يعرض لنا الناقد الفلسطيني كيف تأخذنا هذه الرواية الجديدة إلى السنوات البعيدة، سنوات تأسيس دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، لا لكي نبكي ووندب، وإنما لنسأل: أين نحن اليوم؟ وما هي مسؤوليتنا عما دار؟ وكيف السبيل إلى الخروج منه في زمن التردي والهوان العربيين.

قراءة في رواية «بلد المنحوس»

سهيل كيوان يحوّل الماضي إلى مرآة للحاضر

يأخذنا إلى السنوات البعيدة لا لنبكي ونندب وإنّما لنسأل: أين نحن اليوم!؟

نبيه القاسم

 

تُشكّل رواية سهيل كيوان الأخيرة "بلد المنحوس" (مكتبة كل شيء حيفا 2018)، إضافة مهمّة إلى الروايات الفلسطينيّة التي صدرت في السنوات الأخيرة، والتي بدأت تبتعد عن السّرد المكرّر للنّكبة وما رافقها، وتلتفت إلى مراجعة الذّات الفلسطينيّة لنفسها، وكشف المستور والاعتراف بمسؤوليّتها عمّا حدث، طبعا مع عدم إغْفال الدّور الكبير الذي لعبته القوى الأجنبية وأنظمة الحكم العربية في وقوع النّكبة وتشريد الشعب وضَياع البلاد. كانت الكاتبة سحر خليفة من الأوائل الذين اعترفوا بمسؤوليّة الفلسطيني عمّا حدث له بعد صرخة غسان كنفاني "لماذا لم تدقّوا الخزّان"، ووجّهت سهامَها بتأنيب الذّات، وأكّدت أنّ الشعب الفلسطيني بكل كوادره وتنظيماته ومَسْؤوليه هو الذي يتحمّل المسؤوليّة الكبرى لتسليمه الغير مقودَ التّحكّم بمصيره والتّلاعب بقضيّته، وذلك برز بشكل واضح وحادّ في روايتيها "أصل وفصل" و "حبّي الأول" (دار الآداب بيروت 2010)

يبدأ سهيل كيوان روايته الجديدة "بلد المنحوس" بتَنْبيه القارئ أنّ "هذه رواية خياليّة، أيّ تشابه بين شخصيّة حقيقيّة، وإحدى شخصيّات الرّواية، أو حدَث من أحداثها في الواقع، فهي مصادفة ارتطام الخيال مع الواقع"(ص7). وكأنّي بسهيل كيوان يريد أن يؤكّد على هذا التّشابه بين الشخصيّات وبين الأحداث، وأنّ ما وقع وما حدث تجاوز الخيال. وإذا كانت بعض الشرائح الشبابيّة قد تستغرب وترى المبالغة فيما تقرأه من فصول الرواية، فإن قانون القومية العنصري الذي سنّته الكنيست هذه الأيام يُجسّد واقع النظرة الاستعلائيّة التي ينظر بها الذين صوّتوا لصالح القانون تجاه الشعوب الأخرى (الأغيار) ،وخاصّة تجاهنا نحن أبناء الشعب العربي الفلسطيني الذين سنكون ضحايا هذا القانون الأوائل.

يستوقفنا اسم الرواية "بلد المنحوس" ونسأل لماذا؟ فبلدنا كما جاء وصفه في "العهد القديم" بلد الخيرات، بلد الحليب والعسل، وساكنها هو السّعيد المفضّل من قبل الرّب، فما الذي بدّل الحال وأصبح بلدَ المنحوس بَدَل أن يكون بلدَ المحظوظ الذي جعله الله من سكّان هذا البلد المقدّس المحروس؟!

الزمان والمكان
لم تتوزّع أحداث الرّواية على أزمنة طويلة ولا في أمكنة عديدة، فقد انحصرت في سنوات لا تزيد على خمس عشرة سنة1940-1955، ومكانين أساسيين هما مدينة عكا ومدينة وارسو عاصمة بولونيا. وكان يتنقّل بين المدينتين ليُقدّم المشاهد التي تروي لنا الذي حدث، ليس لنعرفَ حقيقة ما كان سببا لضياع الوطن وتشريد الشعب فقط، وإنّما لنكتسبَ العبَر، ونحذرَ غدرَ الزّمن.

يا زمانَ الوصل
تبدأ الرواية بمشهد اعتادته مدنُنا وقرانا في الزمن الماضي، مشهد يتحلّق فيه الناس حول الحَكواتي الذي يقصّ عليهم القصص الجميلة التي تُخرجهم من واقعهم ليعيشوا بعضَ الوقت في أجواء الحبّ والفَرح والرّفاهيّة والفروسيّة وتحقيق الآمال. أبو ربحي هو الحكواتي، وقصّته التي اكتسحت قصّتي المهلهل ووضّاح اليمَن، هي قصّة "وضحى الصّفّوريّة وحمَد الطبَراني". أبو ربحي يعزف على الربابة وينشد بصوت يشدّ المشاعرَ ويُحرّكها، ويُخمد العقولَ ويُعطّلها. وعيناه لا تغفلان عن الملاليم والتّعاريف والقروش التي يرميها المتحلّقون أمام قدَمَيه.

وضحى الحزينة تْنادي ربّها يا مْعين

تْفَرّج همومي ومن الكَرْبات تِجْليها

حُكمك عَدِل يا مُعتلي العَرش والدّين

تِلْهِمْ حَمَد ييجي لوضحى يْنَجّيها

ويتمايل الجالسون ويُحلقّون بخيالاتهم ورغباتهم مع أبو ربحي حتى يُعلن النهاية السّعيدة بلقاء وضحى وحمد. ولكن الفرحة لم تكتمل، فقبل عودتهم لواقعهم يسمعون صراخا و"دبّة صوت" ليكتشفوا أّنّ رسمي بن مخلوف أفندي وأمين الزيدان يتعاركان، والسّبب أنّ رسمي كان في زيارة مشبوهة لجَمَلات جارة أمين. وانتشر الخبر ووقعت الاشتباكات بين عائلتي أمين ورسمي، وتدخّل الكثيرون حتى من القرى المحيطة بمدينة عكا لفكّ الاشتباكات وحل النّزاع.

وبالمقابل
ينقلنا الكاتب إلى مدينة وارسو عاصمة بولونيا حيث تعيش جالية يهوديّة كبيرة وثريّة ومتسَلّطة، وذات نفوذ كبير، تمُدّ يدَ المساعدة لكل محتاج من أبناء الجالية. يوهان هيرش شخصية يهوديّة ثرية ذات تأثير كبير كان يستعد لاستقبال شخصية مهمّة وصلت من بْلَشْتينا اسمه دافيد يوسف غرين الذي عُرف فيما بعد باسم دافيد بن غوريون، ودعا لاستقبال الضّيف عديلَه أبراهام خيترمان وزوجته دبورا وابنهما راتشينسكي، وكان خيترمان ماركسيّا يتعاطف مع حزب البوند ويؤمن ببناء مجتمع اشتراكي يندمج فيه اليهود، ويرفض فكرة الهجرة إلى فلسطين، ولم يلتزم بأيّ مظهر ديني من التّراث اليهودي، حتى أنّه لم يختن ابنَه راتشينسكي، ويعشق تناول اللحم الأبيض.

زيارة الضيف كانت بهدف اقناع يهود وارسو وبولونيا بالسّفر إلى فلسطين. وعندما قال خيترمان إنّه لا يُؤيّد الهجرة إلى فلسطين، وعلى اليهود الاندماج أكثر في المجتمع البولوني نبّهه بن غوريون إلى مخاطر المستقبل على اليهود بعد الذي يجري في ألمانيا من سَنّ قوانين عنصرية تَحرم اليهود من حقوق المواطن. وأنّ الفكر النّازي ينتشر وسوف يصلهم في بولونيا، والحلّ الوحيد أمامهم الهجرة إلى فلسطين لتحقيق حلم البيت الآمن. ولمّا تخوّف خيترمان من موقف العرب وتساءل: كيف ممكن أن نحلّ مكان شعب آخر في بلاده، بل ونُقيم فيها دولة؟ طمأنه بن غوريون "بأنّ العرب في غاية السّذاجة والبدائيّة، فأكثرهم فلاحون فقراء جدا، وقد نجحنا بشراء مئات الآلاف من الدونمات من الأرض من عائلات الإقطاع. ولا تنسَ أنّ لدينا من المقاتلين المدرّبين جيّدا، ومن العتاد والسّلاح ما يهزم العرب بسهولة، فهم غير مستعدين وغير مسلّحين، ولا يُصدّقون بأنّنا سنُقيم دولتنا في فلسطين، ويسمّوننا أولاد الميّتة. إضافة إلى ملاحقة السلطات الإنكليزية لهم بالسّجن والقتل والإعدام (ص20-21).

وتحقّقت أقوال بن غوريون، وتصاعدت مَظاهر العنصرية والكراهيّة واللاساميّة. وصدرت في ألمانيا قوانين تمنع اليهود من ممارسة الكثير من المهن والوظائف، وخصوصا المحاماة، وتُحمّلهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية. وبدأت تنتشر في بولونيا الجماعات التي تحمل الأفكار المعادية لليهود، وتقوم بالمضايقات والاعتداءات والابتزاز المالي وفرض الخاوة والقَتل.

هذا ما كان يحدث في أوروبا ووارسو بشكل خاص بينما الحياة في عكا تسير بروتينها المعتاد، فأمين زيدان التّاجر الكبير توسّعت تجارتُه وزادت ثروتُه. كان يعشق الموسيقى واهتمّ أنْ يتعلّم ابنُه شكري العزفَ على العود، فأخذه إلى قدورة السيّد ليدرّسه، ومعه كان يعزف ربحي النّاياتي على النّاي، وتطوّرت علاقة قدّورة بربحي حتى زوّجه من ابنة عمّه جمَلات ليرتاح منها ويستر عرضَها بعد الذي جرى لها من رسمي بن مخلوف. وحدث أن كان جُلساء مجلس الحاج زيدان يستمعون من الراديو إلى أخبار سيطرة هتلر على الحكم في ألمانيا، وخطر نشوب حرب، قد تحرق أوروبا، وإذا بأصوات تُعلن مقتل الدكتور أنور شقير ابن الشيخ أسعد الشقيري، واتّهامه بالخيانة الوطنيّة والتّعامل مع الانكليز. ولكن تبيّن فيما بعد أنّ قَتْل أنور شقير كان نتيجة مؤامرة دبّرها المندوب السامي البريطاني بمساعدة ومشاركة مخلوف أفندي أبو رسمي. الذي أجاب المندوب السامي عندما اتّصل به ليشكره بقوله: سوف أكون دائما حيثما تطلبون وتأمرون، يا سيّدي. (ص47)

في وارسو زادت مضايقات المجموعات العنصرية لليهود بالاعتداء عليهم ونَهبهم ومُطاردتهم ممّا جعل الكثير من الشباب يُفكّرون بترك وارسو وبولونيا والهجرة إلى فلسطين، ومنهم إيزاك بن هيرش وراتشينسكي بن خيترمان.

وفي عكا يعيش الناس بهدوء وراحة بال، يتشوّقون لرؤية فريد الأطرش الذي قيل بأنه سيُحيي حفلة في عكا، وبدأت التّحضيرات السّريعة وزاد تلهّف الناس. وشكري يزداد تعلّقا بياسمين ابنة خاله مالك ويُسمعها أجمل الألحان عندما تحضر لزيارة شقيقته، بينما والدها مالك مُنشغل بجانيت الموظّفة الانكليزية في شركة بريتيش بتروليوم، وأصبح مرافقها ودليلها ممّا أثار شكوك وغضب زوجته زهرة، التي كادت تطير من الفرَح عندما علمت أنّ جانيت ستعود إلى انكلترا استجابة لطلب الحكومة البريطانيّة من مواطني المملكة بمغادرة فلسطين بسبب تَصاعد التوتّر بين العرب واليهود بعد صدور قرار عصبة الأمم بتقسيم فلسطين (ص63).

اجتاحت الجيوش الألمانية ثلثي الأراضي البولونية، وصدرت الأوامر لليهود بتثبيت شريط أصفر على الصّدر ومكتوب عليه كلمة يهودي، وأن يتجمّعوا في أحياء مُحدّدة. وقد تمكّن إيزاك وراتشينسكي برفقة شقيقتي إيزاك من الهرب، ووجدوا ملاذا في منزل أسرة مسيحيّة بولونية، وبعد أشهر انتقلوا إلى نُزل صيفي وجدوا فيه الأمان حتى هوجموا من قبل مجموعة عنصرية من الشباب البولوني، قتَلتْ إيزاك وأجبرتْ راتشينسكي الذي نجح، إلى حدّ ما، في إقناعهم بأنّه غير يهودي، وإثباتا لذلك أنّه غير مختون كباقي اليهود، فأجبروه على مرافقتهم ليدلّهم على أمكنة تواجد اليهود والمتعاونين معهم.(ص90). ومع تغيّر نتائج المعارك واندحار القوّات الألمانية وقدوم جيوش الحلفاء، تغيّرت سلوكيّات الناس وبدأوا يُظهرون رفضهم للألمان ويتغنّون بحبّهم للجميع. وقد استطاع راتشينسكي أن يهرب ويصل إلى فلسطين وقد استعار اسم ابن خالته إيزاك واستغلّ معرفته ببن غوريون لينال الحظوة والعناية.

هكذا ضاع الوطن وتشرّدنا، همسة سهيل كيوان العالية لنا، وهذا ما تُوَثّقه وتُؤَكّده هذه المشاهد المتبادلة التي قدّمها لنا بين ما يجري في أوروبا وفي وارسو كنموذج، ووعي القيادة اليهوديّة واستعدادها وتوعيتها لليهود ممّا قد يُلاقونه من الوَيلات، وحثّهم على القدوم إلى فلسطين ليُساهموا في قيام دولتهم اليهوديّة. وما نُشاهده من حياة العرب في مدينة عكا كنموذج لكافّة البلاد، الحياة الروتينيّة، وقصص الحَكواتي، والانشغال بالقضايا والخلافات اليوميّة، وانعدام القيادة الواعية المسؤولة، وعدم الالتفات لما يجري وسيكون في المستقبل من ضياع البلاد وتَشريد وتهجير وطرد الناس.

وينقلنا الكاتب إلى النتيجة التي عمل اليهود لتحقيقها واستعدّوا لمواجهتها، بينما العرب كانوا لاهين مُعتمدين على وعود الانكليز والأشقّاء العرب، ووثوقهم من استحالة استطاعة اليهود في تحقيق حلمهم بإقامة دولة لهم. وكان قرار عُصبة الأمم بتقسيم فلسطين واكتساح القوّات اليهوديّة المستعِدّة والمدرّبة والمسلّحة لمعظم البلاد وتنفيذها عمليّات طرْد مُبرمَجة للسّكان العرب. وكان ما كان، وسقطت البلاد وتَشرّد وتهجّر الناس أيدي سبأ، ووجد مَنْ بقي من أهل عكا العرب أنفسَهم في قبضة القوّات اليهودية وتحت رحمتها، تفعل ما تشاء بهم، ولا رقيب عليها. ويكون راتشينسكي المتخفّي باسم إيزاك حاكم عكا وسيّدها ومعه طاقم من المساعدين يعملون على التّحكّم بالناس وإذلالهم والعمل لجعلهم يتركون بيوتهم ويهجرونها لتصبح ملكا لليهود. ووضعت خطّة "لإقلاق راحة السكان بقرع الطبول، والنّحاسيّات، والأبواق، في الليل والنهار، وافتعال المشاكل مع السكان، والتّحرّش بهم، حتى يشعروا أنّهم في جحيم، وأنّ رحيلهم أفضل" (ص123)، إضافة إلى العمل على تشغيل العملاء والوشاة، ودبّ الخلافات بين الناس، والإغراء بالعمل والمال، وتوريط البعض بقضايا جنسيّة ليسهل التّحكّم بالجميع.

ثورة النّساء
عادت حياة الناس في عكا إلى روتينيّتها القاتلة، واعتاد الأهالي على إزعاج قَرْع الطبول وباقي الآلات ساعات الليل، واستكانَ الكثيرون للإهانات والتّعدّيات، وحرمانهم من الحقوق الأساسيّة، وتقبّلهم لدَفع الرّشاوى حتى ينالوا ما يريدون، وبدأ البعض يخضع للإغراءات فيبيع ما يملك لليهود ويترك البلد ويرحل. وكان التحوّل غير المتوقّع في موقف النساء اللاتي بدأن باحتقار رجالهنّ لخضوعهم للذلّ والإهانات والتّسليم بالأمر الواقع. واتّفقت النساء على التمرّد والثورة الصامتة الفعّالة ضدّ رجالهن. وذلك بقرارهن بعدم السماح لأزواجهن الاقتراب منهن ومجامعتهن. فلمّا حاول أمين زيدان تذكير زوجته بليلة الدُّخْلة وطلب منها أن تقترب منه صدّته قائلة: "انسَ هذا الموضوع". ولما حاول الاستفسار عمّا جرى قالت له: "لا ولا إشي، بس قتلتني. برودك خنقني". وتابعت موضّحة:" لقد نجحوا بخصيكم، اقتنعتم بأنّكم عاجزون حتى عن ترميم بيوتكم". (ص241).

وفي جلسة مع الأصدقاء في المقهى قال قدورة : "نساء البلد مضربات عن معاشرتنا!! بصراحة حِفي لساني وأنا أرجو زوجتي ، ولكنّها كانت سدّا من الإسمنت". وانفجر الحضور بالضحك وقالوا: "يا رجل، نساء الحيّ أعلنّ الاضراب عن معاشرتنا، حتى نفعل أمرا. أن نُسْكِت ضاربي الطّبول وأن نُرمّم بيوتنا" (ص246).

تجنّد رجال الدين ضدّ ثورة النساء
وكما هي العادة، الكثير من رجال الدين وقفوا ضدّ النساء وهاجمهن في خطبهم في المساجد: "إنّ مَن تَحرم زوجَها ولا تُمكنّه من نفسها فقد دفعته إلى المعصية" (ص248)، وظهرت انشقاقات في صفوف المضربات، وانتهى الاضراب بالفشل. لكنّ علاقة النساء فترت بأزواجهن، ولم يعد الواحد يجد المتعة مع الآخر، وأصبح صوتُ الطّبل يذكّرهم بالعَجز فينكفئ الواحد على نفسه وينام مقهورا.

بداية التحرّك
يحسب الحاكم الظالم أنّه كلّما ازداد ظلما زاد الخنوع والتّذلّل والقبول بما يريد. هذا صحيح إلى حدّ ما، ولكنّه أيضا يوصل بالمظلوم إلى درجة الشعور بأنّ لا قيمة لحياته، ولم يعد لديه ما يخاف فقدانه، ويفضّل الموت على الحياة الذليلة الخنوعة فيخرج ليُواجه، فإمّا ينتصر على ظالمه، وإمّا يَلقى حتفَه وهو مرتاح الضمير. وهذا ما حدث مع أمين زيدان الذي لاحقوه حتى فقَد قدرتَه على التّحمّل والصّبر فصرخ وشتم وضرب يوم تقصّدوه ليذلّوه بطبلهم وصنوجهم وصراخهم، وحتى دخول حدود بيته وهم يصرخون بتحدّ: "يحيا الرب يحيا الرب، العرب برّا". فصرخ بكل قوّته: "يلعن أبوكم وأبو الرب بتاعكم"(ص267). ورماهم بكرسي قشّ، وبحوض زهور. وهو يصرخ مُتحدّيا طلقةَ الرّصاص التي انطلقت تجاهه: "ولك طخ يا نذل. طخ ياجبان يا ابن الزانية".

وتحمّس نساء ورجال وفتية الحيّ وصاحت امرأة : مرمرتم عيشتنا.. انقلعوا من هالأرض. وسقط إصيص ورد من الفخار تحطّم وتناثر بالقرب منهم، تلاه حجر. أدرك أوريا أنّه على وشك التّورط. أمر الفرقة فتوقّفت عن التّطبيل، وبدأوا بالانسحاب بحذر مُشيَّعين بالشّتام من كلّ جانب"(ص268-269). وشعر أمين، كأنّه اقتلع شوكة صبّار من حلقه، هذه أوّل مرّة منذ يوم النّحسة، يُعبّر عن غضبه في المكان والزمان المناسبين. أخيرا فعل شيئا ما. حتى زوجته نجمة التي طالما رفضته وصدّته وعيّرته بعَجزه وضَعفه وذلّه، احتضنته وتَصالحت معه (ص269)

وكانت ردّة فعل الناس المتوقّعة، الذين أيقظتهم ثورة أمين، أنْ سارعوا للوقوف إلى جانبه عندما عاقبه الحاكم على ما فعَل بأمره بإخلاء بيته خلال ثلاثة أشهر بحجّة عدم ترميم بيته الذي يُشكّل خطرا عليه وعلى أسرته والجمهور. وأصبحت خيمة الاعتصام التي أقيمت في خان العمدان ملتقى المتضامنين مع أمين حيث تُلقى كلمات التّضامن وانتقاد تصرّفات السلطة. ولم يسكت الحاكم عمّا تُسبّب هذه الخيمة التي أصبحت ملتقى المحليين والسيّاح. فزاد من ضجيج الطبول وأضاف طبلا عملاقا أطلقوا عليه اسم "طبل يوم الحساب" ردّا على إقامة الخيمة.

وقام إيزاك بخطوة لئيمة مدروسة لجعل النّاس يشكّون بصدق وطنيّة أمين زيدان باستدعاء ابنه شكري والتّحقيق معه حول لقائه ببات شيبع على شاطئ البحر وما جرى بينهما، لكنّه طمأنه بأنّه يُسامحه وحتى أنّه قرّر تعيينه معلّما للموسيقى، وعندما رفض شكري الوظيفة ضغط عليه إيزاك، وهدّده بنشر قصّته مع بات شيبع إضافة إلى تقديم شكوى ضده لانتحاله شخصيّة ثانية، وقيامه بالتّحرّش الجنسي ومُطالبته بتعويض مالي كبير، فخاف شكري ورضخ لطلب إيزاك، ووقّع على اعتراف بكل ما ورد في اتّهام إيزاك، وقبلَ بالوظيفة المقترَحة. وتقبّل الناس خبر تعيين شكري معلّما باستغراب وتساؤل، وبدأت الشكوك تحوم حوله وحول والده أمين متّهمين شكري بالعمل مع إيزاك. وأخذ المتضامنون يبتعدون عن خيمة الاعتصام، وشكوك الناس تزداد أكثر بشكري ووالده.

نهاية رجل حقير
مثّل إيزاك النموذج للإنسان الحقير الذي تُغريه السّلطة التي تجمّعت في يديه فوجّهها ضدّ عامّة الناس العرب لظلمهم وقَهرهم وإذلالهم. محاولا بذلك التّعويض عن مَشاعر النّقص الكبيرة التي يُعاني منها وتُلازمه. فقد غدر بابن خالته إيزاك وانتحل اسمَه وتنكّر ليهوديّته وتعاون مع البولونيين في مطاردة أبناء شعبه والكشف عنهم وتسليمهم ليُقتَلوا. وبعدما وصل إلى فلسطين وتوسّط له بن غوريون وسهّل عمله وترقيته. وبعد سقوط البلاد واحتلال عكا عيّن حاكما عسكريّا للمدينة، فعمل على التّضييق على السّكان العرب وإذلالهم وإفقارهم، وترقّى في المناصب حتى خرج للتّقاعد وهو يعتقد أنّ سجلَ ماضيه المشين سيبقى مجهولا للناس حتى كان والتقى في "بيت المسن" الذي يُقيم فيه نتيجة لتقدّمه بالسّن وعجزه بريبيكا أخت إيزاك يوهان هيرش ابنة خالته التي كان بينه وبينها قصّة حبّ، ففضحته وكشفت أعماله السيّئة، وأنّه ليس إيزاك وإنّما راتشينسكي، وصرخت في وجهه: "لماذا سرقتَ اسم شقيقي؟هذا ابن خالتي دبورا، هذا خائن، نهب ووشى باليهود"، وروت للممرّضة العربية قصّة راتشينسكي القذر. وكانت الممرضة العربية تدعوه، قصدَ تعذيبه، مرّة إيزاك ومرّات راتشينسكي، فيكفهرّ وجهُه ويجهش بالبكاء، ولم يعد ينطق بشيء، ويتمنّى الموت ليرتاح (ص323-325).

سهيل كيوان وسهامه الموجّهة
يُعيد الكاتب في روايته هذه ذكر الحقائق التي يعرفها الجميع حول أسباب ضياع البلاد وتشريد وتهجير وطرد الناس عام 1948، ولا يُلقي اللومَ على الغير، وإنّما يعترف بأنّ ما حدث كان نتيجة للجهل الذي عمّ الجميع، والاتّكاليّة التي ركنوا إليها وزادت بوعود الإنكليز وتصريحات الحكّام العرب، وخيانة الكثيرين الذين باعوا أراضيهم، وتعاملوا مع اليهود ضدّ أبناء شعبهم، ولثقتهم بأنّ النّصر لن يكون إلّا حليفهم، فلم يستعدّوا ولم يُعِدّوا لليوم العَصيب ما يستحقّ.

ورغم إدراك الكاتب لهذه الحقائق إلّا أنّه لا يُسامح مَنْ حمّلهم مسؤوليّة الذي حدث، وبهدوء أراده أنْ يبدو ساذجا، يذكر الكاتب أنّ الهيئات العليا في السلطة الإسرائيليّة قرّرت الاحتفال بأوّل أيار، وأنْ تكون مناسبة لتَوجيه رسالة شكر وتقدير للاتّحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الحديث الولادة، على دعمهم للدولة الوليدة، وتأييدها بقوّة، معنويّا وماديّا". (ص176) ويذكر أنّ وزير الشرطة باخور شيطريت أصدر توجيها للشرطة، بعدَم تسجيل أيّ مخالفات سَيْر، في يوم الاستقلال، وفي الأوّل من أيّار، كي يفرح الناس والطبقة العاملة جميعا، وأنّ هذه كانت استجابة من الوزير، لطلب قدّمَه شموئيل ذو الرّبطة الحمراء شخصيّا. وأنّ الوزير ردّ عليه قائلا: لن أنسى دَوْر الرّفاق الحُمر، ومساهمتهم الجليلة في تأسيس الدولة". ويذكر أنّ من الذين حضروا احتفال أوّل أيّار كان سفراء وقناصل من دول اشتراكيّة، وعلى رأسهم، سفير الاتحاد السوفييتي بافل يارشوف، الذي هنّأ بكلمة قصيرة. ثم تلاه السّفير التشيكي، الذي استُقبل بالوقوف والتّصفيق المتواصل لأكثر من دقيقة، تحيّة لصفقة السلاح الشّهيرة". (ص178)

ويذكر الكاتب قصّة العميل "رسمي مخلوف" الذي كان والده عميلا للإنكليز ودفَع بابنه رسمي للتّعامل مع إيزاك ضدّ أبناء شعبه، فكان يشي بهم ويستغل علاقاته ليأخذ الرّشاوى، حتى أنّه أجبر زوجته على الدخول في دورة للختانة ومن ثم لتقوم بختانة إيزاك. ولكنّ إيزاك لم يحافظ على رسمي، وانتهز أوّل فرصة سنحت له لينتقم منه لإفشائه سرّ قيام زوجته بختانه. فترك كلبَه ينهش جسدَ رسمي الذي تحوّل في لحظة واحدة ليكون البطل القومي في نظر الناس، فتضامنوا معه، وجاءت الوفود للتّضامن. وهنا يُوجّه الكاتب سهمَه بهدوء طبيعيّ "وصل وفد من اليهود والعرب، بقيادة شموئيل وإميل (المقصود إميل حبيبي)، ووفد آخر من حركة حقوق الإنسان والمواطن، والصحفي أفنيري من "هعولام هزيه" تضامنا مع رسمي. وقد ألقى إميل محرّر صحيفة الاتحاد، باسمه وباسم شموئيل كلمة، وبشّر الحضور، بأنّ ما كان قبل معركة ستالينغراد وتحرير برلين من النازية، لن يكون بعدها، وأنّ "شمسَ الشعوب" لا بُدّ وأن تُشرق على الجميع، وما لبث بعض مرافقيه أن علّقوا صورة "ستالين شمس الشعوب" (ص319)

ويُوجّه الكاتب سهمَه الحادة لطيبة الناس، وانخداعهم بما يرَون دون التّحقّق. فرسمي مخلوف العميل ابن العميل، استطاع بعد كلّ ما فعل ضدّ ابناء شعبه والوشاية بهم للتقرّب من إيزاك ونَيل رضاه، أنْ يقلبَ نظرةَ الناس إليه ليكون الشخصيّة الوطنيّة التي تعرّضت لمحاولة اغتيال، فأقيمت له منصّة تضامن وتغنّوا بفعله واسمه. حتى أن كلّ مَنْ تحدّث أكّد أنّ الضابط إيزاك ما كان ليُطلقَ كلبَه على رسمي لولا الخدمة الوطنيّة الكبيرة التي يُقدّمها رسمي لأهل بلده، وطالبوا بمحاكمة نزيهة للضابط إيزاك.

وبهذه القصة لرسمي مخلوف يُذكّرنا سهيل كيوان، وبراءة الأطفال في عينيه، بعشرات الشخصيّات التي عملت مع الحاكم ضدّ أبناء شعبها في العقود الأولى لقيام الدولة، وأنهت حياتها باعتمار الكوفيّة الفلسطينيّة! والتّغني بحتميّة قيام الدولة الفلسطينيّة وعاصمتها القدس الشّريف، وعفا الله عمّا كان!.

اللغة
عرف سهيل كيوان، كما في رواياته وقصصه القصيرة، كيف يشدّنا باللغة العاديّة، ولكن الجميلة، إذا كان باللغة العامية في الحوار أو باللغة المعياريّة في السّرد، ولأنه اختار الضمير الثالث ودَور الرّاوي الكليّ المسؤول عن كل ما يجري ويُقدّم، لم يجد حَرَجا في الاعتذار من القارئ بأنّه سينتقل للغة المعياريّة "المهم يا حضرة القارئ، إسمح لي أنْ أكتب باللغة المعياريّة" (ص12) التي يعرف كيف يُطعّهما بالمثل حينا(ص157و 205) وبقصة من التراث العربي أو العهد القديم حينا آخر(ص 146وص 161و ص221 وص238)، ممّا يُخفّف من ثقَل السّرد عن القارئ، لينتقل بخياله وعالمه، وحتى بلغته وشخصيّاته إلى عهود سابقة.

كما أنّه اهتمّ بإرسال إشارات ليزَريّة ناعمة وأخرى حارقة، وأحيانا بأسلوب تهكميّ ساخر "قالوا لهم إنّ الله غائب، والدولة وضعت يدها على أملاكه" (ص150)، ويترك شخصيّاته تتكلّم بحريّة باللغة المحكيّة ليرسم المشهد المثير أو الساخر أو الجارح والمبكي "صاح الحاج زيدان: يا رجال، اسمعوا، خلّينا نحكي عالمكشوف، مين عندو بارودة، أو طبَنْجَة، أو كْريك، أو منكوش، أو سيف، وحتى عصاي، كل واحد قادر، واجبه يستعدّ. التأخّر عن الزّحف كُفر ورِدّة عن الدّين" (ص65). وقال إيزاك لرسمي مخلوف "الملعون (يقصد كلبَه) شمّ رائحتك، إنّه يعرف رائحة العرب وتستفزه، لا يميّز بين عربي إسرائيلي مخلص للدولة، وبين عربي من المخرّبين، بالنسبة له كلّكم عرب" (ص173). وكان يرقّ أحيانا في اختياره للكلمة الجميلة الموحية مثل وصفه للقتال الذي دار بين عائلتي زيدان ومخلوف بـ"العَرْكة" بدلا من "المعركة" وكأنّ المتقاتلين من العائلتين يعركون بعضُهم بعضا، وليسوا في معركة يبيُد فيها أحدُهم الآخر، وبذلك يحافظون على علاقات الودّ والصّداقة والقَرابة فيما بينهم. ومثل قوله "أطال التّحديق في خصلة الشّعر التي على جبينها وقد بدأ الشيب بغَمْزها."(ص237)بكلّ ما في كلمة "بغمزها من إيحاءات مثيرة وجميلة.

مشاهد الوصف التي يعرف كيف يرسمها ويشدّ القارئ إليها
يتوقّف قارئ رواية "بلد المنحوس" مبهورا ومشدودا ومتحرّرا من كلّ قيود اللياقة والرّزانة والانضباط وهو ينساق مع الكاتب في المشاهد المثيرة التي يتفنّن بطبيعيّةٍ وسَلاسَةٍ وكلمات عاديّة بسيطة في رسمها لتتجسّدَ حيّة متحرّكة مثل مَشهد العِراك بين إيزاك والشباب البولونيين الذين هاجموه عندما كان مع شقيقتيه وراتشينسكي وحاولوا التعرّض لأخته. (ص100-101). ومشهد اعتداء أوريا وبعض الشباب على قدورة ومحاولته تخليص آلة القانون منهم" (ص 117-118)، ومشهد استغلال الدكتور سرّي لتضايق زهرة من الحساسيّة ومحاولته إغرائها" (ص148-150)، ومشهد قيام فضة زوجة رسمي مخلوف بختان الضابط إيزاك (ص191-195)، ومشهد اللقاء بين شكري وبات شيبع على شاطئ البحر وقيامه بتدليك جسدها (ص211-219)، ومشهد اعتداء أوريا وزمرته على بيت أمين زيدان وتصدّي أمين لهم واستنفار نساء ورجال الحيّ ضدّهم حتى هربوا (ص267-269)، ومشهد مواجهة شكري لأوريا ومجموعته عند الحاجز وكسره لعوده، وما لاقاه من ضَرب وإهانة بعد ذلك (ص297-302)، ومشهد لقاء إيزاك بريبيكا في نزل المسنين بعد عقود من الزمن، وفَضْح ريبيكا له بأنّه سرق اسم أخيها إيزاك الذي قتله البولونيون، وأنّ اسمه الحقيقي راتشينسكي، وفزَعه من انفضاح أمره، ثم مشهد الممرضة العربية التي عرفت بقصة الضابط إيزاك وأخذت تُعذّبه بهدوء وهي تحمّمه بسؤالها له: سيادة التات ألوف إيزاك، قل لي بصراحة هذا عضو راتشينسكي أم عضو إيزاك، فيكفهر وجهه ويجهش بالبكاء ولا يرجو من الرّب إلّا أن يميته بسرعة. (ص324-325).

أخيرا
كعهدنا بالكاتب سهيل كيوان، يأتينا دائما بالإبداع الجديد الذي يؤكّد لنا أننا أمام كاتب ملتزم بقضايا شعبه وأمّته، يعرف قَدْر الكلمة وقيمتها، يُراودُها وتُراوده، فتسلّمه قيدَها وهي واثقة بأنه لن يخيّب أملها، فيختلي بها لزمن قد يقصرُ أو يطول، ولكنّه يرجع إلينا وهو يحمل مولوده الجديد، قُرّة عينيه وفخره واعتزازه، فنتلقّفه منه بفرح ونحن نصبو للمولود التّالي الذي لا بُدّ وسيأتي.

 

الرامة