يرى الباحث أن للنسخ معنيان متضادان الأول يفيد المحو والإلغاء، والثاني يفيد التأكيد والاثبات. ولا معنى لأي إنتاج ثقافي إلا إذا كان غايته التنقيب في حقائق الموجودات المكرسة وتفريغها من الأضاليل، والتعرف على العلل الأولى للأشياء، وتلمس الروح المجردة للموجودات.

نسخ الثقافة وإلغاء الموت

البـحث عن اليـقيـن فـي نـور آخـر

أحمد عز العرب

 

للنسخ معنيان متضادان الأول يفيد المحو والإلغاء والثاني يفيد التأكيد والاثبات. ويقال النسخ هو: إبطال الشيء وإقامة آخر مكانه. ونسخ الله الآية أي أزال حكمها بآية جديدة. وهي قضية معروفة بالناسخ والمنسوخ، وينكرها من يأخذون النسخ بمعنى الإثبات والتوكيد. وقد يؤدي الموقف من المعنى إلى التكفير رغم أنه محدد معجميًا. ويقال نسخت الشمس الظل وانتسخته، والمعنى اذهبت الظل وحلت محله. ويقال ناسخ ونساخة لمن يقوم بالنسخ وناسِخة لآلة التصوير الضوئي. والنسخة صورة كتابة منقولة عن أصل واسمه النسخة الأصلية، وفيها معنى الإثبات كالصورة طبق الأصل. والتناسخ أي انتقال الأرواح بعد موتها من جسد إلى آخر وفيه معنى الخلود. والتناسخية: مذهب القائلين بالتناسخ وإنكار البعث. وإلاستنساخ هو أخذ خلية جسدية وزرعها في بويضة مفرغة من مورثاتها ليأتي النسيخ المخلوق مطابقًا للأصل أي الكائن الذي أخذت منه الخلية. واستنساخ الإنسان خلقه على مثال سابق حي أو ميت وهو فتح جديد في علوم الأحياء سيكون له أثاره الفكرية والسياسية لا محالة. فالنسخ يفيد المعنيين التوكيد والتكرار أو المحو والالغاء...

لا معنى لأي إنتاج ثقافي الآن إلا إذا كان غايته قلب حقائق الموجودات لننهال على قعـر جوهرها طرقًا، لتكب ما احتوته من أضاليل مجردين عظامها سلخًا مما كساها من أوهام، طاحنيين هيكلها المُشفىَ مسحوقا ناعمًا سهل التناول؛ بعدها يلذ التعرف على العلل الأولى للأشياء، نجس مادية المادة ونحسس على ضرعها العاري، ونلمس الروح المجردة للموجودات. ما أجمل أن تبصر إخلاص الانسان في مسيرته المجيدة وأن تثمن نضاله من أجل هذه اللحظة التي انتظرتها ملايين الأجيال وبذل الانسان روحه فدائها -لحظة الخلود- ولم يظفر بها. نسترجع عذابات مشاعره ولذائذه الأولى؛ عجزه عن نطق أول كلمة حب. كيف غمغم بها؟ ولمن؟ وما اختلج في صدره من أحاسيس رهيفة وهو ذاهب متهيبًا موهوما، يقدم أول قربانًا للآلهة وصولًا إلى أول قرش يدفعه للدولة كضريبة؛ لا شك أن للجذور طعما مقدسًا. ليس الهدف هو إضافة المزيد من الفكر إلى الأفكار؛ مزيدًا من الثقافة إلى نفسها بل هدفنا العكس تماما!

ما معنى كب مزيدًا من الركام فوق الركام؟ أ ليس من الأجدر بنا رفع ما انكب فوق الحقائق من ركام؟ أ ليس الأجمل عمل فورمات للهارد دسك ليعمل العقل بدون خنقة التكدس؟ أ ليس من الخير محو كل ما حرم البشر من ارتباطهم الحميم الطبيعي ببعض وبالطبيعة؟ أ لم يحن الوقت لنزيح عن كاهل الانسان الأمانة التي حملها وناء بحملها وأشفقت من حملها الجبال؟ أ لم يحن الوقت ليكون الإنسان لا ظلومًا ولا جهولا، ألا يكفي عشرة آلاف عام من انتصار الجنون؟

استهوت الإنسان ألعاب الذهن لحتمية لا يمكن استبعادها منذ دبت فيه الحياة؛ منذ كان وحيدًا مذعورًا في مواجهة وحشة الكون. الخوف والقلق والفضول يغلفان كل شيء ولا يوجد من يحنو عليه. معذورًا في خوفه من الأشياء باحثًا عن الجوهر والمعنى غير مصدق بأن جوهر الأشياء ليس إلا ظاهرها. حاول الصعود الى السماء وكان الأجدر به السعي في الأرض؛ بعيدًا صار وهو إلى القرب ملهوف. يغطي بعكس رغبته في متاهة الأوهام الوحشية على حقائق ينشد سبرها وهي متاحة بين يديه. متوهما أن رغبته في العروج وهو أحوج ما يكون إلى التنقيب. آه لو انصت إلى المخلصين: لا ترهق نفسك ولا تجلدها، لا تبحث عن السر فلا يوجد أي سر. عذركم معكم أسلافنا الأبطال وقفتم مشدوهين أمام حقائق جهنمية قاسية تستميت بالحاح خارق لتوهمكم بأن مغاليقها طلاسم لا تفك؛ تنصب لكم الماكرة بإتقان فخ خداعها الفاجر لتتيقن برائتكم داخله بأن بأس عزمها الفارغ لا يُفل؛ ومع هذا تصونون سر الحياة نفسها من الفناء رغم بؤسكم الضنيين تنقلونه جيلا بعد جيل بلهفة الحب، وارتعاشة الشهوات تستودعوه أحن الأمكنة؛ رحم الأنثى عبر شقها الرطب، والتي تشارك بإخلاص وغموض باذلة جهدها، رافضة فرحة حائرة من اللذة والالم معًا. ألا تستحق أن نكافىء بطولتك واخلاصك الصميم بالكف عن إنتاج ميتافيزيقيا الأوهام الملعونة، ثم نقضها بمزيدًا منها، اي عبثا هذا؟ أ لم يحن الوقت للتخلص النهائي من كل هذا الهراء؟ ما فائدة أي كتابة إذا لم يعلق على عنوانها معولاً تتلقفه يد القارىء لتهدم به الحواجز بين البشر؟ إما أن ننسخ الثقافة الآن أو يحق علينا الهلاك؛ (الثقافة-الآن) هي التي تفرج عنا من سجنها الأبدي؛ هي التي تخلص أرواحنا من عبء حمل أثقالها المراوغة. (الثقافة-الآن) هي التي تمد الى الاعماق يدًا عفية مقتلعة نهايات أوتاد شباك الزيف التي وقعت الحقيقة الطيبة في حبائل مهاوي شَرَكِها المغوي. إن إستصال الثقافة بـ(الثقافة–الآن) لهو تكفيرًا لها عن إتهامنا نحن بخطيئتها الأولى لتتحمل هي خطيئتها الشائهة الشرهة؛ لتتلقى هي عن ظهورنا قرع أوهام سوطها اللاسع؛ لتنقذنا من سطوة جبروتها الماكر وتنزع اشواكها المغروسة في اطراف اعصابنا الملتهبة بأثر قيودها المذمومة بإحكام حول رقابنا، متقيئة مطمورها الحامض وفاكة أسرنا من تابو فخها المخفي. ملايين السنين مكرهين على الخضوع لجوهر ما منحرف عميق كانه بلا قرار معقولين في قيود من العبث الممنهج يعجزنا بإستحالة فك سره العسير؛ أما آن للأنسان أن يكسر إصرار ذلك الجوهر السرمدي اللامكترث باي شيء إلا بإصراره المخيف وكأننا داخل لعبة جهنمية شديدة التعقيد مجهولة الفائدة؛ جوهر نجح بأُحجية عبثه الصارم في مزج موات المادة في تكوين توفرت له ظروف معينة إنبثقت منه أعجوبة نسميها بـ(الحياة). التي دهشنا بها واعجبنا بها أيما إعجاب وأخلصنا في الدفاع عنها لذاتها (لدرجة بذلها نفسها أحيانا مجبرين) كنوع بشري وليس كأفراد والآن تأتي البشائر ونحافظ على ذواتنا الخالدة كأفراد وليس كنوع. المثير حقًا أن تنقلب الرغبة من التحرر من الموت الى لعنة الرغبة في التحرر من الحياة المخلدة بما تستلزمه من ثورة في القيم تفتح نورًا أخر من أنوار المعرفة؛ معرفة جديرة بنجاحنا الباهر في رمي بذرة الدمار النجسة في العين الحمئة بعد إستئصالها من اعماق جوف الانسان وسنحتاج وقتها إلى تراجيديا معاصرة تفضح جوهرية هذا الجوهر وتجبره على فض سر لغزه العابث الجبار الذي تم تجاوزه بإجابة سؤاله بعد أن إمتطى الإنسان المستحيل وأفلت من الضرورة ونفذ من أقطار السموات والارض ودحر الزمن وخلد الفناء وانقلب بؤس الوجود فرحًا وسرورًا وأمكن للحقائق ان تكون أبدية وللقيم ان تتمطلق بعبور الإنسان عتبة الأبدية وأوشك أن يخلق كونا جديدًا سننه تعبيرًا عن حرية إرادته يعطي فيه للمادة قوانينها الأزلية ويشيد لذاته الواعية صرحًا على مشارف اللانهائية.

سوف يتلقى المصريون والعرب كما تلقوا من مائتي عام صدمة حداثة عليا هذه المرة خلال عقدين أو أربعة (2050على الاكثر) وهي صدمة إلغاء الموت، أو على الاقل تاجيله باطالة العمر ثلاثة قرون. وسوف ينقسم المصريون ومعهم العرب كالعادة الى فريقين الاصوليون الاطلاقيون والحداثيون النسبيون وسيهرع ساعتها كل فريق الى سيوفه الايدلوجية الصدئة استعدادًا للمعركة الوهمية التي يتصورون بها مشاركتهم في الحضارة والتي يخسرها الطرفين دائما؛ غافلين تماما هذه المرة عن طبيعة الصدمة وانها ليست كسابقتها موجهة الى تراث ما أو هوية ثقافية ما أو الى بنى اجتماعية مَهدومة تُرفع أنقاضها مُعَفِرة بغبارها على عمائمهم أو طرابيشهم وهم لا يبصرون؛ لكن المؤكد ان الحداثيون النسبيون سوف يشمتون ويفرحون كثيرا مقبل الايام خاصة ان الحقيقة المنهارة هذه المـــرة كانوا متفـقين فيـها مع خصومهم انها مطلقة! ليست ايضا نقدًا لكتابًا مقدسًا أو استعمارًا لارضًا جديدة وانما هي فك شفرة نص اخر؛ نص اكثر قداسة واكثر تعقيدا هو النص البشري ذاته؛ الى الروح ذاتها الى اجرومية الحياة نفسها الى الانسان كعظم ولحم ودم إلى هاردوير الانسان وليس سوفت ويره وذلك بعد إندماج علمين هما علم البيولوجيا مع البرمجة الألية وهو ما يسمى بالبيوتكنولوجي أو اليوجينيا الحديثة. وإن كان للعرب من فضل فهو انهم كانوا الشرارة الصغيرة التي قدحت لاوربا زنادها وخبت بهجومهم عليها في ظلام العصور الوسطى لنشر الاسلام فايقظوا آلهة اليونان من سباتها لترد على التوحيد الشرقي الغازي.

أذنت أنوار عصر النهضة الأوربية بميلاد الالعاب السحرية الممكنة؛ واعاد جاليلو وكوبرنيكوس ترتيب وضعية مراكز الكون؛ (الانسان–الله)، (الشمس–الارض)؛ وبدأ الناس يتساءلون مستنكرين عن جريمة إخضاعهم مذعنيين لقوانين تحكم حياتهم وهم ممنوعين من المشاركة في إقرارها! حتى الوصول الى خلق جنسًا من الكائنات ميتة الروح تاكل النار والحجارة هائلة القوة شديدة البأس هي الآلات؛ والتي ينصاع جبروت قوتها الاعمى صاغرا لإرادة الانسان؛ منفطرًا في اتون رحمها جلمود الصخر؛ منحبس داخل قمقمها الاصم وحوشًا شائهة طالما عذب الانسان توقه بألا يفلت عقالها من قبضة يدة الواهية؛ من يمتلك ناصيتها يروض المستحيل؛ فانقض بها الانسان على اخطاء التاريخ يحرر نفسه من اسر قيودها. بعدها لم يزاحم الحب والموسيقى أي قيم اخرى إلا في المجتمعات المنحطة اخلاقيا واصبحت الحقيقة الشعرية هي الوحيدة الممكنة حتى الان؛ فها هي العلوم الطبيعية الجافة تتمرغ عشقا مع الشعر ساجدة تحت أقدام ربته؛ تَسبُك الإكسير الذي سيُسك من عجينته مفتاح سر الوجود تنتج عجائب الآت النانوتكنولوجي وتفك تشفير وظائف الدماغ وتنمذجها وتعابث بالجينوم البشري أسرار الخلود في قدسها الأقدس متناهي الصغر داخل الخلايا مصرة بدأب على منابلة وظائفنا الذهنية العليا في المخ حيث اللغة والذكاء والمشاعر. ((المعرفة – الان)) على درجة من الرهافة تكاد من فرط هفافتها ان تهرب من التأطير الاكاديمي الى القصيدة؛ كرائحة التفاح المنعشة تحبس في زجاجة ولا يمكن كتابتها؛ ساعية بصبر محير كثيف كأنه لا ينتمي الى هذا العالم الى وحدة وجود معرفية يعجز حتى الخيال ان يلامس اهدابها مبشرة الحائرين بهدوء سرهم وبالملل من تكرار صنع المعجزة الكبرى بلمسة من أطراف أناملهم. وبفضلها تدخل الانسانية الان مرحلة اعمق من الوجود بعد تجاوز مركب خوفها من إخضاع سر الحياة نفسه للمساءلة؛ الحياة كتكوين له ارادة واعية أو ما يطلق عليه الروح. كنا نطوف حول مقام الروح برهبة عاجزين عن ولوج قلب محرابها المحرم؛ مدققين النظر فلا نرى إلا صفحة وجوهنا منعكسة على بريق جلالها المهيب! وهنا كمنت المشكلة؛ كيف تُستحلب خلاصتها من مكامنها مقطرة مُعبرًا عنها ببيان ميسور سهل يمكن نمذجته خاضعا لسلطان العلم؛ كيف هذا؟ كيف هذا وهي هائمة في المادة غير متموضعة في كتلة رغم انها مركبة من محسوسات الإ ان نواتها الزلقة زئبقية تفر من مقابض المنجلة؛ محصلتها النهائية معنى لا يخضع لمشرط التشريح. كان الحل الوحيد هو البحث عن مكان اختبائها في عالم الرياضيات وليس عالم الشعر كما أوهمت هي الجميع تضليلا لنا عن حقيقتها؛ وتحويل هذا المعنى المبهم الى ارقام؛ الى معادلة رياضية مجاهيلها محددة تمكن قراءتها وستكون بالتاكيد اخطر معادلة في الكون ستكون معادلة المعادلات؛ معادلة يمكن التعامل معها واستخلاص نتيجتها رقما واحدا يمكن جمعه وطرحه وضربه وقسمته؛ رقم سَتُتِرك عُقدته تفكها المعالجات المركزية (البروسيسور) التي يستطيع اضعفها الان اجراء مليار عملية حسابية في الثانية الواحدة مما يوفر على اذكى البشر اجهاد اذهانها قرون. تَحرُرنا اذن يكمن في اعتقال الروح داخل الارقام ساعتها لن تجد مهربا من قسوة سجنها المسحور إلا بنطق حل الاُحجية وإلا فستجبرها الرياضيات كرها على الاعتراف بسر الحياة وستدلي مفجوعة بتركيبة الإكسير.

 

(المدير التنفيذي لمؤسسة مجاز الثقافية، مصر)