تخلص الكاتبة إلى أن العولمة كظاهرة مهولة، تلقي بظلالها على العالم الإسلامي، وكنتاج لفكر أحادي، ينزع نحو السيطرة والإقصاء. وما نستطيع فعله هو محاولة فهمها والتعامل معها بفكر عقلاني، أخلاقي في أبعاده، عملي في مقصوده، قادر على مواجهة سلبياتها في مختلف المجالات.

الحلول العقلية العملية لمواجهة العولمة

لمياء فاتي

 

بداية لن نخوض في تعريف العولمة وبيان سلبياتها فقد قتلت بحثا خصوصا في الكتابات المعاصرة، ولكن ما يهمنا في هذا الطرح التجديدي هو التفكير في سبل التعامل مع هذه الظاهرة الكونية بطرق عقلانية وعلمية، وتقديم الحلول العقلية العملية كتأسيس للبديل الإسلامي.

فلا بد أن نشير إلى حقيقة الموقف الذي يجب أن يتخذ من العولمة، فإنه ليس من الفائدة التشكيك فيها، أو الوقوف منها موقف المقاومة والرفض، لأنه كلما زاد الانغلاق وسدت منافذ الانفتاح قلت الحصانة والمناعة ضدها.

وكذلك القول بالنسبة للموقف الذي يمدحها ويعتقد أنها تمثل العصا السحرية التي سنحل بها مشاكلنا المتراكمة بذكره لإيجابياتها فقط، فإنه هو الآخر مشكوك في فائدته، ومن ثم يكون الموقف الأصوب هو ذاك الذي يقف منها موقفا عقلانيا نقديا، ويتعامل معها بحكمة، وتفكير عميق في سبل مواجهتها.

إذن ما هي الحلول المقترحة لمواجهة سلبيات العولمة؟ وإلى أي حد يمكن أن تحد منها؟

أ – التأسيس الأخلاقي للعولمة:

يرى طه عبد الرحمان أن المسلمين "لا يملكون على ما يبدو في الأفق القريب إلا ما انطوى عليه الإسلام من القيم الأخلاقية، والمعاني لتثبيت وجودهم وقول كلمتهم في الحضارة العالمية المنتظرة"(1).

وبذلك يبطل الرأي القديم القائل بأن الإنسانية تتحدد بالعقلانية لأن الفعل العقلي نفسه فعل خلقي، إذ يحتمل أن يكون حسنا أو قبيحا. فقد تقرر أن الذي يسبق إلى الذهن من استعمال هذا اللفظ –الإنسانية– ليس معنى امتلاك الكائن البشري للقوة العقلية، وإنما معنى "امتلاك الكائن البشري للقوة الأخلاقية" ومن ثمة فإن "الأخلاقية والإنسانية مترادفتان"(2).

كما تختص أخلاقية الجواب الإسلامي بكونها أكمل أخلاقية، ومعلوم أن المسلم يعتقد جازما أن الأخلاق الإسلامية تتمم الأخلاق السابقة عليها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق.

إذن فالقوة الإيمانية للدين الإسلامي أوسع مدى من القوة الإيمانية لغيره من الأديان لأنه خاتم الأديان من أسرار الإيمان، والقوة الأخلاقية للدين الإسلامي أعلى رتبة من القوة الأخلاقية لغيره من الأديان لأن الأخلاق الإسلامية تتم الأخلاق السابقة بإضافة قيم سلوكية أخرى، ومن ثم فلا عجب أن يتوسل المسلم بكل فعل أتى به الفعل الخلقي وتزكية تصرفه.

ونجد "روبيرت ميلكان العالم الطبيعي الأمريكي يقول: إن أهم أمر في الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق، ولقد كان زوال هذا الإيمان سببا للحرب العالمية، وإذا لم يجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة، بل يصير العلم نكبة على البشرية"(3).

إذا فالأخلاق هي قوام الحضارة، فلا تحضر بدونها ولا قيام لمجتمع بغير أخلاق، فهي ليست قيما كمالية بل ضرورية، لأن الشريعة كما يقول ابن تيمية إنما هي تخلق بمكارم الخلاق.

وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" الدين النصيحة"(4)، لأن بالنصيحة يتحقق تخلق الإنسان مع الله والآخرين مما يجعله يتخلق مع ذاته، والإنسان بذلك لا يحقق إنسانيته إلا بإصلاح ذاته عن طريق تغليب جانبه الروحي الأخلاقي على المادي، لتسمو نفسه، ويصل إلى الكمال السلوكي، الذي يجب أن يزاوجه بالكمال العقلي.

وفي حين نجد مفكرين كطه عبد الرحمان يركزون على الأخلاق كحل لمواجهة العولمة، نجد بركات مراد يقول: بأن المسلمين "لا يحتاجون إلى مناعة أخلاقية ضد العولمة بل إلى مناعة فكرية وعقلية وعلمية، ويضيف بأن اختراق العولمة لا يكون بسبب العولمة الكاسحة بل إلى ضعف في هوية المسلمين في قدراتهم على تجسيد محاسن الهوية"(5) وهذا يناقض قوله في نفس الصفحة، بأن التطور العلمي يتطلب قدرا من الانضباط والصبر والمثابرة والتضحية والصدق، وهذه القيم الروحية لابد من توافرها في العالم المخترع، إذن فالعلم والأخلاق صنوان، ووجهان لعملة واحدة وحينما يتجرد العلم من الأخلاق يصبح وسيلة للتدمير لا للبناء. والفعل الفكري هو الآخر ينطوي على ممارسة أخلاقية وتجسيد قيمي.

ب – التقويم الإجرائي العملي كخطوة لتأسيس البديل:

لقد تنوعت الحلول والوسائل العملية الإجرائية المقدمة لمواجهة النتائج السلبية للعولمة، وتأصيل البديل، وصفا، ومنهجا، ورؤية.

فنجد أن محمد الشيرازي يدعو إلى سياسة التكثل الاقتصادي الإسلامي الضخم، لمواجهة التكثلات الاقتصادية العالمية العملاقة، بحيث عد عشرا من الإجراءات العملية التي يقترحها كحلول وهي:

1 – طرح أصول الاقتصاد الإسلامي المستنبط من القرآن والسنة الشريفة، فهو اقتصاد يلبي الجهات المادية بل وحتى المعنوية أيضا.

2 – العمل لإيجاد مركز إسلامي اقتصادي عالمي.

3 – العمل لتعديل السياسات النقدية والمالية، والصادرات، والواردات في التجارة الخارجية لتتوافق مع الاقتصاد الإسلامي.

4 – دعم ما تقدمه البلدان الإسلامية من الإصلاحات الاقتصادية في مجال التطبيق.

5 – العمل على قيام سوق إسلامية لرأس المال وحركته.

6 – العمل على ارتقاء القدرات البشرية والإمكانات التقنية.

7 – تحرير المبادلات التجارية من كل القيود والمضايقات.

8 – العمل على استشراف المستقبل، ورسم صورة مستقبلية لموقع البلدان الإسلامية في المحيط الاقتصادي الإقليمي والعالمي.

9 – العمل من اجل الوصل إلى الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، ووضع أسس لبناء القدرة التنافسية.

10 – الاستفادة من التجارب الاقتصادية العالمية في مجابهة العولمة، كالتجربة الصينية وغيرها(6).

ولمواجهة النتائج السلبية للعولمة فإن أقصى ما طالب به الأستاذ الجابري هو صياغة إعلان عالمي لأخلاقيات العولمة، وتكوينه لجنة دولية من مختلف الديانات والمذاهب الفكرية لوضع ميثاق أخلاقي عالمي يلتمس قوة الإلزام من المنظمات الدولية الحكومية ويكون النظام العالمي الجديد بمثابة الدامج الأخلاقي(7).

في حين اقترح طه عبد الرحمان لدرء الآفات الخلقية للعولمة، أن ينهض الإسلام بدرء آفة الإخلال بمقتضى التزكية، وسيطرة الاقتصاد في مجال التنمية من خلال قانون ابتغاء الفصل بحيث لا تحصل التنمية الصالحة إلا بتكامل المقوم الاقتصادي مع المقومات الأخرى للتنمية مع دوام اتصاله بالأفق الروحي "وعلى الجملة فإن عنصر تكامل المقومات الذي ينبني عليه قانون ابتغاء الفضل الإسلامي يدخل القيم الأخلاقية في صلب عملية التنمية الاقتصادية، كما أن عنصر الاتصال الروحي، يدخل فيها القيم الروحية، ومتى ازدوجت التنمية الاقتصادية بالقيم الخلقية، والقيم الروحية، ارتقت إلى مقام التزكية الحق،

ولدرء آفة الإخلال بمقتضى العمل التي وقعت فيها سيطرة التقنية في مجال العلم، يجب العمل بقانون الاعتبار، بحيث لا يحصل العلم النافع إلا بالنظر في حكمة الشيء قبل سببه وفي مآله قبل حاله"(8).

وعلى الجملة فإن قانون الاعتبار الإسلامي بتقديمه الحكمة على السبب والمآل على الحال يورد حدودا وضوابط، لا تضفر بها في مجال الإجراءات التقنية وإنما في مجال الإعمال المقصدية وحدها، ويأتي على رأس هذه الحدود والضوابط أن نجعل حدا للهرولة الشديدة إلى التطبيقات التقنية للعلم، بل أيضا أن نراجع مدلول البحث العلمي نفسه فنبقيه خادما للحاجات الموجودة لا خالقا لها، حيث لا توجد، وخاضعا لمنطق المقاصد والمآلات لا لمنطق الأسباب والأحوال وحده.

ولدفع آفة الإخلال بمقتضى التواصل الذي وقعت فيها سيطرة الشبكة في مجال الاتصال اقترح طه عبد الرحمان اللجوء إلى قانون التعارف المبني على قيم الخير الإنساني والاستفادة المتبادلة، لخلق رقابة ذاتية وأخلاقية قبل تسييج هذا المجال بقوانين رادعة تخلق الرقابة المادية لمواجهة كل السلوكات المخلة بمقصد التواصل كالجرائم الإلكترونية وانتحال الشخصية والسرقة الفكرية، ونشر الرذيلة والفساد، وغير ذلك من الآفات.

وقد وضح طه عبد الرحمان في نفس السياق بأنه: "لا يحصل الاتصال الحي إلا بكلام فيه معروف بين متكلمين يعترف بعضهم ببعض، وعلى الجملة فإن عنصر المعروف الذي ينبني عليه مبدأ التعارف الإسلامي يستلزم بأن نجعل حدا للتسابق المحموم من اجل الظفر بأكبر قد من المعلومات لأنها قد تلقي بنا في مهلكة، قد تكون شرا من مهلكة أسلحة الدمار الشامل، أليست تقتل الروح وسلاح الدمار لا يقتل إلا الجسم؟!"(9).

أما محمد الأطرش فيرى أن على العرب أن يقيموا منظومة أمن عربية، وأن ينشئوا سوقا مشتركة، وأن يحرصوا على تحقيق تنمية شمولية مستقلة وعادلة، على الرغم من أن هذه الأهداف تواجه حاجز وقوع العالم الغربي، تحت تبعيات كثيرة لا تسمح باستقلالية القرار العربي(10).

ج- التعريف بالبديل الإسلامي من خلال الحوار مع الآخر

إن الحوار مع الآخر، أصبح يفرض نفسه كضرورة وجودية أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه، "ذلك أن الإنسان بوصفه ناطقا إنما يمارس علاقته بوجوده كفعل تواصلي عبر المجادلة مع الآخر، بهذا المعنى يشكل الحوار بعدا من أبعاد الكينونة، خاصة إذا كان تعارفا، أو تداولا معرفيا حول معاني الكينونة والهوية والإنسان"(11). وما يسوغ الحوار هو قيام المجتمعات والدول والأمم والحضارات على الإختلاف والتعدد، مما يستلزم البحث عن القيم الحضارية المشتركة،وتحقيق التعاون والتعارف من خلال الفهم والإفهام.

لذا فمقصد الحوار لا يرمي إلى التطابق في وجهات النظر بين المختلفين بقدر ما يرمي إلى خلق مناخ للتعايش، أو وسط مفهومي، أو مجال عام، أو قيمة تبادلية، أو فسحة تنويرية، أو صبغة مركبة أو لغة حية ومتحركة، أو عقلية مفتوحة، كما أن بناء نظام عولمي إنساني الطابع والاتجاه، لا يتم إلا عبر مشاركة الجميع في تشكيله، نظام يقبله جميع الأطراف، يقوم على التعددية والحوار والتعاون، والتعايش المشترك، وتنتفي منه لغة الفرض، وأساليب الهيمنة.

وبذلك ندلف من حقيقة مهمة فارضة لوجودها مفادها ضرورة معرفة هذا الآخر، الذي سنحاوره ومعرفة طبيعة فكره، ومستويات خطابه ومن ثم فإن ما نحتاجه الآن "أن نقرأ الغرب بتمعن قراءة معرفية، نستكشفه ونجليه واضحا أمامنا سواء اعتبر الغرب نظيرنا المحتل، أو عدونا اللذوذ التاريخي، فإن فهمه واستيعابه هو ارتقاء في المواجهة بالمعنى المعرفي، والتي تؤهلنا لانتقال تلك المواجهة لساحات أرحب"(12).

ويرى توفيق الشاوي "أن في الغرب تيارين أساسين، استعماري يمثل رواسب التعصب والأنانية والغرور الأوروبي، والثاني يمثل فكرا إنسانيا أصبح يعترف بأن مستقبل الحضارة ملك الإنسانية جميعا"(13).

ومن ثم يجب التعاون العلمي والثقافي، والحوار مع أصحاب هذا الاتجاه، مع الحفاظ على مقوماتنا الحضارية، لأننا حينما نثير موضوع التعددية نثيره من منطلق جعله أرضية تتناغم فيها كل الهويات رغم اختلاف الأصول التاريخية والتطلعات المستقبلية والسلوكيات الحضارية، وبذلك يجب أن نشارك في صناعة التاريخ الإنساني من موقع الفاعل لا من موقع المتفاعل عن طريق توليد مقولات جديدة تكرس أبعاد الحوار والمشاركة في الحضارة الكونية الإنسانية باعتبارنا ذوات فاعلة لا مواضيع منفعلة.

إن الممارسة الحوارية مع الآخر هي ذات أبعاد تعريفية، وتصحيحية، وتوجيهية، ومن ثم فإن مستويات الحوار مع الغرب ستنقسم إلى ثلاث مستويات، الخطاب التعريفي أو العرضي، والخطاب الاعتراضي التصحيحي، والخطاب التوجيهي التأسيسي. فالخطاب التعريفي العرضي، يتم خلاله التعريف بالبديل الإسلامي، ذي الصبغة العالمية، والخصائص الإنسانية، وعرضه من خلال الحوار مع الآخر، وتوضيح سماته المتمثلة في التعاون والخير الإنساني، حيث إن اختلاف الناس شعوبا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا ولكن ليتعارفوا ويتعاونوا إذ ليس في الإسلام اختلاف في المعاملة بسبب اختلاف اللون، بل إن التفاوت بين الناس بالعمل لا بالقومية والإقليمية، "وقد حث الإسلام على التعاون الإنساني مما فيه خير للجماعات الإنسانية، ومنع التعاون على الإثم في قوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾ (مائدة، آية 2)، والناس مخاطبون كافة بخطاب الإسلام أينما وجدوا لقوله تعالى:﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا﴾(سبأ، آية 28)، كما دعا الإسلام الإنسان إلى إعمار الأرض وإصلاحها وعدم الإفساد فيها لقوله تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾(الأعراف، آية 56). إذن فرسالة الإسلام إلى المسلم تعميرية وداعية إلى فتح باب الحوار التعاون مع الآخرين لقوله تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾(النحل آية 125)"(14).

إذن فعولمة الإسلام، هي عولمة السلم والسلام، تعتمد على ثقافة السلم والسلام، والأخلاق، والتعارف والتودد والتواصل، والتعاون والعدل والإحسان. فسياسة العولمة الإسلامية الصدق، والأمانة وسياسة الحرية، حرية الفكر والعقيدة وحرية العلم والبيان، وبكلمة واحدة السياسة التي ترى الناس صنفين، أخ في الدين ونظير في الخلق.

أما مستوى الخطاب التصحيحي والإقناعي، يتمثل في حقيقة محاورة الآخر الغربي من منطلق دعوته للخير الإنساني، وتصحيح أفكاره وإقناعه بالقيم المشتركة، التي يمكن أن تبدد الخلاف، والنزعة الاستعلائية لهذا الآخر. وبذلك نجد أن "الحوار مع الاتفاق، ولنسميه الحوار الاتفاقي ليس حقيقة كلامية أصلية، وإنما حقيقة متفرعة على حقيقة الحوار مع الاختلاف"(15). "أما المنازعة التي ينبني عليها الاختلاف فإنما توافق الجماعة كل الموافقة وتقويها أيما تقوية، إذ تقتضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها من جهة على فعل الإقناع الذي يحمل تمام الاعتبار لذات الغير، ومن جهة ثانية على فعل الإذعان الذي يحمل تمام الاعتبار للصواب"(16)، وبذلك فإنه لا يتم تحقيق التماسك، والمصلحة العامة إلا من خلال التوسل بحجج واستدلالات متفق عليها من الجانبين، أي قيم كونية، إنسانية ينتجها الجانبين، وهذا هدف الحوار الحقيق، والجماعة في هذا المقام تتسع لتشمل الخلية الكبرى، أي الجماعة الإنسانية بمفهومها الشامل الغير المحدود بالعدد والصنف.

وثالث مستوى من مستويات الخطاب مع الآخر، هو مستوى الحوار التوجيهي التأسيسي الذي يهدف إلى إقناع الآخر مع الأخذ بيده للتأسيس العملي لقيم مشتركة إنسانية في أبعادها لأنها لخدمة الإنسانية جمعاء، أخلاقية في مواصفاتها، خاصة إذا علمنا بأن ذاك الآخر يطلب منا البديل الحضاري الأخلاقي للخروج بهذا العالم من مأزقه الذي يتخبط فيه، كما أن الغرب بمفكريه وفلاسفته ينشد الحوار مع الغير، فنجد جيل دولوز مثلا يقول بأننا حينما ندرك الأشياء المحيطة بنا لا ندركها بمختلف جوانبها باستمرار، ويفترض وجود آخرين يدركون ما أدركه من أشياء –الغير يشاركني الإدراك ويكمل إدراكي لها– وفي نفس الصدد تؤكد كريستيفا على حقيقة الحوار المبني على التكافؤ.

ومن الجلي والواضح أن حقيقة التوجيه في الخطاب الإسلامي تتجلى في كون الأمة الإسلامية يجب أن تكون واعية، يحذوها الثقة بالنفس، والفكر المستنير والإنساني، وأمة تقود نفسها لقوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾(17) توجه غيرها لقوله تعالى: ﴿تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾(18)، ويفرق أبو يعرب المرزوقي بين الهوية العددية بين أشخاص نفس النوع، والهوية النوعية بأنواع نفس الجنس ويلح على ضرورة الاجتهاد والتواصي بالحق هو واجب عيني، والتواصي بالصبر والجهاد بما هو واجب عيني، كذلك وصفة عملية للعمل الصالح، ويجب اتخاذ الحوار مع الآخر لتحقيق الوحدة البشرية حول قيم الدين الخاتم بالدعوة الصادقة والحكيمة لقوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾(19).

إن الطريق إلى حقائق التخاطب تتأسس وتنبني على قيمة التبليغ، مما يؤدي إلى خلق معاني مشتركة بين ذوات مختلفة. وقيمة التدليل تعني جعل كل قول دليلا على مدلول يطلبه الغير في نفسه أو في أفقه، فيه التوجيه، وتوجيهه، يبث في الأقوال فيما للعمل التشاركي والخير الإنساني، "وأما الاختلاف في الرأي داخل دائرة الحوار النقدي فلا يندفع أبدا بواسطة القمع، بل إن ممارسة القمع قد تزيد في حدة هذا الاختلاف، حتى لا سبيل إلى الخروج منه، نظرا لأن الطريق الموصل إلى هذا الخروج إنما هو طريق الإقناع"(20).

ومن ثم فلا سبيل إلى التفاهم مع الغير، إلا بإقناعه بالقيم الأخلاقية المشتركة كما سبق أن ذكرنا، حتى يدرك ويذعن للحق بإرادته لا بقمعه، ويصل إلى حقيقة اعتبار الهوية الوحيدة، الجامعة بين البشر كلهم، هي الأخوة الإنسانية بما هي جوهر الفطرة، أو الإسلام. كما يجب "تبادل الثقة التي هي أول شرط في الحوار واللقاء، ومن دون الثقة فإن كل الجهود والإمكانات التي تبذل، ومهما كان حجمها فإنها لا تستطيع أن تحرك ساكنا"(21).

ومن ثم فإن الحوار التوجيهي وسيلة لتأسيس قيم عملية متفق عليها بين الطرفين، لأنه إذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق فإن الحوار ينزل منزلة الدواء الذي يشفي، إذن فيجب أن تبنى الممارسة الحوارية للعالم الإسلامي مع الغرب من حيث القصد أو النية على الصدق في الدعوة للإسلام، وقيمه الأخلاقية المثلى، ومن حيث المقصود يجب أن يتسم الحوار بالتحقق الفعلي للقيم والفضائل السامية، الثاوية في الخطاب الممرر للغرب، على مستوى السلوك والواقع العملي، ومن حيث المقصد والغاية يجب أن يتخذ الحوار الإسلامي وجهة الدعوة والتوجيه والإقناع بالقيم الكونية المشتركة، لبناء وتأسيس نموذج عملي مؤسس على مفاهيم حقوق الإنسان، وتحقيق كرامته، واحترام إنسانيته.

وصفوة القول، وما نستشفه مما سبق، أن العولمة كظاهرة مهولة، تلقي بظلالها على عالمنا الإسلامي، وكنتاج لفكر أحادي، ينزع نحو السيطرة والإقصاء، وخدمة مصالح الأقلية، لا تتسم بطابع الحتمية، على الرغم من أنها فارضة لوجودها. وما نستطيع فعله هو محاولة فهمها والتعامل معها بفكر عقلاني، أخلاقي في أبعاده إنساني في وجهته، عملي في مقصوده، قادر على مواجهة سلبياتها في مختلف المجالات. ويجب أن نؤكد على حقيقة مهمة هي أن العولمة وإن تعاظمت، إلا أنها لن تستطيع تحويل الإنسان إلى منظومة آلية، العصف بإرادته، لأنه وبكل بساطة الإنسان في حقيقته، أقوى من تيارات العولمة الجارفة، فهو ليس آلة، بل مجموعة قيم ومقاصد، وأفكار تشرق في جنباتها حقيقة التخلق ونشدان الاهتداء، إذن فيجب على هذا الإنسان أن ينطلق من عمق إرادته، ليبدد خيوط العولمة المتشابكة، ويكسر طوقها. لأن روحه أقوى من أن تجعلها العولمة حبيسة جدرانها، فقد يدمر العالم وتنمحي الأحداث ويفنى الأشخاص، لكن المبادئ تبقى راسخة مشعة في صفحات التاريخ، يجسدها كل من نشد العطاء، والخير الإنساني، كما أن اخطر شيء ليس أن يحبس جسد الإنسان، فيكبل ويمنع من الحركة، بل أن يعتقل فكره واعتقاده وإرادته، وتنمحي معالم هويته. والتعولم كفعل حضاري، يمكن أن يتجدد في نسيج السياق التاريخي، لأنه ينتجه سبب أساس هو إرادة السيطرة، كما أن العولمة هي الفاعل الذي يحرك التاريخ، ويسيطر على الإنسان، لكنه لا يفني روحه وإرادته، لأن الإرادة كما يصفها شوبنهاور ذلك الكيان الذي يوجد في الإنسان فلا يخضع لشروط الزمان والمكان والعلية، ولا يتغير بتغيرهما، كما أن الجسم ذاته يعد بالنسبة لهذه الإرادة، مظهرا وتمثلا، ومن ثم فيجب على الإنسان أن يبدع قيما بديلة تنسجم وإنسانيته، وفعله الخلقي، وإرادته القوية، وهذا لا يتم إلا من خلال التأسيس الأخلاقي، والعقلاني لأفعالنا، لأن العقل الموضوعي له حدود لا يمكن تجاوزها، والعقل الأخلاقي مؤيد بالإيمان هو الذي يكمل إدراكنا للأشياء كما أن الإفراط في استخدام العقل يحول كثيرا من الأمور إلى ضدها، بدليل أن الابتكارات العلمية، قد تحول المنفعة إلى ضدها إذا لم تكن محصنة بالأخلاق، وباسم العقل أيضا ترتكب الجرائم، وتصوغ مواقف تنبني على السلطان لا على قوة الحق والبرهان، وبذلك يجب تجاوز النظرة التي تقول بأن الأخلاق لا تخدم إلا الضعيف. كما يجب علينا الخروج من مأزق ثنائية الأضداد: (مؤمن-كافر) وفتح أبواب الحوار مع الغرب لترسيخ مبدأ التعددية وبناء قيم كونية على أساس المشترك الإنساني، لأنه لا وجود لحقيقة مطلقة يمتلكها طرف دون آخر، بل إن الحقيقة الإنسانية نبنيها ونؤسسها معا، بمنطق التسامح والتعايش، واحترامنا لذاك الآخر، في خصوصياته العرقية، والدينية والثقافية، فالاختلاف حقيقة وجودية، أشار إليها القرآن، وعليه، نصل إلى حقيقة جوهرية مفادها أن الحوار أصبح ضرورة ومطلبا إنسانيا، يهدف إلى التعارف لا التنافر، والتعاون لا التطاحن، والتكامل لا التعارض، ويجب أن يؤسس على مبدأ الاعتراف بالمغايرة والاختلاف، واحترام الآخر، والتخلي عن الأساليب الدوغمائية الإقصائية، للبحث عن أرضية التقاء الإرادات والمقولات والقيم، حيث يشرق فكر حضاري مشترك لا يصادر الحرة، والحقوق الإنسانية الأخلاقية، وتجدر الإشارة أنه ينبغي علينا أن نؤكد على كون الصداقة مع الآخر هي مفتاح الحوار معه، لأن الصداقة كما يقول أرسطو تغني عن العدالة، وصداقة الفضيلة تقوم على نشدان الخير والجمال لذاته، وعنها تنبثق صداقة المنفعة، على حد تعبيره. إلا أنه رغم هذه الحلول والاقتراحات يبقى الإشكال المطروح حاليا، هو تلك المفارقات بين المبادئ والممارسات الواقعية هنا وهناك، والتي تشوه صورة الإسلام لدى الآخر، فيجب إذن تحقيق وإيجاد أطراف المعادلة الأخلاقية، ليتحقق التناغم المنشود بين القول والفعل.

(جامعة: عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب)

* * *

الهوامش

(1)- طه عبد الرحمان: سؤال الأخلاق، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 146.

(2)- طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2002، ص 174.

(3)- بركات محمد، ظاهرة العولمة بين رفض العرب والإسلاميين والترويج الغربي، مجلة المنطلق الجديد، السنة صيف-خريف 2001، ص 225.

(4)- صحيح مسلم بشرح النووي 2-32، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة ج: 55.

(5)- بركات محمد، ظاهرة العولمة بين رفض العرب والإسلاميين والترويج الغربي، مجلة المنطلق الجديد، السنة صيف-خريف 2001، ص 232.

(6)- ينظر حسن آل حمادة، العولمة من منظور فقهي إسلامي معاصر (سبق ذكره)، ص 140–141.

(7)- ينظر محمد عابد الجابري، الشأن الإنساني في عصر الخوصصة والعولمة من اجل إعلان عالمي لأخلاقيات العولمة، مجلة فكر ونقد، العدد الأول سبتمبر 1997، ص 22–23.

(8)- طه عبد الرحمن، الآفات الخلقية للعولمة، كيف يمكن درؤها؟ مجلة المنعطف، العدد 20–1423، 2002، ص 40–42.

(9)- نفسه، ص 44–45.

(10)- ينظر عبد الإله بلقزيز، العولمة والممانعة (سبق ذكره)، ص 20.

(11)- علي حرب، العالم ومأزقة منطق الصدام، ولغة التداول، الطبعة الأولى، المغرب، الدار البيضاء، 2002، ص 167.

(12)- المرجع نفسه، ص 242.

(13)- منير شفيق، الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات، الطبعة الثالث، دار البراق للنشر، تونس 1411–1991، ص 63.

(14)- بركات محمد مراد، ظاهرة العولمة بين رفض العرب والإسلاميين والترويج الغربي (سبق ذكره)، ص 223–224.

(15)- طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 29.

(16)- المرجع نفسه، ص 34–35.

(17)- سورة آل عمران، الآية 110.

(18)- انظر بركات محمد مراد، ظاهرة العولمة بين رفض العرب والإسلاميين والترويج الغربي لها (سبق ذكره)، ص 235.

(19)- أبو يعرب المرزوقي، البديل الإسلامي، شروط تحرير الإنسانية من إرهاب العولمة، مجلة المنعطف، العدد 20، 2004، ص 29–31.

(20)- طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (سبق ذكره)، ص 34.

(21)- زكي الميلاد، الإسلام والغرب، الطبعة الثانية، دار الفكر، دمشق 1421–2001، ص 137.