أعتقد أنه لا جدال في كون الإنسان هو الثروة الحقيقية الواجب استثمارها للنهوض بحضارات الشعوب، ليس بتعريض الشعوب للحرمان والقهر والقمع والنسيان .. وإنما جعلها رهانا لمعركة التنمية التي أساسها الموارد البشرية قبل الموارد المادية والطبيعية.
يجب أيضا الإقرار والاعتراف بكل الجهود التي بذلتها الفلسفة والفلاسفة الألمان من خلال الاهتمام بالإنسان كموضوع لأبحاثهم ودراساتهم في مجال السوسيولوجيا، وهو عمل جبار يؤكد مدى انشغال الألمان، وغيرهم من المفكرين ببلدان الغرب بالخصوص، بالإنسان كطاقة وقوة ورهان حضاري وثقافي وتنموي، ونقف، ليس على سبيل الحصر، عند إسهامات كل من Dilthey Wilhelm وMax Weber، إذ كان لهذين المفكرين كبير الفضل في الفصل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية على المستويين النظري والمنهجي، الأمر الذي أفرز فيما بعد ما أضحى معروفا بعلم الاجتماع الإنساني الذي يهتم بدراسة مشاعر الإنسان وتعقيداتها، ويتوخى هذا العلم فهم اهتمامات الإنسان وطاقاته الإبداعية وخبراته سعيا وراء تحقيق مجتمع لا وجود فيه للقهر والظلم والقمع(1)، وقد نادى الكثير من هؤلاء المفكرين، ومنهم عالم الاجتماع الأمريكي Robert A. Nisbet(2)، بضرورة الجمع بين علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ، بغية صياغة رؤية واضحة وعميقة عن الإنسان الذي يجب اعتبار ما يزخر به من مشاعر وقوة داخلية يتوجب استثمارها وتفجيرها من أجل الخلق والإبداع، وهذه الرؤية تستلزم الحرية كشرط لتحقيق هذا السمو بالفعل الإنساني، أو بمعنى آخر تحقيق المقاربة الأخلاقية للإنسان كفاعل ومبدع. من هنا يأتي الحديث عن كون الثروة الحقيقية لا تكمن في ما هو مادي بقدر ما هي كيفية استثمار الطاقات البشرية والزج بها في طريق الخلق والإنتاج الحضاري، وفي هذا السياق جاءت كتابات بعض المفكرين العرب، منهم مصطفى حجازي(3) الذي يثير كثرة اللغو وما طال مسألة الحرية واللعبة الديمقراطية من تداول بلغ درجة الابتذال وفقدان الدلالات والمعنى(4)، لأن الجهة التي تملك السلطة والقوة وتتحكم في دواليب الاقتصاد لا تكترث بهذه الشعارات، وتتعامل مع أي حراك جماهري بجفاء أو تتدخل بعنف لإثبات قانون القوة وفتح بوابات السجون والمعتقلات وكل ما يصاحب هذه العملية من تقليل من أهمية الصراع داخل المجتمع وضرب مصداقية نضالات المجتمع المدني وبسط النفوذ على كل منافذ المعرفة والفكر المتحرر، الشيء الذي يجعل المجتمع يعاني اختلالا على مستوى حركيته بسبب الخوف الذي يتولد عنه تفشي الإحباط، حيث أضحى الفرد داخل المجتمع يفكر في الدار الآخرة وتفسيرات الأئمة لكل ما يحيق بوضعه، فيغرق في خوف دائم يشل تفكيره داخل المجتمع، ويحجب عنه أي رؤية للتطور والانخراط في عملية الإنتاج ولا ردة فعل تجاه استغلاله. ولعل من أهم أسباب هذا الخوف، في نظرنا، في حالات المجتمعات العربية، ما تسرب إلى نفوسها من قلق دائم وقمع وحرمان وتسلط لحكام الجور، وما عانته هذه الشعوب من وطأة الاستعمار خلال عقود من الاحتلال والاستغلال، ولعل التجربة القايدية في حال المغرب، كما تناولها عدد من الباحثين أمثال Robert Montagne وبول باسكون نسبة لقياد الاستعمار، أمثال الباشا الكلاوي والقايد العيادي في الحوز والباشا بوجمعة في بني ملال، وعيسى بن عمر في عبدة ... والذين شكلوا نوعا من الإقطاع داخل المجتمع المغربي ذي البنية القبلية، تجربة شكلت بؤرة سوداء في تاريخ المغرب الحديث من حيث البطش والظلم والاستعباد والاحتقار والإذلال والتسيب واستباحة المال والعرض دون رحمة ولا شفقة، لدرجة يمكن اعتبارها أفقم من تسلط المستعمر ذاته، وهي المرحلة التي قوت شوكة المخزن وهيأت للمرحلة المقبلة التي سينغمس المغرب فيها بداية من منتصف ستينيات القرن الماضي، والموسومة بسنوات الجمر والرصاص، والتي عرفت عددا من الانقلابات العسكرية الفاشلة، حاولت الإطاحة بالنظام القائم، لتفضي لسلسلة واسعة من الاعتقالات والتغييب والاختطافات والمداهمات، وتمتد يد المخزن بشكل لا سابق له لتكتم أي نفس يحاول الجهر بالعداء له، وقد امتد هذا الوضع لعقود ليفتر تارة ثم يتجلى في أبشع صوره بعد حين، لهذا أضحى الخوف مرافقا للأفراد والجماعات داخل المجتمع، إذا لا ثقة في الأجهزة الإدارية للمخزن، هذا الأخير لم يسع يوما لمد جسور الثقة مع أفراد المجتمع، لتبقى العلاقة بينهما مشوبة بالحذر والخوف. ثم المعاناة المضاعفة بعد الاستقلال حيث التبعية والتسلط والسلطة المطلقة والاستغلال البشع للثروات من طرف نخب عمدت لتحصين ذواتها عبر أساليب عدة، ومنها بث الخوف في نفوس الشعوب، ناهيك عن الأزمات التي عرفتها هذه البلدان من أوبئة ومجاعات ... والخوف هنا يقابله الأمن والأمان، وقد ظل موضوع الخوف محط اهتمام عدد من الدارسين في الغرب كما في بلدان العالم العربي.
وبالعودة للكتابات التاريخية الأوروبية نجد عددا من الدراسات والكتابات أولت أهمية كبرى لموضوع الخوف من خلال مقاربة اجتماعية والنفسية للمجتمع الأوروبي الذي مزقته الحروب الأهلية خلال النصف الثاني من ق16م، ومن هؤلاء Jean Delumeau المتخصص في العقليات الدينية(5)، وتأتي أهمية الكتابة التاريخية عن الخوف كونها تسلط الضوء على خانة معتمة من تاريخ البشرية، وهذا ما حاول برنار متيلد التنبيه إليه، أي أن موضوع الخوف ظل يشوبه نوع من اللامبالاة والصمت، وكأن الأمر غير ذي أهمية، لتتبلور فيما بعد الكتابات عن الخوف وفق نظرة اجتماعية واقتصادية ونفسية وفيزيولوجية وأنثربولوجية(6)، وهي الكتابات التي وقفت على الحياة اليومية للفرد في أوروبا والتي عرفت تفشي الأوبئة والأمراض منها الطاعون، ثم الحروب والمجاعات، والتي استمرت لعقود، الشيء الذي سيفتح المجال أمام الدارس الأنثروبولوجي للاطلاع عن قرب على تفاصيل حياة الأفراد والجماعات ومعاناتهم، حيث حصدت ملايين الأرواح، والتي لم تتم الكتابة عنها بشكل أكثر وضوحا لاستثمارها في بلورة المعيش اليومي للمجتمعات، وهذا الحديث لا يستثني بلدان الجنوب التي كانت معاناتها، ربما أكثر تأثيرا، لأنها عانت أيضا الويلات والأمراض والأوبئة والنزاعات حول السلطة، مقارنة مع شعوب أروبا التي عرفت الانعتاق والتحرر والنهضة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والممارسة الديمقراطية في علاقة بالعقليات الدينية، ولو أن الديمقراطية تبقى طريقا غير آمن أو مؤهل للحرية، أو ما يمكن تسميته الثقافة الدينية التي يحضر فيها الخرافي والفهم السطحي المؤديان إلى الخوف، الخوف في جميع تجلياته: من الحاضر والمستقبل والجوع والسفر والمرض والموت والماء والبحر والنار والإدارة والسلطة والغيب والحاكم ... الشيء الذي جعل الأفراد، في المجتمعات الأوروبية مثلا، يبحثون عن ملاذ من الخوف لتنتعش الكنيسة وتستقطب الفئات الواسعة من الشعب تستبد بأمور البلاد والعباد بما في ذلك شؤون الحكم والسياسة، وتتحكم في مصائرهم وتشكل فترة مظلمة في تاريخ أوروبا عرقلت التطور الحضاري، حيث عرفت أوروبا ازدهار الأديرة والكنائس والكاتدرائيات وبلاطات الحكام، مقابل تفشي الجهل والدين المتشدد المتزمت لتتولى الكنيسة الهيمنة على مختلف مجالات الحياة، لم تنفك منه إلا بعد قرون بفضل تضحيات كبيرة راح ضحيتها كل عالم متنور من أجل التحرر من المعتقدات الدينية القديمة والدعوة إلى العقلانية والتأسيس الشرعي للأخلاق والمعرفة، فشكل هذا الفكر إطارا فيما بعد لعدد من الثورات، منها الفرنسية وبلدان أميركا اللاتينية، وظهر عدد من المفكرين تصدوا لمؤسسات الكنيسة والدولة على حد سواء، منهم فولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم، ثم قيام النظام الرأسمالي الذي أكد توحشه واستغلاله البشع للبروليتاريا والفئات الكادحة في غياب تقاسم عادل لوسائل الإنتاج وغيرها من الشعارات التي ناهضت الجبروت الرأسمالي، أفضت للمناداة بالنظام الاشتراكي الذي التف حوله خلق عظيم وأطاح بعدد من المؤسسات والأنظمة لتنشأ أنظمة أخرى تتبنى الفكر الاشتراكي الذي لن يصمد فيما بعد أمام الليبرالية المتوحشة والتقدم الصناعي والثورة التكنولوجية، بحيث أضحى العالم قرية صغيرة.
يرى ماكس فيبر أن هناك، في الدافع السيكولوجي، مؤثرا على السلوك السياسي للأفراد والجماعات متمثلة في الخوف من السلطة السياسية وما قد يقع من اضطرابات اجتماعية واقتصادية، وموازاة مع هذا الخوف تعيش هذه الجماعة على الأمل(7)، أمل تحقيق غد أفضل يتمثل في الحرية والعدالة والاستقرار وما إلى ذلك من الرؤى التي يحملها الفرد داخل جماعته أو الإطار التنظيمي الذي ينتمي إليه، من جمعيات مدنية وأحزاب سياسية، من هنا يستمر الخوف ويتجدد الأمل في ظل سلطة تمتلك جهازا إداريا قويا وسلطة مالية يضمنان استمرارها من خلال لعبة الديمقراطية والعصا والترغيب والترهيب والتخويف، الذي يتفاقم ويعظم في نفس الفرد والجماعة بسبب تظافر كل العوامل التي أوردنا.
لن نسقط تجربة دول الشمال على مجتمعات الجنوب، لكن لابد من الإقرار بتأثيرها في هذه المجتمعات التي تشبعت بما حملته من أفكار ونظريات من خلال التواصل بين الثقافات والحضارات رغم اختلال موازين القوى، لدرجة الغزو الفكري والوقوع في اللبس والغموض، إذ لا يمكن إنكار الدور الكبير للنهضة الأوروبية في تكوين العقل الحديث وقيام الأنظمة الحديثة.
وعند مقارنة المجتمعات العربية بغيرها سوف نلاحظ أنها الأكثر عرضة للخوف، حيث يتفشى الخوف بين ثنيات الحياة اليومية للأفراد والجماعات داخل هذه المجتمعات، والخوف بهذا المعنى ليس وليد لحظة، بل راكمته السنين والتجارب والمحن والمعاناة، كما أسلفنا، حتى صار جزء من سيكولوجية الفرد العربي، يعمل هو نفسه على نقله للأجيال القادمة، بل أضحى الخوف جزء من ثقافته، وهي عملية لها انعكاسات سلبية طبعا، يمكن من خلالها تفسير عدد من الظواهر التي تعيشها المجتمعات العربية، منها التخلف وظلامية التفكير أو عدميته، الشيء الذي يحول دون الإبداع والتطور والتحضر والسعي خلف الحرية والاستقرار والأمن، وبالتالي نكون أما إنسان بذهن متخلف يعاني من قصور على مستوى الفكر النقدي، بحيث يصبح متحيزا تلقائيا، أي مع أو ضد(8). من هنا يأتي الحديث عن دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية، المتمثلة في الأسرة والمدرسة والشارع، في نقل ثقافة الخوف للناشئة من خلال ممارسة نوع من الباترياركالية على الأبناء تؤدي للإقصاء الممنهج والحد من الحرية، ووضع رقابة مكثفة على سلوك الطفل واليافع، وتمرير إيديولوجية السلطة الحاكمة عبر مقررات الدراسة وزرع ثقافة الحرمان الاجتماعي، فيجد الفرد أن المستقبل بدون آفاق، أو مجهول الآفاق، الشيء الذي يفاقم ويذكي الخوف عنده، فيجد الفرد نفسه أمام أجهزة مراقبة في شكلها المخابراتي تطارده وتحسب خطواته وتحبس أنفاسه، تسمى القوانين والأعراف، فتتحكم الدولة عبر أجهزتها الإدارية ووسائل الإعلام التابعة لها أو التي تمولها وتتبناها، في جميع الحياة الاجتماعية وفق مخططات معدة لكل ظرفية لخلق رأي عام مشبع بثقافة الخوف.
ولعل من أهم أسباب تفشي الخوف داخل مجتمعاتنا، تسلط أدعياء الدين وبث ثقافة الخرافة والأضرحة والأولياء بين الفئات الشعبية المؤهلة لذلك، وفي المقابل الابتعاد عن أهل العلم المجتهدين في شؤون الدين من قرآن وسنة، الشيء الذي جعل هؤلاء العلماء يعيشون في منأى عن عالم البدع ورفض تحميل الدين ما لا يليق به. من هنا برزت شخصية "الولي" أو "الصالح" أو"لمرابط" أو "الشريف" ثم المجاذيب" و"البهاليل" الذين تنسج حولهم القصص والحكايا تصل درجة من الوهم يعجز العقل البشري عن تصديقها، كأن يطير أو يشفي الأمراض المستعصية أو يتنبأ، أو غيرها من المبالغات التي يصعب استساغتها، ونحن بهذا القول لا ننفي الثوابت الدينية والحقائق القرآنية أو نسقط صفة الورع والزهد عن الناس، بل نقف عند خاتم النبيئين محمد صلى الله عليه وسلم ونهاية زمن المعجزات، والغيب لا يعلمه إلا الله وليس "الولي"، مثل هذا الفهم السطحي للدين وتفشيه بين الناس وتنشئة أجيال متعاقبة على نمطه، أضحى المرء يخشى على نفسه من الخوض فيه ابتغاء الجدل الفكري والمعرفي، لأن الأمر سيفضي بصاحبه لدائرة النعت بالجهل والشرك، وما إلى ذلك من الصفات التي تضع حدا لأي حديث منفتح غير متعصب أو متشنج، لهذا نجد عددا من علماء الأمة الإسلامية، وهم قلة، يأخذون على عاتقهم محاربة البدع والدجل والخوض في الدين بغير علم، وهو أمر محمود يتطلب بلورته بين الفئات العريضة أو العامة من جمهور المسلمين، لأن هناك من يخشى "الولي" أكثر من خشيته لله، وبالعودة لتاريخ نشأة الفكر الإسلامي سوف نلاحظ مستوى النضج في تناول قضايا العقيدة، سواء بين الفرق الكلامية أو العلماء. فتعاظم شأن "الولي" بالمعنى الذي أورنا، أضحى ينازع السلطان بشكل من الأشكال، لأن "الولي" بث الخوف في أفئدة الناس، الخوف من المبهم والوهم لذي يمكن تصنيفه في مضمار الخرافة والدجل ولنا في تاريخ المغرب، مثلا، عدد من الوقائع تجلي مكانة "الولي" بين عامة الشعب، حيث أنه بالرجوع لبعض المصادر التي تؤرخ لهذه الظاهر، مثل كتاب "سلوة الأنفاس ..."(9)، وعند تصفح الكتاب سوف نلاحظ أن أسماء الصلحاء الواردة فيه تتراوح بين الكتاني والعمراني والدباغ وابن كيران والفهري والحلو والقروي وبنونة والأندلسي والحراق وجسوس والإدريس وغيرهم من أسماء آل فاس، استعرضهم صاحب الكتاب في ثلاثة أجزاء في ما يقارب 400 صالحا، لدرجة يخال القارئ أن فاس لم تنجب غير الأولياء والصلحاء؟ وهو يستعرض علمهم وكراماتهم وحظوتهم بين الناس وتحويل قبورهم إلى أضرحة ومزارات لمن يلتمس حاجة من أمور الدنيا إلا قضاها، ويحق أيضا للقارئ أن يتساءل أهل فاس الجديد التي بناها بنو مرين والذين ازدهرت في عهدهم عمارة المساجد ولاحتفاء بالمولد النبوي وأدب النبويات؟
يجرنا سياق الكلام للحديث عن ظاهرة التصوف بالغرب الإسلامي، والتي رغم تأثيرها في هذه المجتمعات وبين صفوف شعوبها، لم ترق لدرجة التغيير المنشود بقدر ما فاقمت الخوف بينها، واكتفت بإذكاء ثقافة الشيخ والمريد والحديث عن الكرامات ومناقب الأولياء، ومعلوم أن الحرب بين الفقهاء والمتصوفة اتقدت بشكل أكثر ضراوة بعد إحراق كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، في عهد يوسف بن تاشفين سنة 503ﻫ/1109م، رغم كون المرابطين محسوبين على أهل السنة والجماعة، لكن بدا لهم أن التصوف تحول من الأفراد إلى الجماعات ورأوا فيه منافسا أو منازعا لسلطانهم الذي امتد إلى الأندلس، وبدأ المتصوفة يجمعون حولهم خلقا كثيرا ...(10)، لينتعش التصوف مع بداية عهد الموحدين، حيث استفاد المتصوفة من المرحلة والتحول الذي عرفته مجتمعات الغرب الإسلامي بعد المرابطين ... وسوف تعرف حركة التصوف فيما بعد انفتاحا كبيرا على عامة الناس وتصبح جماهيرية الاعتناق والممارسة على يد أبي الحسن الشاذلي المتوفى سنة 1258هـ، ثم ستعرف الشاذلية، بعد قرنين من الزمن، مراجعة لعديد من مواقفها ومقوماتها على يد كل من محمد بن سليمان الجزولي وأحمد زروق البرنسي الفاسي(11). ثم بدا أن الصوفية وجدت التربة أكثر خصوبة ببلاد المغرب، لتحقق وجودها وتستمر كما أوردنا سلفا، وقد وقعت العديد من الدراسات والكتابات التي رافقت المد الصوفي بالمغرب، تتراوح بين المناصر والمعارض لما وسم الممارسات الطقوسية داخل الزوايا من ابتعاد عن العقيدة، وإنزال الشيخ منزلة الولي الذي تتجلى فيه ومن خلاله الخوارق والكرامات .. والموضوع يحتاج منا لحيز أكبر لتناول بعض من جوانبه، ويجدر بنا الحديث عن بعض من الكتابات التي رافقت المتصوفة والولاية، ومنها ما أورده القادري في معرض حديثه عن أولياء فاس، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، كرامات الولي سيدي عبد المجيد المتوفى سنة 1003هـ، رواية تماشى ومضمون المقال، فحواها أن شخصا شكك في صدق كراماته حيث حاول التحقق من أن الولي يؤدي صلاة الجمعة فتبعه إلى الميضأة، وبعد طول انتظار دفع باب المرحاض، فتأكد أن الولي غير موجود هناك، فكان أن اتهم الرجل بالسرقة فقطعت يده ليتبين أنه بريء فيما بعد، وكانت اليد التي قطعت هي التي دفعت باب المرحاض على الولي(12)، والكثير من الكرامات التي أضحت عالقة بمناقب الولي والولاية، لا يمكن حدها في مؤلف واحد أو تناولها من خلال مقال قصير. وهي قصص تتجاوز الإعجاز، في نظرنا، من حيث أحداثها التي لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبها، لكن العامة تتمثلها بفعل الخوف المعشعش في ذهنها، حيث تتناقلها وترويها وتزيد في تفاصيل الوقائع لأن الإنسان بطبعه ميال للغرائبي والعجائبي، لهذا يلاحظ الباحث، كما الإنسان العادي، انتشار كم هائل من الأضرحة في تراب الشمال الإفريقي عامة، والمغرب الأقصى بشكل خاص، في كل كدية أو جبل أو دوار، تشكل جميعها مزارات يحج إليه العباد من كل حدب، ومنهم من تقام له المواسم السنوية والذبائح، ويتم استغلال هذه المواسم لتكريس عقلية الإنسان المهدور وثقافة الخوف بين العامة، وليس من الغريب أنه يتم استغلال هذا الوضع من طرف بيده السلطان لتوطين إيديولوجية معينة، وسوف نلاحظ أيضا أن دول الاستعمار التي استعبدت شعوب الشمال الأفريقي اعتمدت أيضا على الزوايا والصلحاء لاستتباب الأمن وجعل الاحتلال قدرا مقدورا يجب التسليم به.
أمام الوضاع المزرية التي آلت إليها شعوب الغرب الإسلامي، ومنها المغرب الأقصى، بسبب الانحطاط والتخلف والأوبئة والمجاعات والاستعمار وتسلط الحكام ...، بدا بديهيا أن يتسرب الخوف لنفوس هذه الشعوب وتقع في أحضان الشائعات وتبحث عن المخلص الذي يخاطب وجدانها المستعد لتقبل كل أمر يصدر عن المرابط والصالح والولي والشريف والمجذوب والبهلول ووو، وبالتالي لم يتسن لهذه الشعوب، كمورد بشري، أن تحقق تلك القفزة النوعية التي حققتها شعوب أخرى عاشت وضعا أبشع وأكثر كارثية منها، وكأنها أخلفت الموعد مع التاريخ وفاتها ركب الحضارة والتطور.
* * *
الهوامش:
1- كين بلامر، وثائق الحياة، 1983.
(2) La tradition sociologique, 1966.
(3) الإنسان المهدور، يقع الكتاب في 352 صفحة من الحجم المتوسط، عبارة عن دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، صادر عن المركز الثقافي العربي، البيضاء، المغرب، ط1، سنة 2005، موزع بين 9 فصول، ناهيك عن مقدمة العامة وتمهيد ومراجع تهم كل فصل، وهو يرتكز بشكل أساس على التحليل النفسي للإنسان.
(4) الإنسان المهدور، ص. 23.
(5) والذي من أعماله:
- La Peur en Occident (xive-xviiie siècles) 1978.
- Le Péché et la peur: La culpabilisation en Occident (xiiie-xviiie siècles) 1983.
- Rassurer et protéger: Le sentiment de sécurité dans l’Occident d’autrefois, 1989.
وهي الكتابات التي تناولها بالتفصيل الكاتب الفرنسي ماتيلد برنار في كتابه (كتابة الخوف زمن الحروب الدينية بفرنسا، 1562-1598)
- Bernard Mathilde, Ecrire la peur à l’époque des guerres de religion, une étude des historiens et mémorialistes en France (1562-1598), Editions Hermann, Collection Savoir Lettres, Paris 2010.
(6) جون دولومو، الخوف في الغرب بين القرنين 14 و18، 1978
. La Peur en Occident (xive-xviiie siècles)
(7) عدنني إكرام، سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر، منتدى المعارف، 2012.
(8) مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، الركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط9، 2005، ص. 64.
(9) محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، تحقيق عبد الله الكتاني، دار الثقافة، البيضاء، 2004
(10) محمد القبلي، الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط، علائق وتفاعل، دار توبقال، البيضاء، ط1، 1997.
(11) يمكن الرجوع للبحث القيم الذي قدمه محمد مفتاح لنيل درجة الدكتوراه، والموسوم بـ "التيار الصوفي والمجتمع في الأندلس والمغرب أثناء القرن الثامن الهجري"،1981.
(12) محمد بن الطيب القادري، نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني، تحقيق ممد حجي وأحمد توفيق، مطبوعات دار المغربي للتأليف والترجمة والنشر، ج1، الرباط، 1977، والكتاب يقع في ثلاثة أجزاء.
ثم هناك دراسة قيمة قدمها الباحث محمد المهناوي، استأنسنا بها ضمن لائحة المصادر والمراجع لكتابة هذا المقال، عنوانها: الولي والمجتمع، مدخل لدراسة تاريخ الحديث تاريخ الخوف بالمغرب الحديث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الجديدة، مجلة كلية الآداب، الجديدة، عدد 11-12، تستحق كبير الاهتمام بفضل ما قدمته من مسح تاريخي لظاهرة الخوف في ارتباطها بالصراع الفقهي والصوفي بالغرب الإسلامي وما ترتب عن ذلك من انعكاسات سلبية داخل بلدان هذه المنطقة، خاصة مسألة الولاية في ارتباطها باستتباب الخوف بين هذه الشعوب.