إنّه "كِتَابُ الْوَجْهِ - هكَذَا تَكَلَّمَ رِيشَهْدِيشْتْ". هكذا تكلّم الشاعر محمد حلمي الريشة، بملامح الشاعر فيه، وبقسمات لغته، وبأبّهة شعر بأنامل ذائقته في إصداره الجديد المختلف شكلًا ومضمونًا، ما بين نثر و"هايكو" و"تانكا" وشذرة؛ فبعد تشريفي بكتابة تقديم لهذا الكتاب القيِّم، أُجزم بأنّه عند الانتهاء من القراءة لا يمكن إلا العودة إليه، لاكتشاف اللغة بعين قارئة أخرى، بنَفَسٍ جديدٍ تارة سيميائيًا، تارة بلاغيًّا، برؤية غير مقيّدة ولا محجوب عنها الخيال، بل منطلقة باحثة مستقصية، لتتعدّد القراءات للُغة الشّاعر، فكلُّ مقاربة هي ليست حتمًا تقيِيمًا نهائيًّا ولا قيمة أخيرة ووحيدة له؛ فهو الشاعر المتطَلِّبُ للقراءة العميقة الغائصة والسابرة للغور بـ"كتاب الوجه"، يُحَمِّلك أديبهُ ومؤلِّفه الشاعر الريشة مسؤولية أن قراءة نصوصه هي مساءلة أولًا لخبرة الناقد الإنسانية والنفسية والثقافية، بإدراك واعٍ لحروفه ولملامح الدلالات الدفينة والعميقة. أكيدٌ هي مجازفة ليست بالهينة، فهي تتطلب رحابة عقلية متعقلة منتبهة يقظة اعتمادًا على علاقات النص الداخلية وصولًا إلى شساعة فهم المراد ارتكازًا على مقاربة هادفة من القارئ/ الناقد إلى التعرف إلى النص ومعرفته؛ لتكون اللغة النقدية لغة حوار حضاري راق، وأنت تقرأ له يفاجئك بـ:
مَاذَا بِوُسْعِكَ أَنْ تَفْعَلَ
- أَيُّهَا المَجْنُونُ شِعْرًا-
إِذَا الَّذِينَ يَتَحَلَّقُونَكَ حَقِيقِيُّو الجُنُونِ؟!
إنها الشاعريّة الشعريٍّة العميقة والولهة بالشعر الشرهة هذا الذي يكتسح نُهى الدلالات الناصعة البياض بلغة متوهجة تتدفَّقُ من الدواة ذائقةٌ متفردة وتختال كاللجين منسابة البريق والعطر لتلمع بشدة؛ فالجنون هنا ما هو بفقدان لإدراكات بقدر ما هو استشرافٌ لِمَ هو وراء الشعر وما أبعد منه:
مَهْمَا عَلَوْا
يَتَسَاقَطُونْ؛
أُولئِكَ الَّذِينَ
دُونَ
سُلَّمِ
الْقَصِيدِ
يَصْعَدُونْ!
الشاعر الريشة يجزم بأنه لا تقوم قائمة الشعر من دون ذلك القلق الوجودي المفعم وعيًا إنسانيًّا، شفّافًا، شفيفًا.
يطالعنا الشاعرُ بذاته الحالمة/ الحاملة للوجع الإنساني باعتقاده لِمَ هو الشعر وطقوس الاختلاف، المنفعلة/ المتفاعلة/ الفاعلة، بحثًا عن الحقائق، ترصُّدًا لها وتعقّبًا، وليبرهن أن الجنون شعرًا هو المشاكسة المستبقة حُلمَ الخيال، الممتطي غربة الخطو.
وها هو ذا الشاعر فيه يضعك أمام حقيقة انطلاقًا من موقعك الإدراكي كقارئ منتبه يقظ، وناقد بتعدد رؤاك لا بأُحاديَتِكَ المتعصبة؛ فوحده الشاعر لديه القدرة على جذبك لعالمه، وأنت تقرأ له يشاكسك بذكائه ودهائه اللُّغوِيَيْنِ، فيثير خلايا فهمك، ليُورثها جيناتِ ثقافتكَ سمات وعمقَ ثقافته، يسلبك حديثك لتقرأه بصمت هادئ معقلن، ليمنحَكَ أمانَه الشعريّ بزمان شعريٍّ رهيب لكنه إنسانيّ، لا خادشًا إنسانيتك، ولا متطاولًا على عزلتك حين قراءة، تجده يبثُّ سطورَه حكاياه "الشعرياري"ـة، واصفًا، حالمًا، ثائرًا، وهو يعدُّ كل هذا مسؤليّته نحو العهد الذي قطعه على نفسه أن يظل الشاعر، متحمّلًا نصَبَ المهمة، برقَّة همسِ الكلمة وتوصيفها:
الشِّعْرُ لَا يُلْقَى.. الشِّعْرُ يُقْطَفُ؛
بِشِغَافِ الْقَلْبِ، وَلَا يُعْرَفُ!
للعقل أناقته هنا فكان العادل، وللقلب أمانه فكان الحبر هو الوفيّ، وللكلمة روحها الصادقة، فمن ذا الذي يجرؤ على وأْد هاته الدلالة الحانية ليغض الطرف عن المعنى والغاية من إدراك ماهية الشعر، وأَلَّا يتوقف طويلًا عند ذي الكلمات من دون أن تثير شهوة سؤال عقله؛ أية دلالات قوية هذه؟!
حقول دلالية كثيرة أخرى بالكتاب مثيرة للملاحظة، تجلّت وبدت يانعة للقارئ اليقظ:
الشَّاعِرُ جُنُوحٌ جَمٌّ-
فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْمَعَهُ؟!
الشَّاعِرُ ذَنْبٌ غَفِيرٌ-
فَمَنْ يُقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَهُ؟!
الشَّاعِرُ طِفْلٌ كَبِيرٌ-
فَمَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُرَبِّتَ عَلَى رُؤْيَاهُ لِيَنَامَ؟!
معجم زاخر بأصوات ومخارج لها ارتباطها الوثيق بدقة الاختيار لتكون القصيدة (جنوحٌ/ جمٌّ/ يجمعَه) بغلبة حرف جيم من صفاته الجهر والانفتاح والشدّة، ليتقمّص دلالاتِ الجنوح الذي هو ميل وجهارٌ الشاعر الحقِّ إلى ما هو غير العادي بانفتاح على الخيال، وشدّةٍ في الإصرار على الشعر، وإنه يطول الشرح إذا انتقلنا إلى ما يليه من حروف السطور الأخرى؛ أكيدٌ من قلمي الوعد العودة بالتحليل.
غير أنّ سؤال الشاعر الريشة بإحدى سطوره الأمينة المؤتمنة على سره ونقاط حبر ريشته قد أودَعَتها لديها:
مُنْذُ أَنْ دَهَمَتْنِي الْكِتَابَةُ، وَأَهَمُّهَا الشِّعْرُ، ثُمَّ احْتَرَفَتْنِي، وَأَنَا لَا أَزَالَ أَسْأَلُنِي: لِمَاذَا أَكْتُبُ؟
أَنَا مُتَأَكِّدٌ مَنْ أَنَّنِي سَأَرْحَلُ عَنهَا بِدُونَ جَوَابِهَا، وَأَتْرُكُ سُؤَالِي تَوْقِيعًا أَخِيرًا لِي عَلَى آخِرِهَا!
ينمُّ عن سؤال أبدِيٍّ فلسفيٍّ لا جواب له إلا بمواصلة البحث كتابة وعطاءً، فلا أحد تُسنَدُ إليه موهبة الكتابة؛ بل هي تصقل بالثقافة، والشاعر الدكتور الباحث المترجم محمد حلمي الريشة أبَان عن سعة اطّلاعه اللغوي والشعري والنثري؛ فكان "كتاب الوجه" الذي أبان عن أخلاقيات لغته؛ فأكْرمها، وما جعلها كمن أصابَها مسٌّ من لغوٍ، ولا بخسها حقّها، فما أهانها لمزًا ولا قهرًا؛ فجعلها الأنقى والأرقى والأعطر لديه، كتابُه هو الذي آمن بتوقيعه عليه، من يرى به غموضًا؛ فإنّي أقول من منطلق نقديّ وشعريٍّ معًا إنّ الشعر هو مرجعيته الإنسانية متّسقة تمام الاتساق مع هويته الفلسطينية العربية.
تتعدّد الثيمات في الكتاب، وهي انعكاس لمشهديات كثيرة أنيقة الحَزَن واقعية، لكنها نزحت نحو متخيَّل فطنٍ، منتبِه ومنتبَه عليه، هي مهارة بسردِ نُهى قلبٍ ونبضِ عقل بمهارة حبرٍ وبصياغة مدهشة على التكثيف بأناقة الصدق وكرم الشعر.
هو الشاعر لا يمكن عزله عن هويته الشعرية والثقافية الراقية بوجعه، بحرقته على فلسطين، بعشقه لها المنزرع في وريد ريشته، بكل خطواته المتئدة المدروسة التي تتخطى صعاب المرحلة الثقافية والإنسانية العربية الحالية بكل معيقاتها وتحولاتها العصيبة، سيظل يدهشنا بأناقة صياغيَّة متجددة، وبأس لغوي.
فهذه القراءة الهادئة لـ"كتاب الوجه" هي بعيدة عن طقوس احتفالية بطقوس مجاملة، وليست ارتجالًا تصوّريًّا متخيّلًا للإسهاب حديثًا عن سمات جمالية؛ لكنها قراءة بميزة اعتراف بأهمية الكتاب من حيث تنوع أشكال البوح به.
* * *
إِنَّهُ الـ"رِيشَهْدِيشتْ"، المُعتَّقُ فلسفةَ "أَبي حيَّان التَّوحيديِّ"، النَّاهلُ من حبرِ "زُرَادِيشتْ"، والغاصُّ قراءةً فكرَ "نِيتشهْ".
إِنُّهُ دهشةُ الشِّعرِ، لا يفتأُ يُفاجئنا، ويُدهشنا، ذاهلٌ ومذهولٌ به الحرفُ، لا أَحد يقولهُ سواهُ وقد بلغَ بالشَّاعرِ فيه حدَّ أَناقةِ الجرحِ وأُبَّهةِ المخيَّلةِ الفطِنةِ، يكتبُ ما يعتملُ بدواخلهِ، رغبةٌ غريبةٌ تشدُّهُ للبوحِ شعرًا بمجازهِ الَّذي يشدُّ أَنفاسَ القارئِ لهُ، فلا يملكُ من انبهارٍ ببأسهِ اللُّغويِّ إِلَّا أَنْ يخفقَ نُهَى قلبهِ وقلبُ عقلهِ إِعجابًا بدُربتهِ، وحنكتهِ ورصانةِ مقصدهِ الشِّعريِّ الإِنسانيِّ/ الفكريِّ/ الوجدانيِّ، بأَفراحهِ وأَتراحهِ.
هي حالةُ الكتابةِ لديهِ مماثلةٌ لحالةِ غليانٍ قاسيةٍ، وتتَّخذُ لها حالةَ هدوءٍ قُصوى غريبةٌ سرعانَ ما يفجِّرها إِبداعهُ حين يوشمُها بسطورهِ. ويظلُّ بكتابهِ هذا، الشَّاعرَ الَّذي بوحهُ ممزوجٌ بحبرِ الملحِ، وما ملحهُ إِلَّا اصطبارٌ على نَصَبِ قصيدٍ.
لا نَدري مَن اختارَ الآخرَ نصيبًا لهُ؛ منفلتٌ هو من بين الضُّلوعِ ليبحرَ بأَمواجِ السُّطورِ، منَ الدَّاخلِ فيه إِلى الدَّاخلِ الأَكثرَ عمقًا بكيانِ وكينونتهِ الشِّعريَّةِ الشَّاعريَّةِ.
شاعرٌ.. يرسمُ كلماتِهِ شغفًا بشغافِ قلبِهِ.
صوفيٌّ.. حدَّ العزلةِ المهيبةِ يتهجَّدُ بنبضِهِ.
فيلسوفٌ.. حدَّ حكمةٍ جريحةٍ من غصَّةِ وطنِهِ.
نحَّاتٌ.. ينحتُ قصائدَهُ همسًا ووشمًا بذاكرةِ الرُّوحِ.
شِعْرَيارٌ .. بمجلسِ حكاياهُ نثرًا وشعرًا بِذا السِّفْرِ، وقد ارتسمتْ ملامحُ لغتهِ على وجهِ إِبداعهِ، عن يمينهِ يسامرُ "ابنَ رشيقٍ القيروانيِّ"، وعن يسارهِ ذا "عبد القاهر الجرجانيِّ"، وللمتنبِّي حظَّهُ الوافرُ سؤالًا وبلاغةً، محاورًا "ابنَ خلدون" سائلًا وقارئًا وباحثًا في التَّاريخِ.
الشَّاعرُ محمَّد حلمي الرِّيشة، المترجِمُ الفذُّ، والمترْجَمُ له بلغاتٍ عالميَّةٍ، المعدُّ أَنطولوجيَّات، والمقدَّمَةُ عنه العديدُ من دراساتٍ جامعيَّةٍ، ورئيسُ "بيتِ الشِّعرِ" بفلسطينَ، والَّتي لها أَنْ تفخرَ به، أَبانَ بإِبداعهِ هذا أَنَّ دواتَهُ ما بالَّتي تنضبُ مع مرورِ الزَّمنِ، بل هو الَّذي لا يزالُ يثبتُ بكلِّ قوَّةِ الشِّعرِ لديهِ بأْسَهُ اللُّغويَّ الحثيثَ الشَّديدَ.
وقد وجدتُني وأَنا أَتنقَّلُ، بكلِّ ثباتِ قراءةٍ، بين صفحاتِ الكتابِ، أَنِّي فوجئتُ بالشَّكلِ المغايرِ الَّذي ظهرَ به العنوانُ والمضمونُ؛ فقد بدَا الشَّاعرُ مبهِرًا بطريقةِ كتابتهِ، مجدِّدًا بالإِيماءاتِ، وبطريقةِ صياغتهِ للهايكو والتَّانكا، فتساءلتُ: كيفَ لي أَنْ أَكتبَ تقديمًا لكتابٍ متنوِّعٍ لشاعرِ بهيٍّ سامقٍ؟ وقبلَ ذا وذاك، لإِنسانٍ بقيمتهِ الشِّعريَّةِ والكينونيِّة والفكريَّةِ والثَّقافيةِ؟!
أَتُراني أَكتبُ بلغةٍ تصفُ لغتَهُ؟ أَم أَتُراني أَسبرُ غورَ قصيدهِ وهو المتمرِّسُ خيالًا ومخيَّلةً، والكاتمُ سرَّ دلالاتهِ ووحدُهُ المالِكُ مفاتيحِها؟ أَيبذخُ قَلمي بالسُّؤالِ تلوَ السُّؤالِ: ما الَّذي يَبغيهِ ويقوله؟ وما الَّذي يبوحهُ لكنَّهُ لا يذيعُ كلَّ سرِّهِ؟
وتأَمَّلتُ الكتابَ بكلِّ هُوينى عقلي وهدوءِ نُهاي، ووجدتُني أَمامَ طاقةٍ شعريَّةٍ لا حدَّ لها ولا أُفق، لا يكادُ يوقفُها شيءٌ!
كتابٌ فيه من الفرحِ ما يبعثُ الهدوءَ بقلبِكَ، وبه من الحزنِ الأَنيقِ ما يدفعُكَ أَنْ تكتشفَ نفسَكَ وهو يقولُ لنفسهِ ليقولَكَ أَنتَ القارئَ لهُ؛ يجذبُكِ بسحرهِ اللُّغويِّ بدونِ أَنْ يُفقدَكَ بوصلةَ عقلِكَ، ولا يبعثرَ نبضاتِ قلبِكَ!
"الشِّعرُ انْعِكَاسُ الشَّاعِرِ مِنْ داخِلِه، ولَيْسَ مِنْ خارِجِهِ"، يقولُ محمَّد حلمي الرِّيشة.
سيِّدُ لغتهِ، وما لغتهُ سوى شعرهُ بنفحةِ ريشتهِ الحالمةِ الأَخَّاذةِ بتعقُّلِها، وبهذيانِها، وبأَناقتِها، وجموحِها، وبسيطرتهِ عليها بكلِّ شراسةِ حُنوِّهِ، لا يريدُها بغُنجِها، بل بمخمليَّتِها العنيدةِ، كي يُبرزَ سيطرتَهُ عليْها، فيأْسرَها بدهشتِها نفْسِها؛ وهي تُسِرُّ له غَوايتَها، فيصرُّ على كلِّ هذا الإِبداعِ بإِبداعهِ المتفرِّدِ المتمرِّدِ لشاعرٍ متفرَّدٍ، أَفردَ جناحَي ذائقةٍ وعشقٍ، فحلَّقَ بسماءٍ ثامنةٍ كي نرحلَ معه على متنِ إِبهارهِ بإِبحارهِ، وقد زوَّدَنا بعطرِ مخيَّلتهِ وهمسِ قصائدهِ، فبثَّ في دواخلِنا أَنفاسًا جديدةً متجدِّدةً لنستنشقَ كميَّاتٍ هائلةٍ من أُوكسجينِ الرَّوعةِ لنجدِّدَ به رئةَ الإِعجابِ.
أَجلْ.. يحلِّق بنا بكلِّ فصولِ لغتهِ، وبكلِّ حالاتهِ؛ الإِنسانيَّةِ، والفكريَّةِ، والوجدانيَّةِ العميقةِ، ولو بحزنٍ، فهو الحكيمُ المتأَمِّلُ؛ ما فَصْلُهُ سوى الخامسُ يمطرُ علينا شآبيبَ الرَّوعةِ، والدَّهشةِ، والاندهاشِ! فكم يَلزمُنا من عينٍ لقراءةِ هاتهِ الحروفِ باللَّونِ الثَّامنِ بدون القزحيَّةِ الَّتي تشعُّ حياةً وقد كُتبتْ بنصاعةِ روحٍ! لكنَّهُ الصَّامتُ عن سرِّهِ فلا يسرُّهُ، ليتركَ للقارئِ المحلِّقِ بخيالهِ/بروحهِ المقروءِ المحلَّقِ بفيضهِ وببوحهِ حرِّيَّةَ التَّعمُّقِ والقراءةِ؛ ليظلَّ للشَّاعرِ، برغمِ هذا وذاك، مفتاحُ كلماتهِ ومغاليقِها.
نباهةُ ذاكرةٍ مع خيالٍ يقظٍ متيقِّظٍ، يراودُها بحزنهِ المعتَّقِ، لكنْ بمناعتهِ هو، يعلنُ لنا لغةً بصوتٍ جهوريٍّ من خلالِ تركيباتهِ اللُّغويَّةِ، وبنيةِ مخارجَ صوتيَّةٍ هامسةٍ بصهيلٍ آسرٍ، وبإِيقاعاتٍ داخليَّةٍ؛ نفسيَّةٍ، وعقليَّةٍ، وتذوُّقيَّةٍ. هذا هو المتأَمِّلُ، والفيلسوفُ الحكيمُ، والصُّوفيُّ، والمتعبِّدُ في محرابِ الشِّعرِ واللُّغةِ! يتعمَّدُ هذا الصَّمتَ مجالًا لأَخذِ نَفَسٍ جديدٍ، والانطلاقِ في رحلةٍ حياتيَّةٍ فيضيِّةٍ شعريَّةٍ متضمِّخةٍ بالكثيرِ منَ الوجعِ، والتَّذكُّرِ، والحنينِ، والبسمةِ.
"كتابُ الوجهِ"؛ وما الوجهُ سوى ملامحُ تظلُّ راسخةً بِمرايا عقولِنا وقراءاتِنا له، ملامحُ لا قناعُ وهو الزِّيفُ، إِنَّه تجسيدٌ للجماليَّةِ، وللحكاياتِ، ولتكنْ صورةُ الرُّوحِ إِذًا بملامحَ حزينةٍ وأُخرى باسمةٍ؛ إِنَّها الأَنا الشَّاعرةُ الَّتي نقرأُ على جبينِ كلماتهِ، وتأَمُّلاتهِ، وتصوُّفهِ الرُّوحيِّ، ونسافرُ في خطوطِ قصيدهِ الَّتي ما هي سوى خطوطِ كفَّيهِ وجبينهِ؛ هو تناصٌّ مع روحهِ، ومع عالمهِ الدَّفينِ العميقِ، وتناصٌّ مع العديدِ منَ الآياتِ القرآنيَّةِ الكريمةِ لاعتمادهِ اللُّغويِّ والقرائيِّ والتَّشبُّعيِّ بكتابِ اللهِ، كما للُّغةِ إِيقاعاتٌ داخليَّةٌ وخارجيَّةٌ أَيضًا، ما يدلُّ عليْها؛ ولنعكسِ الصُّورةَ لتكنْ ملامحُ عقولِنا القارئةِ تقابلُ مرآةَ الشَّاعرِ فيه، ليكتشفَ بنفسهِ وقعَ حروفهِ.
الشَّاعرُ الرِّيشةُ بالغُ الذَّكاءِ اللُّغويِّ، وله منَ الفطنةِ النَّدَّاهةِ ما يجعلُكَ تنساقُ بكلِّ قناعاتِكَ إِلى اقترافِ قراءةِ شعرهِ بكلِّ إِصرارهِ وترصُّدهِ؛ يتركُ لكَ مجالًا فسيحًا جدًّا لقراءتهِ بعينِكَ القارئةِ، أَو النَّاقدةِ، أَو الباحثةِ، أَو النَّهِمَةِ؛ فلا يضيِّقُ عليكَ الخناقَ، ولا قوالبُ لغويَّةٌ معدَّةٌ سلفًا، ولا نهجٌ تقليديٌّ؛ وإِنَّما ينتظرُ ردَّةَ فعلِكَ، وما هي سوى أَسئلةٌ. شعرهُ كما لغتهُ، كما هو، ينتظرُ من قارئهِ مكاشفةً. ما بالمنتظرِ مدحًا أَو إِعجابًا بقدرِ ما يطلقُ حروفَهُ بسخاءٍ، لا يريدُها زاجلةً تعودُ إِليهِ. يخاطبُ فيكَ شهوةَ السُّؤالِ، يثيرُها، ويستفزُّ ذائقتَكَ، لكنَّهُ لا يخدشُ حياءَ فهمِكَ، ولا يوجعُ عينيكَ، بل يستلهمُ لهما الأَناقةَ والجمالَ.
إِنَّ الفكرةَ حين تجولُ بصدغِ مخيَّلتهِ تنضحُ بكينونتِها الَّتي هي بالأَصلِ كينونةُ ذاتهِ الشَّاعرةِ، بملوحةِ الحبرِ المصاغِ من دمعِ قلبهِ، لكنَّه لا يذرفهُ لعزَّةِ نفسهِ، ومن ملوحةِ عرقٍ يتصبَّبُ من صدغِ الذَّائقةِ لديهِ، هكذا الاشتعالُ حين اشتغالِ الفكرةِ لدَى الشَّاعرِ الرِّيشةِ؛ تظلُّ خلالهُ حين تطلُّ "فكرتهُ العاليةُ" كموجةٍ عاليةِ الهديرِ، لكنَّها الغاويةُ النَّدَّاهةُ للسِّباحةِ، تتلبَّسُ القارئَ الفكرةُ، وقد تَقوَّتِ اللُّغةُ الواسطةُ بين أَنا الشَّاعرةِ فيه وشعرهِ.
ما بين نجاةِ لغةِ الشَّاعرِ المنعتقِ بها كلَّ الانعتاقِ، والَّتي يتمثَّلُها شعرًا كما نثرًا منَ اللَّغوِ، وبين مخيَّلةٍ مُدرَكَةٍ مدرِكَةٍ لاحقةٍ، تظلُّ الفكرةُ ما بين حضورِها وغيابِها ما يخلقُ لشعرِ الرِّيشةِ هذه الجماليَّةَ الَّتي ما تنطلقُ من كتابةٍ من أَجلِ الكتابةِ فقط، بل هو البحثُ الدَّائمُ عن جديدٍ مدهِشٍ مندَهِشٍ، بحثٌ حثيثٌ لتكونَ الفكرةُ، كما صدحَ بها دائمًا، ذاتَ سؤالٍ يمنحهُ لقرائهِ أَنَّه الباحثُ عن ندَّاهةٍ في برمائيَّةِ الحياةِ بكلِّ عبثيَّةِ الشِّعرِ الجميلةِ دونما تحميلِ كلمةِ "عبثيَّة" ما يبعثرُها دلالةً، بل بِمعناها الفلسفيِّ، وهذا ما يليقُ بها وتليقُ بحبرِ الشَّاعرِ وبريشتهِ حين يعتمدُها كلمةً ببُعدِها الدَّلاليِّ الحقِّ لا السَّلبيِّ، لكنْ بتعدُّدِ القراءاتِ، وبعَينٍ ثالثةٍ عميقةِ البحثِ؛ عينٍ تكادُ يماميَّةً حين ينتشِي بها ومنها وفيها عقلُ القارئِ المتميِّزِ؛ "النَّصُّ كمَنْ يقرؤُهُ"، هكذا يعلنُها محمَّد حلمي الرِّيشة بكلِّ أَريحيَّةِ التَّفرُّدِ والتَّفرُّدِ الإبداعيِّ.
شدَّ انتِباهي الإِخراجُ الفنِّيُّ للغلافِ، وهو من تصميمِ وتنفيذِ الفنَّان عُمَر، نجلِ الشَّاعرِ، وقد أَجادَ تصميمَهُ بحِرفيَّةٍ وإِتقانٍ، ليُسايرَ ما خطَّتْهُ حروفُ الشَّاعرِ الكبيرِ؛ خلفيَّةٌ بلونٍ أَخضر هادئٍ له جدارٌ هو حصنُهُ الحصينُ يتركُ عليهِ ظلَّهُ رسمًا بالكلماتِ، هي ملامحهُ، هي هويَّتهُ؛ قصائدهُ سيرةُ حياةٍ، وسيرةُ حبرٍ لا يزالُ يَروي أَرضَ التَّاريخِ بكلِّ قدسيَّةِ الكلمةِ، بكاملِ قواهُ التَّأَمُّليَّةِ العميقةِ الماوراءَ القصدِ الحَرفيِّ، والبعدِ الدَّلاليِّ، والأَثرِ الجميلِ التَّاركِ أَثَرَهُ الأَجملَ. تناسقيَّةُ الأَلوانِ ما بين لونٍ أَصفر كان دائمًا ورقًا للدِّيباجةِ، ولونٍ بنفسجيٍّ هو ورودُ عطاياهُ الشِّعريَّةُ، ولونٍ أَزرق هو الحبرُ كما لو أَنَّه زرقةُ بحرٍ عميقٍ لا يجيدُ الغوصُ فيه إِلَّا مَن خَبِرَ اليمَّ، وما منحَ الزَّبَدَ موطنًا له بدواةٍ ولا بكفَّيهِ؛ ينطلقُ من ذاتهِ ليرَى الآخرونَ ذواتَهمْ بِمرايا حروفهِ؛ أَليسَ هذا هو دورُ الشَّاعرِ فعلًا، أَنْ يغوصَ في نفسهِ، ويطارحَها السُّؤالَ، ليدركَ ما يمكنُ إِدراكهُ؟!
كلُّ موجةٍ صياغيَّةٍ كتابيَّةٍ هي إضافةٌ بل تزكيةٌ لقوَّةِ اللُّغةِ وجبروتِها الجماليِّ العميقِ للشَّاعرِ ما دامَ من حبرٍ هو الحبرُ نفسهُ منَ الدُّواةِ نفسِها، لكنَّهُ حبرُ التَّجدُّدِ من خلالِ الطَّريقةِ الَّتي غمستْ فيها الرِّيشةُ هامتَها لتتمزجَ وتتمازجَ الفكرةُ الَّتي ستتشكِّلُ من ماءِ الحبرِ، فتمنحَ الحرفَ، فالكلمةَ، فالسَّطرَ، مشاهدَ شعريَّةً لازورديَّةَ اللَّونِ، وإِنْ بنثرٍ قد استَقاها الحبرُ من مَدى سماءٍ مخيَّلةٍ، فانعكستْ بها، وكانت مرآتَها الذهنيَّةَ والحسِّيَّةَ أيضًا، وما وراءَ ذلك، تَقرؤها عينُ القارئِ بأَبعادِ العينِ، والعقلِ، والقلبِ. وفعلًا كما قلتَ أَيُّها الشَّاعرُ الدَّهشةُ: "للكتابةِ غبطةُ كاتبِها وقارئِها."
الشَّاعر محمَّد حلمي الرِّيشة... لشخصِكَ، ولقامتِكَ الرَّفيعةِ الحضورِ والبهاءِ الشِّعريِّ، ما يعجزُ أَيَّ حرفٍ أَنْ يوافيكَ حقَّكَ أَدبيًّا من شكرٍ وارفٍ بظلِّهِ الظَّليلِ، والممتنِّ لكَ لكلِّ هاتهِ الجماليَّةِ النُّورانيَّةِ الَّتي وهبتَها لقرَّائِكَ وهي عصارةُ قلبِ الشَّاعرِ فيكَ، وسيرةُ حياةِ شاعرٍ آثَرَ حرِّيَّةَ ريشتهِ، وقايضَها محرابَهُ، ليبعثَ كلَّ هذا النَّقاءِ الرُّوحيِّ، ويُشِعَّ محبَّةَ الشِّعرِ وعشقَهُ بالقلوبِ والعقولِ. فهنيئًا للشِّعرِ بكَ، وهنيئًا لكَ بِكَ، وهنيئًا لفلسطينَ بكَ، وهنيئًا لنا بكَ أَكثر.
(شاعرة وناقدة من المغرب)