقل أحلامه وهواجسه وأفكاره مستبطنا ذاته وما تعيشه من حالات نفسية كالإحساس بالاضطراب والحيرة والملل والانفصال عن الجماعة فهو يقول:" إني أعيش على العنف والتحدي"[xxxvi]وفي موضع آخر: "إني أعيش على موتي"[xxxvii]. ومن ثمة غلبت على هذا النص تقنيات "تيار الوعي" مثل التداعي الحر والتذكر وهو ما ساعد الشخصية على الولوج إلى عالمها الداخلي والكشف عن مأساتها الوجودية في الزمن الحاضر.

وإضافة إلى ذلك سعى عزالدين المدني إلى الاستفادة من الفنون الأخرى.

  1. التفاعل بين الأدب والفنون:
    وظف عزالدين المدني في أقاصيصه المشاهد المسرحية واللوحات الفنية والموسيقى كاشفا بذلك عن الحدود المرنة بين الآداب والفنون وهو ما يعني أن ظاهرة التفاعل بين مختلف الأشكال التعبيرية تبدو أمرا ضروريا تستوجبه الممارسة الإبداعية ذاتها لأن كل نص هو "نتاج مركّب موجود سلفا، وأن أي نص هو تحويل لهذا المركب"[xxxviii].
    1. الرسم :
      نستعمل الرسم في هذا السياق بالمعنى المجازي ونعني به "الكتابة البصرية" أو "الرسم بالكلمات" ذلك لأن الأديب يمكنه أن يشكّل مشهدا معينا باستعمال العبارات اللغوية فيرتسم المعنى صورة حسية أو لوحة فنية تبصرها العين. وبالتالي يمكن لهذا الضرب من الرسم أن يخترق كل الأنواع الأدبية ويتلون بخصائصها كما يقوم أساسا على وصف الموضوعات وخاصة الأمكنة بتجزئة عناصرها ليأتي القارئ ويعيد تنضيدها وتركيبها حتى تستوي الصورة مكتملة في ذهنه.

وتبرز هذه الظاهرة الفنية المتميزة في مقدمات بعض الأقاصيص خاصة: ففي أقصوصة "خرافة رأس الغول" يستهل القص بمقطع طويل هو بمثابة فاتحة تأطيرية. يقول الراوي:"شمس ربيع بيضاء الشعاع كذائب الزجاج تتدحرج متكاسلة، في بطحاء منبسطة معفرة، حولها عمارات عالية متشابهة، على يمينها حوانيت نصف مهدمة[..] وحوانيت أخرى على أبوابها وقدامها صناديق الغلال والخضر، وعلى شمالها مقهى عتيق، على كراسيه المسوسة المبققة كهول خاملون، وشيوخ يحلمون، وشبان عاطلون قد اجتمعت على مآقيهم وأفواههم وكؤوسهم الدبقة جحافل من الذبان الأزرق الضاري، في بعض جنباتها صبيان ومراهقون يلعبون بالخذروف، بالكرة، بالعصي، بالحجارة، باللعب الفارغة. ونساء حول الصنبور العمومي الوحيد يتخاصمن بين الفينة والفينة يثور في وسطها حلقة متصاغرة متكاثفة من خليط البشر، قطر دائرتها رجل طويل مضطرب الخلق، عليه جبة بالية بيضاء الكتفين، في رجليه صندل بدون لون، أنفي الصوت، متفاوت النغمة، شعبي الكلام، بجانبه ولد، وبجانب الولد قرد في عنقه حديد مشدود بالأرض، يحك جربه، وبجانب القرد بندير قديم"[xxxix].

في هذا المقطع الوصفي رسم عزالدين المدني المشهد العام فكثف من استعمال الظروف المكانية المؤطرة له (حولها، على يمينها، قدامها، على شمالها، في بعض جنباتها، قطرها، بجانب..). كما احتوى هذا الفضاء جملة من المكونات مثل (العمارات العالية المتشابهة، الحوانيت نصف المهدمة، صناديق الغلال والخضر، المقهى، الكراسي المبققة، الكهول الخاملون، الشيوخ، الشبان العاطلون، الصبيان، والنساء حول الصنبور العمومي الوحيد، الكلاب الغادية الرائحة القذرة النابحة، العجاج....). تدل هذه الإشارات على طبيعة الجو العام المتسم بالعجز والخمول في بيئة شعبية فقيرة وبسيطة كما أنها تضفي سمة الواقعية على العرض.

وبالإضافة إلى ذلك تخير المؤلف المفردات بدقة ونسّق بينها وركبها بطريقة متميزة لا تختلف عن ريشة الرسام وخلطه للألوان ليقدم للقارئ لوحة فنية متكاملة العناصر قامت على التدرج من الأعلى (الشمس) إلى الأسفل (المداح) والانتقال من المجرد إلى المحسوس فغدت هذه الوقفة الاستهلالية نموذجا لتداخل الأدب والرسم بالكلمات وهو ما أضفى طابع الإيحاء والحيوية على المشهد العام.

وفي أقصوصة " استعداد للرحيل"[xl] يفتتح النص بهذا المقطع الوصفي:" الجو متقلب. الريح بحرية ندية تنتفخ لوالب في أعالي الآفاق. السماء ملطخة بزرقة غامقة، حائلة مترجرجة، ببياض وسخ منتشر على سحب متكدرة، متجمعة، منعزلة، في أحد أركان الفضاء بجمرة طينية، دبقة، سائلة، منطفئة، منحدرة خلف الروابي. روائح التوابل، الياسمين، البنزين ممتزجة، فائحة. جارح مغامر معمر، طويل العنق، مترنح، رتيب الحركة، رائح. العصافير بين الأغصان مختبئة، مصفرة. ألوان الخريف مهرجان: على أوراق الأشجار، على قشور الغلال، على ثياب الحسان، على عيون اليافعات.."[xli]

قامت هذه الافتتاحية على جمل قصيرة حددت الموصوفات وصفاتها وقد استعمل المدني لغة مكثفة إيحائية وقريبة إلى وهج الشعر وما يثيره في النفس من مشاعر متدفقة فغدت الكتابة لوحة فنية تبصرها العين.

من هنا جاز لنا القول بأن عزالدين المدني استهل بعض أقاصيصه[xlii] بوقفات وصفية تشبه اللوحات الفنية وهو ما يعني أن "ثمة وحدة فنية تجمع بين الفنون وأن علاقة تراسلية ضمنية متحققة بين الإبداعات الجميلة المختلفة من شعر وموسيقى ورسم وفنون أدبية تنتمي إليها من قصة ورواية ومسرحية ونحت"[xliii].

    1. المسرح الشعبي:
      تناول عديد الدارسين الظاهرة المسرحية واعتبروها ليست جديدة عن الفنون النثرية القديمة فانبروا "يتصيدون منها ما يشبه الفن المسرحي كمقامات الهمذاني أو الحريري أو كالنوادر والسير ويبحثون في مختلف الحفلات كالتي تقع في القصور أو خارجها كـ"خيال الظل" و"الكاراكوز"[xliv]. ومن ثم تلوح لنا العلاقة بين الخرافة باعتبارها شكلا أدبيا و"المسرح الشعبي" أو "فن التمثيل" ثابتة وجديرة بأن تدرس في إطار تفاعل الأدب مع الفنون خاصة وأن عزالدين المدني يعد من رواد المسرح التراثي.

ويعتبر "المداح" فنا شعبيا عاد إليه عزالدين المدني ليبتعثه من مدافن النسيان مستلهما خصوصياته وعناصره ليقدم بواسطته "خرافة رأس الغول" ويوظف بذلك "الفن التمثيلي" لتشكيل النص الجديد وهو ما يبين أن عملية تضمين الخطابات والفنون في مجموعة "خرافات" وتقديمها في قالب مشاهد مستقلة "لم تحصل صدفة أو اتفاقا وإنما نبعت من اختيار وعمل واعيين تطلع من خلالهما الكاتب إلى المبدع والطريف"[xlv]. في هذا النص توفرت إشارات ركحية مثلت العناصر الفرجوية أو عناصر الديكور المستوجبة في العرض المسرحي الشعبي ومنها:

  • تقسيم النص إلى ثلاثة أدوار (أجزاء) تحيل على المناظر المسرحية وهذه التقنية تنسج علاقة تفاعل بين النص الأدبي ممثلا في الخرافة وطريقة عرضه المنسجمة مع فن المسرح الشعبي.
  • وحدة المكان: إن اختيار البطحاء كفضاء مفتوح لسرد الخرافة دليل على رغبة عزالدين المدني في مسرحة النص الأدبي بالاعتماد على "مسرح الحلقة" بهدف تحرير العروض من الفضاءات المنغلقة وكسر الحاجز بين الممثل والمتلقي والاقتراب أكثر من المتفرجين والالتصاق بهمومهم ومشاغلهم.
  • وحدة الزمان: دام العرض فترة زمنية وجيزة ( الضحى والعشية) استطاع خلالها المداح أن يقص حكاية رأس الغول مستخدما تقنيات التلخيص والقفز على فترات طويلة في الخرافة. كما وظف المدني تقنية التزامن بين الحكاية الإطار (العرض) والحكاية المضمنة (خرافة رأس الغول) جاعلا المتفرج يعايش زمنين أو أكثر في وقت واحد.
  • تحديد الشخصيات: هي عناصر العمل الفرجوي حيث يجد المتفرجون أنفسهم إزاء ركح قريب منهم يؤثثه المداح والولد (البندير) والقرد. ويبرز "المداح" "عليه جبة بالية بيضاء الكتفين، في رجليه صندل بدون لون، أنفي الصوت، متفاوت النغمة، شعبي الكلام. توسط الحلقة وكان بجانبه ولد، وبجانب الولد قرد في عنقه حديد مشدود بالأرض[..] وبجانب القرد بندير قديم"[xlvi].

يقف المداح وسط الحلقة ليسرد القصة الشعبية على الجمهور ويتولى تنظيم العرض. فهو الممثل الرئيسي إذ تخفى وراء الشخصيات الخرافية والتاريخية وتقمص أدوارها وحدد لكل منها قسما من الحوار ونقل أصواتها جامعا بذلك بين أسلوبي السرد والحوار إلى درجة يصعب فيها تمييز صوته عن بقية الأصوات. ومن ثمة نلاحظ أن هذه العناصر (المداح، الحلقة، الجمهور) هي عناصر المسرح الشعبي الذي كان يعرض في الفضاءات المفتوحة مثل الساحات والمقاهي والأسواق.

يفتتح "المداح" الحكاية بعبارات راسخة في القص الشعبي التونسي:" يا سادة يا مادة ! يدلنا ويدلكم على الخير والشهادة ! كلامنا بالترتيب أحسن عجيب ! أنا وأنتم نصلي على النبي الحبيب ! "[xlvii]. ثم يتابع سرده بمقطع رسم من خلاله جسد صبية غاية في الجمال:" على أبيك حديدان مديدان بنى دكان بالزبدة والعطربان، يحب صبية بيضاء وطرية مثل السمن في المخفية، جبينها هلال شعبان، حواجبها خطوط أقلام، عيونها غزلان، خدودها قشور رمان، أنفها كعبة بان، أسنانها فضة ولغبها مرجان، رقبتها جمارة في جنان..."[xlviii]. يتقاطع هذا المقطع الوصفي مع فن الشعر ذلك لأن المرأة كثيرا ما يستهل بها الشاعر قصيدته لشد السامع.

لقد مسرح المداح خرافة "رأس الغول" من خلال طريقة عرضها ذلك لأنه كثيرا ما يستهل سرد الأحداث بعبارات تحث السامعين على الإنصات. يقول:" يا ناس! يا مؤمنين ! يا موحدين ! اسمعوا بقية حكاية فتوح اليمن المعروفة برأس الغول !"[xlix]. ومن ثم وظف المؤلف تقنيتي المداح والحلقة ليغدو المسرح شعبيا في تناوله للقضايا والمشاكل وينهض أساسا على سرد قصة شعبية مستمدة من التراث وهو ما يعني تجاوز التركيب المألوف للعرض المنغلق وتقديم العروض في فضاءات أصيلة ومفتوحة.

كما نرى "المداح" في مواضع عديدة من الخرافة يخاطب" الولد" و"القرد" بقوله:"اعزق البندير يا ولد ! [..] البندير، يا ولد" اضرب البندير يا ولد ! ارقص يا قرد!.." فيجيب الولد (البندير):" تجتدق دق ! تجتدق دق ! تشتتقدق ! تشتتدق ! تشدق ! تجتدق ! تجتدق ! تجتدق!"[l].

تحيل هذه الإيقاعات الموسيقية على الجوقة الناطقة في العروض المسرحية وقد استخدمها المداح في بداية كل دور أو في ثنايا السرد. كما استعان بالسجع وتكرار بعض العبارات التي وظفت للتشويق وجعل السامع ينخرط في الإصغاء للحكاية.

لا شك أن هذا العرض الذي أثثته عناصر سمعية وبصرية وتزيينية وتداخل فيه السرد مع الحوار والوصف والموسيقى والرقص والرسم يمكن أن نعتبره مسرحية متكاملة ذات الممثل الواحد[li] الذي أداها "المداح" وقد ساعده "البندير" (الموسيقى) والقرد (الرقص). وهذه العناصر الفنية خلقت جوا شعبيا احتفاليا وممتعا إذ تحول الجمهور من مجرد سامع سلبي للخرافة إلى متفرج بل ومشارك فيها وذلك حين تدخل وثار على المداح رافضا النهاية التي اختارها للخرافة.

لقد قامت عملية التأليف على تفاعل الأدب والفن ولم يكتف فيها عزالدين المدني "باستخدام المداح، أو مسرح الحلقة أو التركيب الدرامي على نمط المقامات بحيث يصبح العرض مزيجا من فن التمثيل وفن الرواية، [..] بل نجد العودة إلى الشخصيات والمواقف التي تميز الفنون الشعبية في عروض البهلوانات والأراجوزات والمقلدين والحكواتية، كما نجد العودة إلى منابع التراث في القصص الشعبي والمقامات وألف ليلة وليلة وإلى شكل السامر الشعبي الذي [غالبا] ما يتحقق في مسرح حلقة مفتوح"[lii]. ومن ثم استخدم المؤلف فن السرد القصصي القديم من خلال شخصية المداح (الحكواتي أو الفداوي) ليمسرح بواسطته خرافة "رأس الغول"" فالمعالجة قامت على المزج بين الشكل القصصي الشعبي والفن المسرحي الذي قام في نشأته على مفهوم "المحاكاة" لتقديم عرض يغلب عليه الجو الاحتفالي ويتحقق بذلك البعد الفرجوي وما يستوجبه من عناصر ومؤثرات سمعية وبصرية.

من هنا جاز لنا القول بأن عزالدين المدني ابتكر أساليب جديدة لكتابة القصة القصيرة التي قامت على التفاعل بين الأدب والفنون ذلك لأنه لم يكتف باستلهام الخطابات التراثية فحسب بل نهل من المسرح الشعبي واستخدم مختلف مكوناته مثل المداح والحلقة والركح والموسيقى والرقص والصور الشعرية والتركيب الدرامي للأحداث كما وظف الرسم في بعض الافتتاحيات ليعالج قضايا معاصرة.

  1. القضايا المطروحة في "خرافات":
    عالج عزالدين المدني في هذه المجموعة القصصية جملة من القضايا أهمها:

3-1) القضايا الفنية:
استخدم المؤلف في "خرافات" تقنية التركيب بين الخطابات والفنون والذي " لا يتعلق بأخذ عناصر جاهزة أو أجزاء من عناصر جاهزة وبوضعها في ترتيب معين وإنما يتجاوز ذلك إلى إعطاء هذه العناصر توظيفات ودلالات في الأثر الجديد مختلفة عن دلالالتها السابقة ولا يكون ذلك نتيجة الحوار الجديد الذي وضع فيه هذا العنصر أو ذاك فحسب وإنما يتم الأمر أساسا بإجراء تحويرات داخلية تمس جوهر هذه العناصر المستعملة استجابة لمقتضيات الأثر الجديد"[liii]. فالسمة الفنية المهيمنة على المجموعة تكمن في سعي المدني إلى إنتاج نصوص مركبة تستلهم عناصر تراثية وفنية "فتقاس الطرافة ومداها بأهمية النقلة النوعية التي تنشأ في الأثر المستحدث بالنسبة للآثار السابقة"[liv] والفنون الموظفة.

كما وظف المدني تقنيات فنية أخرى مثل محاكاة الشكل القصصي التراثي وتحويل المحتوى والإشارة إلى خلفية الخطاب المستحضر وهو ما يحيل على وعيه بـ "عدم انغلاق النص على نفسه وانفتاحه على غيره من النصوص، وذلك على أساس مبدإ مؤداه أن كل نص يتضمن وفرة من النصوص المغايرة فيتمثلها ويحولها بقدر ما ويتعدد بها على مستويات مختلفة"[lv]. لذلك تلاقت الروافد الأدبية والفنية في هذه المجموعة وحققت للأثر جمالية مميزة "فهدف الفنون على اختلاف مسمياها وتصنيفاتها، والأجناس الأدبية على تعددها ينحصر في تحقيق الأثر الجمالي في المتلقي أيا تكن مجال تلقيه سواء أكان الحاسة البصرية في الرسم أم الذهنية في القراءة مثلما هي السمع في الموسيقى "[lvi]. ومن ثم فإن التفاعل بين الفنون والأنواع الأدبية يبدو حقيقة واضحة في هذه المجموعة القصصية وهذا ما ينفي الحديث عن "وجود ملكية النص والأبوة النصية" على عبارة رولان بارت[lvii] .

وتحيل هذه الرؤية الفنية على الخلفية النظرية التي انطلق منها صاحب المجموعة لتجريب طريقة جديدة في الكتابة. وفي هذا الإطار يبدو عزالدين المدني مسكونا بهاجس التجريب والبحث المتواصل عن طرائق كتابية جديدة تقوم على التجاوز وترفض التبعية والاستسلام. فهو لم يبحث من وراء هذه المجموعة عن المتعة واللذة فحسب بل كان يسعى إلى "الخلق الفني" الذي يعني لديه:" الانطلاق من المعلوم إلى رحاب المجهول، والانصراف الكلي عن المعروف بعد اكتسابه، والخروج تماما عن المألوف، والتمرد عن المبتذل، وكسر المحنط، والدخول بكل جسارة في مجازفة أدبية ومغامرة فنية"[lviii].

كما تكشف هذه الرؤية الجديدة في الأدب والفن عن حرص عزالدين المدني على "مراجعة متأصلة وعميقة للنظريات الأدبية والفنية وتوسيع نطاقها وتعميق أهدافها حتى تبتعد الابتعاد الكلي عن الأدب الساذج والفن العفوي"[lix]. لذلك رفض الكاتب الاتجاهات الأدبية والفنية المورثة من الماضي أو المتأثرة بالتيارات العربية المشرقية أو الغربية داعيا إلى اعتماد اتجاه جديد هو "الخط التجريبي الذي يعتمد على ما ينقذه من متاحف الماضي، وما يقتبسه من نبراس الغرب اليوم من علوم إنسانية وفلسفة وآداب وفنون وذلك مع مقتضايات المعاصرة لا مع متطلبات الماضي"[lx] . وبذلك لا ينهض الاتجاه التجريبي لديه على تأصيل الكتابة الأدبية وامتلاك التراث فحسب، بل على تطويرها والمزج بين الأدب والفن والاستفادة من أنواع الكتابات الأجنبية والقديمة واستعمالها بطرق جديدة حتى يكون الأدب ناطقا باسم العصر والتقدم.

3-2) القضايا الاجتماعية:
برزت هذه القضية في أغلب الأقاصيص ومثلت إحدى الغايات الرئيسية التي شدت العمل إلى الواقع. ومن ثم كان عزالدين المدني مسكونا بهاجس التجريب من جهة والتعبير عن قضايا المجتمع التونسي في تلك الفترة من جهة ثانية.

وتعتبر قضية الفقر والبطالة من القضايا الاجتماعية الهامة التي سعى المؤلف إلى الكشف عنها. ففي خرافة "رأس الغول"، مثلا، يبرز عزالدين المدني حالة أناس القاع والمهمشين الذين اكتظ بهم المقهى والبطحاء ( شيوخ يحلمون، شبان عاطلون قد اجتمعت على مآقيهم وأفواههم وكؤوسهم الدبقة جحافل من الذبان الأزرق الضاري، صبيان ومراهقون يلعبون بالخذروف، بالعصي، بالحجارة، نساء حول الصنبور العمومي الوحيد يتخاصمن، وكلاب غادية، رائحة قذرة نابحة..).

كما تجسدت حالة الفقر في هذه الأقصوصة من خلال عمل المداح الذي كان يلتجئ إلى الارتزاق والمتاجرة بالكلام:" الشر كافر بالله ! الصغار جياع في الدار وما أكل أحد منهم ! خذ هاك العشرين، خذ آك العشرة، آك الدورو الأبيض الصالح في النهار الأسود"[lxi].

وفي أقصوصة "اختلاس"، يصف الراوي الحالة المزرية للباعة المتجولين وبائعي التذاكر وماسحي الأحذية والعاطلين ثم ينقل لنا مشهدا آخر للعوز والخصاصة فيقول:" وهذه المرأة العجوز البدوية النحيلة التي ترضع أحد أولادها الثلاثة في حجرها، وهم قاعدون جميعا على حرف الرصيف كالسكارى، وعليهم ثياب رثة، وسراويل مرقعة، ومعاطف قذرة، وقد علا وجوههم المصهودة شيء كالكآبة والبؤس أو بالأحرى كالعار؟"[lxii]. ومن ثم يبدو المدني صوتا جهيرا حاول أن ينقد تلك الأوضاع الاجتماعية المزرية.

كما عالج المدني قضايا أخرى كالنزوح والتفاوت الطبقي وانتشار الجهل والدجل والإيمان بالخرافات والمعتقدات البالية التي سخر منها ودعا إلى التحرر من كل مظاهر الاحتياج والتدثر بالخرافة والاستكانة والعجز.

3-3) القضايا السياسية:
وظف عزالدين المدني المادة التراثية الأدبية والفنون في مجموعته القصصية ليعالج قضايا سياسية راهنة. وفي هذا الإطار بدا ساخرا من الأنظمة السياسية الفردية التي كانت قائمة في فترة الستينات. لذلك رفض مفهوم "البطولة الفردية" القائمة على صورة الزعيم الملهم وانتصر للقيم الإنسانية المشتركة ومنح أهمية "للبطولة الجماعية" وهذه النظر الجديدة تبدو طبيعية إذا علمنا أن مجموعة "خرافات" قد ظهرت في فترة تاريخية عرفت فيها البلاد التونسية تجربة التعاضد التي اهتمت بمشاغل المجموعات البشرية.

وفي أقصوصة "مدينة النحاس"، استلهم المدني الشكل القصصي التراثي من حكايات "ألف ليلة وليلة" ليخدم بواسطته قضايا معاصرة مستبدلا بذلك الخيال الحكائي بالخيال العلمي. لذلك تحضر في هذه الأقصوصة قرائن تحيل على الدولة البوليسية التي تقوم على المراقبة مثل "الجواسيس" الذين اكتفى المدني بتعيينهم بحروف وأرقام (س. أ. ن. 003، أ. س. ن 005...) كما نجد أيضا "رئيس مجلس الدولة" و"رئيس الاستعمالات السرية" و"وزير الدفاع". وبذلك يرفض المدني أسلحة الدمار التي تنتجها مراكز البحوث النووية.

خاتمة :
نستنتج مما تقدم أن مجموعة "خرافات" لعزالدين المدني هي عمل أدبي طريف ومتفرد سلك فيه المؤلف طريقا إبداعية غير مألوفة إذ تجاوز القواعد الصارمة واتجه إلى التجديد خاصة على مستوى الشكل مستفيدا من فنون مختلفة غير الأدب مثل المسرح والرسم والرقص والموسيقى والفن الشعبي. كما انفتح هذا الأثر على وهج الشعر ولغته المكثفة وتفاعل مع الوقائع التاريخية والإرث الأدبي والديني حتى لكأنه قد استحال نصا جامعا اندغمت في بنيته روافد متنوعة. وبذلك تكشف هذه الرؤية عن الكتابة التجريبية التي تهتك الحدود الفاصلة بين الآداب والفنون لتقيم علاقات تضايف وتفاعل بينها وتخلق بذلك جمالية الأثر من تضافر جميع المكونات فيستقيم الأثر الإبداعي وقد تشرب عناصر فنية تبدو متباعدة ومختلفة عن الأدب وهضمها في بنيته الجيدة. كما استخدم المؤلف تقنيات شتى مثل المحاكاة والتحويل والتركيب خاصة ليطرح قضايا فنية واجتماعية وسياسية متنوعة.

 

أستاذ مساعد بجامعة تونس

 

[i] عزالدين المدني هو من مواليد 6 جوان 1938 بتونس العاصمة.

[ii] انظر مسرحياته: ديوان الزنج (1970)، ثورة صاحب الحمار(1971)، الحلاج (1973)، الغفران (1977).

[iii] عزالدين المدني: خرافات، سراس للنشر، سلسلة إبداع، تونس، 1968.

[iv] في هذا الإطار يرى أغلب الدارسين أن تطور القصة القصيرة التونسية قد مر بعدة مراحل أهمها: مرحلة التحسس والبحث، مرحلة الانطلاق، مرحلة التجديد، مرحلة الأقصوصة الفنية (جماعة تحت السور)، مرحلة التيار الرمزي التجريبي. لمزيد التوسع، انظر:

  • محمد صالح الجابري: مجلة قصص، جانفي، 1967، ص. 32
  • عمر بن سالم: مجلة قصص، أكتوبر، ديسمبر، 1992، ص. 93
  • الصادق قسومة: الأقصوصة، مقوماتها وعينات من بداياتها، الأطلسية للنشر، تونس، مارس 2009، ص. 39 وما بعدها

[v] المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، ط. 1، 2000، ص. 378

[vi] ابن منظور، لسان اللسان، المجلد الخامس، دار صادر، بيروت، ط. 2، 2000، ص. 52

[vii] خرافات، م. س. صص. 5-23

[viii] معجم السرديات، تأليف جماعي: محمد القاضي وآخرون، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين،2010، ص. 461

 

[ix] خرافات م. س. ص. 19

[x] م. ن. ص. 20

[xi] علي حرب : أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر، دار الطليعة، ط. 1، بيروت، 1994، ص. 83

 

[xii] خرافات، م. س. ص. 10

[xiii] م. ن. ص. 17

[xiv] تعرف هذه الشخصية في تونس بـ"الفداوي" وقد ارتبط اسمه خاصة بعبدالعزيز العروي (ت سنة 1971) الذي كان يروي قصصا وحكايات شعبية باللهجة العامية التونسية وقد تحولت هذه العروض إلى سلسلة إذاعية عرفت ب"حكايات عبدالعزيز العروي". ثم تواصل هذا الفن مع مبدعين آخرين أمثال "رشيد قارة" الذي قدم حكايات للأطفال. وفي مراحل لاحقة، انتقل هذا الفن الفرجوي إلى مهرجانات الخرافة والحكاية والمسرح والقصة وقد برز فنانون شبان مثل "خالد شنان" و"كمال بوزيدي".

[xv] معجم السرديات، م. س، ص, 101

[xvi] سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي، رؤية للنشر والتوزيع، 2006. ص. 230

[xvii] خرافات، م. س. ص. 9

[xviii] م. ن. ص. 9

[xix] م. ن. ص. 11

[xx] م. ن. ص. 20

[xxi] م. ن. ص. 20

[xxii] م. ن. ص. 20

[xxiii] م. ن. صص. 22-23

[xxiv] م. ن. صص. 58-73

[xxv] م. ن. ص. 60

[xxvi] م. ن. ص. 60

[xxvii] يرى صبري حافظ أن الأقصوصة تتميز بوحدة الأثر أو الانطباع ولحظة الأزمة واتساق التصميم. لمزيد التوسع، انظر دراسته المعنونة بـ: "الخصائص البنائية للأقصوصة"، مجلة فصول، مج. 2، ع. 4، يوليو، أغسطس، سبتمبر، 1982، القاهرة، صص. 27 و28

[xxviii] خرافات، م. س. ص. 58

[xxix] م. ن. ص. 58

[xxx] فوزي الزمرلي: شعرية الرواية العربية، مركز النشر الجامعي، كلية الآداب بمنوبة، تونس، 2002، ص. 42

[xxxi] خرافات، م. س. صص. 58 و 61 وما بعدها.

[xxxii] إدوار الخراط: الحساسية الجديدة، مقالات في الظاهرة القصصية، بيروت، لبنان، دار الآداب، 1993، ص. 18

[xxxiii] خرافات، م. س. صص. 76-86

[xxxiv] م. ن. ص. 78

[xxxv] م. ن. ص. 84

[xxxvi] م. ن. ص. 83

[xxxvii] م. ن. ص. 85

[xxxviii] سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي، م. س، صص. 53- 54

[xxxix] خرافات، م. س. ص. 6

[xl] م. ن. صص. 102- 113

[xli] م. ن. ص. 102

[xlii] انظر كذلك افتتاحية أقصوصة " اختلاس"، خرافات، م. س. صص. 76- 87

[xliii] د. طاهي دغيلب: "العلاقة بين الفنون"، دراسة إلكترونية، انظر الموقع: www.al-jazirah.com

[xliv] نقلا عن محمد المديوني: مسرح عزالدين المني والتراث، دار سحر، تونس، 1992، ص. 15. لمزيد التوسع في هذه المسألة يمكن الرجوع إلى:

  • سليمان قطاية: المسرح العربي: من أين وإلى أين، آفاق عربية، تشرين الثاني، 1977، ص. 55
  • محمد حسين الأعرجي: فن التمثيل عند العرب، الموسوعة الصغيرة، ع. 27، منشورات وزارة الثقافة والفنون، 1978

[xlv] محمد المديوني : مسرح عزالدين المدني والتراث، م. س. ص. 10

[xlvi] خرافات، م. س. ص. 6

[xlvii] م. ن. ص. 6

[xlviii] م. ن. ص. 6

[xlix] م. ن. ص. 13

[l] م. ن. ص. 13

[li] يذكر أسامة فرحات أن المسرحية ذات الممثل الذي تساعده جوقة ناطقة قد برزت على يد الممثل جوهان براندير ( 1735- 1799). لمزيد التوسع، انظر كتابه: المونولوج بين الدراما والشعر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، ص 20 وما بعدها

[lii] نقلا عن د. جميل حمداوي، دراسة إلكترونية بعنوان: المسرح التونسي والفضاء الركحي والسينوغرافي.

[liii] محمد المديوني: مسرح عزالدين المدني والتراث، م. س، ص. 65

[liv] م. ن. ص. 10

[lv] حسين خمري: فضاء المتخيل، مقاربات في الرواية، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2002، ص. 101.

[lvi] د. طاهي دغيلب: "العلاقة بين الفنون"، دراسة إلكترونية، م. س.

[lvii] نقلا عن جميل حمداوي. انظر دراسته المذكورة سابقا.

[lviii] عزالدين المدني، الأدب التجريبي،الشركة التونسية للتوزيع، تونس، 1972، ص. 8

[lix] م. ن. ص. 9

[lx] م. ن. ص. 10

[lxi] خرافات، م. س. ص. 13

[lxii] م. ن. ص. 80