تمهيد
لا نبالغ إذا قلنا إن الكثرة الكثيرة منا لا تكاد تعرف شيئا عن الأدب الموريتاني؛ قديمه ومُحْدَثه، قصيده ونثره. ولعل هذا ما حدا أحد الباحثين على وسْم هذا الأدب بـ"الحلْقة المجهولة" في سلسلة الأدب العربي. والحق أن لبلاد شنقيط كياناً أدبياً قائماً يشترك مع عموم الأدب العربي في أمور عدة، بقدر ما يستميز منه بخصائصه الأثيلة التي هي نَتاج بيئته ومحيطه الشامل. ومحاولة منا لتقديم صورة –ولو تقريبية وعامة– عن الأدب الموريتاني ونقده، ارتأينا أن ندبّج هذه الورقات التي هي –في الواقع– قراءة واصفة لإحدى الدراسات الموريتانية المعاصرة القيمة التي نهضت بعبء التعريف بأدب الشناقطة قديمه وحديثه، عامّيه وفصيحه، إبداعه ونقده جميعا.
لقد اتجه اهتمام الدرس النقدي العربي ردْحا غير يسير من الزمن إلى آداب المركز (مصر والشام والعراق خاصة)، فتناولها تناولا شاملا، وكتب عنها دراسات وأبحاثا غزيرة ومتنوعة. على حين لم يلتفت إلى آداب الأطراف/ الهوامش إلا لماما وعرضا. ولذا كان نصيب الأقطار المغاربية عامة والقطر الموريتاني خاصة من ذلك الدرس ضئيلا جدا، وذلك لاعتبارات سياسية وجغرافية وثقافية. وهكذا، ظهرت بعض الأصوات في موريتانيا تنحو باللائمة على أدباء المشرق ونقاده وتعيب عليهم تغييبهم أدب موريتانيا وتهميشه وإقصاءه من اهتمامهم. والواجب أن قضية التعريف بالأدب الموريتاني يجب أن ينهض بها أبناء موريتانيا ودارسوها، ولا ينبغي لهم أن يركنوا إلى الراحة والخمول منتظرين قيام الآخرين بالتنقير في تراثهم الفكري والأدبي والتعريف به. وهذا الأمر ينسحب على سائر الأقطار المغاربية، وهكذا ألفينا مثلا الأستاذ عبد الجبار السحيمي يكتب في الأعوام السبعين مقالا في صحيفة (العلم) يتهم فيه النقد المشرقي بالنظرة الشوفينية الضيقة لتعامله مع أدب المشرق دون أدب المغرب[1].
لا شك في أن ثمة جملة من المثبطات والصعوبات التي تقف في طريق الأدب الموريتاني، وتجعل الاقتراب منه، والتعرف إليه، وتكوين نظرة حقة عنه أمرا عسيرا. ومنها على سبيل المثال أن أغلب أدب موريتانيا ما يزال مخطوطا حبيس الرفوف في الخزائن الخاصة، والمكتبات العمومية، والخزانات التابعة للزوايا والتي يَضِنُّ القائمون عليها على القراء والمثقفين ولا يخرجون كنوزها للناس ولا يسمحون للدارسين بالاطلاع عليها وتحقيقها ونشرها. وإذا لم يبادر المتوفرون على هذه الكنوز بتحقيقها وطبعها وإذاعتها بين الناس، أو تمكين الجهات المختصة من ذلك، فإنهم سيتحملون جريمة اندثارها أمام الأجيال القابلة. بل يجب في مثل هذه الحال أن تتدخل السلطة السياسية لإرغام هؤلاء الذين يحتكرون هذه المخطوطات على تسليمها للدارسين المحققين، أو إغرائهم قصد بيعها للخزانات العمومية. لأن هذه المخطوطات إنما هي ملك للجميع، ولا يجوز الاستحواذ عليها وإخفاؤها. ثم إن من شأن تحقيق هذه الكنوز وطبعها ونشرها أن تؤدي إلى تغيير جملة من الأحكام التي أمست "مسلمات" في دنيا النقد العربي. يضاف إلى هذه الصعوبة صعوبات أخرى؛ منها أن كثيرا من الأدب الموريتاني قد تعرض إلى الإحراق والنهب على يد المستعمرين، وضاع حظ كبير منه نظرا لغياب الحفظ والصيانة وقلة التدوين. أضف إلى هذا الصعوبات القبلية، ونَدرة وسائل النشر...إلخ.
وبالرغم من هذه العراقيل جميعها، وبدافع من الغيرة والعزيمة الأكيدة على التعريف بأدب موريتانيا والبحث عن مكانة تليق به ضمن خارطة الأدب العربي، قام عديد من الدارسين الموريتانيين في العقود الأخيرة وشمروا عن سواعد الجد والاجتهاد والبحث تحدوهم الرغبة في تقديم صورة لائقة بأدب بلدهم، فظهرت –نتيجة لذلك- دراسات وأبحاث ومقالات قيمة تصب في هذا الإطار. وقد لاحظ الأستاذ أحمد ولد حبيب الله في مقدمة كتابه (تاريخ الأدب الموريتاني) أن التعامل مع الأدب الموريتاني أخذ منحيين اثنين، هما:
أ- منحى يعتبر الأدب الموريتاني كتلة من المفاهيم والأحداث والقيم التي ينبغي أن تظل محروسة أو أسرارا قبلية أو مقدسات لا يجوز نبشها وإذاعتها أو مجرد الاقتراب من حرمتها وحرمها، ويجب أن تبقى مستقلة عن الوجود أو الوعي الموريتاني المعاصر. و"هذا منحى موجود بالقوة على حد تعبير المناطقة[2]".
ب– منحى يرى أنه يجب التعامل مع الأدب الموريتاني من منظور علمي بحث ومن منظور الوعي بالحاضر والإدراك للوجود الآني. وهذا المنحى هو الذي يجب أن يسير فيه البحث الجاد والرصين، وهو الذي ينبغي أن يسود المشهد الثقافي الموريتاني إذا أريد له الخروج من مآزقه. علاوة على هذا، فهو –كما يقول أحمد ولد حبيب الله– "المنحى الذي يخيل إلينا أنه هو الممكن علميا وعمليا[3]".
ولعل من أهم الدراسات التي شهدتها الساحة النقدية الموريتانية المعاصرة دراسة الأستاذ أحمد بن حبيب الله المعنونة بـ"تاريخ الأدب الموريتاني"، وهي دراسة ضخمة الحجم، إذ تقع في حوالي ثلاث وثمانين وسبعمائة صفحة من القِطْع المتوسط، وقد صدرت في طبعتها الأولى عام 1996 بدمشق ضمن منشورات اتحاد كتاب العرب. وهي عبارة عن خلاصة جامعة للمجهودات التي بذلها الدارسون والباحثون الموريتانيون في سبيل تأريخ الأدب الموريتاني وتأصيله وتصنيفه. وهي الدراسة التي نعتزم في هذه الورقات المحدودات تقديم قراءة مركزة لها.
لقد استهل أحمد ولد حبيب الله دراسته بمقدمة طويلة بعض الشيء (من ص5 إلى ص17) خصها بالتعريف بأدب موريتانيا، وأومأ فيها إلى أهمية موضوع بحثه وصعوباته الجمة، واستعرض في ثناياها جهود الدارسين السابقين في هذا المضمار، وذكر مظانه الرئيسة المعتمدة في صوغ مواد بحثه وعناصره مُجْمِلا إياها في أربع دراسات رأى أنها تمثل –بحق– محاولات رائدة وجادة في مجال البحث في أصول الأدب الموريتاني وتطوره؛ ويتعلق الأمر بدراسات ولد أَبَّاهْ وابن احميدة وابن الحسن وابن عبد الحي. وعرض الباحث في هذه المقدمة كذلك المحاور البارزة لدراسته، ودعا الدارسين العرب بعامة والموريتانيين بخاصة إلى مزيد من الجُهد والجَهد وتنسيق أعمالهم بغية النهوض بالأدب الموريتاني ورد الاعتبار إليه بعد مدة طويلة من التهميش والتغييب...إلخ.
وبعد الخطاب المقدماتي، ينتقل الباحث إلى الحديث عن فصول كتابه الستة فصلا فصلا. وفيما يلي سنقف عند هذه الفصول كلها محاولين تقديم خلاصة مركزة لكل واحد منها على حدة، ومناقشة بعض القضايا البارزة فيها. ولتكن البداية بالفصل الأول.
* * *
الفصل الأول: الإطار العام للأدب الموريتاني
لقد تحدث الباحث في هذا الفصل –بإفاضة– عن الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلت الإطار العام الذي نشأ في أحضانه الأدب الموريتاني وتطور انطلاقا منه.
فمن الناحية التاريخية، تكلم الباحث عن موريتانيا قبل دخول الإسلام إليها حين كانت إيالة خاضعة للرومان، وعنها في ظل رحمة الإسلام، وعن وقوعها تحت نير الاستعمار الغاشم، وأخيرا عن استقلالها وظهورها باعتبارها كيانا سياسيا مستقلا منذ 1960م.
اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ دخول الملة الإسلامية إلى موريتانيا؛ فذهب بعضهم إلى أنها دخلت المنطقة في عهد الفاتح عقبة بن نافع الفهري (ق1ﻫ)، وذهب آخرون إلى أن ذلك وقع بعد عهد عقبة، وقال بعض المؤرخين إن الإسلام ولج موريتانيا في زمن المرابطين الملثمين الذين تمكنوا –بفعل جهادهم المتواصل ورباطهم الصادق– من تكوين إمبراطورية مترامية الأطراف تمتد على مساحة شاسعة في شمال أفريقيا وغربها والأندلس. وقد دخلت اللغة العربية موريتانيا مع دخول الإسلام إليها باعتبارها الوعاء الحامل لهذا الدين الحنيف. فتعربت المنطقة تعربا شاملا كما يصرح بذلك أحمد ولد حبيب الله، ورحب العلماء الموريتانيون وغيرهم بلغة العرب، وأقبلوا عليها تعلما وتعليما، وأولوها عناية كبيرة، بل إن العلامة محمد فال بن مُتَالِي آثر تعلم اللغة العربية على التفرغ للنوافل. وفي ارتباط مع هذا الموضوع، وقف الباحث عند تاريخ دخول الصوفية إلى موريتانيا وظروفه، مشيرا إلى أن ذلك تم ابتداء من القرن 11ﻫ، وكان على طريقة الجُنَيْد، فظهرت زوايا عدة مارست سلطة روحية بالغة، ودخلت في حروب فيما بينها أو بينها وبين القبائل. والحق أن تحديد تاريخ دخول الإسلام أو العربية أو التصوف إلى بلاد شنقيط (موريتانيا) أمر صعب جدا؛ لأن أقوال المؤرخين والباحثين في هذا الصدد تضاربت وتباينت، ولأن كثيرا من التراث الفكري والأدبي الموريتاني قد تعرض إلى الضياع والتلف أو ما يزال مخطوطا حبيس رفوف الخزانات الخصوصية والقبلية والعمومية. والراجح أن الدين الإسلامي واللسان العربي قد دخلا المنطقة في القرون الإسلامية الأولى بوسيلتين رئيستين، هما: التجارة والدعوة السلمية. ويتأكد لنا هذا الأمر خصوصا إذا علمنا أن موريتانيا كانت تابعة لسلطان المغرب الأقصى وأنها جزءا في كيان منطقة الغرب الإسلامي التي وصلتها الدعوة الإسلامية في القرن الهجري الأول على يد الفاتحين الأُوَّل.
لقد دخلت موريتانيا خلال الفترة الممتدة ما بين ق6 وق14ﻫ ما يسمى (عهد الإمارات)، حيث كانت موزعة بين عدد من الإمارات والقبائل في ظل غياب حكم مركزي. ويحكي لنا التاريخ كثيرا من الحروب والمعارك المبيرة التي كانت تنشب بين هذه الإمارات من جهة، وبينها وبين الزوايا من جهة أخرى، ولعل من أشد هذه الحروب ضراوة وفتكا الحرب المعروفة "بحرب شُرْبُبَّه" التي انتهت سنة 1678م. ومن أقوى هذه الإمارات بنو حسان ذوو السلطان السياسي والعسكري. والحسانيون إمارات عدة، أبرزها: إمارة أولاد امبارك التي تأسست في ق9ﻫ بزعامة أوديكه الأقرع، وإمارة النزارزة التي أسسها هدي بن أحمد بن دمان سنة 1040 للهجرة، وإمارة آدرار في أطار التي تأسست عام 1158ﻫ على يد عثمان ولد لفظيل.
ومن الناحية الاجتماعية، يؤكد أحمد ولد حبيب الله أن المجتمع الموريتاني "تركيبة اجتماعية لا عرقية"، إذ يتشكل من زخم من القبائل والزوايا التي تقاسمت السلطة الزمنية والروحية في موريتانيا التي عانت مرة طويلة انعكاسات غياب السلطة المركزية الرادعة.
وفي الجانب الثقافي والأدبي، استرسل الباحث في الحديث عن المراكز العلمية التي كانت منتشرة في موريتانيا، أمثال: شنقيط التي أسست في القرن الهجري السابع، وولاته، وأوداغست، ووادان... إلخ. وقد كان لها أثر جلي في نشر الثقافة والمعارف التي شهدت ازدهارا ملحوظا في القرون 12 و13 و14 للهجرة. وإذا كان دارسو الأدب العربي يتحدثون عما أسموه (عصر الانحطاط) باعتباره عصر جمود فكري وركود مس الأدب العربي في ظل خضوع جل أمصار الأمة العربية للنفوذ التركي، فإن أدب موريتانيا كان يعيش نهضة ثقافية وأدبية بارزة الصُّوى في هذه المرحلة، وهذا بشهادة عديد من الباحثين. يقول أحمد ولد حبيب الله: "في الوقت الذي كان فيه الأدب العربي يمر بمرحلة ضَعف وجمود في ظل خضوع معظم الوطن العربي للحكم العثماني... كانت بلاد شنقيط أو موريتانيا تشهد نهضة أدبية وثقافية وفي مختلف العلوم العربية والإسلامية، تجلت في كثرة الشعراء والمؤلفات"[4].
ويقول محمد طه الحاجري (ت 1988م): "...على أن الصورة الأدبية التي نراها لشنقيط في هذين القرنين (18-19م) جديرة أن تعدل الحكم الذي اتفق مؤرخو الأدب على إطلاقه على الأدب العربي عامة في هذه الفترة، فهو عندهم –وكما تقتضي آثاره التي بين أيديهم– أدب يمثل الضعف والركاكة والفُسُولة في صياغته وصوره ومعانيه. فهذه الصورة تمثل لنا الأدب الشنقيطي في وضع مختلف يأبى هذا الحكم أشتد الإباء. فهو –في جملته– أدب جزل بعيد عن التهافت والفسولة"[5].
هذه صورة عامة ومقتضبة عن الإطار العام للأدب الموريتاني الذي يشترك من وجهة مع الأدب العربي عامة في جملة من الأمور لأنه جزء لا يتجزأ من صرحه. ومن وجهة أخرى، فهو سيتميز بجملة من الخصوصيات التي هي نتاج طبيعي لمجموعة من الظروف والعوامل.
* * *
الفصل الثاني: مصادر الأدب الموريتاني وقيمتها التاريخية والعلمية.
لا نبالغ إذا قلنا إن أزيد من 90% من التراث الفكري والأدبي لموريتانيا ما يزال محجوبا عنا، وذلك لاعتبارات عديدة. فكثير منه قد ضاع في الحروب الداخلية المتعددة، ونصيب مهم منه قد تعرض إلى النهب والإحراق من قبل المستعمر الفرنسي، وما هو مخطوط من هذا التراث كثير جدا. ومن
العوامل المباشرة التي أسهمت في ضياع كثير من أدب موريتانيا كون الموريتانيين يعتمدون اعتمادا كبيرا، في حفظ تراثهم وصيانته، الذاكرةَ والرواية الشفوية. يقول الشاعر: (البسيط التام)
عليك بالحفظ دون العلم في كتب * * * فإن للكتب آفات تفرقها
اللص يسرقها والفأر يخر مها * * *والنار تحرقها والماء يغرقها[6]
ويقول أحمد ولد حبيب الله: "على أن الشيء المؤكد هو أن دور الكتابة أو التدوين في المحافظة على التراث الموريتاني ليس دورا رئيسيا، لأن حاجة القوم عامة إلى التدوين والكتابة كانت قليلة إذا ما قورنت بنزعة الحفظ السائدة. وبناء على ذلك، يمكننا أن نتخيل ضياع الكثير من التراث الموريتاني، خاصة ذلك الموغل في القدم. وقد يكون نصيب الشعر من الضياع والاندثار كبيرا، لأنه –من ناحية – كان يخلد تقاليد وصراعات قبلية ومثالب اجتماعية يتورع عن حفظها وعن تدوينها الشعراء إذا كان هجاء فاحشا أو فيه مس بمكانة القبيلة أو الشيخ الصوفي، ولأنه – من ناحية أخرى – كان ذا قيمة سامقة في الثقافة الموريتانية"[7].
أطلقت مجلة (العربي) الكويتية عام 1967 على موريتانيا (أو بلاد شنقيط) مقولة "بلد المليون شاعر". فأين هذا الشعر، وهذا الأدب بعامة؟ قد يجاب بأن معظمه قد ضاع. ولكن الثابت أن منه ما نجا من براثن الضياع؛ وهنا نتساءل: أين يمكن أن نقرأ هذا النصيب الذي وصل إلينا من الميراث الأدبي الموريتاني؟
لقد بذلت موريتانيا بعد حصولها على الاستقلال السياسي بعض المجهودات الرامية إلى تجميع مخطوطات تراثها الفكري والأدبي وتحقيقها ونشرها بغية التعريف بأدبها الذي طالما عانى التهميش والإقصاء. وقد أنشأت لهذا الغرض بعض المؤسسات والمراكز العلمية. وهكذا، ففي سنة 1974 تم إنشاء "المعهد الموريتاني للبحث العلمي". ولكنه ظل مشلولا عن القيام بمهامه العلمية لأساب مادية وإدارية وعلمية، منها:
- ضعف الإمكانات المادية المتاحة لاقتناء المخطوطات وصيانتها.
- انعدام الخبراء في مجال تجميع المخطوطات وحفظها وترميمها وتصنيفها وتحقيقها.
- طبيعة العقلية الموريتانية التي تأبى التنازل عما لديها من مخطوطات بالبيع أو بالإهداء. وتعدها من جملة المقدسات والأسرار التي لا ينبغي للغريب الاطلاع عليها أو تشويهها.
- انعدام الوعي العلمي والحضاري والتجاري بقيمة المخطوط وإحيائه ونشره.
ورغم هذا كله، فقد استطاع هذا المعهد أن يحقق بعض المخطوطات، وأن ينشر بعض الكتب والأبحاث، وأن يصدر مجلة دورية أسماها (الوسيط). كما تمكن المعهد من جمع أزيد من 6000 كتاب مخطوط، وحوالي 2500 ميكرو فيلما، وما يربو عن 600 ملف للشعراء.
إن المصادر والمراجع التي تتناول الأدب الموريتاني قليلة، ولا تقدم –في مجملها- أشياء كثيرة عن أدب موريتانيا شعرا أو نظما أو نثرا. فمن هذه المظانّ كتاب (نيل الابتهاج بتطريز الديباج) لأحمد بابا التمبكتي السوداني الذي حوى شذرات يسيرة عن ذلك الأدب. وهناك بعض المصادر المعروفة على صعيد الأدب العربي أوردت إشارات عن تاريخ موريتانيا الأدبي والثقافي والحضاري. يقول الباحث الموريتاني يحيى ولد محمدن: " فلولا آثار البكري وابن عِذاري المراكشي وابن الأثير والسيوطي وابن خلدون والكعتي والسعدي والسلاوي وعبد الله عنان لما عثرنا على هذه الأشلاء من تاريخنا السياسي والثقافي والحضاري..." أما المراجع التي يمكن أن نقرأ بين دفاتها أدب شنقيط، فإنها تتفاوت في قيمتها العلمية، وتتفاضل في المنهاج ووفرة المادة والأخبار والقدم والقرب من المنابع الأصلية. وقد حاول الباحث أحمد ولد حبيب الله أن يصنف هذه المراجع إلى أنواع، منها:
-أ- مراجع وطنية عامة: أي الكتب التي ألفها باحثون موريتانيون عن أدب بلدهم العام. ومن هذه الكتابات المطبوعة والمتداولة بين الناس نذكر:
- كتاب (فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور[8]) لابن بنان البرتلي: وقد حققه وقدم له الأستاذان محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي (ت 2003م)، وطبع عام 1981 في بيروت. ويعد أقدم كتب التراجم والسير الموريتانية التي وصلت إلينا، وقد تعرض – بالترجمة والتعريف – إلى مائتي (200) شاعر ومؤلف من القرنين 11 و12 للهجرة.
- كتاب (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) لأحمد بن الأمين الشنقيطي المتوفى بالقاهرة سنة 1913م. وقد طبع هذا الكتاب أربع طبعات؛ الأولى عام 1911، والثانية عام 1958، والثالثة عام 1961، والرابعة عام 1989 (بعناية فؤاد سيد، أمين المخطوطات بدار الكتب المصرية). وترجم الأستاذ مراد تفاحي أجزاء منه إلى الفرنسية. ويضم الوسيط 82 ترجمة لأدباء شناقطة من القرنين 12 و13 هـ. ومما يلفت النظر في هذا الكتاب أن صاحبه قد اعتمد بدرجة كبيرة –صياغة فقرات كتابه وترجماته– ذاكرتَه وحافظتَه.
- كتاب (الشعر والشعراء في موريتانيا) للدكتور محمد المختار ولد أباه: وقد ضمنه حوالي 6000 بيتا من الشعر، وأصدره في تونس عام 1987م. وأوضح في مقدمته منهج تأليفه، وأنه أثبت فيه هذا القدر من الشعر لأكثر من مائة (100) شاعر ينشر لأول مرة ولم يرد منه شيء في وسيط الشنقيطي اتقاء التكرار. كما أورد شعرا لبعض شعراء الوسيط لم يكن معروفا. وحاول أن ينتقي اختياراته الشعرية من مختلف الجهات والقبائل الموريتانية.
-ب- مراجع مرقونة: ويقصد بها الباحث الدراسات والبحوث العلمية والدواوين التي يتم تحقيقها في إطار أعمال ذات طابع أكاديمي سواء داخل موريتانيا أم خارجها. ومن ذلك نذكر ما يلي:
- (نشأة الشعر الفصيح في بلاد شنقيط): هذه الدراسة –في الأصل- رسالة جامعية تقدم بها الأستاذ عبد الله حسن بن احميدة لنيل درجة الماجستير، وقد نوقشت في جامعة القاهرة عام 1986. وتقع في 245 صفحة من الحجم الكبير. وتتكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.
- (الشعر الشنقيطي في القرن 13 هـ): هذه الدراسة أعدها الأستاذ أحمد جمال بن الحسن لنيل دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة تونس عام 1987. وفيها حوالي ألف (1000) صفحة موزعة بين ثلاثة مجلدات. وقد ترجم فيها صاحبها لثلاثة عشر شاعرا بارزا في القرن الهجري الثالث عشر.
- (التجديد في الأدب العربي بموريتانيا في العصر الحديث): هذه الدراسة رائدة في بابها باعتراف عدد من الباحثين. وهي –في الأصل – أطروحة جامعية تقدم بها الأستاذ محمد ولد عبد الحي لنيل د.د.ع من الجامعة التونسية عام 1989. وتقع في 292 صفحة من القطع الكبير.وتتألف بنيتها من مقدمة وخاتمة وستة فصول.
- ديوان امحمد بن الطلبه: وقد حققه الأستاذ أحمد جمال بن الحسن في إطار أطروحة جامعية ناقشها بتونس عام 1980. وفي هذا الديوان حوالي أربعة أبيات وألف بيت.
- ديوان محمد اليدالي: وقد جمعه وحققه وقدم له الباحث ولد أكاه، ونال به درجة علمية سنة 1980 من المدرسة العليا للأساتذة بموريتانيا.
- ديوان محمد ولد ابْنُ ولد احميدة: وقد جمعه وحققه ووضع حواشيه الأستاذ أحمد ولد حبيب الله، وذلك في إطار عمل جامعي نوقش بجامعة القاهرة عام 1988م.
-ج- مراجع مغربية: تتحدث بعض المراجع المغربية عن أدب الصحراء أو موريتانيا وبعض أعلامه. ومن هذه المراجع التي ذكرها أحمد ولد حبيب الله نجد:
- ( المعسول) لمحمد المختار السوسي (ت 1383هـ): وهو يقع في عشرين (20) مجلدا.
- (خلال جزولة) للمختار السوسي كذلك: وفيه أربعة أجزاء.
- (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) لعباس بن إبراهيم المراكشي: وفيه عشرة أجزاء.
- (ثقافة الصحراء) للدكتور عباس الجراري... إلخ.
-د- مراجع أجنبية: وهي كثيرة وخاصة باللغة الفرنسية والإنجليزية وكذا الإسبانية. وقد تعين على دراسة السياق العام للأدب الموريتاني، وتقف في بعض الأحايين عند بعض الأعلام الشناقطة. ومنها:
- كتاب (مستعمرة آدرار) «Colonie de l’Adrar» للعقيد غورو (Gouraud).
- كتاب (صحراء خصبة) "Désert Fertile: un nouveau Etat, La Mauritanie" للباحثة الفرنسية كريستين غارنييه (Christine Garnier)، وقد صدر في فرنسا سنة 1960م.
-هـ- ما كتبه الرحالة والمؤرخون العرب القدامى والمحدثون الذين زاروا موريتانيا، ودونوا لنا مجموعة من الأخبار والمعلومات عن أوداغست وولاته وشنقيط وآدرار. ومن هؤلاء ابن حوقل (ق4ﻫ) صاحب كتاب (صورة الأرض)، وأبو عبيد البكري (ق5هـ) صاحب (المسالك والممالك)، وابن بطوطة (ق8هـ) صاحب الرحلة الشهيرة. ومن المؤرخين المعاصرين العرب الذين كتبوا عن موريتانيا يونس بحري الذي ألف كتابا بعنوان (هذه جمهورية موريتانيا الإسلامية)، وقد صدر في طبعته الأولى عام 1961م عن دار الحياة البيروتية. وكذلك أنور زغلول الذي كتب بالاشتراك مع شوقي الكيال دراسة بعنوان (موريتانيا عربية)، وقد صدرت بالقاهرة عام 1960.
-و- المقالات والاستطلاعات: وهي كثيرة، منها ما كتبه موريتانيون، ومنها ما أنجزه دارسون عرب غير موريتانيين. ولعل من أهم هذه المقالات مقال الباحث المصري طه الحاجري الذي صدر ضمن العدد 107 من مجلة (العربي) في أكتوبر 1967، وعنوانه (شنقيط أو موريتانيا: حلْقة مجهولة في تاريخ الأدب العربي).
تلكم هي بعض المظانّ والكتابات التي يمكن أن نقرأ فيها الأدب الموريتاني قديمه وحديثه. وهي قليلة، لأن الإنسان الموريتاني –رغم معرفته بالكتابة على نحو ما– كان يُؤْثر الحفظ والرواية على التدوين. مما أدى إلى ضياع شيء غير قليل من تراثه الشعري والنثري، وخاصة ذلك الضارب بأواخيه في أعماق الماضي. ويتفف الباحثون على أن ما وصل إلينا من الأدب الموريتاني وما هو متداول بين الناس إنما هو قُلٌّ من كُثْر، أو غيض من فيض.
ولا شك في أن للمصادر والمراجع المذكورة قيمة تاريخية وأخرى علمية واضحتين. ذلك بأنها قد حفظت لنا أشياء عن تاريخ موريتانيا وأدبها من جهة، ومن جهة أخراة فإنها قد تضمنت صنوفا من المعارف والعلوم.
* * *
الفصل الثالث: نشأة الأدب الموريتاني وفنونه.
بالنظر إلى التداخل الكبير بين هذا الفصل وبين الفصل الذي يليه، فقد رأينا أن نتناولهما معا في فصل واحد سميناه "نشأة الأدب الموريتاني وفنونه". وسنقسم هذا الفصل –تبعا لقسيمي الأدب المعروفين– إلى محورين اثنين كالتالي:
-1- نشأة النثر الموريتاني وفنونه.
-2- نشأة الشعر الموريتاني وفنونه: وسنفرع هذا المحور إلى مبحثين؛ نتناول في أولهما نشأة الشعر الحساني وفنونه، على أن نتعرض في المبحث الثاني إلى نشأة الشعر الفصيح في موريتانيا وموضوعاته.
وقبل مباشرة الحديث في هذا الاتجاه، نشير إلى أن البحث في نشأة الأدب الموريتاني يعد من أكثر الإشكالات المطروحة في الساحة النقدية الموريتانية المعاصرة وأعوصها؛ لأن هذه النشأة ما تزال غامضة، ومثار جدل بين الدارسين. يقول أحمد ولد حبيب الله في مقدمة كتابه (تاريخ الأدب الموريتاني): "إن أكبر المشكلات التي تؤرق الحياة الأدبية الموريتانية المعاصرة تعود إلى جهل البدايات بسبب الإهمال والضياع وغياب التدوين والدراسات الجادة ".[9] ولتكوين صورة –ولو تقريبية- عن هذه النشأة، يلزم تكثيف الجهود وتنسيقها والتعاون بين الباحثين وعدم الاقتصار على الجهود الفردية.
المحور الأول: نشأة النثر الموريتاني وفنونه
من الإشكالات العويصة التي آثر الباحث أن يقف عندها في هذا المجال إشكالية: أيهما أسبق في الثقافة الموريتانية النثر أم الشعر؟
والحق أن هذه الإشكالية عامة، وقد أثير حولها نقاش كثير في الأدب العالمي كافة؛ ومنه الأدب العربي الذي ناقش نقاده الأُوَّل هذه القضية، وتوصلوا إلى نتائج متضاربة؛ فمنهم من قال بأسبقية النثر على الشعر، ومنهم من قال بالعكس. ونجد هذه القضية كذلك في النقد المغربي الحديث؛ فقد كتب عبد الله العمراني في منتصف القرن المنصرم مقالا في صحيفة (الأنوار) عنوانه (النثر أسبق وجودا من الشعر) وذلك في ثلاث حلقات (عدد 19/1950، وعدد 20/1950، وعدد 23/1951)، وكتب –في الرد عليه– المرحوم محمد بن تاويت مقالا بعنوان (الشعر أسبق وجودا من النثر) في حلقة واحدة في الصحيفة نفسها (عدد 21/1951). وليس الأدب الموريتاني بدعا من هذا الأمر، إذ تطرق نقاده إلى الخوض في غمار هذه القضية، وانقسموا إلى فريقين؛ أحدهما يقول بأسبقية النثر، والآخر بأسبقية الشعر. ولكل منهما حججه وبراهينه التي يستند إليها في إثبات زعمه ودحض زعم غيره.
يقول أحمد ولد حبيب الله: "وإذا كان أول نص نثري مكتوب وصلنا هو ذلك النص الذي كتبه محمد بن محمد بن علي اللمتوني في شوال عام 898 هـ وبعثه إلى السيوطي، وإذا كان أقدم نص شعري وصلنا يعود إلى القرن 7هـ وينتسب إلى محمد قلّي. فليس معنى ذلك أن الشعر سابق على النثر، بل من المعقول –عقلا ونقلا– أن النثر سابق على الشعر. إلا أن النثر الفني الذي وصلنا يعود إلى القرن 11هـ. ومع ذلك تبقى نشأة النثر العلمي والتأليفي مثار جدل بين من كتبوا عن التراث الموريتاني حسب علمنا"[10].
إذا كان ما وصل إلينا من نصوص موريتانية قديمة يثبت –بما لا يدع مجالا للشك– سبق الشعر على النثر الأدبي الموريتاني، فإن الباحث يرى خلاف ذلك، إذ يميل –كما يبدو– إلى القول بأسبقية النثر على الشعر في الثقافة الموريتانية، وخاصة النثر العلمي والتأليفي؛ هذا النثر الذي نشأ –حسب صاحب (الوسيط)- على يد الطالب محمد بن الأعمش العلوي الذي يعد أول من ألف من الموريتانيين في تصنيف النوازل، وكل من ألف فيها بعده ينقل عنه. ويقول الباحث نفسه في موضع آخر: "ولا يستطيع أحد أن يفصل في مشكلة سبق الشعر أو النثر الأدبي في الظهور في تاريخ البشرية"[11].
والذي يقرأ هذا القول، ويقارنه بالقول السابق، يمكن أن يلمس تناقضا في كلام الباحث أحمد ولد حبيب الله؛ فهو في النص الثاني يعترف –صراحة- بصعوبة بل وباستحالة الحسم في قضية أسبقية الشعر أو النثر في كل الآداب، في حين نجده في النص الأول ينحاز إلى أولئك الدارسين القائلين بسبق النثر على الشعر!
ويقول الأستاذ الخليل النحوي: "لنبدأ ملاحظة بسيطة، هي أن الشعر –وكما هو معترف به ومتعارف عليه– قد سبق النثر. وكما كان الأمر بالنسبة للمجتمعات البدائية، فقد كانت العناية بالشعر وبالتأليف نظما من أبرز ما امتاز به عالم القلم الموريتاني". نفهم من هذا القول أمرين؛ أولهما أن الخليل النحوي من المرجح أن يكون من المنافحين عن أطروحة سبق الشعر على النثر في الآداب الإنسانية عامة ومنها أدب شنقيط، وثانيهما قلة العناية بالنثر في الثقافة الموريتانية، وذلك راجع إلى عدة أسباب منها: الاهتمام الكبير للإنسان الموريتاني بالشعر باعتباره الفن الأثير لديه، وطبيعة البيئة الموريتانية البدوية المتأبية على التحضر... إلخ.
وتحدث أحمد ولد حبيب الله في هذا الصدد كذلك عن الفرق بين النثر والشعر، وعن وظيفة النثر التي تختلف باختلاف مقصديات النثراء، عن ضياع عدد وفير من النثر الموريتاني القديم مقارنة بالشعر، وغير ذلك من الأمور والمسائل.
يتوزع النثر الموريتاني بين عدة أجناس أو فنون، عرضها الباحث على النحو التالي: الوثائق العهود، الإجازات العلمية والصوفية، الفتاوى والنوازل، الأحاجي والألغاز، الأمثال والحكم الحسانية، الحكايات الشعبية بمختلف ألوانها، النصائح والمواعظ، المساجلات والمباريات النثرية، المناظرات، مقدمات الكتب، المسلمات أو التسليمات[12]، الرسائل بشتى ضروبها، الرحلات، المقامات، الأقفاف[13]، التراجم والسير، المقالات بأنواعها، القصة القصيرة، الرواية، المسرح. وقد وقف الباحث عند كل فن من هذه الفنون معرفا ومبينا أنواعه وضاربا الأمثلة دون شرحها أو مناقشتها.
المحور الثاني: نشأة الشعر الموريتاني وفنونه
المبحث الأول: نشأة الشعر الحساني وفنونه
تحدث الباحث في هذا المضمار عن اللهجة الحسانية بوصفها البوثقة الحاملة للشعر الحساني، وعن عروض الشعر الحساني المتميز واصطلاحاته الفنية الدقيقة، وعن صلة هذا الشعر بالموسيقى... إلخ. وعرض كذلك بعض الآراء التي قيلت في نشأة الشعر الحساني/ العامّي الذي يطلق عليه عادة اسم (لَغْنَا)؛ أي الغناء لعلاقته الوثيقة بالموسيقى.
لقد حاول غير واحد من الدارسين الموريتانيين البحث في أصول الشعر الحساني ونشأته وتطوره... فهذا محمدن ولد سيدي إبراهيم لم يتوصل –في اجتهاده وبحثه– إلى تحديد تاريخ نشأة الشعر الحساني في موريتانيا، ولا إلى معرفة متى دخل إليها بالضبط. ولكنه يرى أنه مر بثلاث مراحل قبل أن يصل إلى الشكل الذي أصبح عليه اليوم، وهي:
- مرحلة (الكاف): أي القافية، وفيها كان الشعر الحساني أقرب إلى الشعر الفصيح.
- مرحلة (الطلعة) أو القصيدة.
- مرحلة (أَتْهَيْدِين) أو الملحمة.
ويقول الدكتور محمد المختار ولد أباه في كتابه (الشعر والشعراء في موريتانيا) إن أقدم صنف من أصناف الشعر الحساني موجود في ذلك الفن الذي يسمى (أتهيدين)، دون أن يحدد بداية نشأة هذا الشعر بداية دقيقة ولا كيف كان إبان دخول بني حسان إلى موريتانيا، وإن كان الباحث نفسه قد أومأ إلى أن الأزجال الشعبية قد دخلت صحراء صناهجة الجنوب مع دخول عرب بني معقل إليها... وهذا قد يكون –في نظر أحمد ولد حبيب الله– أقرب إلى الحقيقة التاريخية، لأن هؤلاء العرب دخلوا المنطقة في القرن الهجري السابع. ويذهب الشيخ ولد مكي إلى أن أول نص حساني وصل إلينا يعود إلى القرن التاسع للهجرة. وهناك من يرى أن أقدم نص حساني ينسب إلى الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي (ت 934 هـ).
ولعل أشهر المهتمين بالشعر الحساني وأكثرهم اعتناء بالبحث في أصوله وصلته بالموسيقى وتطوره الأستاذ محمد ولد أحظانا الذي نشر في هذا الصدد اثنتي عشرة حلقة طويلة في صحيفة (الشعب) اليومية الرسمية عام 1993. وهو يرى أن نشأة الشعر الحساني قد مرت بثلاث مراحل، هي:
- مرحلة الأدب الشعبي الحساني قبل الالتحام بالموسيقى: وهي –كما يقول أحمد ولد حبيب الله– أقرب إلى الأزجال التي وجدت عند الهلاليين أو الشعر الشعبي أوهو هي. وتنتهي هذه المرحلة بما بعد دخول بني حسان إلى الصحراء الموريتانية وتمثلهم طبيعة حياتها لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل النشأة، ويتعلق الأمر بـ:
- مرحلة الالتحام بالموسيقى: وهي تبدأ –نظريا– بالمثاقفة بين القبائل الحسانية والقبائل الخليطة (أو الهجينة ) التي سبقتها.
- المرحلة الأخيرة: وفيها خرج شعر الحسانيين في شكل جديد بعد تزاوجه الطويل مع الموسيقى. وفيها أصبح الشعر الشعبي ظاهرة اجتماعية بارزة ومنتشرة على نطاق واسع.
وبالرغم من هذا كله، فإن مسألة تحديد أولية أو نشأة الشعر الحساني تظل من أعوص الإشكاليات وأكثرها إثارة للجدل والنقاش والاختلاف. ويستوجب الاقتراب منها بذل مزيد من المجهود، والتعاون المثمر بين الباحثين والنقاد.
ومن أهم فنون الشعر الحساني وموضوعاته نذكر: أتهيدين[14]، المديح، النسيب، البكاء على الأطلال، الغزل، الفخر، الرثاء، الهجاء، النقائـض، المساجلات (لَكْطَاعْ)، الوصف، الحكمة، النصائح والإرشاد، الاعتبار بالأيام، التبراع[15]، الشعر السياسي، الشعر التعليمي. وقد تعامل الباحث مع هذه الفنون جميعها بمنهاج يقوم على التعريف بها أولا، ثم رصد أنواعها إن وجدت، وأخيرا التمثيل لها بما لديه من نماذج وشواهد دونما التفات إلى شرحها أو تحليلها.
المبحث الثاني: نشأة الشعر الفصيح وفنونه
يقول الشاعر والروائي والناقد الموريتاني المعاصر أحمد ولد عبد القادر في مقابلة أجريت معه ونشرت في صحيفة (الشعب) عام 1990 بعنوان (مسيرة الشعر الموريتاني إلى أين؟): "إن نشأة الشعر الموريتاني لا زالت يكتنفها الغموض، ولا يزال السؤال مطروحا: متى ظهر في موريتانيا الشعر العربي الفصيح؟"، وإن أغلب الدارسين قد ردوا هذه النشأة إلى أواخر القرن 11هـ وبدايات القرن 12هـ مع عبد الله بن رازكه (ت 1144هـ) وجيله. فهذه النشأة –إذاً– غير واضحة، وتطرح نفسها في الساحة النقدية الموريتانية باعتبارها إشكالية عويصة، أثير حولها نقاش حاد في القديم كما في الحديث. وفيما يلي نعرض بعض الآراء التي تصب في هذا المجال:
لقد كتب الأستاذ عبد الله حسن بن احميدة دراسة رائدة في هذا الاتجاه أسماها (نشأة الشعر الفصيح في بلاد شنقيط)، وأكد فيها أن هذه النشأة تعود إلى القرن 5 هـ؛ أي إلى العصر المرابطي، ومن أوائل الشعراء الذين يأتي بهم الإمام الحضرمي. وقد سجل الباحث أن شعر النشأة –في مجمله– كان ذا صبغة دينية تعليمية، وأن أكثر الشعراء كانوا فقهاء أو علماء. ويرى عدد من الباحثين أن أدب عصر المرابطين قد غلب عليه التيار الفقهي الذي كان حائلا دون انتشار الشعر وازدهاره في عديد من المناطق الصحراوية. يقول الدكتور جمال أحمد بن الحسن في دراسته الموسومة (بالشعر الشنقيطي في القرن 13هـ): "...ورغم ظهور الشعر "المقبول" عند الفقهاء في جميع مناطق بلاد شنقيط –تقريبا– فإن هذا الحاجز الفقهي قد حال دون ازدهاره في مراكز متعددة كانت مؤهلة للإسهام فيه بحظ وفير. وهذه حالة مدينة وَلاَّتَهْ على سبيل المثال. وقد ظهر فيها شعر التوسل والمدائح منذ القرن 11ﻫ/17م على أدنى تقرير" (ص126، وص127، وص128).
ويرى الدكتور محمد المختار ولد أباه في كتابه (الشعر والشعراء في موريتانيا) أن الشعر الموريتاني الفصيح قد ظهر –بحق– مع سيدي عبد الله بن رازكه. وفي الاتجاه نفسه، يقول الأستاذ أحمد سالم ولد محمدُ في دراسته التي عنوانها (شعر محمد حامد بن آلاَّ: جمع وتحقيق وتقديم)[16]: "فما قبل ابن رازكه (ت 1144ﻫ) ومحمد اليدالي (ت 1166ﻫ) والمصطفي بن أبي محمد (ت ق 12ﻫ) وأضرابهم في تاريخ الشعر الموريتاني غامض. وتدل معلوماتنا القليلة عن تلك المرحلة على قلة الإنتاج الشعري والافتقار إلى ثراء المضمون وإحكام الصياغة"(ص21). فهذا الرأي هو السائد والأكثر ذيوعا داخل موريتانيا وخارجها. إذ يحدد البداية الفعلية للشعر الفصيح في موريتانيا في النصف الثاني من القرن 11ﻫ ومطلع القرن 12ﻫ. وهو لا ينفي وجود شعر قبل هذه الفترة نفيا تاما، بل يرى أنه موجود ولكنه ضئيل وفقير ويغلب عليه النفَس الفقهي والتعليمي.
ويقسم الناقد الموريتاني المعاصر محمد ولد عبد الحي في كتابه القيم (التجديد في الأدب العربي بموريتانيا في العصر الحديث) مسيرة الشعر الموريتاني الفصيح إلى مراحل مترابطة. يقول: "إن الشعر الموريتاني قديمه وحديثه مر بعدة مراحل: مرحلة بدأت منذ القرن 11ﻫ إلى أواسط القرن 14ﻫ أو نهاية القرن 19م، ومرحلة بدأت منذ نهاية القرن 19م إلى أواخر الخمسينات –تقريبا-، ومرحلة بدأت مع بداية الاستقلال إلى اليوم". فهذا الرأي شبيه بالرأي السابق من حيث تحديد نشأة الشعر الفصيح في موريتانيا في القرن 11ﻫ.
ويرجع الأستاذ يحيى ولد محمدن نشأة الشعر الفصيح بموريتانيا إلى وقت مبكر. يقول: "وأرى أن الشعر الموريتاني –باللغة العربية– موغل في القدم. ويمكن افتراض قدومه مع الفاتحين العرب المسلمين الأوائل في القرن الأول والثاني للهجرة. وإذا كانت المصادر الشعرية تعوزنا إلى الآن، فإن الشعر والعرب صنوان لا يفترقان". ويقول أيضا: "ولكن كثيرا من دارسينا يطيب لهم أن يرجعوا أوائل نشأة الشعر الموريتاني إلى القرون الأخيرة التي هي في الواقع عصور ازدهاره لا عصور نشأته...!! فالذين يرون نشأة الشعر الموريتاني راجعة إلى القرن العاشر فما بعده مع الذيب الكبير وبوفمين وابن رازكه ينسون أو يتناسون أن البلاد في عهد المرابطين (القرن 5و6ﻫ) كان بها علماء ونَظَّامون وشعراء سواء كان ذلك في آزوكي أو بمراكش أو أغمات أوريكه".
ويندرج أغلب النتاج الشعري الموريتاني الفصيح في المحاور الرئيسة التالية:
- الشعر الديني: ومن أبرز موضوعاته التوسل والتضرع، والمديح النبوي، والزهد والتصوف، والاستسقاء والاستشفاء والتظلم.
- الشعر التعليمي: ومن موضوعاته البارزة نذكر: الوعظ والإرشاد، الإفتاء والنوازل، التأريخ لوفيات الأعيان والكوارث، الألغاز والأحاجي، السيرة النبوية، الأدب والبلاغة.
- الشعر الاجتماعي: وتنضوي تحت لواء هذا المحور عدة فنون، أبرزها: المدح، الهجاء، النقائض، الغزل، الإخوانيات، الرثاء، الوصف، الفخر، العتاب والشكوى، الحنين إلى الأوطان، الفكاهة والمجنون، الحكمة، المساجلات الشعرية، الأمثال، التقاريظ والإطراءات.
- الشعر الإصلاحي السياسي: ويراد به "ذلك الشعر الذي يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ويحارب الفساد والظلم الاجتماعي، ويدعو إلى الجهاد في سبيل الله وتنصيب الإمام العام للمسلمين وإقامة الدولة الإسلامية المركزية، ويقف في وجه العادات المخالفة لكمال التوحيد والتقاليد التي تخالف السنة النبوية، ويدعو إلى نبذ ظاهرة التميم والسدل وغلق باب الاجتهاد والركون إلى التقليد"[17].
ومن الشعراء الموريتانيين الذين نظموا في هذا الاتجاه نجد الشيخ محمد ألمامي بن البخاري (ت 1278ﻫ) الذي دعا إلى الجهاد وتنصيب الإمام العام للقضاء على حالات الفوضى والاضطراب والفساد. وأيضا العلامة ماء العينين بن العتيق (ت 1376ﻫ/1957م) الذي حث على مجاهدة المستعمرين وعدم بيع الدين بالدنيا الفانية. ومنهم كذلك المرحوم أجدود بن أكتوشن العلوي الذي دعا إلى المقاطعة الاقتصادية للغرب عامة ولفرنسا خاصة... ويرتبط بهذا النوع الشعري الشعر الوطني الداعي إلى الاستقلال السياسي عن الإدارة الفرنسية، وكذا الشعر القومي الذي يَأْدِب إلى الوحدة العربية... وهناك محاور أخرى قليلة الأهمية، مثل: شعر الدخان، وشعر الأتاي (أو الشاي الأخضر)...إلخ.
* * *
الفصل الرابع: التصنيف الداخلي للشعر الموريتاني الفصيح
إذا كان الشعر الموريتاني الفصيح "مازال يعاني –أشد المعاناة – من عدم جمعه وتدوينه ونشره ودراسته والتأريخ لنشأته وتحديد أوجه تطوره ومكانته في الأدب العربي عامة والأدب المغاربي خاصة، فإنه ما يزال –كذلك- يعاني من إشكالية تصنيفه الداخلي أو على الأصح تصنيف القلة القليلة المتاحة منه رغم تعدد المحاولات في الدراسات والأبحاث الأكاديمية وغير الأكاديمية المنجزة حتى الآن، والتي غالبا ما تتعجل في إصدار أحكامها النقدية في الوقت الذي لم تكتمل فيه بعد أوراق القضية المطروحة للنطق بالحكم النهائي فيها!"[18].
فبالرغم من صعوبة هذا التصنيف، ظهرت مجموعة من الجهود والمحاولات الرامية إلى تصنيف الشعر الموريتاني الفصيح تصنيفا داخليا علميا يقترب من الحقيقة والموضوعية. وتجاوزت هذه الجهود خمس عشرة محاولة ما بين منظرة أو ناقدة، مؤيدة أو معارضة. وقد أورد أحمد ولد حبيب الله منها سبع محاولات تصنيفية فقط. وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن ثلاث من تلك المحاولات، والتي نراها أكثر أهمية ورواحا.
-أ- تصنيف ولد أَبَّاهْ:
لقد درس الدكتور محمد المختار ولد أباه الشعر الموريتاني خلال الفترة الممتدة ما بين 1650 و1900م، وقدم دراسته هذه باللغة الفرنسية لنيل الدكتوراه (نوقشت في باريس عام 1969م)، وكانت بعنوان (مدخل لدراسة الشعر الموريتاني: 1650–1900م). وقد عربها وقدم لها محمد عبد الرحمن ولد آبَّ في بحثه للمتريز (الإجازة العالية) لدى تخرجه في كلية الآداب والعلوم الإنسانية (جامعة نواكشوط) عام 1986. يقول أحمد ولد حبيب الله عن دراسة ولد أباه: "والحق أنها دراسة رائدة في مجالها وخطوة جَرِيئة في ميدان النقد الموريتاني المعاصر"[19]. وقد جعل ولد أبّاه هذه الدراسة مقدمة لكتابه القيم (الشعر والشعراء في موريتانيا)، الذي صدر في تونس عام 1987 عن الشركة التونسية للتوزيع والنشر.
صنف ولد أباه شعراء الفترة المعنية بالدراسة إلى ثلاثة اتجاهات (أو مدارس) كبيرة، معتمدا معيار العصر الأدبي. وذلك على النحو الآتي:
- الاتجاه الأول: ومثل له بعبد الله بن رازكه (ت 1144ﻫ) ومحمد سعيد اليدالي (ت1166ﻫ) والذيب الكبير والمصطفى بن أبي محمد (ق 12ﻫ) المعروف باسم (بوفمين المجلسي)... وقد أنشأ هؤلاء مدرسة خاصة سماها ولد أباه "مدرسة البلاغة والبديع"؛ لأن أعلامها كانوا شديدي الاحتفال بالصنعة البديعية.
- الاتجاه الثاني: وقد سماها "مدرسة أنصار القديم"، لأن شعراءها كانوا مولعين بتقليد الشعر الجاهلي مبنى ومعنى، ومن ممثلي هذا الاتجاه نجد: امحمد بن الطلبه اليعقوبي (ت 1272ﻫ)، ومحمد بن حنبل (ت 1302ﻫ)، وغيرهما من شعراء القرن 13ﻫ الذين يسيرون في هذا المتَّجَه.
- الاتجاه الثالث: أو "المستقلون". وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه خلق فن شعري موريتاني أثيل بعيدا عن تقليد النموذج الجاهلي وخدمة البلاغة والبديع. وقسم ولد أباه هذا الاتجاه إلى ثلاث مجموعات، هي:
*مجموعة سيدي محمد بن الشيخ سيدي (ت 1286هـ)
*مجموعة حرمة بن عبد الجليل (ت 1243هـ)
*مجموعة امحمد بن أحمد يُورَه (ت 1340هـ)
-ب- تصنيف ولد عبد القادر:
صنف أحمد ولد عبد القادر الشعر الموريتاني الفصيح إلى أربع مدارس كالتالي:
- المدرسة الجاهلية: ولعل أبرز من يمثلها امحمد بن الطلبه الذي كان ينظم الأشعار على منوال الشعر الجاهلي.
- المدرسة البوصيرية: ومثل لها بالمدائح النبوية والصوفية في ديوان سيدي محمد بن الشيخ سيدي ومحمد بن محمد.
- المدرسة القاموسية: ومثَّل لها بمحمدُ النّانه بن المعلى (ت1402ﻫ)، ومحمد السالم بن الشين، وآخرين.
- المدرسة الشعبية: ويعد امحمد بن أحمد يوره رائدها. وهو – فضلا عن خوضه في الشعر العامي/ الحساني – يكتب الشعر الفصيح، وفي أغراض شتى.
وقد عقب ذ. أحمد سالم ولد محمدُ على تصنيفي ولد أباه وولد عبد القادر قائلا: "... ومن الواضح أن هذين التصنيفين يفتقران إلى ضبط الأسس وانسجامها ووضوحها.. ويغلب عليهما التعميم الذي يتغاضى عن التنوع في شعر الشاعر الواحد، بل التباين أحيانا الذي يترتب عليه أن شعر الشاعر الواحد يكشف عن تجاوب مع فترات وشعراء من عصور متعددة".
-جـ- تصنيف ابن اكاه:
صنف ذ. محمد الحافظ بن أكاه في بحثه المعنون "بجولة في أدب شنقيط"[20] الشعر الموريتاني الفصيح إلى مدارس أربع، هي:
- المدرسة الأولى: ويمثلها ابن رازكه، وتعنى بالتلوين الأدبي والصياغة الأسلوبية. أوهي (مدرسة البلاغة والبديع) كما يسميها ولد أباه.
- المدرس الثانية: وقد تأثر شعراؤها بالقصيدة الجاهلية. ويمثلها امحمد بن الطلبه، وأحمد بن عبد الله المعروف "بالأحول الحسني" (ت 1250ﻫ)، ومحمدُ النّانه بن المعلى.
- المدرس الثالثة: وهي مدرسة ذات نفَس عباسي وأندلسي. وتمتاز بالرقة والعذوبة في الخيال، والصدق في العاطفة. ويمثلها محمدُ بن محمدي (ت 1272ﻫ)، وحرمة بن عبد الجليل.
- المدرسة الأخيرة: وهي مدرسة محلية أصيلة نابعة من البيئة الموريتانية. ويمثلها الشاعر الكبير امحمد بن أحمد يوره.
هذه إذاً بعض المحاولات التصنيفية التي اجتهد أصحابها في تصنيف الشعر الموريتاني الفصيح إلى مدارس أو اتجاهات. وهي محاولات لا تخلو من جرأة ومغامرة. وهم يعترفون جميعا بصعوبة ذلك التصنيف لاعتبارات معينة، ويقرون بأن محاولاتهم في التصنيف ليست سوى اجتهادات شخصية.
وقد كان د. جمال أحمد بن الحسن أكثر موضوعية حينما تحدث – بإضافة – في أطروحته الجامعية (الشعر الشنقيطي في القرن 13ﻫ) عن صعوبة تصنيف الشعر الموريتاني الذي تتعدد مشاربه وتتباين منابعه إلى اتجاهات أو مدارس مستقلة. يقول: " إن شعراءنا، كما درسنا أشعارهم، لم يكونوا ينتمون إلى مدارس أدبية مستقلة ثابتة، بل كانوا متنازعين بين منحيين:
- منحى شعري يخلص الشعر من وظيفته المرجعية (الدينية) ويمحّضه لوظيفته الشعرية عبر الارتباط بالقصيدة الجاهلية. (ابن الطلبه اليعقوبي مثلا).
- منحى يخضع الشعر لمقتضيات الإبلاغ الديني والعلمي دون أن يهمل خصائصه الأسلوبية. (ابن الشيخ سيدي مثلا)
- لقد تعرضت التصنيفات المذكورة إلى النقد من قبل بعض الدارسين الذين رأوا أن الشعر الموريتاني لا يمكن أن يصنف إلى اتجاهات أو مدارس أدبية مستقلة بعضها عن بعض. وخاصة التصنيفين الأولين. وهكذا فقد انتقد المرحوم محمدي بن القاضي (ت 1983م) تصنيف ولد أباه، وذهب إلى أن تصنيف الشعر الموريتاني إلى مدارس زمنية أو أدبية خاطئ. وزعم –بالمقابل– أن هذا الشعر إنما هو مدرسة واحدة أو عصر واحد مختلط، ولا يمكن أن يوزع إلى عصور لكل منها ملامح خاصة، ذلك بأن الشاعر الواحد يخلط في إبداعه بين مختلف تلك الملامح. وهذا الرأي –كما ترى– لا يبعد كثيرا عن رأي جمال أحمد بن الحسن المتقدم.
وفي ختام هذا الفصل، يمكن القول إن أقرب الآراء المعروضة إلى الصواب وأكثرها علمية رأي د.جمال ولد الحسن. وفي هذا الصدد، يقول أحمد ولد حبيب الله عقب عرضه لعدد من التصنيفات الداخلية للشعر الموريتاني: "وإذا كان لنا أن نميل مع أحد هذه التصانيف والآراء الآنفة، فإن الأقرب إلى الذوق النقدي هو ما ذهب إليه الدكتور جمال ودعمه ابن محمد سالم"[21].
* * *
الفصل الخامس: النقد الأدبي الموريتاني.
لقد حاول الباحث أن يقدم لنا في هذا الفصل صورة بانورامية عن النشاط النقدي الأدبي بموريتانيا قديما وحديثا، وذلك من خلال الوقوف عند زخم من الشواهد والأدلة إن على مستوى التنظير أو التطبيق.
من الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا الإطار بالذات ما يلي: هل هناك نقد اسمه (النقد الموريتاني)؟. وإن كان موجودا فما طبيعته؟
ظهرت في السنوات الأخيرة مقالات عدة حاولت الإجابة عن السؤال المطروح؛ هذه المقالات احتضنتها –أساسا– الصحف الموريتانية ("الشعب" خاصة) وبعض الصحف والمجلات العربية. كما خصصت الدراسات والأبحاث المنجزة حول أدب موريتانيا حيزا بالحديث عن الحركة النقدية الأدبية الموريتانية. وممن حاول الإجابة عن السؤال السالف طرحه الأستاذ أحمد ولد حبيب الله الذي يقول: "والإجابة على السؤال صعبة أو مستحيلة، لأن النقد الموريتاني – كالأدب- لازال مجهولا لم تتوجه إليه الدراسات تدوينا وجمعا ودراسة وتصنيفا ونشرا. والنظرات النقدية الساذجة التي كانت تمارس ممارسة عفوية ضاعت، ولم يبق منها إلا ما خلده الشعراء أو جاء عرضا وليس مقصودا لذاته في المتاح من الكتب الموريتانية التي جمعت دفتاها أجزاء قليلة من الشعر الموريتاني كالوسيط وفتح الشكور!
على أنه تلك النظرات تتفاوت في مستواها التأثيري الانطباعي الذي تحكم به بالقبح أو الحسن أو الجودة غالبا، والرداءة أحيانا على العمل الذي ترك ذلك الانطباع. وتأتي هذه النظرات في منظومة أو قصيدة أو كلمة إطراء فاحش ومجامل، قد يكتفى بهز الرؤوس رقصا أو التمايل طربا أو إعجابا أو الأنين أو التأوه وإطلاق كلمة (أَسْكِ) بمعنى أتعجب أو (آحْ) أو القول للشاعر وهو ينشد شعره: (أباد الله خيام عدوك ما أحسن ما تقول) أو القسم بالسرة، سرة النفس أو الأدب أو أعز الناس أو سرته عن سرة الشاعر أو القسم بالأيمان المغلظة بأن هذا الشاعر (أعجوبة دهره ووحيد زمانه وأوانه) لم يجد الزمان بمثله ولم يتقدم مثله عليه ولن يأتي بعده... وهذه الألفاظ تطلق جزافا دون تعليل وتحليل..."[22].
لقد تعمدنا إدراج هذا النص هنا بالرغم من طوله الواضح، وذلك بالنظر إلى ما يتضمنه من معلومات قيمة فيما يرتبط بالحركة النقدية التي شهدها الأدب الموريتاني القديم بخاصة. ويمكننا أن نستنتج من هذا النص جملة من الأمور كالتالي:
- إن أكثر النقد الموريتاني القديم قد ضاع أو ما يزال قابعا في الكتب المخطوطة ينتظر من ينفض عنه الغبار ويحققه ويخرجه للناس.
- إن النقد الموريتاني القديم نقد ساذج وضئيل. ويغلب عليه الطابع الذوقي التأثري الانطباعي. وهذا الأمر نجده كذلك في النقد الموريتاني الحديث والمعاصر. يقول أحمد ولد حبيب الله: "والواقع أن هذه الوضعية تكاد تكون موجودة حتى في أيامنا هذه، فمازالت الحركة النقدية الموريتانية تكاد تعتمد على المفهوم الانطباعي التأثري الذي يجعل الناقد الموريتاني وإلى الآن يرنو إلى العمل الأدبي من وجهة نظر ذاتية تابعة لميوله الفكري وهواه بغض النظر عن القيمة الفنية الحقيقية لذلك العمل في حد ذاته[23]، و"ويقول الباحث نفسه في تفسير ذلك: "والظاهر أن هذا يعتبر من نظرة الموريتاني إلى الحياة والأشياء، تلك النظرة المفتقرة إلى الموضوعية والجرأة".[24] وإذا تتبعنا ما هو متاح من النقد الموريتاني الانطباعي بقطع النظر عن قيمته الفنية، فإننا واجدون نقدا شكليا لغويا ونحويا؛ وهو الأكثر، وهو يبرز الحرص الشديد على اللغة وسلامتها والعروض وعافيته. ونقدا مضمونيا دينيا خلقيا يحارب الهجاء والخروج عن الأعراف الراسخة، ويتورع من الغزل المادي المكشوف خاصة. ونقدا فنيا يدعو إلى عدم التقليد، ويطالب بالتجديد والابتكار دون أن يطرح بديلا لما دعا إلى نبذه. ونلفي فيه كذلك بعض الموازنات والمفاضلات والشروح والهوامش اللغوية والأنظام الشعرية.
- إن النقد الموريتاني القديم يفتقر إلى التسويغ والتعليل. بحيث كان الناقد يكتفي بإصدار أحكام عامة تابعة لميوله وذوقه وموقفه الذاتي من النص الأدبي المنقود، دون أن يرفق حكمه النقدي بما يعلله أو يعضده من حجج وشواهد. وهذه الحال تذكرنا بالنقد العربي في بواكيره.
- إن النقد الموريتاني القديم مارسه الشعراء والعلماء واللغويون. وقد ضم كتاب (الوسيط) نماذج منه.
- إن النقد الموريتاني القديم كان ينصب – في الغالب الأعم – على الشعر. لأنه يعد الجنس الأدبي الأثير لدى الشناقطة، والفن الأكثر استهلاكا وسيرورة في البِيئة الموريتانية منذ القدم.
ويمكن أن نقسم البقية المتاحة من النقد الموريتاني القديم قسمين اثنين، كما يلي:
أولا: النقد التطبيقي
وهو الأكثر، وكان يعنى أساسا بجانب الشكل؛ إذ إنه كان ينظر - في المحل الأول – في لغة النص وعروضه. ومن الكتابات التي تمثل هذا النقد (المربي على صلاة ربي) شعرا ونثرا للشيخ محمد سعيد اليدالي (ت 1166ﻫ).
لعل من أشهر قصائد اليدالي قصيدته المادحة الموسومة "بصلاة ربي"، وهي "قصيدة فريدة أو تكاد" كما يقول أحمد ولد حبيب الله. يقول صاحبها عن مناسبتها أو سبب نظمها: "... سبب إنشائي هذه القصيدة أني مررت يوما وأنا على جناح بعض الأسفار ببعض أرباب الملاهي والأوتار يردد نغما من الألحان المطربة الملحونة، وفنا من الأغاني الحسانية الموزونة، فشغفت بذلك الفن، وطن في أذنى ما طن، واستحسنت أن أمدحه عليه الصلاة والسلام بقصيدة عربية على أسلوب تلك الأنغام، فنسجت على منوالها وحذوت على مثالها..." ويقول عن وزنها البحري: "... وزن هذه القصيدة ليس من أوزان البحور الستة عشر بزيادة المتدارك. إلا أن أشبه البحور بها مشطور مخلع البسيط[25]". وقد شرح اليدالي قصيدته هذه في كتابٍ مستقل أسْماه (المربي على صلاة ربي). وبذلك يغدو اليدالي مبدع النص وشارحه في الوقت ذاته.
إن (المربى) –كما يقول أحد الباحثين– نص نقدي بلاغي تطبيقي تعمد فيه صاحبه أن يركز –في المقام الأول- على دراسة الوجوه البلاغية التي تضمنتها القصيدة –قيد الشرح-، وأن "يكشف القناع عن محاسنها، ويبرز بعض أسرارها المتحجبة من أماكنها، ويفصح عن بعض بلاغتها، ويعرب عن بعض أنواع براعتها، ويجلو عرائس أبكارها، ويظهر مخبآت أسرارها". ويعزى السبب في توجه النقد إلى الجانب البلاغي للقصيدة أساسا إلى كونها قد اشتملت –كما يقول اليدالي نفسه– على "ألفاظ رقيقة، ومعان دقيقة، ونكت أدبية، ولطائف بيانية، ودرر من البديع مكنونة، وجواهر منه عن أيدي الإسفاف مصونة..." والنص حافل بالجناس بشتى ألوانه والسجع والترديد والطباق وغيرها من الحذلقات اللفظية والمعنوية.
ويعد (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) للعلامة أحمد بن الأمين الشنقيطي الكتاب الذي ضم بين دفتيه جل النقد التطبيقي الموريتاني. وهو، فضلا عن كونه كتاب تراجم أدبية، يضم ثروة مهمة من أدب موريتانيا القديم.
لقد اعتمد الشنقيطي جملة من المقاييس النقدية في تأليف وسيطه، وفي نقده الأشعار. إذ إنه يحتفل –أولا وقبل كل شيء– بسلامة القريض من اللحن والخطإ اللغوي، ويعتني بضبطه بالشكل التام وشرح ما غمض فيه من ألفاظ. وتختلف طريقته في شرح الأشعار المنتقاة، ففي بعض الأحيان يكتفي بضبط بعض الكلمات وتفسيرها، وهذا ما نلمسه في تعامله مع قصائد عبد الله بن رازكه العلوي، وإن كانت تحتوي كثيرا من الغريب اللغوي. وفي بعض الأحايين يشرح القصيدة شرحا مفصلا، فيقف عند أبياتها بيتا بيتا شارحا إياها شرحا لغويا دقيقا، يكاد يتناول كل كلمة من كلماتها. وهذا ما نلحظه في كيفية تعامله مع أكثر قصيد امحمد بن الطلبه اليعقوبي.
ويبدو الشنقيطي دائما وكأنه في موقف دفاع عن شعراء وسيطه، ولعل ذلك راجع إلى السبب الذي كان وراء تصنيف الوسيط. فالشنقيطي ألف كتابه هذا من أجل إثبات وجود أدب اسمه "الأدب الموريتاني"، ومن أجل إبراز مكانته السامقة التي طالما تجاهلها الآخرون. وهذا السبب نفسه هو الذي قاد العلامة عبد الله كنون الحسني (ت 1989م) إلى تأليف نبوغه، حيث إنه رام من ورائه إثبات وجود أدب مغربي، والوقوف في وجه دارسي المشرق الذين كانوا ينظرون إلى الأدب المغاربي بعامة نظرة دونية غير منصفة.
والذي يتصفح الوسيط، يجد أن صاحبه قد اهتم بالموازنة أو المفاضلة بين الشعراء. يقول الشنقيطي عن محمد بن محمود الملقب "بأُبدّه العلوي": "وهو قليل الشعر... وأكثر الناس يفضّل الأحول عليه، وبعضهم يعكس. ولكل وجه؛ لأن الأحول كان أرق ألفاظا، وهذا أقوى تركيبا منه كما وقع للناس في جرير والفرزدق...[26]" ففي هذا النص موازنة بين الشاعرين محمد بن محمود (أبده العلوي) وأحمد بن عبد الله (الأحول الحسني) وإشارة بارزة إلى أن لكل واحد منهما مجالا يتفوق فيه على نظيره، وفيه إشارة أخراة إلى اختلاف الناس في تفضيل أحدهما على الآخر. ومن الأمثلة التي تندرج في هذا الإطار كذلك قول الشنقيطي عن امحمد بن الطلبه: "... فاق أقرانه في العلم والكرم وجودة الشعر... ولا تكاد تعد طبقة إلا بدأت به أولها: إذا عد الكرام فهو حاتمهم، أو العلماء اللغويون فما هو بدون ابن سيده. وكل أخباره تكتب بالذهب."[27] فالنص –إذاً– يقارن بين ابن الطلبه وأقرانه من زوايا ثلاث، ويثبت التفوق لابن الطلبه.
ولصاحب (الوسيط) عبارات نقدية يصف بها أحيانا بعض مختاراته الشعرية كقوله في حق الشاعر سيدي محمد بن الشيخ سيدي: " من دقيق شعره قوله: (البسيط التام).
رفقا بنا يا ذوات الأعين النجل * * * ينال بالرفق ما بالعنف لم ينل
نحن العبيد الأُلَى أنتن سادتهم * * * فارْعَيْن فينا وصاة الله بالخول
واحذرن مما نهى عنه المهيمن من * * * تكليفنا غير مسطاع من العمل"[28]
ثانيا: النقد التنظيري
يهتم هذا النقد –في المقام الأول- كما يقول ولد أباه "بالجودة الفنية أو بمحاولة وضع القيم الأساسية. للنهوض بالشعر من مستوى التكرار والتقليد إلى مستوى البراعة والإبداع..." وهكذا، فقد حاول أصحاب هذا القسم البحث عن إبداع شعري جديد ينأى عن الاجترار، واجتهدوا في تحديد ماهية الشعر وشروط إجادته وما إلى ذلك. ومن المؤلفات التي تمثل هذا الضرب من النقد (عمدة الأديب في صناعة القريض والنسيب) للعلامة أدييجه بن عبد الله الكمليلي (ت 1272ﻫ)، وهو نظم / رجز قوامه 211 بيتا، حاول فيه صاحبه تعريف الشعر وذكر محاسنه ومعايبه وكذا ضرائره. وفيما يلي ذكر لبعض النماذج النقدية التي تندرج في هذا الإطار:
لقد نظم الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي قصيدة عينية في تعزية المبدع الموريتاني الذي ألف تقليد الشاعر القديم مبنى ومعنى. وبعد مجموعة من الأبيات، نراه يطرح تصورا معينا للشعر عماده مفهومان؛ أولهما مفهوم التطريب الذي عده ابن الشيخ سيدي غاية الشعر الأولى، وحاكم بموجبه أشعار مجايليه حيث يقول: (الكامل التام)
والشعر للتطريب أول وضعه * * * فلغير ذلك قبلنا لم يوضع
واليوم صار منكدا ووسيلة * * * قد كان مقصدها انتفى لم تشرع
وثاني المفهومين –ولعله الأدق والأخفى– هو التجدد الذاتي الذي تتمتع به النصوص الجيدة على وجه التحديد.
ويأْدِب الشاعر امحمد بن أحمد يوره إلى توظيف المعجم الشعري القريب من الفهوم الذي لا يُحتاج معه إلى الرجوع إلى القواميس ولا إلى وضع الشروح والحواشي. يقول: (الطويل)
ألا أيها الشعرور لاتك ناطقا * * * يني عن فهمه المتناوش [29]
ولا تطل الأشعار في غيره طائل * * * فشر القريض الطائل المتفاحش
ولا خير في شعر يعزوه فهمه * * * إذا هو لم توضع عليه الهوامش
ويشترط محمدي بن سيدينا العلوي في الشعر الحق توافر جملة من المقومات كالشاعرية والجودة، إذ يقول: (الطويل)
وما الشعر عند العرب إلا قريحة * * * تقود أَبِيّات المعاني وتقسر
تصاغ كصوغ الدر أحكم صنعه * * * تحلى به الأسماع أو هي أنضر
إذا قرعت سمع البليغ تشوقه * * * وتغري به البث الذي كان يضمر
وإن رامها من جاء متشاعرا * * * ليقتادها تأبى عليه وتعسر
هذه لمحة خاطفة إلى النقد الشنقيطي القديم بشقيه التطبيقي والتنظيري، واللذين –كما رأينا– كانا يقتصران على نقد الشعر مع أن الساحة الأدبية لم تكن خلوا من النثر الأدبي أو من بعض فنونه كالمقامة والرسالة وغيرهما. أما النقد الحديث والمعاصر في موريتانيا، فكان نتيجة تأثرها بالمؤثرات الثقافية الجديدة في وقت متأخر جدا لاعتبارات سياسية وجغرافية. وقد أدت تلك المؤثرات (أو التأثيرات) إلى ظهور أجناس جديدة في الأدب الموريتاني منذ سنوات السبعين والثمانين، وإلى تطور النقد تطورا ملحوظاً؛ إذ تفرع إلى أنواع كالنقد الأدبي والفني والصحافي، وخرج من دائرة النقد الشعري الضيقة إلى دوائر نقد القصة والمسرحية والرواية والسينما وغيرها. وقد حدث ذلك كله تدريجيا وعلى فترات متتالية أو متقطعة أحيانا.
ويمكن تحسس النقد الموريتاني الحديث والمعاصر في الدراسات العلمية والأبحاث الأكاديمية والأطاريح الجامعية والمقالات الصحافية التي كانت تنشر –وما تزال– في صحيفة (الشعب) منذ انتظام صدورها (1975) إلى يومنا هذا.
وتعد الدراسة التي تقدم بها ولد أباه عام 1969 لنيل درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات الباريسية بداية التنظير النقدي الموريتاني الحديث، ذلك بأنها قد أعطت –كما يقول أحد الدارسين– "الإشارة الخضراء لبداية النقد في الأدب الموريتاني، وذلك بتصنيفها المدارس الأدبية الموريتانية، وإرجاعها بعض الشعراء إلى هذه المدارس والاتجاهات". وبعد هذه الدراسة الرائدة ستتوالى الدراسات والأبحاث الجامعية التي تعد مَوْئِلا للنقد الموريتاني الحديث والمعاصر.
لقد غلب على النقد الموريتاني الحديث والمعاصر –وخاصة في بداياته– الطابع الصحافي. وكانت المقالات الصحافية النقدية ردا على رأي في مقال منشور سابقا، أو قراءة لنص جديد. وسنشير فيما يلي إلى بعض المقالات التي نشرت في الصحافة الموريتانية المعاصرة باعتبارها تشكل مظهرا من مظاهر الحركة النقدية الشنقيطية المعاصرة.
كتب الأستاذ الرشيد ولد صالح سنة 1979 مقالا مطولا (خمس حلقات) في صحيفة (الشعب) بعنوان (الأدب العربي في موريتانيا (الحلقة المفقودة))، فضمنه عدة ردود ومناقشات ابتعدت أحيانا عن الروح العلمية الموضوعية، وعالج فيه عددا من القضايا كقضية أولية الشعر الموريتاني وتطوره وأسباب غيابه (أو تغييبه) في الأدب العربي ومكانته فيه وتصنيفه الداخلي، وقدم فيه تصوره لمفهوم الأدب؛ فهو عنده "الكتابات التي كتبت للتأثير في مشاعر الناس وللتعبير عن أحاسيسهم وعكس مواقفهم البشرية والنهوض بتراث الإنسان الروحي..." كما طرح الرشيد سؤالا مهما في المقال نفسه، وهو: هل هناك أدب موريتاني ضمن مجموع الأدب العربي؟ وما خصائصه النوعية المميزة له؟ وحاول أن يقدم وجهة نظره في هذا الأمر.
وقد تصدى للرد عليه بعض الباحثين والنقاد، من مثل إيدوم ولد محمد يحيى الذي كتب في العام ذاته مقالة في صحيفة (الشعب) بعنوان (أصداء حلقة فقدت فأثرت)، ورد فيه على عدد من المسائل والإجابات والاجتهادات التي وردت في مقال الرشيد المتقدم ذكره. وممن رد عليه كذلك المرحوم محمدي ولد القاضي.
لقد حاول عدد من النقاد –على غرار ما فعل الرشيد– أن يقدموا في مقالاتهم الصحافية تصورهم لمفهوم الأدب والشعر. مثلما فعل الأستاذ أحمد الولي في مقاله المنشور (بالشعب) في العاشر من فبراير 1979 حين عرف الأدب بكونه "متعة وضرورة وخيال ووسيلة للتنبؤ، يجمع بين العام والخاص، ويبحث في أغوار الإنسان المطلق. فمع أن الحياة هي الأصل، إلا أن الأدب هو الذي يعطيها صفتها النهائية عن طريق التوجيه بالمفهوم الواسع للكلمة..." ويقول الناقد نفسه في مقال آخر معرفا الشعر: "هو الذي يعبر عن الإنسان الاجتماعي والإنسان المطلق. وكلما كان هذا التعبير أصدق عن الحالة التي يعيشها الشاعر والحالة السائدة في وسطه كان أكثر أصالة وأعمق تأثيرا". ويقول محمدي ولد القاضي في الصدد نفسه: "الشعر جنون، وبحث عن اللامعقول، وتعبير عن اللاوعي، وتغلغل في تضاعيف الوجود المعقد المركب... إنه يغوص إلى النفس، ويتسلل بين ثناياها...".
وهناك مقالات نقدية أخرى عالجت مفهوم القصيدة، ومفهوم الصورة الشعرية، ومفهوم الرمز والأسطورة... إلخ. وكانت صحيفة (الشعب) أكثر الصحف الموريتانية احتضانا لهذا النقد، بحيث إنها كانت-وما تزال– تفرد حيزا للأدب والنقد والإبداع، وأسهمت بشكل واضح في خدمة النقد الموريتاني المعاصر.
لقد وضع الأستاذ أحمد ولد حبيب الله خاتمة لكتابه المعني بالقراءة، وذلك عملا بالأعراف المنهاجية المعروفة في مجال البحث العلمي. وخصها بالحديث عن مكانة الأدب الموريتاني في الأدب العربي، وبإيراد بعض آراء أو شهادات المشارقة في حق أدب بلاد شنقيط. يقول الباحث في أولى فقرات هذه الخاتمة: "بعد هذا -إذن- آن لنا أن نضع عصا التَّسيار ونحط الرحال، لعلنا نتلمس ونتحسس موقع الأدب الموريتاني على خارطة الأدب العربي حتى لا يظل غائبا في هذا الأدب أو "حلقة مجهولة" –على حد تعبير الدكتور طه الحاجري– في تاريخه"[30]. وقد حاول الباحث أن يبرز –في المآل– المكانة التي يتبوأها الأدب الموريتاني ضمن مجموع الأدب العربي، ودعا إلى ضرورة بذل مجهودات إضافية وتنسيقها لتثبيت هذه المكانة وتعريف الآخر (المشارقة خاصة) بها. يقول في آخر الكتاب: "ولكن هذه المكانة تحتاج إلى جهود جماعية كبيرة ومخلصة لبيانها وإذاعتها على نطاق واسع عبر التدوين والتحقيق والدراسة والنقد والنشر والتسويق داخل البلاد وخارجها"[31].
(باحث بكلية الآداب، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب)
* * *
الهوامش
[1] للاستزادة يمكن الرجوع إلى مقاله (انطلاقا من موسم الهجرة)، الملحق الأسبوعي لصحيفة (العلم)، تاريخ 28/4/1972، ص: 3.
[2] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، اتحاد كتاب العرب (دمشق)، ط1، (1996)، ص 12.
[3] المرجع نفسه، ص 12.
[4] المرجع نفسه، ص: 72.
[5] الحاجري: شنقيط أو موريتانيا حلقة مجهولة في تاريخ الأدب العربي، مجلة (العربي)، الكويت، ع 107، أكتوبر 1967.
[6] أي يثقبها
[7] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، ص: 147، بتصرف.
[8] تجدر الإشارة إلى أن من الأسماء التي كانت تطلق على موريتانيا قديما اسم "بلاد التكرور" نسبة إلى كورة (التكرور).
[9] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، ص14، بتصرف طفيف.
[10] المرجع نفسه، ص197.
[11] المرجع نفسه، ص196.
[12] يقول عنها أحمد ولد حبيب الله: "ونعني بها تلك التقاريظ النثرية أو تلك التوثيقات أو المقدمات التي يكتبها أحد العلماء-بناء على طلب مسبق– لأحد المؤلفات الجرئية أو المهمة" (تاريخ الأدب الموريتاني، ص235، و236). وهي امتداد أو تطور نثري –إذا جاز التعبير– للتقاريظ الشعرية.
[13] يقول عنها أحمد ولد حبيب الله: "وهي جمع قف. وقد جرت عادة المحظرة الموريتانية على إطلاقه على درس فقهي من مختصر خليل بن إسحاق المصري (ت 776هـ)، ثم أطلق على الإنتاج النثري المكتوب كتابة تحاكي أسلوب المختصر المذكور الذي افتتن به القوم لسهولة حفظه. ولذا عدلوا عن الرسالة إليه" (المرجع نفسه، ص 269). ويقول في موضع آخر: "ويبدو أن فن أدب الأقفاف في النثر الموريتاني نشأ متأخرا، إذ نكاد لا نعثر على قف مكتوب قبل القرن الثالث عشر للهجرة، وهو قف الأتاي"(المرجع نفسه، ص 271.)
[14] فن شعري حساني قديم، موضوعه في غالب الأحيان مدح الأمراء والأعيان الحسانيين والإشادة بمفاخرهم ومناقبهم... وهو -كما يقول ولد أبّاه- نوع من الشعر الملحمي الذي يرتبط أكثر بالحاكمين. ويقول أحمد ولد حبيب الله إن "أكبر فنان [حساني] في فن (أتهيدين) سدوم ولد انجرتو الذي عاش في القرن 12هـ" (تاريخ الأدب الموريتاني، ص389، بتصرف).
[15] مفرده تبريعة. وهو شعر نسائي ما تزال نشأته محل خلاف بين الدارسين. وقد كان –في الأصل- رجاليا. ويرى بعض الباحثين أن هذا الشعر –الذي أمسى نظمه مقتصرا على النساء– هو أصل الشعر الحساني، وأنه يمثل الصورة البدائية لهذا الشعر الذي كان يحاول محاكاة القصيدة العربية. وقد تخلى عنه الرجل الحساني –تدريجيا- بعد أن تنوعت أشكاله التعبيرية. ولكنه لم يمت، بل غدا أداة التعبير الشعري لدى المرأة الحسانية تعبر به عن أحاسيسها التي لا تسمح العوائد الاجتماعية بإظهارها علنا. وهو شطران (أو تافلويتان)، وغرض واحد هو التغزل بالرجل من جانب البنات العاشقات أو اللائي يوهمن الأخريات بأنهن عاشقات لرجل معين تتكالب عليه الفتيات الأخرى. وازدهر فن التبراع على يد مطربات حسانيات شهيرات كالمرحومة محجوبة بنت آبَّ... وقد كتب الباحث الحسن ولد الشيخ بحثا قيما في هذا الصدد عنوانه (ظاهرة التبراع في الأدب الموريتاني).
[16] أصل هذه الدراسة رسالة جامعية تقدم بها صاحبها لنيل د.د.ع من جامعة محمد الخامس بالرباط عام 1992م.
[17] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، ص675.
[18] المرجع نفسه، ص703.
[19] المرجع نفسه، ص710.
[20] هذا العمل، في الأصل، رسالة جامعية ناقشها صاحبها في كلية الآداب (جامعة محمد الخامس/الرباط) عام 1982م.
[21] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، ص727.
[22] المرجع نفسه، ص ص732، و733.
[23] المرجع نفسه، ص 733.
[24] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[25] القالب العروضي لمخلع البسيط هو: مستفعلن فاعلن فعولن × 2.
[26] أحمد بن الأمين الشنقيطي: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مكتبة الخانجي (القاهرة)، ط 4 (1989)، ص 41.
[27] المصدر نفسه، ص 94.
[28] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، ص ص: 749+750.
[29] كذا في دراسة ولد حبيب الله. وواضح أن في البيت خللاً وانكساراً على المستوى العروضي!
[30] أحمد ولد حبيب الله: تاريخ الأدب الموريتاني، ص 776.
[31] المرجع نفسه، ص782.