يعري المبدع الكبير السيد حافظ المشهد السياسي في مصر، ويكشف للقارئ صورة الوطن عبر التاريخ. فعندما تنكشف عورة الوطن ترتعش ذات الكاتب؛ إذْ يترجم قلقه الداخلي وحسرته الشديدة على حاضر الأمة الباعث على التردي والهاوية. تتفجر الكلمات برمزيتها العميقة لتفسر لنا وعي الكاتب بمستقبل الوطن؛ مستقبل يبدو مظلما في ظل العبث والفوضى. حيث تستجيب الكتابة القصصية لدى حافظ للواقع السياسي والاجتماعي؛ فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تصوير أو محاكاة، بل السعي إلى النبش في أسباب التخلف والتأخر وما يترتب عليهما من أزمة حقيقية تستدعي الحيرة والدهشة والسخط والتذمر.
على مستوى الدلالة:
سنشرع في توضيح ما أشرنا إليه من خلال مجموعة من النماذج القصصية القصيرة جدا، أولها قصة "ترى ما الذي جرى..؟"(1):
"أغمضت عينيّ لحظة ثم فتحتهما فوجدتني في عصر المماليك..يحاصرون الشوارع..والسلطان سليم الأول يأمر بالقبض عليّ..فأصبحت سجينا طوال 450 سنة.. ترى ما الذي جرى..؟"
تطرح هذه القصة وعيا كائنا بحاضر الأمة وتاريخها، يتجسد في صياغة سؤال الدهشة والحيرة، دهشة تفسرها التغيرات الحاصلة بلا إرادة شعبية، بلا تخطيط معلوم، وبلا مقدمات ملموسة. ومن ثم فإن السؤال الذي يقتسمه الكاتب مع القارئ يختزل دلالات عميقة تتناثر بالإصرار على استحلابها، بحيث يمكن فهم الواقع وتفسيره من خلال الأشباه والنظائر "فوجدتني في عصر المماليك"(2)، لقياس درجة التردي والمأساة اللتين أصبح عليهما الوطن. فاستحضار "عصر المماليك" له ما يبرره في مشهد الوطن الآن؛ ولأن الصورة ممزقة لن يعيد تركيبها مواطنو اليوم، وقد ضاق الحال بهم ليصنعوا مجدا أو يصنعوا حضارة تتجذر أصالتها عبر التاريخ. ومن ثم كان لابد أن يظل الوطن في غياهب الظلمات والجهل وسوء الأقدار. كما تمت الإشارة إلى شخصية "سليم الأول" لتصوير الوضع المزري والتراجع الخطير في معاني المواطنة الحقة. ونحب أن نذكر أن السلطان (سليم الأول) قضى على المماليك ودخل القاهرة باسم الدولة العثمانية.
نجد في النص القصصي القصير جدا حضورا للذات الفردية (أغمضت، وجدتني، أصبحت..)، وهذه الذات الحاضرة كشخصية فاعلة رئيسة تمثل نموذج المثقف العضوي، باعتباره جزءا لا يتجزأ من الوطن، يتوقد ضميره الحي الصارخ على الدوام، صاحب رسالة الوطن الذي يتجرع مرارة الغربة في الزمان والمكان (فأصبحت سجينا طوال 450 سنة).
ويحق لنا بعد هذه النهاية الدرامية المأساوية أن نقول بأن قصة "ما الذي جرى اليوم..؟" تتسم بالعبثية والرمزية؛ مادام الأمر يتعلق بتجربة شخصية مثقفة تقاوم الواقع السوداوي في غياب أي نتيجة أو هدف أصيل. كما أن الأحداث تتسارع وتنتهي بغامضة بلا معنى. والأدل على كلامنا أن القاص يترك المجال مفتوحا للقارئ (ترى ما الذي جرى..؟) لاستنتاج المغزى غير المحدد.
والشأن نفسه عند الانتقال إلى قصة "شباك الوطن"(3):
"صرخت المرأة الغانية من شباك الوطن: أيها المتشاجرون في الساحة..الوطن في غيبوبة منذ 40 سنة لا يسمع صوتكم ولا يشعر بكم..اللعنة عليكم كفوا عن الصراخ..دعوه ينام..
لا تزعجوه حرام. أغلقت النافذة وعادت إلى غرفة النوم فلم تجد جثة الوطن..نظرت إلى الخريطة تبحث عنه فلم تجده فقد اختفى".
تصور قصة "شباك الوطن" غربة الكائن المصري في بلده وفي تاريخه، فهي تكشف واقع لصوص الوطن الذين تنكروا وراء قناع السياسة فذبحوا الوطن. ومن ثم اختفى الوطن الحقيقي. ضاع الوطن ورحلت أمجاده زمن الصراع بين هذا وذاك (يتشاجرون)، صراع يؤكده ما يحصل بين اليميني واليساري، أو بين الأصولي والعلماني. إلى درجة أن اختفاء الوطن جاء، بشكل صريح، على لسان السارد (فلم تجد جثة الوطن- فقد اختفى).
إن ورود معجم يحيل على الصراع الدرامي والنهاية المأساوية الغامضة (يتشاجرون، غيبوبة، الصراخ، جثة، اختفى..)، يؤكد على الفوضى والعبثية، حيث إن مصير الوطن كان مفجعا ومفاجئا. وبما أن الحياة في ظل الشجار الفوضوي بلا معنى، فإن موت الوطن وما فيه أحق شيء. وهو ما يجعلنا نؤكد على تيار العبثية لدى الكاتب السيد حافظ.
وتتأكد العدمية والعبثية واللامعنى في قصة أخرى، اختار لها حافظ عنوان "سلة المهملات"(4):
"انتهيت من كتابة رسالة إلى الوطن، ووضعتها في ظرف وأمسكت القلم لأكتب العنوان فلم أتذكره فوضعت الخطاب في سلة المهملات"
انشغل البطل بالوطن وضيع لأجله وقتا (كتابة الرسالة)، وتحيل الكتابة ههنا على الرغبة في إحياء الصلة وتجديد التواصل والسؤال عن أحوال الوطن، وخدمته بتفانٍ وإخلاص. غير أن الوطن لم يعد له عنوان، أنسته الذاكرة وجهته ودليله؛ ذاكرة لم تعد تعير الاهتمام لوطن زهقت روحه. والحقيقة أن الوطن تعرض للمسخ واحتال عليه المحتالون، فصارت الكتابة ضربا من العبث، وحبه ضربا من العبث والبحث عنه في رماد التاريخ ضربا من العبث. وكل شيء لأجل الوطن يتحول عبثا. فالأفعال كلها ماضوية تفيد التقرير، تكرر منها فعل (وضعت) إصرارا من الكاتب على سوداوية الواقع وعبثية الردود لأجل النهوض به. وهو كذلك بما أنه يستشعر درجة قصوى من اليأس. ولاشيء يمكن أن يجعله يعترف بالوطن. وانتهى الكلام بالغموض والحيرة. بحيث إن العبث تجسد في إلقاء الرسالة في سلة المهملات.
وفي قالب رمزي تتضح العبثية في قصة "الواعظ الفاسد"(5):
"ذهبت إلى بيت حبيبتي في تلك اللحظة العميقة جدا رأيت الواعظ جبته على الأرض وروب القاضي الفاسد بجوارها وقبعات الجنود فصرخت أين هي؟
واقتحمت الغرفة أبحث عنها فلم أجدها ولم أجدهم ... أغلقت الباب ومشيت..أبكي"
شبه الكاتب الوطن بامرأة حسناء تهافت عليها منعدمو الضمير؛ الذين يُحسنُ النَّاسُ بهم الظنَّ، فرجال الدين اغتصبوا الوطن، والإشارة ههنا إلى الجماعات التي تتخذ الدين مطية لتحقيق أهداف سياسية. والقضاء، أيضا، لم يقم بدوره بل باع الوطن لأجل الحاكم الطاغية. والجيش بدوره لم يحم الوطن بل ضحى به من أجل مصالح شخصية أو لتنفيذ أجندات خارجية. كل هؤلاء وراء موت الوطن. تألم البطل لحال الوطن وراح يبكي حسرة عليه. ويمثل البكاء ضربا من الرمزية الدالة على العبث والحسرة، وهي نهاية مؤلمة تكشف قلق الكاتب وضياعه. ولا يعني البكاء الاستسلام أو الخنوع بقدر ما يعني شدة الأسف المترجمة للغربة في الوطن. فكل من عليها خان.
وهكذا إلى أن تبدت العبثية في كشف حقيقة الحركات والأحزاب المنادية بالتغيير أو الإصلاح، اتضح ذلك في قصة "أين رأسي"(6):
"كان يوما سعيدا أن ذهبت إلى الحزب كي أحصل على العضوية الوطنية أعطوني ملابس زرقاء وقبعة وحذاء وسجلوا اسمي وبطاقة هوية وطنية..ارتديت الملابس ووضعت القبعة على رأسي ونزلت إلى الشارع كانت الناس تجري من أمامي بخوف وفزع..ويشيرون إلي.. دخلت إلى مقهى التحرير ذي المرآة الكبيرة في اليمين نظرت إلى نفسي فلم أجد رأسي".
تناولت القصة مشاركة البطل إلى جانب التيارات المنادية بالحرية والإصلاح، وما إن شاركهم في انتفاضاتهم حتى اكتشف حقيقة نفسه وحقيقة ما يجري؛ وجد نفسه مسلوب الإرادة، بلا وجهة، وبلا مغزى. إلى درجة أن النضال يصير ضربا من العبث، بلا جدوى، وبلا هدف حقيقي، لأن الأمر يتعلق بأكذوبة محسومة المصير. والنهاية من جديد مأساوية (لم أجد رأسي).
ولا ينفع أمام هذا الوضع المأساوي أن يجاهد الكاتب ويقاوم لإحداث تغيير يقلب الموازين لصالح الشعب. بل يُقبرُ هذا الصوت المضيء . كما نجد في قصة "إنني سجين"(7):
حلمت أن أقف على المسرح ويراني ويسمعني الجمهور..وبعد طول العناء والغناء أكتشف أن الجمهور الجالس في الصالة أصم وأعمى فقررت الخروج فاكتشفت أن الحراس يمنعوني وأنني سجين.
يشكو الكاتب في هذه القصة غربة في الكلمة؛ لم يعد لإبداعه معنى ولا هدف؛ صارت أنغامه خرساء لا تحرك ساكنا. فشل في إقناع الجمهور بضرورة التمرد على القبح والجهل والخيانة. وتعب لأجل تنوير العقول المتحجرة. وكان مصيره أن يظل حبيس الصمت.إنها النهاية المأساوية. ومادام السجنُ فضاءً يحيل على الظلمة والحصار والقيد فلا ريب أن نهاية القصة تشي بمعاني العبث والفوضى واللامعنى.
ولا يتوقف استشعار معاني الغربة والعبثية عند الارتباط بالواقع السياسي بقدر ما أنه ملاحظ عند تناول الهموم الفردية التي تبقى رهينة بصلاح الوجدان الجماعي. كما هو الحال في قصة "الحلم"(8):
"خرجت في الصباح أشم رائحة البحر ورائحة القهوة وأتحسس دفء عيني حبيبتي فرحا أردد أغنية عشق قديمة..صفعني المذياع عندما فتحته بالثرثرة أغلقته.. مددت الجسد ورحت في النوم قليلا.. أقوم في الغروب.. أدور في كل الدروب.. وعند بيت المحبوب أغني قصيدة اكتشفت أني في مدينة غريبة والحبيبة في مدينة بعيدة.
ياه.. مازلت في الفراش وحيدا. والحلم صار حقيقة"
يعبر البطل عن الغربة والضياع في الحب والمدينة، فلا الهروب إلى الطبيعة ينجيه عذابات القهر ولا هي تخفف عنه الألم. عاد إلى الفراش متوسلا بالحلم. غير أنه وجد الحلم عذابا. واستمر في استشعار معاني الضياع والغربة. غربة تكشف اللامعنى والغموض الذي يلف الأرض كلها.
وعندما يتحول المثقف إلى شخص منبوذ؛ مرفوض سياسيا واجتماعيا، يصبح معه الموتُ مصيرا مفجعا، ويتحول معه مشروعُ البناء إلى حقيقة ضائعة، كما الحال في قصة" زنديق كافر"(9):
"هممت أن أرتدي الكرافتة في رقبتي وجدت يد القاضي تشنقني.. ويساعده الشرطي المرتشي.. وحمل جثتي الشيخ وقال زنديق كافر".
رموه بالضلال والكفر وهو الذي ضحى لأجل الوطن وسعى سعيا حثيثا لأجل البناء والنهضة والحضارة، فالذين سرقوا الوطن وراء موته؛ القاضي والشرطي ورجل الدين (الشيخ). وقد تحالف هؤلاء جميعهم على إقبار صوت الحق، وأصبح العدل والحق والكرامة قناعا يغالطون به الرأي العام. وحين يُقابَل الاختلاف بالموت يصبح الصراع بلا معنى، والحياة بلا معنى، لأن نهايتها تفتقر إلى مغزى أخلاقي يجنبها العبث. على اعتبار أن الكاتب يقنع بشكل أو بآخر أن أفكار المثقف وسلوكه بلا قيمة وبلا مضمون مجدي. بل يُصبح التعبير بالأفكار التنويرية خطيئة تفضي إلى الموت المذل.
على المستوى الفني:
وعلى الرغم من أن هذه القصص القصيرة جدا مجرد لقطات أو شرارات، فهي شعور ثابت وعقيدة فكرية ورؤيا فنية، وهذه المساحة الشاسعة من المعرفة التي تستدعيها مجموعة من العلامات والأيقونات والصيغ التعبيرية ((...)) تجعل من القصة القصيرة جدا، لدى السيد حافظ، منظارا فنيا له مقوماته وخصائصه الفنية، التي تنسجم مع مواقفه الفكرية.
وقد اتضح كيف أن السيد حافظ التزم على مستوى المعمار بالفضاء المسردن، وذلك بطغيان السواد على البياض، وتبدو صورته وحدة منسجمة ومتسقة عضويا وموضوعيا، مخالفا في ذلك الصورة التعبيرية المميزة للقالب الشعري ذي الأسطر المتفاوتة عموديا، وكأنه يريد أن يحافظ لها على صورتها الأم وهي القصة القصيرة. كما أنه التزم بالحجم القصير المعتاد لها، ففي أقصى الحالات نجدها لا تتجاوز أربعة أسطر أي ما يقرب ربع صفحة، وهو حجم معقول بالنظر إلى المقياس الموصى به لدى كبار النقاد عالميا. فالقصة القصيرة لدى حافظ عبارة عن جمل بسيطة من حيث البنية التركيبية، بينها أدوات الربط المناسبة أو نقط حذف، مراعاة لخصائصها القائمة على الاختزال والتكثيف.
والأمر الثاني أن الكاتب حافظ يستعين بعلامات الترقيم، وعلى أكثرها نقط الحذف (..) الدالة على الإيجاز والاقتضاب؛ بمعنى أن هناك فراغا ينتظر القارئ. فلا داعي للتوضيح مادام المقام يُحفز القارئ على التخييل والتأمل. وخير مثال على قولنا هذا قصة "شباك الوطن" التي فسح فيها المجال للقارئ خمس مرات. ثم النقطة (.) التي غالبا ما يغلق بها الكاتب قصصه القصيرة جدا. ثم علامة الاستفهام أو الانفعال (؟) الحاضرة بقوتها الاستلزامية المترجمة للدهشة والاغتراب كما الشأن في قصة "ترى ما الذي جرى؟".
غير أننا نجده، أحيانا، يتحرر من هذه العلامات، تحررا يشي بالعبثية، كما الحال في قصة "سلة المهملات". وهذه جرأة على الضوابط الشكلية التي تمزق تدفقاته الشعورية الممتدة وتحول دون انسياب السرد.
ويفيد هذا الاستنتاج أن حافظا يوفق بين الاتجاه القائل بعلامات الترقيم لأهميتها الفنية والجمالية والدلالية، والاتجاه القائل بالتحرر منها لأغراض نفسية.
والقصة القصيرة جدا عند السيد حافظ ذات نزعة سردية تنمو وفق حبكة منتظمة، تتطور دراميا. قد يحصل بشكل يتعارض مع المنطق، إذ غالبا ما نجد الأحداث تتطور بشكل هابط عكسيا، كما رأينا في قصة " ترى ما الذي جرى؟" عند قوله ((وجدتني في عصر المماليك)). أما الفضاء فلم تخرج الأحداث في مجملها عن الوطن الأم.
ومن مقومات القصة القصيرة جدا عند السيد حافظ التركيز الشديد، حيث يتفادى بشكل واضح الأفعال والنعوت الثانوية وكل الفضلات التي تفضي إلى الإسهاب والإطناب أو الحشو والاستطراد. بل نجده ينتقي الأفعال والأوصاف ذات البعد الإيحائي والرمزي، وهو ما يجعل القصة مفتوحة أمام عدة تأويلات، وهذا الترميز والاختزال يتماشى وتيار العبثية الذي أشرنا إليه سابقا. إذ إن مدرسة العبثية تقول بالغموض والألغاز في التعبير.
وبالنسبة للشخوص، فقد وردت في جميع القصص القصيرة جدا نكرة وكأنها مجهولة الهوية، إنما فضل السيد حافظ أن ينكِّرها وكأنها تتطابق تماما مع الذات المبدعة المهمشة ماديا ومعنويا ووجوديا، كبقية الذوات المبدعة التي مصيرها النفي والطرد والإهمال. فالبطل حاضر بضمير المتكلم، لم يختر له اسما على اعتبار أنه يمثل المثقف العضوي الذي تكون نهايته مأساوية في ظروف غامضة دالة على العبث. ونجد في مقابلها شخصيات ثانوية كعوامل معاكسة تطارد البطل والوطن معا، حاضرة بأدوارها الاجتماعية (الشيخ، القاضي، الجندي..)، وفي ظل هذا الصراع بين الشخوص، تصبح القصة القصيرة جدا لدى السيد حافظ ذات طابع درامي تنتهي بغلبة صوت أنصار الظلم والظلام.
ومن اللافت أيضا أن حافظا يلجأ إلى التلغيز بدل التصريح؛ لإثارة إشكالات معقدة، كما رأينا في قصة شباك الوطن "فلم تجد جثة الوطن.." وهي دعوة للبحث في هذا اللغز الإشكالي الاجتماعي الذي يهم الجميع. هذا اللغز يستفز المتلقي سيكولوجيا للوعي بخطورة الوضع والعمل على المشاركة في تحرير الوطن من التخلف والضياع.
وارتباطا بالقارئ نجد السيد حافظ يعمل على إرباكه وكسر أفق انتظاره، فغالبا ما تعرف الأحداث منعطفا مغايرا يقود إلى نتائج مفاجئة تثير الحيرة والدهشة وتحرك وجدان القارئ، تستنفر فيه طاقات التدبر والتفكر والمشاركة في بناء معنى النص.
ومن الأسلوبية نجد حافظا يخلق مسافة جمالية، عند اللجوء إلى الرمز والانزياح الدلالي، كقوله (الوطن في غيبوبة) فغيبوبة الوطن تعني ما تعنيه من معاني الضياع والتأخر والانحطاط. غيبوبة تجعله لا يواكب التقدم الحضاري الكوني، ولا يساير المستجدات على المستوى السياسي والثقافي والقيمي في الوقت الذي تعرف فيه الأمم الأخرى ازدهارا ورقيا، سواء أتعلق الأمر بالجانب المادي أم بالجانب المعنوي.
ومن الناحية التركيبية نجد طغيان الجملِ الخبرية، المجسدة في الجمل الفعلية المتصدرة بالأفعال الماضية أحيانا، كما ورد في القصة الأولى (أغمضت عيني- فتحتهما-)، أو كما نجد في قصة "الواعظ الفاسد" (ذهبت، رأيت، صرخت، اقتحمت، أغلقت)، وكلها أفعال دالة على الحركية والدينامية، تكشف نشاط وفاعلية البطل جسديا ووجدانيا وذهنيا، أو بالأفعال المضارعة، أحيانا أخرى، وهي دالة على معاناة البطل المستمرة في الزمان والمكان إلى حد لا يطاق، كما رأينا في قصة "الواعظ الفاسد" التي اختتمت بالفعل المضارع (أبكي). والبكاء ههنا لا يفيد الخنوع والاستسلام بقدر بشي بفوضوية الواقع وعبثيته بشكل دائم ومستمر.
وإجمالا، تسهم الجمل الفعلية القصيرة في القصة القصيرة جدا لدى السيد حافظ في تطور الحكي واسترساله بشكل تعرف معها الحبكة تعقيدا وتوترا دراميا يفضي إلى نهاية مأساوية دالة على الغموض والعبث كما هو واضح في القصص "ترى ما الذي جرى؟"، و"شباك الوطن"، و"أين رأسي؟". ونجد إلى جانب الجمل الخبرية جملا إنشائية، تترجم موقف الشخصية الحكائية الرئيسة، تُحدث في النص وقعا يُربك المتلقي ويدعوه إلى التأمل، كالجملة المتضمنة للاستفهام الخارج عن معناه الحقيقي ليفيد معنى الاستغراب والاندهاش والعبثية (ترى ما الذي جرى؟ فصرخت أين هي؟). والنداء (أيها المتشاجرون) والأمر (كفوا، دعوه) والنهي (لا تزعجوه حرام).
وتأسيسا على ما سبق، فإن القصة القصيرة جدا لدى الكاتب السيد حافظ شراراتٌ ساخنة ولقطاتٌ مضيئة، تكشف حقائق مثيرة للجدل، فهي ذات صلة بوجود الإنسان العربي في وطن فاقد للبوصلة، وطن بلا قلب، غارق في ظلمات الجهل والغباء والظلم، فهي تعالج بشكل رمزي معاني العبثية والاغتراب والفوضى واللامعنى في ظل ثقافة سياسية تزرع الرعب والمخاوف. جعلت المثقف يتجرع مرارة الغربة والضياع، يتألم في صمت، ويتمزق نفسيا، جراء التهميش والحصار، حصارٌ يطال سلوكه وأفكاره ووجوده ككائن صارخ لأجل الحق والإصلاح. بحيث تنتهي جهوده، في كل مرة، بالفشل.
(باحث مغربي في الديداكتيك وتحليل الخطاب)
* * *
الهوامش
(1) لك النيل والبحر والهرم، السيد حافظ، ص: 18.
(2) المرجع السابق، ص: 18.
(3) المرجع السابق، ص: 23.
(4) المرجع السابق، ص: 29.
(5) المرجع السابق، ص: 36.
(6) المرجع السابق، ص: 47.
(7) المرجع السابق، ص: 62.
(8) المرجع السابق، ص: 41.
(9) المرجع السابق، ص: 53.