إثر اكتشاف اكتشاف أقدم جمجمة للإنسان العاقل في المغرب، يعود تاريخها إلى نحو 300 ألف سنة، يطرح الباحث سؤال: ما الإنسان؟ ويقدم مقاربات عدة لتحديد هذا المفهوم، أبرزها ثلاث هي: المقاربة الدينية، والمقاربة الفلسفية، والمقاربة السياسية، والمقاربة العلمية.

سؤال الإنسان

محمد بهضوض

 

-1-

في إطار برنامج بحث علمي يسهر على تنفيذه المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط بالتعاون مع معهد ماكس بلانك بألمانيا، تم الإعلان في شهر يونيو 2018 عن اكتشاف أقدم جمجمة للإنسان العاقل في المغرب، يعود تاريخها إلى نحو 300 ألف سنة (بجبل ايغود بإقليم اليوسفية، وسط المغرب)، وليس 200 ألف سنة كما ساد الاعتقاد إلى حين.

بدأ البحث في هذا الموضوع، على رأي مدير المعهد المذكور، "منذ ستينيات القرن الماضي بواسطة الجيل الأول من الباحثين، حيث عثر على بقايا إنسان ومجموعة متحجرة تعود للعصر الحجري الوسيط. إلا أنه لم يكن بالإمكان التدقيق في تاريخها وبالتالي لم تعط النتائج المرجوة حول ظهور الإنسان العاقل. وأن المرحلة الثانية من البحث بدأت عام 2004 بواسطة الجيل الثاني من الباحثين . وابتداء من 2007 بدأنا نكتشف بقايا هذا الإنسان وحتى 2016.

ومما لا شك فيه أن اكتشافا بهذا الحجم يعد مفخرة لبلادنا ولا يسعنا إلى أن نشكر الباحثين الوطنيين والمتعاونين الأجانب، الذين كانوا وراءه. لأن هذا يعني، عل رأي البعض على الأقل، أن "الإنسان العاقل أضحى مغربي الأصل" (Homo Marrocos)، وأن سكان العالم أضحوا بذلك مغاربة، بهذا الشكل أو ذاك! جميل، لكن فضلا على أن هذا الاكتشاف الباهر مؤقت، في انتظار أن يأتي ما يكذبه أو يتجاوزه (وتلك سنة العلم، على رأي كارل بوبر)، فإنه يطرح عددا من الأسئلة المحيرة حول مفهوم الإنسان الذي تم اكتشافه ومستقبله.

نبدأه بسؤال: ما الإنسان؟ تم تقديم مقاربات عدة لتحديد هذا المفهوم، أبرزها ثلاث هي: المقاربة الدينية، والمقاربة الفلسفية، والمقاربة السياسية، والمقاربة العلمية:

* المقاربة الدينية، هي التي تقول إن الإنسان هو: إما من خلق الله في ديانات التوحيد مثل اليهودية والمسيحية والإسلام (وإن كان النبي عيس يعتبر ابنا لله أو الله ذاته عنه بعض الفرق المسيحية)، أو من خلق روح أو قوة سماوية خارقة أو غامضة في عدد من أشباه الأديان أو المنظومات الأخلاقية (الأرواحية/الأنيمية، البوذية، الكونفوشيوسية..)، كما عبرت عنه عدد من أساطير الخلق في حضارات أو مجتمعات شتى.

* المقاربة الفلسفية، لا تركز عموما على الأصل (ولو أن بعضها يرى أن الإنسان من أصل ذري أو مادي) بقدر ما تركز على طبيعة الإنسان ذاته وما يميزه عن الحيوان، بصفته كائنا يمتلك الحرية والعقل والذكاء والأخلاق..، داخل جماعة معينة، تحدد وضعه البشري في كل لحظة تاريخية. ما يفيد أنه ليس هناك إنسان في المطلق (الإنسان الكوني) وإنما هناك أنواعا من الإنسان (امرأة/ رجل، غني/ فقير..). في وضع اقتصادي واجتماعي معين.

* المقاربة السياسية، هي التي ترى أن الإنسان هو كائن في المدينة، بمفهومها السياسي العام (la cité). ما يجعله: أولا- كائنا له هوية معينة ( تاريخية واجتماعية وثقافية، معينة تربطه بجماعة المدينة التي ينتمي إليها؛ وثانيا، مواطنا في مدينة/دولة أو دولة/أمة، له حقوق وعليه واجبات، ومنها المشاركة في الشؤون العامة لمدينته أو دولته؛ وثانيا- كائنا له وضع مختلف أو متميز بالضرورة عن الآخر (الغريب، العبد، الأجنبي، غير المواطن...).

* المقاربة العلمية، ترى أن الإنسان: أولا، كائن كوني، أي "متأصل في الكون الفيزيائي والفلك الحي معا". وثانيا، كائن فيزيائي-كيميائي، "أنتج سمات انبثقت منها الحياة"، في جسد حراري يشتغل على 37 درجة مئوية. وثالثا، كائن بيولوجي، أي متأصل في الأرض، التي أنتجت ذاتها بذاتها، "ومن الأرض انبثقت الحياة، حيث الإنسان بنية حية تعمل على وضع نظام خلوي داخلي (بروتينات، ARN/ADN) وتواصلي خارجي (انتقال جزيئات الجينوم من كائنات حية لأخرى). ورابعا، كائن ثقافي، له بعض السمات التي تميزه عن الحيوان(1).

-2-

إذا ركزنا على المقاربة العلمية فحسب نجد أن عمر الكون يقدر بنحو 13،5 مليار سنة، حيث ظهرت منذ الانفجار الكبير المادة والطاقة والزمن والفضاء (الفيزياء)، تلتها الذرات والجزيئات (les molécules) وتفاعلاتهما الكيميائية. لكن كل ذلك لم يفرز البيولوجيا أو الكائنات الحية إلا قبل 3،8 مليار سنة، فيما لم يظهر النوع الإنساني على وجه الأرض إلا خلال 10 ملايين سنة الأخيرة، كما دل عليه اكتشاف "توماي" قبل 7 ملاين سنة في تشاد، و"آرديبتيكوس راميدوس" قبل 6 ملايين سنة في تنزانيا.

تم التعبير عن عدد من الشكوك حول فرضية "الأصل الإفريقي للإنسان"، التي مازالت قيد البحث والنقاش. لكن من المؤكد أن الإنسان كنوع من الفقاريات أو اللبائن المتطورة لم يظهر -كما تبين- إلا حديثا (مقارنة مع عمر الكون والحياة). وفي ضوء ذلك، قسم البيولوجيين الكائنات الحية عموما إلى أنواع (espèces)، حيث كما أن هذه الحيوانات أو تلك تنتمي إلى نوع معين، فإن الإنسان ينتمي بدوره إلى نوع معين وهو "الإنسان (homo)، وأنه مثلما هناك فروع أو فصائل من كل نوع، هناك فصائل للإنسان(2).

ظهرت الفصيلة الأولى منذ نحو 7 مليون سنة، كما ذكر، في إفريقيا الشرقية. لكن أصلها ظل مع ذلك غامضا، ما جعل بعض المختصين يقدمون بشأنها فرضيات عدة، من بينها أن هذه الفصيلة تعود إلى نوع أقدم هو "القرد الأسترالي" (australopithcus ou australopithéque). حيث انتقل بعض أفراد هذا النوع من الرجال والنساء، منذ حوالي 2 مليون سنة، من مواطنهم الأصلية إلى أماكن في إفريقيا الشمالية وأوروبا وآسيا.

أخذ هؤلاء تسميات مختلفة عبر التاريخ: مثل: إنسان "النياتردال" (Neandertal) الذي عاش في أوروبا وآسيا الغربية؛ و"الإنسان المنتصب القامة" (homo erectus) الذي سكن الجهات الشرقية لآسيا وعاش نحو مليوني سنة تقريبا. وإنسان هضبة صولو (homo soloensis) الذي عاش في أندونيسيا والمناطق الاستوائية؛ والإنسان القزم (homo floresiensis)، الذي لم تكن قامته تتجاوز مترا واحدا وحجم لا يتجاوز 25 كلغم. والإنسان الذي تم اكتشافه في مغارة بسبيريا سنة 2010، وأعطي له اسم (homo denisova).

موازاة مع ذلك، استمر تطور النوع الإنساني في إفريقيا الشرقية، حيث ظهرت فصائل عديدة منه مثل (homo rudolfensis, homo ergaster). وهذا قبل الوصول أخيرا إلى الإنسان موضوع مقالنا هذا وهو: الإنسان العاقل (homo sapiens) أو الثقافي بالأحرى (بالنظر لظهور الثقافة معه). وهي فصائل مختلفة، سواء من حيث التكوين والقدرات العقلية والبدنية أو عادات الاستقرار والترحال...، لكنها كلها تنتمي إلى نوع "الإنسان".

تبقى الإشارة إلى أنه باستثناء فصيلة الإنسان العاقل التي مازالت قائمة إلى حين، فإن باقي الفصائل البشرية قد انقرضت. وهكذا، فقد انقرض آخر إنسان (homo soloniensis) قبل 50.000 سنة، وإنسان (homo denisova) قبل 40.000 سنة، وإنسان النياتردال قبل 30.000 سنة. والإنسان القزم (homo floresiensis)، قبل 12.000 سنة. وهي فصائل تركت وراءها بعض الآثار (عظام، أدوات حجرية، جينات بشرية/ ADN...)، مع أسئلة عديدة لم تحسم بعد(3).

-3-

من هذه الأسئلة مثلا: هل خضع الإنسان للتطور؟ بمعنى، هل كان هناك تطور خطي للإنسان من القرد الأسترالي، إلى النياتردال فالإنسان المنتصب القامة..، وصولا إلى الإنسان العاقل؟ ما خلص إليه جل المختصين، أنه ما بين 7 ملايين سنة التي ظهر خلالها الإنسان الأول وانقراض الإنسان القزم قبل 12.000 سنة، عرف العالم فصائل إنسانية عدة تعايشت مع بعضها البعض، مثلما تتعايش أمامنا اليوم فصائل عدة من الحيوانات.

ربما كان الخلاف في هذا الصدد حول حجم الدماغ، حيث فيما لا يتجاوز دماغ الإنسان الأول 600 سنتم3، فإن دماغ الإنسان العاقل اليوم يبلغ ما بين 1200 و1400 سنتم3. ما يشكل 2 إلى 3 في المائة من حجم الجسد البشري. لكن تبقى هذه المسألة نسبية أو جزئية، حيث استغرق الأمر طويلا حتى يتمكن الإنسان من استخدام دماغه أو عقله لتطوير قدراته. إذ لم تبدأ بعض فصائل الإنسان باستعمال النار مثلا إلا نحو 800 ألف سنة وبصيد الطرائد الكبرى إلا منذ حوالي 400 ألف سنة، كما لم يبدأ تحكم الإنسان العاقل في حلقة التغذية (la chaine alimentaire) إلا بعد قيامه بالثورة الزراعية منذ نحو 10 آلاف سنة.

وفي هذا الصدد، إذا قارنا الإنسان ببعض الحيوانات، نجد أن بعض فصائل هذه الأخيرة تفوقه من حيث القدرات، ومثاله: أنه حين تولد السلحفاة الصغيرة في رمال الشاطئ تتجه بشكل غريزي إلى البحر لتبدأ دورة الحياة لديها دونما عون من أحد، فيما يحتاج الإنسان إلى سنوات عديدة (بين 15 و20 سنة) من التربية والرعاية، أي الثقافة، كي يتكون جسمه وقدراته النفسية والاجتماعية ويستطيع مبدئيا الاستقلال بنفسه.

الواقع أنه خارج مجال المقارنة هذا، "فإن نمو الدماغ وإعادة تنظيمه التي بدأت بالإنسان الفضولي وانتهت بالإنسان المفكر شاهدان على ثورة عقلية تؤثر في جميع أبعاد الثالوث، أي الفرد والمجتمع والنوع". بهذا المعنى، يمكن القول "إن المصطلحات الثلاثة: دماغ وثقافة وذهن، متلازمة في ما بينها. فبعد انبثاق الذهن بدأ التأثير في عمل العقل والثقافة. فتشكلت حلقة بين الدماغ والذهن والثقافة، حيث كل واحد من هذه المصطلحات الثلاثة ضروري للأخر. وانبثق الذهن من الدماغ بدافع من الثقافة التي لا يمكن أن توجد دون دماغ"(4).

من هنا يمكن القول إن أبرز اختراع تميز به الإنسان عن غيره ربما هو: الثقافة أو النظام الرمزي الذي تتميز به جماعة عن أخرى. ذلك أنه لما تجاوز الإنسان الحد الممكن لجماعة معينة كي تتفاعل مع بعضها البعض مباشرة (نحو 150 فرد تقريبا) كما كان سائدا لمدة طويلة لدى جماعات النياتردال، احتاج الإنسان العاقل بعده إلى شيء آخر يضمن استمرار هذا التفاعل وتطوره، في مدن وامبراطوريات ما فتئت تكبر وتتسع. فكانت الثقافة هي الوسيلة المثلى لذلك، والتي تمثلت في قدرته الفائقة على خلق نظام رمزي (الأساطير، الأديان، القوانين، الفلسفات، منظومات القيم والأخلاق، الدول/ الأمم، الشركات...) يعينه على ذلك(5).

-4-

لكن حتى مع نظرية التطور، مازلنا لا نعرف بالتدقيق متى تطورت فصيلة الإنسان العاقل من فصائل إنسانية أو حيوانية أقدم منها (الخلية الأول، القرد..). لكن أغلب المختصين يرون أن هذه الفصيلة ظهرت في إفريقيا الشرقية كما تقدم. وهي فصيلة تشبهنا إلى حد بعيد، حيث انتقلت منذ نحو 70 ألف سنة من أمكنتها الأصلية إلى الجزيرة العربية ومنها إلى القارة الأوروبية، التي كانت بها وقتها فصائل إنسانية أخرى. لكن هذا التطور يطرح على الأقل ثلاثة أسئلة هامة، في تقديرنا، هي:

أولا- ما الفرق بين نوع الإنسان ونوع الحيوان، وهل هناك تفوق لأحدهما على الآخر ؟ وأين يكمن هذا التفوق فعلا: في الذكاء أم العاطفة أو الحس...؟

ثانيا- هل فصيلة الإنسان التي اكتشفت في المغرب، كما ذكر، هي من صنف "الإنسان العاقل"، تشبه ما عرفته إفريقيا الشرقية، كما تشبهنا اليوم؟ أم أنها أولى ملامح تشكل هذا الإنسان؟

ثالثا- ما الذي حدث بعد التقاء فصيلة الإنسان العاقل مع الفصائل الإنسانية الأخرى في الجزيرة العربية أو أوروبا؟ هل قضى الإنسان العاقل على كل هذه الفصائل ليحل محلها، وكيف؟

لا جواب لي شخصيا على السؤالين الأول والثاني، وأتركهما للمختصين. أما بشأن الجواب على السؤال الثالث فقد ظهرت بشأنه عموما نظريتان:

* "نظرية الاختلاط" التي تفيد بأن عددا من فصائل الإنسان قد تمازجت مع بعها البعض. ومثاله تمازج الإنسان العاقل: أولا مع إنسان النياتردال في أوروبا (حالة معظم الدول الغربية)، وثانيا مع الإنسان المنتصب القامة في آسيا (حالة الصينيين والكوريين).

* "نظرية التعويض"، التي تفيد بأن الإنسان العاقل لم يختلط مع الفصائل الأخرى لنوعه (ولم يكن هذا ممكن أصلا بحكم الاختلاف الجيني بينهما). وإنما حل محلها تماما، ما انتهى بموتها أو قتلها (حسب التأويلات المختلفة) واندثار جيناتها بالتالي(6).

أي نظرية هي الأصلح أو الأقرب إلى الصحة؟. تختلف المنطلقات والنتائج، إذ فيما تفيدنا نظرية الاختلاط، بإمكانية وجود اختلافات جينية بين البشر، تفيدنا نظرية التعويض بفقدان هذه الاختلافات. وهذا مع نتائج كل ذلك، على مستويات عدة مثل: تاريخ الإنسان، والنوع أو العرق، والهوية الذاتية والجماعية، والخصوصية والكونية، والتنوع الثقافي، والتطور التقني (الإنسان الأدواتي أو الآلي) والتعايش السلمي، وما إليه.

لقد لقيت نظرية التعويض، أول وهلة، قبولا لدى أغلب العلماء المختصين. لاسيما بعد أن تعززت بعدد من المعطيات التاريخية الأركيولوجية، بل والسياسية والحقوقية كذلك مثل: انتشار ثقافة حقوق الإنسان، ورفض المنتظم الدولي لأي شكل من أشكال التمييز العرقي/ العنصري بين البشر، وتبجيل التعددية والتنوع الثقافي...، وما إليه.

لكن المفاجأة ظهرت مع تطور الأنثربولوجيا البيولوجية خلال العشر سنوات الأخيرة، والتي أثبتت على الأقل مسألتين:

* الأولى، ظهرت سنة 2010، حين كشفت الجهود المبذولة لرسم خريطة جينوم "النياتردال"، أن هناك ما بين 1 إلى 6 في المائة من جينوم الإنسان العاقل تعود لفصيلتي النياتردال أو"دينيسوفا" (homo Denisova)، ما يعزز نظرية الاختلاط المذكورة.

* الثانية، هي إحدى نتائج اكتشاف الجينوم البشري، والتي تقول إن في كل إنسان، من الصنف العاقل، جينات عرقية مختلفة، إلى هذا الحد أو ذاك (مثال: قد نجد في إنسان مغربي أو برازيلي جينات من الإنسان الصيني أو الياباني). ما يفيد نهاية أسطورة العرق(7).

النتيجة، أن مسألة الشبه أو الاختلاف بين فصائل الإنسان لم تحسم علميا بعد، على الرغم من أوجه التقارب المسجلة بين بعضها البعض. ذلك أن الواقع البيولوجي، مثل غيره، مركب في تكوينه. وبهذا المعنى، يمكن القول، مع المؤرخ يوفال نوا حراري، "إن الواقع البيولوجي ليس أبيض/ أسود، وأن هناك فجوات رمادية هامة"(8)، وأن فصائل الإنسان بذلك لم تتوحد، وإنما هناك احتمال في أن تكون بعض جينات بعض الفصائل القديمة قد انتقلت إلى الإنسان العاقل، كما ذكر.

-5-

يبقى التساؤل حول حصيلة الإنسان العاقل إلى حد الآن وما قدمه للبشرية ومستقبله المنظور. هذا يتجاوز حدود مقالنا، ونكتفي بالقول، على وجه السرعة، بأن الآثار التاريخية والأركيولوجية (أدوات، جماجم، بناء، أسوار، أواني، حلي...)، تفيد أن الإنسان مر عموما بأربع مراحل حضارية كبرى:

* الأولى، تمتد من بروز الإنسان الأول قبل 7 ملايين سنة وإلى 10.000 سنة تاريخ ظهور "الثورة الزراعية"، والتي يمكن اعتبارها مرحلة "الطفولة البشرية"، أو تكوين الإنسان؛

* الثانية، منذ الثورة الزراعية المذكورة وإلى حدود القرن 16 (عصر الحداثة) وهي التي ظهرت معها المدن والأمبراطوريات والأديان والفلسفات والعلوم والحضارات المختلفة؛

* الثالثة، منذ القرن المذكور وإلى نهاية القرن العشرين، والتي شهدت بروز المطبعة والدولة/الأمة والتقنية العلمية والثورة الصناعية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛

* الرابعة، هي التي تم تدشينها منذ سنوات قليلة فقط مع ظهور ثورة التكنولوجيات الحديثة، الرقمية والجينية، والتي شكلت إبدالا (باراديجم) جديدا، مازال قيد الاشتغال أو التفاعل.

طيلة هذه المراحل، وبالضبط منذ الثورة الزراعية، أبان الإنسان العاقل عن وجهين متناقضين: الأول هو الذي أبان فيه عن قدرات إيجابية هائلة تمثلت في بنائه للحضارات المذكورة. أما الثاني فقد أبان فيه عن قدرات سلبية هائلة أيضا، تطورت بشكل فظيع خلال القرن 20 وبداية الألفية (الحربين العالميتين، النازية، الستالينية، حروب الاستعمار، القنبلة النووية، التدهور البيئي، التلاعب الجيني، العنف والإرهاب...)، إلى درجة أمكن معها القول إن الإنسان العاقل قد تحول إلى "إنسان مجنون"، يسعى لتدمير ذاته وعالمه.

وهذا ما تتقاسمه، ويا للغرابة، المقاربتين الدينية والفلسفية. حيث ترى المقاربة الدينية، والإسلامية منها بالتحديد، كما ورد في القرآن، أن الله نفخ روحه في الإنسان وكرمه أحسن تكريم (وقد كرمنا بني آدم)، مفضلا إياه على العالمين (وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا)، إلى حد جعله خليفته على الأرض. لكن، ظل الإنسان كما هو عليه، عاقا وجاحدا، ينسى ربه، ويفسد في الأرض ويسفك الدماء، مجادلا (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) ومتسلطا (إن الإنسان ليطغى)، مخيبا الآمال التي وضعها الله فيه (يا حسرة على العباد!).

أما المقاربة الفلسفية فقد عبر عنها باسكال بقوله "أي وهم هذا الإنسان، أي اكتشاف، وأي وحش، وأي فوضى، وأي ذات متناقضة، وأي أعجوبة ! حاكم على كل شيء، ودودة أرضية غبية، وأمين على الحقيقية، وبالوعة من الشكوك والأخطاء، ومجد للعالم وانحطاطه، فمن ذا الذي يفك هذا التشوش؟ لا أحد طبعا، ذلك "إن مصطلح إنساني، غني ومتناقض ومزدوج: إنه في الواقع، جد معقد بالنسبة للأذهان المجبولة على إجلال الأفكار الواضحة والمميزة..؛ وحيث كل فرد، في حد ذاته، يحمل شكل الوضع البشري بأكمله.."، ما يفرض "أن تكون معرفة الإنسان أكثر علمية، وأكثر فلسفية، وأخيرا أكثر شاعرية"(9).

هذا يفيد بأن الإنسان، العاقل أقصد، هو: مادة وروح، عقل وجنون، فجور وتقوى، خير وشر. يملك من الذكاء ما يجعله يصعد إلى السماء ومن الغباء ما يجعله ينزل إلى أسفل سافلين. يبقة التذكير بأنه ليس هناك نسان في المطلق، كما ذكر، وإنما في وضع اقتصادي واجتماعي معين. ما يجعلنا نتساءل بقلق في الختام: أي مستقبل فعلا لهذا الإنسان في ظل هكذا وضع يتسم بالتيه المرجعي أو الإيديولوجي وفقدان الأمل في أسطورة "التقدم"؟

هل يجب، وفق ذلك، إصلاح الإنسان أم وضعه، وكيف؟ وهل ستساعدنا البحوث الجارية حثيثا في مجالات "الذكاء الاصطناعي" أو "ما بعد الإنسان" (transhumanisme) والإنسان الزائد (l’homme augmenté) والإنسان الرقمي والروبوت...، في "سيليكون فالي" أو غيرها، على ذلك، أم أنها ستخلق وهما آخر يتمثل في إنسان جديد؟ النقاش مفتوح.

* * *

هوامش:

1- إدغار موران، النهج: إنسانية البشرية-الهوية البشرية، ترجمة دهناء صبحي، كلمة، أوظبي، 2009، ص 33-39.

2-Yuval Noah Harari, Sapiens: une brève histoire de l’humanité ; Alin Michel, 2015.

3-Idem, p 30

4- إدغار موران، م.س، ص 49

5- Y.N.Harari, p35

6-Idem, p26

7-هذا ما يدخل في باب الأنثربولوجيا البيولوجية التي ازدهرت خلال السنوات الأخيرة، وظهرت على إثرها مراكز تجارية للبحث البيولوجي (أمريكية في غالبيتها) ، يمكن لأي فرد أن يتوجه إليها أو يراسلها عبر مواقعها الإلكترونية كي يطلع على حقيقته الجينية.

8- Y.N.Harari, op cit, p 26

9-إدغار موران، م.س، ص 23-24.